الفصل السابع

المجرَّات

عندما تنظر إلى السماء في ليلةٍ مظلمة، فإن معظم النقاط المضيئة التي تراها فوقك هي نجوم داخل مجرَّتنا، وقد تكون نقطتَين أو ثلاث نقاط من أكثرها سطوعًا كواكب، وفي موقعٍ دامس الظلام، قد تتمكن من تمييز البُقع الضبابية الخافتة لسديم أندروميدا، أو إذا كنتَ في موقعٍ بعيدٍ جدًّا جنوبًا، فقد ترى سحابتَي ماجلان. على النقيض من ذلك، فإن معظم المصادر التي تكتشفها التلسكوبات المتقدمة هي مجرَّات. يبدو أن الكون مأهولٌ بالمجرَّات بالطريقة نفسها التي تكتظ بها مجرَّتنا بالنجوم.

تشكيل المجرَّات

يمكن وصف المجرَّة، وفقًا لنموذجٍ تقريبي دقيق، على أنها نظامٌ مكوَّن من عددٍ هائل من الكتل النقطية التي تتحرك بحرية داخل مجال الجاذبية الذي تولِّده مجتمعةً. بعض هذه الكتل نجوم، لكن يُعتقد أن الغالبية العظمى منها جُسيماتٌ أولية لا تزال غير معروفة النوع، التي تُشكِّل مجتمعةً «المادة المظلمة»، وهي مادةٌ غير مرئية ولكن يُستدَل عليها من خلال تأثير جاذبيتها. أصبح علم الفيزياء الفلكية أكثر بساطةً بفضل حقيقة أن النجوم وجُسيمات المادة المظلمة، رغم التباين الهائل في كتلها، تخضعان لمعادلات الحركة نفسها؛ حيث تتحركان بشكلٍ غير نسبي في مجال جاذبية مشترك. ولكن مداراتهما النموذجية مختلفة؛ إذ تميل جُسيمات المادة المظلمة إلى أن تكون في مدارات ذات طاقة أعلى تأخذها بعيدًا عن مركز المجرَّة، ويُعتقد أن مداراتها أقل تركيزًا حول المستوى الاستوائي للمجرَّة مقارنةً بالنجوم؛ إذ إن العديد من هذه النجوم محصورة في قرصٍ رقيق يحتوي على هذا المستوى.

تختلف نسبة الكتلة التي تحتويها النجوم مقارنةً بالمادة المظلمة اختلافًا كبيرًا بين المجرَّات. ففي المجرَّات الأقل كتلةً، وهي «المجرَّات القزمة الكروية»، تكون نسبة الكتلة المحتواة في النجوم أقل من واحد في المائة. أما مجرَّتنا، فتُعد ضمن الفئة التي تمتلك أعلى نسبة من الكتلة النجمية، وهذه النسبة هي نحو خمسة في المائة. وعلى هذا، وبغَض النظر عن نوع المجرَّة التي ندرسها، تظل المادة المظلمة هي العنصر المسيطر على الكتلة الكلية للمجرَّة. ولكن في مجرَّة مثل مجرَّتنا، تهيمن النجوم على الكتلة ضمن بضعة كيلوفراسخ من المركز، بينما تهيمن المادة المظلمة خارجها. وعلى العكس، تهيمن على المجرَّات القزمة الكروية المادة المظلمة في جميع أنصاف الأقطار.

إحدى الخصائص الأساسية لأعداد المجرَّات هي «دالة الإضاءة المجرِّية»، الموضَّحة في الشكل ٧-١. وتبيِّن أعداد المجرَّات لكل وحدة من اللوغاريتم العشري للإضاءة ( ). نرى أن هناك عددًا هائلًا من المجرَّات الخافتة، والقليل من المجرَّات اللامعة؛ على الجانب الأيسر من الشكل ٧-١، عند قِيم الإضاءة المنخفضة، تنخفض دالة الإضاءة على هيئة خطٍّ مستقيم، ثم عند الإضاءة المميزة بالرمز تنخفض بحدة. تتطابق «إضاءة شيشتر» تقريبًا مع إضاءة مجرَّتنا.
ومن خلال دالة الإضاءة المجرِّية، يمكننا طرح السؤال التالي: إذا كررنا اختيار نجمٍ عشوائي من بين جميع النجوم في الكون، فما متوسط إضاءة مجرَّة النجوم المختارة؟ يتضح أن الإجابة قريبة من ؛ لذا فمن المحتمل أن يكون من غير المصادفة أن هذه هي إضاءة مجرَّتنا؛ ونتوقع أن هناك عددًا لا حصر له من الحضارات في الكون قد طرحَت هذا السؤال، ومعظمها يدور حول نجم يقع في مجرَّة مشابهة لمجرَّتنا.

تفكيك المجرَّة إلى مكوِّناتها

من المفيد تخيُّل أن المجرَّة تتألف من عدة «مكوِّنات». أحد أكثر المكوِّنات بروزًا في مجرَّتنا هو القرص؛ حيث تقع الشمس (الشكل ٧-٢). وقد تبيَّن أن للأقراص النجمية للمجرَّات كثافاتٍ سطحية تتناقص مع نصف القطر على نحوٍ أُسي تقريبًا.
fig34
شكل ٧-١: دالة إضاءة مجرية. الكثافة الفضائية للمجرات مُمثَّلة في مقابل الإضاءة. كلا المقياسَين لوغاريتمي.
غالبًا ما تحتوي الأقراص النجمية للمجرات على قرصٍ غازي مدمج بداخلها، مثل القرص الغازي في مجرتنا الذي وصفناه في الفصل الثاني. عادةً ما يكون القرص الغازي ممتدًّا شعاعيًّا أكثر من القرص النجمي، لكنه أقل سمكًا بشكلٍ ملحوظ. تميل المجرات التي تحتوي على قرصٍ غازي كبير إلى امتلاك أذرعٍ حلزونية في كلٍّ من أقراصها النجمية والغازية. أما إذا كان القرص الغازي ضئيلًا، فعادةً ما تكون الأذرع الحلزونية غائبة. تُعرف المجرَّات التي تمتلك قرصًا نجميًّا واضحًا ولكن قرصًا غازيًّا ضئيلًا بالمجرَّات «المحدَّبة» أو مجرَّات « ». أما مجرَّتنا، فهي تنتمي إلى فئة المجرَّات «الحلزونية».
fig35
شكل ٧-٢: صورة لمجرَّتنا مُنشأة عن طريق إحصاء نصف مليار نجم. تظهر بوضوح سُحُب الغبار التي تحجب الرؤية.
fig36
شكل ٧-٣: رسم توضيحي يُظهر القرص، الانتفاخ/الإهليلج، والهالة.
يهيمن «الانتفاخ» أو «الإهليلج» على النطاق الداخلي لمجرَّتنا، حتى مسافة تقارب ثلاثة كيلوفراسخ (الشكل ٧-٣). وكما توحي هذه التسميات، فإن هذا المكون النجمي أقل تسطحًا نحو المستوى الاستوائي مقارنةً بالقرص. ولا يتمتع انتفاخ مجرَّتنا بتماثل محوري (على عكس القرص الذي يقترب من ذلك)، ولكنه يتخذ شكل قضيب. يبلغ طول هذا القضيب نحو ثلاثة أضعاف عرضه، ويتموضع محوره الطويل ضمن المستوى المجرِّي. يدور القضيب حول مركز المجرة كما يدور خافق البيض الكهربائي. وفي تلك الأثناء، تتحرك نجومه بسرعة أكبر ضمن القضيب على مداراتٍ شديدة اللامركزية. يحفِّز القضيب موجاتٍ حلزونية في القرص المحيط به، لكن هذه الموجات تتحرك عَبْر القرص بسرعة أبطأ من سرعة دوران القضيب.
في المجرات المشابهة لمجرتنا، يكون الانتفاخ غالبًا على شكل قضيب. ولكن ليس جميع الانتفاخات كذلك، كما أنه ليست جميع المجرَّات الحلزونية تمتلك انتفاخًا. على سبيل المثال، ثالث أكثر أعضاء «المجموعة المحلية» للمجرَّات إضاءةً (حيث تُعد مجرَّتنا ثاني أكثرها إضاءةً) هو «سديم المثلث» أو M33، وهو لا يحتوي على انتفاخ. لا يزال وجود مجراتٍ خالية من الانتفاخ مثل M33 يشكِّل لغزًا محيرًا لعلماء الكونيات.
تُعرف «المجرَّات القرصية» بأنها تلك التي يكون فيها الانتفاخ تابعًا للقرص النجمي (الشكل ٧-٢). أما في «المجرَّات الإهليلجية»، فيُهيمِن الانتفاخ على القرص لدرجة أنه لا يمكن رصد القرص، إن تمكَّنا من رصده، إلا من خلال تحليلٍ كمي دقيق للغاية. عادةً ما تكون المجرات الإهليلجية متماثلة محوريًّا، ولكن ليس دائمًا. في المجرَّات الإهليلجية، تكون حركات النجوم أقل انتظامًا بكثير مما هي عليه في القرص — حيث يسود الدوران حول محور التماثل التقريبي — كما أنها أقل انتظامًا في الانتفاخ مقارنةً بمجرَّة مثل مجرَّتنا.

ديناميكا النجوم

نظرًا لأن معظم كتلة المجرَّة تتكون من جُسيمات، ونجوم، ومادة مظلمة نادرًا ما تتصادم، فمن الضروري فهم كيفية تحرُّك عددٍ هائلٍ من الكتل النقطية تحت تأثير جاذبيتها المتبادلة، وهو فرع في علم الفيزياء الفلكية يُعرف باسم «ديناميكا النجوم». يمكن أن تكون هذه الجُسيمات إما نجومًا أو جُسيمات المادة المظلمة؛ حيث لا يوجد فرقٌ كبير بين الحالتَين.

هل من الصحيح التعامل مع النجوم ككتلٍ نقطية؟ الجواب عادةً هو «نعم بكل تأكيد»؛ فبعد نحوي ثلاثة مليارات سنة من الآن، ستصطدم مجرتنا وتندمج مع أقرب جيرانها ضخامة، وهو سديم أندروميدا. عندها، ولمئات الملايين من السنين، ستندفع تياراتٌ من ١٠١١ نجم من كلتا المجرتَين بعضها عَبْر بعض وكأنها عرضٌ عسكري مذهل، وسيكون عدد الاصطدامات الفيزيائية المتوقعة أقل من واحد! في الواقع، البيئة الوحيدة التي قد يكون فيها التعامل مع النجوم كجُسيماتٍ نقطيةٍ أمرًا إشكاليًّا هي في الجوار المباشر للثقب الأسود المركزي للمجرَّة. ولكن حتى في هذه الحالة، فإن الاتصال الفيزيائي قد يكون ذا أهمية فقط بالنسبة إلى النجوم العملاقة، ومن المرجَّح أن يقتصر تأثيره على تجريد الغلاف الجوي المتضخم للنجم دون أن يُفقده معظم كتلته.
تدور الشمس في مدارٍ شبه دائري حول مركز مجرَّتنا، على بُعد يقارب ٨٫٣ كيلوفراسخ. القوة الجاذبة تجاه مركز المجرة التي تُبقيها في هذا المدار هي مجموع تأثيرات الجاذبية الناتجة عن ١٠١١ نجوم، إلى جانب عددٍ هائل من جُسيمات المادة المظلمة التي تشكِّل المجرة. أما النجوم القريبة من الشمس فمساهمتها في هذه القوة لا تُذكَر. هذه الحالة تختلف تمامًا عما يحدث في الأجسام الصلبة أو السوائل، حيث تكون القوى المؤثِّرة على الذرات محكومة بالكامل بالذرات المجاورة مباشرة، نظرًا لأن القوة البين ذرية تتلاشى مع المسافة بسرعةٍ أكبر بكثير من التفاعل الجذبوي بين النجوم. بما أن القوة المؤثِّرة على الشمس يهيمن عليها عددٌ هائل من الأجسام البعيدة، فستتغير القوة بمقدارٍ قليل جدًّا في حالة إزاحة الشمس بمقدار فرسخٍ واحد تقريبًا في أي اتجاه، ولن تتغير كثيرًا خلال المليون سنة القادمة أو نحو ذلك؛ حيث تتغير القوة بسلاسة شديدة عَبْر المكان والزمان. بناءً على ذلك، يمكننا حساب مدار نجمٍ مثل الشمس بدقةٍ عالية عن طريق توزيع كتلة كل جُسيم بسلاسة على مسافات بين جُسيمية، وحساب مجال الجاذبية الناجم عن التوزيع الكتلي المستمر الناتج. عند دراسة أي نظامٍ نجمي، فإن خطوتنا الأولى هي نمذجة مجال الجاذبية بهذه الطريقة، ثم تحليل طبيعة المدارات داخل مجال الجاذبية السلس. إذا كان هذا النهج كافيًا، فإننا نقول إن نصف النظام النجمي «خالٍ من التصادمات».
يمكن معرفة مدار نجمٍ ما من خلال تحديد موضع النجم وسرعته عند لحظة معينة. وإذا كان كل زوج من القيم ( ) يحدد مدارًا مختلفًا، فإن فضاء المدارات سيكون سداسي الأبعاد؛ حيث تكون المواضع والسرعات في فضاءاتٍ ثلاثية الأبعاد. ولكن من الواضح أن الأزواج المختلفة ( ) لا تُنتج بالضرورة مداراتٍ مختلفة، لأن أي أزواج تُوجد عند لحظاتٍ زمنية مختلفة على مدارٍ ما تُكوِّن بلا شك المدار ذاته.
يؤدي دمج المدارات داخل مجال الجاذبية النموذجي للمجرة إلى نتيجةٍ مفادها أن فضاء المدارات ثلاثي الأبعاد. وهذا يعني أن كل مدار يمكن تحديده على نحوٍ فريد باستخدام ثلاثة أعداد. يُطلق على هذه الأعداد «ثوابت الحركة»؛ لأن قِيمَها لا تتغير أثناء تحرك الجِرم على طول المدار. المهمة الأساسية لديناميكيا النجوم هي معرفة كيفية حساب ثوابت الحركة المناسبة من زوجٍ ما ( ). وهذا يعني أننا بحاجة إلى خوارزمية لحساب ثلاث دوال .
يمكن بعد ذلك اختزال الحالة الديناميكية للمجرة إلى كثافة النجوم وجُسيمات المادة المظلمة داخل فضاءٍ تخيلي تُحدد إحداثياته الكارتيزية من خلال القيم الثلاثة . يُعرف هذا الفضاء باسم «فضاء الفعل». ولكن معرفتنا بكثافة النجوم والمادة المظلمة في فضاء الفعل لا تزال غير مكتملة حتى بالنسبة إلى مجرَّتنا، وهي أقل اكتمالًا بكثير بالنسبة إلى المجرَّات الخارجية.

المجرات والغازات والبلورات

تتكون المجرَّة، مثل لتر من الغاز أو قطعة من الألماس، من عدد هائل من الجُسيمات التي تتفاعل بعضها مع بعض. توفر الفيزياء الإحصائية فهمًا شاملًا نسبيًّا للغازات والبلورات، بدءًا بتحليل مفهوم الاتزان الحراري، وهو الحالة التي يسكن عليها النظام إذا تُرك لفترة كافية دون تدخل. يخبرنا «مبدأ الحد الأقصى للإنتروبيا» بكيفية حساب ترتيب جُسيمات النظام عند وصوله إلى الاتزان الحراري. على سبيل المثال، في حالة الغاز، نجد أن مبدأ الحد الأقصى للإنتروبيا يجعل بالإمكان تحديد عدد الجُزيئات التي تتحرك بأي سرعةٍ معيَّنة («توزيع ماكسويل»)، وكذلك الضغط الذي يبذله الغاز بمعرفة طاقته وحجمه. ثم بإحداث اضطراب في حالة الاتزان الحراري، يمكننا تحديد «معاملات النقل»، مثل سرعة الصوت، والتوصيل الحراري، واللزوجة، وغيرها.

لكن لسوء الحظ، فإن الخطوة الأولى في سلسلة التحليل هذه غير قابلة للتطبيق على المجرَّات؛ لأن المجرة لا تمتلك حدًّا أقصى للإنتروبيا؛ ومن ثَم فهي غير قادرة على تحقيق الاتزان الحراري.

تعني الإنتروبيا الفوضى، وينص مبدأ الحد الأقصى للإنتروبيا ببساطة على أنه في الاتزان الحراري يكون النظام في أقصى درجات الفوضى الممكنة، تبعًا لطاقته وحجمه وأي قيودٍ أخرى على إعادة ترتيب جُسيماته. ولكنَّ نظامًا خاضعًا لقوى الجاذبية الذاتية، مثل المجرة أو النجم، يمكنه دائمًا زيادة الإنتروبيا الخاصة به عن طريق سَحْب كتلته نحو الداخل لزيادة شدة مجال الجاذبية بالقرب من المركز، ثم نَقْل الطاقة المنبعثة من هذا الانكماش المحلي نحو الخارج، وإكسابها للجُسيمات الطرفية؛ تزيد هذه الطاقة المسافة التي يمكن أن تنتقل إليها هذه الجُسيمات من المركز مما يزيد من اضطرابها. في الفصل الثالث، تحت عنوان «الحياة بعد النسق الأساسي»، رأينا أن النجم في مراحله الأخيرة ينكمش لُبه بينما يتمدد غلافه. وهذا لأن النجم يزيد حالة الإنتروبيا الخاصة به من خلال العملية التي وصفناها للتو.

نماذج الاتزان الديناميكية

المشكلة الرئيسية التي نواجهها، نظرًا لأن المجرَّات لا تستطيع تحقيق الاتزان الحراري، هي كيفية استنتاج التوزيع الأساسي للنجوم وجُسيمات المادة المظلمة. بمجرد معرفة هذا التوزيع، يمكننا حساب معاملات النقل. ولكننا بحاجة إلى معرفة التكوين الذي سنُجري الاضطراب فيه، ولا يوجد لدينا مبدأ نستند إليه لاستنتاجه. إحدى الطرق البديلة هي الاعتماد على محاكاةٍ كونية لتشكُّل المجرات، وأخرى هي مواءمة نموذجٍ ديناميكي للبيانات الرصدية.

لا توفِّر المحاكاة الكونية توقعاتٍ مفيدةً بمفردها؛ لأننا نفتقر إلى الموارد اللازمة لمحاكاة الفيزياء المعقَّدة للغاية لتشكُّل النجوم والمجرَّات. ومن ثَم، تعتمد جميع أشكال المحاكاة على معادلات رياضية يُفترض أنها تقرِّب نتائج العمليات الفيزيائية التي أُهملَت، ويجب معايرة المعاملات في هذه المعادلات بناءً على الملاحظات. لذا، إذا كنتَ ترغب في بناء نماذج للمجرات، فمن الأفضل أن تعتمد مباشرةً على البيانات الرصدية بدلًا من إضاعة الوقت في المحاكاة.

  • «المجرَّات الإهليلجية»: تُعد المجرَّات الإهليلجية الأسهل في نمذجتها، وقد أُجريَت بالفعل نمذجة أعدادٍ كبيرة منها ديناميكيًّا. أحد الاستنتاجات المهمة من هذه النماذج هو أن معظم هذه الأجرام تمتلك شكلًا شبهَ متماثل حول محورها ومفلطحًا بفعل دورانها. ولكن المجرَّات الإهليلجية الأكثر ضخامة تدور ببطءٍ شديد، ولها أشكالٌ ثلاثية المحاور، تشبه إلى حدٍّ ما نواة ثمرة البرقوق. من المحتمل أن تنشأ هذه الأشكال الثلاثية المحاور والدورانات المنخفضة بسبب اندماج مجرَّتَين فقيرتَين في الغاز ومتشابهتَين في الكتلة.

    من الاستنتاجات المهمة الأخرى من نماذج المجرات الإهليلجية والمحدَّبة هو أنه كلما زادت إضاءة المجرة، زاد ثراؤها بالعناصر الثقيلة، وزادت النسبة المئوية لكتلتها التي تُسهِم بها المادة المظلمة. ربما ينشأ ثراء العناصر الثقيلة في المجرات الضخمة بسبب الصعوبة الكبرى، التي تواجهها المستعرات العظمى في دفع نواتج التخليق النووي خارج آبار الجاذبية العميقة المحتملة للمجرات ذات الكتلة العليا. قد تنشأ المساهمة المتزايدة للمادة المظلمة؛ لأن المجرات الأكثر ضخامة عادةً ما يكون لديها كثافةٌ نجمية أقل من المجرات الأقل ضخامة.

    تُعد النماذج التي تصف المراكز نفسها للمجرات الإهليلجية والعدسية ذات أهمية خاصة؛ لأنها قد تتيح لنا الكشف عن وجود «ثقب أسود فائق الكتلة» في المركز. الفكرة الأساسية أنه داخل نصف القطر الذي يزيد كثيرًا على (نصف قطر التأثير) حيث يُسهِم الثقب الأسود في مجال الجاذبية بمقدار مساهمة النجوم نفسه، يجب أن تزداد السرعات العشوائية 1/√r. يتطلب الكشف الموثوق عن ثقبٍ أسود قياس كلٍّ من كثافة النجوم وسرعاتها العشوائية على مسافاتٍ قريبة جدًّا من المركز. وهنا كان لتلسكوب هابل الفضائي دورٌ أساسي في جمع هذه البيانات.
    تُظهر الكتلة المستنتجة للثقب الأسود ارتباطًا وثيقًا بحجم السرعات العشوائية للنجوم عند أنصاف أقطار أكبر بكثير من . يشير هذا الاكتشاف إلى وجود ارتباطٍ سببي بين نمو الثقب الأسود ونمو التعداد النجمي للمجرة، وقد اعتبر البعض ذلك مفاجئًا؛ لأن التعداد النجمي أكبر بكثير وأكثر امتدادًا من الثقب الأسود. ولكن الكثافة الفضائية للنجوم الزائفة — وهي الثقوب السوداء التي تكتسب الغاز البارد بمعدل مرتفع — تبلغ ذروتها عند الانزياح الأحمر ، وهو الزمن الذي بلغ فيه معدل تشكُّل النجوم الكوني أعلى مستوياته. نظرًا لأن النجوم تتكون من الغاز البارد، فمن المرجَّح أن يتتبع معدل نمو الثقب الأسود وتعداد النجوم المضيفة له مدى توافر هذا الغاز، مما يجعل من الطبيعي أن تكون كتلهما الحالية مترابطة بقوة.
  • «المجرات الحلزونية»: المجرة الحلزونية التي جرت دراستها على نحوٍ مكثف هي مجرتنا. وقد صُمِّمَ نموذجٌ ديناميكي مثالي في حالة اتزان لكلٍّ من القرص الرقيق والقرص السميك، ومن خلال تحليل بنيتهما العمودية، يمكن استنتاج أن ٥٦ في المائة من قوة الجاذبية التي تحافظ على الشمس في مدارها ناتجة عن المادة المظلمة، بينما تُولِّد النجوم ٤٤ في المائة فقط من هذه القوة. تتوافق كتلة القرص مع كونه يتألف بالكامل تقريبًا من النجوم والغاز، وليس من المادة المظلمة.

الانجراف البطيء

لا يبقى أي نجم على المدار نفسه طوال عمر مجرتنا؛ لأن مجال الجاذبية السلس والثابت زمنيًّا، الذي نفترضه عند حساب ثوابت الحركة هو مجرد تبسيطٍ مثالي. أما في الواقع، فيتغير مجال الجاذبية بمعدلات تقترب من هذا المجال المثالي لعدة أسباب. أولًا، يحتوي القرص على بنية حلزونية غير ممثلة في هذا التبسيط. ثانيًا، يتضمن القرص سُحبًا ضخمة من الغاز الجُزيئي تتشكل وتتحرك عَبْر القرص وتتفكك بطرقٍ عشوائية. ولم نأخذ تأثيرات مجالات جاذبية هذه الأجرام في الاعتبار ضمن النموذج المثالي. ثالثًا، لا تُوجد مجرةٌ معزولة؛ فهناك مجراتٌ أخرى، غالبًا أصغر حجمًا، تسقط باستمرار نحو مجرة ضخمة مثل مجرتنا، ويمكن لهذه الأجرام أن تتحرك عَبْر المجرة لفتراتٍ طويلة قبل أن تتبدد. في نموذجنا المثالي، تجاهلنا هذه الكتل الضخمة المتحركة. وأخيرًا، هناك «تقلباتٌ بواسونية» في عدد الكتل النقطية داخل أي حجم؛ فإذا كانت كثافة الجُسيمات تشير إلى أن عدد الأجرام المتوقَّعة داخل حجمٍ ما هو في المتوسط، فإن العدد الفعلي داخل ذلك الحجم سيتقلب بمرور الوقت بمقدار تقريبي N. وبما أن قوة الجاذبية الناشئة عن هذا الحجم V تتناسب مع عدد الكتل التي يحتويها، فإن قوة الجاذبية نفسها ستتقلب بنسبة N/N = 1/√N من قيمتها الأصلية.
إذا تصورنا أن نجمًا أو جُسيمًا من المادة المظلمة يتحرك في مدار داخل مجال جاذبية مثالي سلس، فعلينا أن نأخذ في الاعتبار أنه سيتعرض لهزَّاتٍ ناتجة عن مجالٍ عشوائي ضعيف. بسبب هذا المجال العشوائي، فإن نجمًا أو جُسيمًا من المادة المظلمة، كان في الأصل في المدار ، من المحتمل خلال زمنٍ معين أن يتنقل إلى مدارٍ مختلف . يشبه هذا إلى حدٍّ كبيرٍ الحركة البراونية لحُبيبات الطلع على سطح الماء؛ حيث تُلاحظ هذه الحبيبات وهي تهتز عشوائيًّا، مما يمنحها احتمالًا خلال فترة قصيرة للانتقال من موضع إلى موضعٍ قريب . والنتيجة النهائية لهذه الحركات العشوائية لحُبيبات الطلع هي «انتشار» كثافتها عَبْر الفضاء؛ فإذا كانت الحُبيبات مركزة في البداية عند ، فمع مرور الوقت ستنتشر بعيدًا عن نتيجة لانتشارها عَبْر الفضاء. بالطريقة نفسها، تنتشر النجوم وجُسيمات المادة المظلمة عَبْر فضاء الفعل.

يُعد الانتشار مهمًّا خصوصًا لنجوم الأقراص النجمية، مثل تلك الموجودة في مجرتنا؛ لأن النجوم تتشكل في منطقة موضعية للغاية ضمن فضاء الفعل، وهو الخط المرتبط بالمدارات الدائرية في مستوى تماثل القرص. ومع انتشار النجوم بعيدًا عن هذا الخط، تصبح مداراتها أكثر انحرافًا وميلًا عن مستوى التماثل. ونتيجةً لذلك، تزداد السرعات العشوائية للنجوم. فنظرًا لأن السرعات العشوائية لجُزيئات الغاز مرتبطة بالحرارة، فإننا نقول إن القرص المجرِّي «يسخَّن». ولكن هذه المقارنة ليست دقيقة؛ حيث لا يُوجد ما يُسخِّن القرص بمعنى تزويده بالطاقة، بل إنه يسخَّن ذاتيًّا ومن تلقاء نفسه؛ حيث يستمد الطاقة اللازمة لزيادة سرعاته العشوائية من طاقة جاذبيته الكامنة. والسبب وراء التقلبات في مجال الجاذبية التي تسبِّب تسخين القرص هو في الغالب البنية الحلزونية (التي سنناقشها لاحقًا)، لكن السُّحب الجُزيئية العملاقة تُسهِم فيها أيضًا بدرجةٍ كبيرة. ليس من الواضح بعدُ ما إذا كان للمجرات القزمة الساقطة دورٌ كبير في هذه التقلبات.

تُشبه العناقيد الكروية (الفصل الثالث) إلى حدٍّ كبيرٍ المجرات الصغيرة. إذ تتقلص ألبابُها وتنتفخ أغلفتُها نتيجةً للتقلبات البواسونية N في كثافة النجوم، كما أوضحنا للتو. في المجرات، يكون الزمن اللازم لتسبُّب تقلبات بواسونية في انكماشٍ ملحوظٍ للب أطول بكثير من عمر الكون نفسه.

«تدمير العناقيد» تُولَد معظم النجوم داخل عناقيدَ صغيرة؛ حيث تحتوي على أقل من ١٠٠٠ كتلة شمسية. في مثل هذه العناقيد، تكون التقلبات بواسونية كبيرة، مما يؤدي إلى إعادة توزيع الطاقة بين النجوم خلال فترة زمنية قصيرة نسبيًّا. في أي عنقود، لا يحتاج النجم إلا إلى مقدارٍ محدود من الطاقة الحركية ليتمكن من الهروب تمامًا من العنقود، وخلال أي تفاعل للطاقة بين النجوم، ثمَّة احتمالٌ دائم أن يكتسب أحد النجوم طاقةً كافيةً للهروب. بمجرد أن يهرب النجم، لا يعود أبدًا لاستعادة طاقته المفقودة. نظرًا لأن طاقة العنقود إضافةً إلى طاقة النجوم الهاربة محفوظة، فإن إزالة الطاقة الإيجابية من خلال النجوم الهاربة يجب أن تقابلها طاقة العنقود المتبقي التي تصبح أكثر سالبية. هذه الظاهرة تشبه في جوهرها التبريد بالتبخر، وهو ما يسبِّب الشعور بالقشعريرة عند التعرض لتيار هوائي أثناء البلل.

مع تقلص العنقود بسبب تبخُّر النجوم، تصبح التقلبات البواسونية أكثر أهمية، ولا يقل معدل فقدان النجوم عَبْر التبخر، حتى عندما تصبح النجوم المتبقية أكثر انجذابًا إلى بعضها. في النهاية، يستمر انكماش العنقود إلى أن يصبح نجمًا ثنائيًّا؛ إذ تُطلَق الطاقة الناتجة عن تكوين هذا النظام الثنائي، مما يُمكِّن جميع النجوم الأخرى من الهروب إلى ما لا نهاية.

لقد وصفنا للتو ما يمكن أن يحدث لعنقودٍ صغير إذا تُرك معزولًا لفترة طويلة. لكن في الواقع، العناقيد ليست معزولة، بل تتحرك عَبْر مجرة، وسنرى لاحقًا أن المجرَّة تسحب هذه العناقيد تدريجيًّا بقوة جاذبيتها. في الحقيقة، من المحتمل أن الشمس وكل نجمٍ آخَر لا يوجد حاليًّا داخل عنقود قد كان جزءًا من عنقود ثم هرب منه.

البنية الحلزونية

تحتوي المجرَّات مثل مجرَّتنا على أذرعٍ حلزونية. في الفصل الرابع، رأينا أن فيزياء الأقراص التراكمية حول النجوم والثقوب السوداء تتمحور حول نقل الزخم الزاوي نحو الخارج، وأن نقل الزخم الزاوي نحو الخارج يؤدي إلى تسخين القرص. يُعد نقل الزخم الزاوي نحو الخارج على القَدْر نفسه من الأهمية بالنسبة إلى أقراص المجرات. في الفصل الرابع، رأينا أنه في الأقراص التراكمية الغازية، يُنقل الزخم الزاوي في الأساس بواسطة المجال المغناطيسي. ولكن في الأقراص النجمية، يحدث ذلك بواسطة مجال الجاذبية؛ لأن التفاعل الوحيد بين النجوم يكون من خلال الجاذبية. توفِّر البنية الحلزونية مجال الجاذبية اللازم لنقل الزخم الزاوي نحو الخارج.

إلى جانب نقل الزخم الزاوي عَبْر القرص النجمي، تعمل الأذرع الحلزونية بانتظام على إحداث صدمات في الغاز البينجمي، مما يؤدي إلى زيادة كثافته، ويتسبب في انهيار جزء منه ليُشكِّل نجومًا جديدة. لهذا السبب، يمكن تتبُّع البنية الحلزونية بسهولةٍ شديدةٍ من خلال توزيع النجوم الشابة، خاصة النجوم الضخمة والمضيئة؛ إذ إن جميع النجوم الضخمة هي نجومٌ شابة. خلال حياتها القصيرة، لا تبتعد هذه النجوم كثيرًا عن أماكن ميلادها عند حدوث صدمة بينجمية، مما يعني أنها تتبع الخطوط الرقيقة للصدمات. يتولد مجال الجاذبية الذي تسبَّب في الصدمة في الغالب بواسطة النجوم العديدة الأقدم والأقل كتلة. ينتج عن توزيع هذه النجوم تشكيل بنية حلزونية أكثر سلاسة ذات أذرعٍ عريضة، تظهر بوضوح عند تصوير المجرة الحلزونية بالأشعة تحت الحمراء.

الأذرع الحلزونية هي موجاتٌ من كثافة نجمية مُعززة تنتقل عَبْر القرص النجمي بالطريقة نفسها التي تنتقل بها موجات الصوت عَبْر الهواء. وكما تحمل الموجات الصوتية الطاقة، فإن الأذرع الحلزونية تحمل الطاقة، وتتحول هذه الطاقة في النهاية من شكلها المنتظم الذي تكون عليه في الموجات إلى طاقة حركية للنجوم المتحركة عشوائيًّا. هذا يعني أن الأذرع الحلزونية تُسخِّن القرص النجمي. وفي حين أن الموجات الصوتية تُسخِّن الهواء أينما انتشرَت، فإن الأذرع الحلزونية تُسخِّن القرص عند أنصاف أقطار محددة، حيث تتفاعل النجوم رنينيًّا مع الموجة. يُعد تبادل الطاقة بين الموجات والجُسيمات في مواقعَ محدَّدة للغاية سمةً مميزة للأنظمة اللاتصادمية، وهو أمرٌ أساسي أيضًا في ديناميكيا البلازما الكهربائية. لا يزال فهمنا لتفاعلات الموجات والجُسيمات غير مكتمل، ولا يزال الدور الدقيق الذي تلعبه هذه التفاعلات في البنية الحلزونية وتطور أشكال المجرَّات موضع جدل.

أصل الانتفاخ

أظهرَت المشاهدات لسرعات خط النظر لعدة آلاف من النجوم في الانتفاخ/الشريط أنها تتوافق جيدًا مع الأشرطة التي تتشكل في محاكاة المركَّب لأقراصٍ ذاتية الجاذبية. تُظهر هذه المحاكاة أن تشكُّل الشريط عمليةٌ من مرحلتَين؛ ففي البداية، يتكون شريطٌ مسطَّح نسبيًّا، ثم بعد فترة قصيرة يتعرض لعدم استقرار يؤدي إلى زيادة سُمكه عموديًّا. بناءً على ذلك، تتوافق البيانات مع الافتراض القائل بأن جميع نجوم الانتفاخ/الشريط والقرص قد تكوَّنَت في الطبقة الغازية الرقيقة التي تشغل مستوى المجرة الاستوائي. هذا التفسير يشمل الغالبية العظمى من نجوم مجرتنا؛ حيث يُعتقد أن نجوم الهالة النجمية ربما لم تتكون داخل مستوى المجرة، ولكن أقل من واحد في المائة من نجوم المجرة ينتمي إلى الهالة النجمية.
في محاكاة المركب للأشرطة داخل الهالات المظلمة، ينقل شريط الزخم الزاوي إلى الهالة المظلمة، مما يؤدي إلى تباطؤ معدل دوران الشريط وزيادة قوته. تشير عدة أدلة إلى أن شريط مجرتنا يدور بمعدل مرتفع نسبيًّا، وهذا يتماشى مع نماذج محاكاة المركب إذا كان هناك تدفقٌ كبير للغاز عَبْر القرص باتجاه الشريط. يتحرك الغاز نحو الداخل لأنه يفقد الزخم الزاوي أثناء تدفقه عَبْر الأذرع الحلزونية. وعند اقترابه من نصف قطر الدوران المتزامن للشريط، يبدأ باكتساب الزخم الزاوي من مجال الجاذبية الدوَّار للشريط، مما يُبطئ انجرافه نحو الداخل ويؤدي إلى زيادة كثافته، وهذا هو أصل «الحلقة الجُزيئية العملاقة»، وهي منطقة غنية بالغاز يبلغ نصف قطرها نحو خمسة كيلوفراسخ تحيط بالشريط، وتهيمن على تكوُّن النجوم في المجرة. الغاز الذي يهرب من الحلقة الجُزيئية العملاقة ويدخل الشريط يفقد الزخم الزاوي بسرعة عَبْر الصدمات، وهو ما نُلاحظه في المحاكاة العددية وفي شكل ممرات الغبار في المجرَّات الخارجية. بعد اختراقه السريع عَبْر الشريط، يتراكم الغاز داخل قرص نووي ذي نصف قطر يقارب ٠٫٢ كيلوفرسخ يُعرف باسم «منطقة الجُزيئات المركزية». في هذه المنطقة، يُغذِّي تكوُّن النجوم النشط، كما يتضح من العدد الكبير من بقايا المستعرات العظمى داخل هذا القرص وحوله.

الالتهام الكوني

يتكون الكون من هالات المادة المظلمة التي عكسَت الجاذبية داخلها التمدد الكوني، ومجرتنا هي واحدة من ثلاث مجراتٍ رئيسية في هالة كهذه تُعرف باسم المجموعة المحلية. ونظرًا لأن المجرات القزمة أكثر شيوعًا من المجرات العملاقة، فإن الغالبية العظمى من المجرات داخل أي هالة هي مجراتٌ قزمة.

عند حوافي أي هالة، توجد مجراتٌ قزمة تقع في نقطةٍ حرجة بين استمرار تمددها التاريخي بعيدًا عن مركز الهالة وسقوطها نحو الداخل. تتحرك هذه المجرات في مداراتٍ شديدة الانحراف ضمن مجال جاذبية الهالة، وهي حاليًّا عند أبعد نقطة عن مركزها. ولكن بعد عدة مليارات من السنين، ستقترب كثيرًا من مركز الهالة. إذن، كيف ستتأثر هذه المجرات بهذه التجربة؟

عندما تسقط مجرة نحو الهالة من أقصى نصف قطر مداري ( )، تجذب جُسيمات المادة المظلمة القريبة من مسارها. لفهم تأثير هذا الجذب، من الأسهل تصوُّر جُسيمات المادة المظلمة سائلًا. عندما تمُر المجرة القزمة، فإن هذا السائل يتلقى دفعة باتجاه مسارها، ويتجمع على طول ذلك المسار (الشكل ٧-٤). لكن حركة هذا السائل تستغرق وقتًا، وتزداد كثافته على طول المسار. ومن ثَم تقع منطقة زيادة كثافة المادة المظلمة خلف المجرة القزمة. لذلك، تجذب قوة الجاذبية من المنطقة ذات الكثافة العالية المجرة القزمة للخلف، فتصبح قوةً مُعيقة لحركتها، كما لو كانت تتعرض للاحتكاك. في الواقع، يُطلق على هذه الظاهرة اسم «الاحتكاك الديناميكي».
fig37
شكل ٧-٤: تكوُّن أثر خلف جِرم ضخم. يتحرك الجِرم الضخم، الممثل بالمربع الأسود المركزي، من اليسار إلى اليمين. تتحرك الجُسيمات، التي كانت في البداية ثابتة عند نقاط شبكة منتظمة، باتجاهه. يظهر بوضوح وجود منطقة ذات كثافة متزايدة من هذه الجُسيمات على طول المسار الذي سلكه الجِرم الضخم في الماضي.

بما أن الدفعة الناتجة عن المجرة القزمة، التي تؤدي إلى تكوُّن منطقة زيادة كثافة المادة المظلمة، تتناسب طرديًّا مع كتلة المجرَّة القزمة، فإن كتلة هذه المنطقة الزائدة تتناسب أيضًا مع كتلة المجرَّة القزمة. لذا فإن قوة السحب على المجرَّة القزمة، التي تتناسب مع حاصل ضرب كتلتَي المجرَّة القزمة والزيادة في الكثافة، تتناسب بالتالي مع «مربع» كتلة المجرَّة القزمة، ويتناسب تباطؤ المجرَّة القزمة مع كتلتها. وبذلك، فإن المجرَّة الساقطة الأكثر ضخامة ستتأثر أكثر بهذه الظاهرة، مما يؤدي إلى تعديل مدارها سريعًا.

إذا لم يكن هناك احتكاكٌ ديناميكي، فستقترب المجرة من مركز الهالة، ثم تعود إلى الخارج لما يقارب نصف قطرها المداري الأصلي، لكنها لن تصل تمامًا إلى أقصى نصف قطر مداري، لأن المادة الساقطة الأخرى ستكون قد زادت من الكتلة الداخلية إلى أقصى نصف قطر مداري منذ أن كانت هناك آخر مرة، وسيكون لديها طاقةٌ كافية للوصول إلى أقصى نصف قطر مداري. أما إذا تعرَّضَت المجرة القزمة للاحتكاك الديناميكي بدرجة كبيرة، فستتوقف عن الحركة نحو الخارج قبل أن تصل إلى أقصى نصف قطر مداري. وسيؤدي الاحتكاك الديناميكي إلى أن يصبح كل نصف قطر انعكاسي أصغر من سابقه؛ وفي النهاية، وفقًا لهذا التفسير، سينتهي الحال بالمجرة القزمة بالسكون في مركز الهالة. وهذا يعني أن الهالة أو المجرة الموجودة في مركزها، قد التهمَت المجرة القزمة.

إذا سارت الأحداث بالضبط كما وصفناها، فإن قزمًا ذا كتلة سقط في هالة ذات كتلة سيبقى للفترة الزمنية التالية:
حيث هي فترة المدار الدائري عند أقصى نصف قطر مداري . إذا قمنا بتوسيع هذه المعادلة لتشمل حالة اندماج الأقران، ، مثل اللقاء المستقبلي لمجرتنا مع سديم أندروميدا، M31، فسنجد أن ؛ أي الفترة المدارية الأولية. تُظهر محاكاة المركب أن هذه النتيجة المستخلصة صحيحة بالفعل.
المجرة القزمة الأقرب حاليًّا إلى مجرَّتنا هي مجرَّة الرامي القزمة، التي تقع على بُعد نحو ١٣ كيلوفرسخًا من مركز المجرَّة في الجهة المعاكسة للشمس. الفترة للمدار الدائري عند هذه المسافة هي مليار سنة أو تقريبًا ١ / ٢٥ من عمر الكون الحالي. لذا، لكي تكون فترة الحياة الزمنية أصغر من عمر الكون الحالي، يجب أن تكون كتلة المجرة القزمة أكبر من ١٠١٠ كُتل شمسية لأن (٢٠ كيلوفرسخًا) ٢٫٥ × ١٠١١. كتلة المجرة القزمة غير محدَّدة بدقة، ولكنها أصغر بكثير من ١٠١٠ كُتل شمسية، لذا قد نستنتج أنه لن يتم التهامها في وقتٍ قريب. ولكن ليس هذا هو الحال! لأننا قد بالغنا في تقليل تقديرات قدرات مجرتنا على الالتهام.

المد والجزر الكوني

عندما يدور جِرمٌ متمدد في مجال جاذبية، فإنه يتمدد على طول الخط الذي يربط مركزه بمركز الجذب. السبب في ذلك هو أن المادة على سطحه الأقرب إلى مركز الجذب تشعر بقوة جاذبية أقوى من المادة الموجودة على الجانب البعيد عن مركز الجذب (الشكل ٧-٥). ومن ثَم، يميل هذان الجزءان من المادة في التسارع بمعدلاتٍ مختلفة. ولكن بما أنهما جزء من جِرمٍ واحد، فإنهما مُضطرَّان إلى التسارع بمعدلٍ واحد، وهو معدل تسارع وسط. هذا المعدل صغير جدًّا بالنسبة إلى المادة الموجودة على جانب مركز الجذب، وسريع جدًّا بالنسبة إلى المادة الموجودة على الجانب المقابل. استجابةً لهذا التباين، يتمدد الجِرم على طول خط المركز بحيث يسحب مجال الجاذبية المواد الأقرب إلى مركز الجذب إلى الوراء، ويدفع المواد على الجهة المقابلة إلى الأمام. وبما أن الفيزياء التي وصفناها هي نفسها التي يتسبَّب بها القمر في ظاهرة المد والجزر على سطح المحيطات، فإننا نقول إن الأجرام تتمدد بواسطة «مجال المد والجزر» للجِرم الذي تدور حوله.
fig38
شكل ٧-٥: المد والجزر بدون قمر: عند النقاط الأقرب والأبعد من الأرض عن الشمس، يكون سطح المحيط (المبين بالمنحنى الكامل) أعلى من المعدل المتوسط (المبين بالخط المتقطع)، مما يجعل الضغط صغيرًا جدًّا لدرجة لا يمكنه معها موازنة جذب الجاذبية للأرض، وتكون القوة الصافية التي تؤثِّر على حجم صغير من الماء نحو الأسفل. على اليسار، تلغي هذه القوة الصافية جزءًا من جذب الجاذبية للشمس، بينما على اليمين تُضيف إلى جذب الشمس. تضمن هذه الإضافات إلى جذب الشمس أن عناصر المحيط في كلا الموقعَين تدور حول الشمس بالسرعة الزاوية نفسها.
مع اقتراب المجرات القزمة من مركز المجرة، تتمدد هالاتها من المادة المظلمة إلى درجة يحدث عندها انتزاع الجُسيمات بالكامل من نطاق جاذبيتها، فتبدأ في الدوران منفردةً ضمن مجال جاذبية المجرة. الجُسيمات التي تنفصل عن المجرة القزمة من الجانب المواجه لمركز الجذب تنتقل إلى مداراتٍ ذات زخم زاوي أقل من المجرة القزمة، فتتقدم عليها، بينما الجُسيمات التي تنفصل من الجانب البعيد تنتقل إلى مداراتٍ ذات زخم زاوي أكبر وتتأخر خلفها. بهذه الطريقة، يتشكل «ذيلان من ذيول المد والجزر»، وتفقد المجرة القزمة كتلتها تدريجيًّا (الشكل ٧-٦).
fig39
شكل ٧-٦: محاكاة لتكوُّن ذيول المد والجزر. يُظهر المنحنى مدار مركز العنقود الذي يجري تفكيكه.

مع انخفاض كتلة المجرَّة القزمة، يضعف مجال جاذبيتها، مما يؤدي إلى تقارب النقاط التي تتحرر عندها الجُسيمات وتبدأ في الدوران المستقل باتجاه مركزها. يؤدي هذا إلى حلقةٍ مُفرغة من فقدان الكتلة؛ حيث تصبح المجرَّة القزمة أصغر حجمًا مع ازدياد طول ذيول المد والجزر. في مرحلةٍ معيَّنة، تصل النقاط التي تتحرر عندها الجُسيمات إلى مسافةٍ شديدة القرب من المركز، مما يسمح بتدفق أعدادٍ كبيرة من النجوم وجُسيمات المادة المظلمة إلى ذيول المد والجزر. بلغَت مجرَّة القوس القزمة هذه المرحلة منذ فترة، وأصبحَت ذيول المد والجزر الخاصة بها تلتفُّ حول المجرَّة مرةً واحدة على الأقل وربما مرتَين.

أتاحت قياسات ألوان ملايين النجوم وسطوعها إمكانية تحليل توزيع كثافتها ضمن أغلفتها الكروية المتمركزة حول الشمس. وقد كشفَت النتائج عن وجود حيود ومناطق ذات كثافة زائدة. في الواقع، تحتوي هذه الحيود والمناطق الزائدة الكثافة على ما لا يقل عن نصف نجوم الهالة النجمية. ومن المحتمل أن تكون الهالة النجمية قد تكوَّنَت بالكامل من تياراتٍ مدِّيةٍ جزرية أُزيلَت من المجرات القزمة والعناقيد الكروية. عند دخول بعض هذه الأجسام إلى مجرتنا لأول مرة، ربما كانت تمتلك كتلةً كافية لتخضع لتأثير الاحتكاك الديناميكي بدرجةٍ كبيرة. لكن مع استمرار دورانها، تسبَّبَت قوى المد والجزر في تفكك المزيد من هالات المادة المظلمة المحيطة بها، حتى وصلَت إلى نقطة انخفضَت فيها كُتلُها إلى ما دون العتبة اللازمة لحدوث احتكاكٍ ديناميكي مؤثِّر. على الرغم من ذلك، استمر التجريد المدِّي الجزري بلا توقف، مما أدى في النهاية إلى تفكُّكها بالكامل دون أن تصل إلى مركز المجرة.

التطور الكيميائي

تكوَّنَت جميع العناصر الأثقل من الليثيوم تقريبًا منذ تشكُّل المجرة، وخلال عملية تكوينها، استمرت ولادة النجوم داخل المجرة. لذا، توفِّر النجوم بمختلف أعمارها سجلًّا أحفوريًّا لكيفية تطوُّر محتوى العناصر الثقيلة في الوسط البينجمي. علاوةً على ذلك، نظرًا لأن النجوم القديمة عادةً ما تكون سرعاتها عشوائية أكبر، فإن تركيبها الكيميائي يرتبط ارتباطًا وثيقًا بحركيتها.

يصعب تحديد عمر نجمٍ فردي؛ حيث يتطلب ذلك معرفةً دقيقة بكتلته وإضاءته ومحتواه الكيميائي، كما يُعد تحديد الكتلة تحديدًا مهمة شاقة. لهذا السبب، يُفضِّل الفلكيون استخدام التركيب الكيميائي، الذي يسهُل قياسه، كمؤشرٍ بديل على عمر النجم.

تُعد المستعرات العظمى أهم المساهمين في إثراء الوسط البينجمي بالعناصر الثقيلة. في الفصل الثالث، تحت عنوان «النجوم المتفجرة»، رأينا أن هناك نوعَين أساسيَّين مختلفَين من المستعرات العظمى؛ المستعرات العظمى المنهارة اللُّب، التي تمثل نهاية حياة النجوم الضخمة (التي تزيد كتلتها على ثماني كتل شمسية)، والمستعرات العظمى الناتجة من الاضطرام، التي تحدث عندما يكتسب القزم الأبيض كمية كبيرة جدًّا من المادة من نجمٍ مرافق. نظرًا لأن أعمار النجوم الضخمة قصيرة، فإن انفجارات المستعرات العظمى المنهارة اللُّب تحدث بعد فترةٍ وجيزة (نحو ١٠ ملايين سنة) من تكوُّن النجوم، بينما قد تستغرق عملية تطور النجم إلى قزمٍ أبيض ثم تراكم المادة الكافي لحدوث المستعرات العظمى الناتجة من الاضطرام قرابة مليار سنة. لذلك، خلال أول مليار سنة من عمر المجرة، كان الوسط البينجمي ثريًّا فقط بالمستعرات العظمى المنهارة اللُّب.

fig40
شكل ٧-٧: تشكَّلَت النجوم في المليار سنة الأولى بمعدلات منخفضة من وفرة الحديد (Fe) مقارنةً بالمغنيسيوم (Mg)، كما هو موضح في الجزء العلوي من هذا المخطط. الإحداثي الأفقي يمثل الوفرة في عنصر الحديد. بينما تُظهر الخطوط الكنتورية كثافة النجوم في هذا المستوى.
كما رأينا في الفصل الثالث، فإن المستعرات العظمى الناتجة من الاضطرام تُنتج أساسًا الحديدَ، في حين أن المستعرات العظمى المنهارة اللُّب تُنتج طيفًا واسعًا من العناصر الثقيلة. بناءً على ذلك، فإن نسبة الحديد في الوسط البينجمي مقارنةً بعناصر مثل المغنيسيوم أو الكالسيوم كانت أقل خلال المليار سنة الأولى من عمر المجرة، مقارنةً بما هي عليه الآن. يوضح الشكل ٧-٧ أنه يمكن التعرف على مجموعتَين من النجوم بالقرب من الشمس؛ في مجموعة النجوم «المُعززة بعناصر ألفا»، تكون وفرة المغنيسيوم والكالسيوم أعلى عند قيمةٍ معيَّنة من وفرة الحديد مقارنةً بالمجموعة «ذات الوفرة الطبيعية». نستنتج من ذلك أن نجوم المجموعة المُعززة بعناصر ألفا قد تشكَّلَت خلال أول مليار سنة من عمر المجرة.

تضم كل مجموعةٍ نجميةٍ نطاقًا واسعًا من وفرة الحديد بالنسبة إلى الهيدروجين. قد يُفترض أن النجوم التي تمتلك نِسبًا منخفضة من الحديد إلى الهيدروجين قد تكوَّنَت قبل تلك التي تمتلك نِسبًا عليا. لكن هذا الاستنتاج ليس دقيقًا دائمًا؛ ففي المراحل الأولى من تطوُّر المجرة، كان تحوُّل الغاز البينجمي إلى نجومٍ أكثر سرعةً بالقرب من مركز المجرة مقارنةً بالأطراف، ونتيجةً لذلك، ارتفعَت نسبة العناصر الثقيلة بوتيرةٍ أسرع في المركز مقارنةً بالمناطق الخارجية. لذا، فإن قيمةً معينة لنسبة الحديد إلى الهيدروجين قد تحقَّقَت في وقتٍ أبكر عند أنصاف الأقطار الصغيرة مقارنةً بأنصاف الأقطار الكبيرة، وقد يكون نجمٌ ذو نسبة حديد إلى هيدروجين منخفضة قد تشكَّل بالقرب من مركز المجرة في وقتٍ مبكر من عمر المجرة، أو في وقتٍ أحدث عند أنصاف أقطار كبيرة.

توفر قيمة نسبة المغنيسيوم إلى الحديد للنجم درجة من التمييز بين هذه الاحتمالات؛ فإذا كانت نسبة المغنيسيوم إلى الحديد مرتفعة، فلا بد أن النجم قد تشكَّل في أول مليار سنة من عمر المجرة، وفي ذلك الوقت لم تكن القِيَم المنخفضة لهذه النسبة قد تحقَّقَت إلا عند أنصاف أقطار كبيرة؛ لذا فإن نجمًا ذا نسبة مرتفعة أو معتدلة لا بد أنه قد تشكَّل على مسافةٍ بعيدة داخل المجرة.

تتمتع النجوم المُعززة بعناصر ألفا بسرعاتٍ عشوائيةٍ كبيرة، وتمتد أبعد عن مستوى المجرة من النجوم ذات الوفرة الطبيعية. تتفق البيانات مع القرص السميك الذي يتكون من نجومٍ مُعززة بعناصر ألفا، والقرص الرقيق الذي يتكون من نجوم ذات وفرة طبيعية.

بالنظر إلى الروابط الوثيقة بين وقت الميلاد ومكانه، والتركيب الكيميائي، والحركة الحالية لنجوم القرص، نجد أنه من المفيد للغاية نمذجة التطور الكيميائي والديناميكي معًا. في مثل هذه النماذج، تُولد النجوم بمعدلٍ ما عند كل نصف قطر من الغاز البينجمي المحلي، وتُثري هذا الغاز بالمغنسيوم والكالسيوم بعد فترةٍ قصيرةٍ من تكوينها، وبالحديد بعد نحو مليار سنة. تُولد النجوم على مداراتٍ دائرية تقريبًا، وتنجرف تدريجيًّا إلى مدارات أكثر لا مركزية ومائلة. يُستنزف الغاز بين النجوم عند كل نصف قطر بسبب تكوين النجوم والاندفاع كريحٍ مجرِّية للغاز الذي تسخِّنه المستعرات العظمى. ويتعزَّز بتراكم الغاز بين المجرات. تدفع البنية الحلزونية الغاز المكون للنجوم ببطء إلى الداخل، حاملةً العناصر الثقيلة معه. الهدف من هذا النموذج هو إعادة إنتاج الحركات المرصودة للنجوم كدالَّة للموقع، والارتباطات المرصودة بين التركيب الكيميائي والحركات. ويمثل هذا حاليًّا مجالًا نشطًا من مجالات البحث.

الخزان العظيم

في الفصل الثاني، تحت عنوان «القرص الغازي»، وصفنا قرص الغاز لمجرتنا، وهو نموذجيٌّ لأقراص الغاز في المجرات الحلزونية ويحتوي على نحو ٦ × ‏١٠٩ من الكتلة الشمسية. نظرًا لأن المجرة تحوِّل الغاز إلى نجوم بمعدل نحو اثنَين كتلة شمسية في السنة، فإن مخزون المادة هذا لتكوين النجوم سينضب في غضون نحو ثلاثة مليارات سنة. هل قرص الغاز الحالي هو بقايا صغيرة من قرص غاز ضخم شكَّلَت منه المجرة نحو ٥ × ‏١٠٩ من الكتلة الشمسية من النجوم، أم أنه مجرد مخزنٍ مؤقت بين تكوين النجوم وتراكم الغاز؟
تُظهر عمليات رصد المجرات الأخرى أن معدل تكوين النجوم في قرصٍ يتناسب مع الكثافة السطحية للغاز البارد؛ لذلك في حالة عدم وجود تراكم، تتناقص كتلة قرص الغاز تناقُصًا كبيرًا مع مرور الوقت. بالنظر إلى المعدل الذي تُشكِّل به مجرتنا النجوم حاليًّا وكتلة الغاز الحالية، من السهل إظهار أنه في حالة عدم وجود تراكم، كانت كتلة الغاز قبل ١٠ مليارات سنة نحو ١٫٧ × ١٠١١ كُتل شمسية، وتقريبًا كل هذه الكتلة ستكون الآن في النجوم. هذه النتيجة غير المنطقية تُظهر أن فرضيتنا، بأن المجرَّة لا تُراكم الغاز، هي فرضيةٌ خاطئة.
من خلال إشعاع الأمواج الصغرية للخلفية الكونية (CMB) يمكننا استنتاج متوسط الكثافة الكونية الحالي للمادة العادية. ومن خلال قياس إضاءات المجرَّات، نعرف متوسط كثافة الإضاءة الكونية؛ ومن ثَم يمكننا تحديد كتلة المادة العادية المطلوبة، في المتوسط، لتوليد كميةٍ معيَّنة من الإضاءة، نحو ٤٠ كتلة شمسية/إضاءة شمسية. الآن إذا أخذتَ مجموعة تمثيلية معقولة من المجرات، من إضاءة المجموعة، يمكنك استنتاج كمية المادة العادية التي يجب أن تحتوي عليها. وقد تبيَّن أن هذه الكمية هي تقريبًا ١٠ أضعاف كمية المادة العادية الموجودة في المجرات. لذا لا بد أن تكون معظم المادة العادية «بين» المجرات وليس داخلها.

يمكن الكشف عن الهيدروجين الذري بين المجرات من خلال امتصاصه لفوتونات «لايمان ألفا» التي تصل إلينا من النجوم الزائفة البعيدة (الفصل الرابع). نظرًا لأن ضوء النجوم الزائفة الأبعد قد استغرق معظم عمر الكون للوصول إلينا، فإنه يعكس طبيعة الفضاء بين المجرات عَبْر مختلف العصور الكونية. ولذلك فإن قياسات خط لايمان ألفا تتيح لنا تتبع الكثافة الكونية للهيدروجين عَبْر الزمن. في أول مليار سنة، كانت كثافة الهيدروجين مساويةً تقريبًا لكثافة المادة العادية المستنتَجة من إشعاع الأمواج الصغرية للخلفية الكونية، ولكن مع مرور الوقت انخفضَت كثافة الهيدروجين، وهي الآن أقل من واحد في المائة من الكثافة المتوقعة للمادة العادية. تؤكد عمليات البحث عن انبعاث ٢١سم من الهيدروجين الذري بين المجرات القريبة أن هناك كميةً قليلةً جدًّا من الهيدروجين بين المجرات في الوقت الحالي.

التفسير الطبيعي لهذه النتيجة هو أن مخزون الكون من الهيدروجين قد استُهلك في تكوين النجوم والمجرات، ولكن الدراسات التي أُجريَت على المجرات القريبة تُظهر أنها لا تحتوي على كميةٍ كافيةٍ من المادة العادية لجعل هذا التفسير مقبولًا. أما التفسير الأكثر قبولًا فهو أن المادة المفقودة «موجودة» في الفضاء بين المجرات، ولكنها ساخنة جدًّا لدرجة أنها متأينة بالكامل، مما يجعل من المستحيل اكتشافها باستخدام أي خط طيفي للهيدروجين.

في الواقع، من الطبيعي أن يكون الغاز بين المجرات شديد السخونة؛ لأن الضغط داخل الغاز لا يمكنه مقاومة سَحب الجاذبية للمجرات إلا إذا تجاوزَت درجة حرارته «درجة الحرارة الفيريالية»، وهي الدرجة التي تصبح عندها السرعات الحرارية للذرات مماثلة لسرعات جُسيمات المادة المظلمة المدارية، وفي مجرتنا، تبلغ هذه الدرجة نحو ٢ × ‏١٠٦ كلفن، لكنها تختلف عبْر أنحاء الكون، لتقترب من ١٠٦ كلفن في أكثر العناقيد المجرِّية وفرة. عند درجة الحرارة الفيريالية، يوفر ضغط الغاز توازنًا فعالًا ضد الجاذبية؛ لذا فإن كثافة الغاز تميل إلى تتبع كثافة المادة المظلمة. أما الغاز الذي تتحرك فيه الذرات بسرعة أقل بكثير من جُسيمات المادة المظلمة، فإنه لا يمتلك ضغطًا كافيًا لمقاومة الجاذبية؛ ومن ثَم لا بد أن يقتصر على قرصٍ رفيع دوَّار عند الاتزان.
يُصدر الغاز عند درجة الحرارة الفيريالية أشعةً سينية. في العناقيد الغنية بالمجرات، تكون الأشعة السينية قوية بما يكفي لرصدها، وتشير إلى وجود كمية الغاز المتوقعة (الشكل ٧-٨). أما خارج العناقيد الغنية بالمجرات، فتكون الأشعة السينية ضعيفة جدًّا ومنخفضة الطاقة بدرجة لا تسمح برصدها بالتلسكوبات الحالية. ولكن هناك مؤشراتٌ على وجود الغاز المتوقَّع في الأطياف فوق البنفسجية لبعض الأجرام.
fig41
شكل ٧-٨: عنقود كوما، يظهر على اليمين (أ) في الضوء المرئي وعلى اليسار (ب) في الأشعة السينية. تبلغ زاوية الصورة المرئية ٠٫٣٢ درجة فقط بينما تبلغ صورة الأشعة السينية ٢٫٧ درجة؛ ومن ثَم فلا تُظهر الصورة المرئية سوى مركز العنقود. الجسم اللامع في الأعلى على اليمين من المركز في الصورة المرئية هو نجم في مجرتنا، وجميع الأجسام الأخرى مجرات.

يُعد البحث عن خطوط الامتصاص في طيف جِرمٍ سماوي يقع في الخلفية هو الطريقة الأكثر دقة لاكتشاف الغاز (كما ذكرنا للتو).

يعتمد أفضل نطاقٍ موجي لفحص خطوط الامتصاص على درجة حرارة الغاز المراد دراسته؛ إذ ينبغي أن يتضمن النطاق الموجي فوتوناتٍ تمتلك طاقةً كافية لتحفيز الأيونات من حالتها الأرضية إلى حالة الإثارة، وعند درجات الحرارة المرتفعة، تبقى فقط الإلكترونات المرتبطة بقوة ضمن الأيونات، ولا يمكن إثارة هذه الأيونات إلا بواسطة فوتوناتٍ عالية الطاقة.

يُعتبر نطاق الأشعة السينية هو المثالي للبحث عن الغاز الذي تتجاوز حرارته ١٠٦ كلفن. ولكن مع الأسف، فإن تلسكوبات الأشعة السينية صعبة الإنشاء؛ لأن الأشعة السينية تميل إلى نزع الإلكترونات من المرايا بدلًا من الانعكاس عليها. علاوةً على ذلك، فإن معدل انبعاث فوتونات الأشعة السينية عند إضاءة معيَّنة يكون أقل ﺑ ١٠٠٠ مرة من معدل انبعاث الفوتونات الضوئية، مما يجعل فوتونات الأشعة السينية نادرة، ويؤدي إلى ارتفاع الضوضاء الإحصائية. لهذه الأسباب، فإن البحث الحساس عن خطوط الامتصاص في الأشعة السينية غير ممكن. غير أن تلسكوب هابل الفضائي قد أجرى عمليات بحث عن خطوط الامتصاص في الطيف فوق البنفسجي. وقد رُصِدَت خطوط امتصاص تشير إلى وجود أيوناتٍ مثل الأكسجين المتأين خمس مرات والكربون المتأين ثلاث مرات في أطياف النجوم الزائفة. تُظهر سرعات هذه الخطوط أن الامتصاص يحدث عند مرور خط النظر بالقرب من مجرةٍ ما، ولكنه غالبًا يكون على مسافةٍ كبيرة تصل عادةً إلى ١٠٠ كيلوفرسخ.
تُوجد هذه الأيونات عادةً في غاز أبرد (نحو ٣ × ‏١٠٥ كلفن) مما يُعتقد أنه الغاز السائد في الفضاء بين المجرات، وعادةً ما تُفسر هذه البيانات على أنها تعكس الامتصاص عند الواجهة الفاصلة بين الغاز الذي يملأ معظم الفضاء بين المجرات والسُّحب الأصغر من الغاز الأبرد (نحو ١٠٤ كلفن). يُعد هذا المجال من أكثر المجالات البحثية نشاطًا، وقد يتغير تفسيرنا لهذه البيانات في غضون بضع سنوات.

محركات التشكيل

تتحدد طبيعة المجرة إلى حدٍّ كبير بثلاثة أرقام؛ إضاءتها، ونسبة الانتفاخ إلى القرص، ونسبة كتلة الغاز البارد إلى الكتلة في النجوم. ونظرًا لأن النجوم تتشكل من الغاز البارد، فإن هذه النسبة الأخيرة تُحدِّد مدى حداثة المجموعة النجمية للمجرة. تحتوي مجموعة النجوم الشابة على نجومٍ ضخمة، وهي قصيرة العمر، ومضيئة، وزرقاء (الشكل ٣-١). وتحتوي مجموعة النجوم القديمة على نجومٍ منخفضة الكتلة فقط، وخافتة، وحمراء. علاوةً على ذلك، يمكن أن يكون التوزيع المكاني للنجوم الشابة متكتلًا للغاية؛ لأن النجوم لم تُتِح الوقت الكافي للانتشار حول النظام، تمامًا كما تتوزع القشدة التي تُسكَب في القهوة على شكل بُقَع وخيوط تختفي بسرعة عند تحريك الكوب. على النقيض من ذلك، تتوزع النجوم القديمة بسلاسة. لذا، تبدو المجرة ذات المجموعة النجمية الشابة مختلفة تمامًا عن المجموعة النجمية القديمة؛ فهي أكثر تكتلًا/مخططة، وأكثر زُرقة، وذات إضاءة أعلى من مجرة ذات كتلةٍ نجميةٍ مماثلة ولكن ذات مجموعةٍ نجميةٍ قديمة.

تؤثِّر نسبة كتلة الانتفاخ إلى القرص تأثيرًا واضحًا في شكل المجرة، خاصةً عندما يُنظر إلى القرص من الحافة. كما أنها تؤثِّر في تماسك المجرة؛ لأن الانتفاخ الذي يتمتع بسطوعٍ معين يميل إلى أن يكون أكثر كثافة من القرص المقابل.

وأخيرًا، تتأثر بنية المجرة بشكلٍ كبير بإضاءتها؛ لأن الإضاءة مرتبطة بكتلة النجوم فيها، التي بدورها ترتبط بسرعات النجوم وجُسيمات المادة المظلمة. ومن ثَم، فإن الإضاءة مرتبطة بدرجة الحرارة الفيريالية لها. فللمجرة المضيئة والكبيرة درجةُ حرارة فيريالية عالية، مما يجعل من الصعب على المستعرات العظمي دفع الغاز خارجها. وعلى العكس، يسهُل على المستعرات العظمي دفع الغاز خارج المجرة المنخفضة الكتلة والمنخفضة الإضاءة. وبما أن الغاز البارد اليوم هو ما يُشكِّل نجوم الغد، فإن دفع الغاز خارج المجرة في وقتٍ مبكر يقلل من نسبة النجوم إلى المادة المظلمة، ويُعتقد أن هذا هو السبب في أن المجرات المنخفضة الإضاءة تمتلك نسبًا عاليةً من كتلة المادة المظلمة إلى كتلة النجوم.

تتأثر المجرات أيضًا في تشكُّلها ببيئاتها. فالبيئات الكثيفة غنية بالمجرات الإهليلجية والعدسية، بينما البيئات الفقيرة بشكلٍ غير طبيعي فمليئة بالمجرات غير المنتظمة القزمة. تميل المجرات الحلزونية مثل مجرتنا إلى التشكُّل في مناطقَ ذات كثافةٍ متوسطة. تتكون هذه المناطق من بُقعٍ يبلغ قطرها نحو ميجافرسخ؛ حيث تعكس الجاذبية التوسع الكوني، مما يعني أن كل منطقة تحتوي الآن على عدد من المجرات التي تتساقط بعضها نحو بعض. تقع مجرتنا في منطقةٍ مثل هذه تمامًا، وهي منطقة مجموعة المجرات المحلية. بعضُ المجرات داخل هذه المجموعة ثابتةٌ بالنسبة إلى الغاز المحلي بين المجرات، وتعمل كمصارف لهذا الغاز حيث تُبرِّده تدريجيًّا. من خلال عمليات لا تزال غير مفهومة تمامًا، ولكن من المحتمل أن تشمل التفاعلات الديناميكية مع سُحب الغاز البارد الذي جرى إطلاقه من القرص بفعل المستعرات العظمى (الفصل الثاني)، يبرد الغاز ذو درجة الحرارة الفيريالية على القرص، مما يزيد من إمداد الغاز البارد المكوِّن للنجوم. ولذلك، تبقى هذه المجرَّات، التي تشمل مجرَّتنا درب التبانة وجيراننا M31 و M33، في طور الشباب.
تدور المجرات الأصغر حول هذه المجرات الرئيسية ومن خلالها. لا تستطيع هذه المجرات إعادة ملء غازها البارد من خلال امتصاص غازٍ ذي درجة حرارة فيريالية؛ لأن سرعتها في الحركة عَبْر ذلك الغاز مرتفعة جدًّا. لذلك، يتوقف تكوين النجوم في هذه المجرات عندما يحدث استنفاد لمخزونها الأوَّلي من الغاز البارد. ولهذا السبب، كلما كانت المجرة التابعة أقرب إلى مركز مجرتها المضيفة، تضاءل احتمال رؤية تكوين النجوم فيها؛ حيث إن كثافة الغاز ذي درجة الحرارة الفيريالية تزداد نحو الداخل؛ ومن ثَم تواجه المجرات القريبة رياحًا قوية أثناء تحركها بسرعة تقارب سرعة الصوت عَبْر الغاز ذي درجة الحرارة الفيريالية. هذه الرياح القوية (فكِّر في السفر في طائرة بوينج ٧٤٧ بدون سقف) تجرف غاز المجرة التابعة بعيدًا (الشكل ٧-٩).
«عناقيد المجرات»: البيئات الأكثر كثافة هي العناقيد الغنية بالمجرات. وهي مناطقُ تمتد عبر بضع ميجافراسخ؛ إذ أدت الجاذبية إلى عكس التمدد الكوني منذ زمنٍ بعيد، مما أدى إلى ارتفاع كثافة المجرات ودرجة الحرارة الفيريالية. نظرًا لكثافة الغاز عند الحرارة الفيريالية، فإن انبعاثه في نطاق الأشعة السينية يكون شديدًا، ويمكن رصده بواسطة التلسكوبات لمسافاتٍ بعيدة من مراكز العناقيد (الشكل ٧-٨). يكون الغاز عند الحرارة الفيريالية في العناقيد شديد السخونة؛ لأن سرعات ودرجات حرارة البِنى الكونية تزداد مع مقياس الكتلة، ولأن العناقيد الغنية بالمجرات ضخمة للغاية (حوالي ١٠١٥ كتلة شمسية).
fig42
شكل ٧-٩: كلما كانت المجرة القزمة أبعد عن جيرانها، زادت احتمالية احتوائها على كمية قليلة من الغاز البارد المكوِّن للنجوم.

تتجاوز درجات الحرارة الفيريالية للعناقيد الغنية درجة الحرارة التي يمكن أن تُسخِّن إليها المستعرات العظمى الغاز بين النجوم. لذا، لا يمكن أن تكون أي مادة عادية قد طُردت من هذه المناطق منذ الانفجار العظيم، ويجب أن تكون نسبة كتلة المادة العادية إلى المادة المظلمة هي النسبة الكونية. وضمن حدود الأخطاء التجريبية، وُجد أن هذا هو الحال بالفعل.

لا تستطيع المجرات التي تدور داخل العنقود اكتساب الغاز بين المجرات عَبْر التبريد؛ ولذلك نادرًا ما تُشكِّل أعدادًا كبيرةً من النجوم. أما المجرات التي تمتلك أقراصًا غازية باردة وقابلة لتشكيل النجوم، فإنها تستمر في السقوط داخل العناقيد الغنية، وتُواصل تكوين النجوم بمعدلٍ متناقصٍ حتى تستنفد مخزونها من الغاز البارد. خلال هذه المرحلة، تُعرف هذه المجرات ﺑ «المجرات الحلزونية الضامرة». وبمجرد أن تتوقف عن تكوين النجوم، تتحول هذه المجرات الحلزونية الضامرة إلى مجراتٍ عدسية؛ حيث تصبح أقراصها النجمية بقايا متحجرة لأقراص الغاز التي كانت تشكِّل النجوم في السابق.

عادةً (ولكن ليس دائمًا)، تحتوي مراكز العناقيد الغنية على مجرة ضخمة بشكل استثنائي في مركزها. تُعتبر هذه «المجرة المهيمنة على العنقود» كيانًا فريدًا من نوعه؛ حيث إنها تكون في حالة سكون بالنسبة إلى غاز درجة الحرارة الفيريالية المحلي بين المجرَّات، مما يتيح لها اكتساب الغاز، ويمكننا توقُّع أن يكون لديها معدلٌ كبير لتكوين النجوم. بعض هذه المجرات، مثل NGC 1275 في مركز عنقود برشيوس المجرِّي، تحتوي على أعدادٍ كبيرة من النجوم الشابة، ولكن الغالبية العظمى لا تمتلك ذلك، وحتى تلك التي تحتوي على نجومٍ شابة تفتقر إلى أقراصٍ نجمية مهيمنة.
لماذا لا تطوِّر المجرَّات المهيمنة على العناقيد أقراصًا نجميةً عملاقة تجعل المجرة الأم نسخةً مكبَّرة بشكلٍ هائلٍ من مجرَّةٍ حلزونيةٍ مثل مجرَّتنا؛ بحيث تمثل المجرة المهيمنة الانتفاخ المركزي، ويشكل العنقود هالة من المجرات التابعة؟ لا يمتلك علماء الفيزياء الفلكية إجابةً كاملةً عن هذا السؤال، لكن الإجابة النهائية ستشمل بلا شك عنصرَين أساسيَّين من الفيزياء. أولًا، تتغير آلية تبريد البلازما بشكلٍ جوهري عند درجة حرارة تقارب ١٠٦ كلفن؛ حيث يجري تجريد العناصر الشائعة مثل الكربون والأكسجين من إلكتروناتها الأخيرة عند هذه الدرجة. حتى الكثافة المنخفضة جدًّا للأيونات التي تحتوي على إلكتروناتٍ مرتبطة تزيد بشكلٍ كبيرٍ من قدرة البلازما على التبريد؛ لأن الإلكترون المرتبط يشع الفوتونات بكفاءةٍ أعلى «بكثير» من الإلكترون الحر. تؤدي هذه الظاهرة إلى زيادةٍ كبيرةٍ في الوقت اللازم لتبريد البلازما ذات الكثافة المعيَّنة مع ارتفاع درجة الحرارة من ١٠٦ إلى ١٠٧ كلفن، مما يعوق تكوين قرصٍ من الغاز البارد المكوِّن للنجوم حول المجرة المُهيمِنة على العنقود.
العامل الأساسي الثاني هو وجود ثقوبٍ سوداءَ فائقة الكتلة (بكُتلٍ تصل إلى نحو ١٠٩ كتلة شمسية) في مراكز معظم المجرات المضيئة. أي غازٍ بدرجة حرارة فيريالية يتمكن من التبريد، سيفعل ذلك بالقرب من الثقب الأسود في مركز المجرة المُهيمِنة على العنقود؛ إذ يكون الغاز تحت أعلى ضغط؛ ومن ثَم أكثر كثافة. عندما يجتذب الثقب الأسود بعضًا من هذا الغاز، تتشكل نفاثات (الفصل الرابع) تخترق الغاز المحيط ذا درجة الحرارة الفيريالية، مما يؤدي إلى إعادة تسخينه. توفر عمليات الرصد في نطاقات الراديو والأشعة السينية للمجرات المهيمنة على العناقيد دليلًا واضحًا على هذه الظاهرة. على وجه الخصوص، تكشف الأطياف بالأشعة السينية لعدة عناقيد أن الغاز في تلك المناطق أبرد بنحو ثلاثة أضعاف، مقارنةً بالغاز في الجزء الرئيسي من العنقود، ولكنه لا يبرد إلى درجاتٍ منخفضة تمامًا. تشير هذه النتيجة بوضوح إلى أن إعادة التسخين تمنع المركز من الوصول إلى حالة استقرار يتدفق فيها الغاز على نحوٍ مستمر نحو الجسم المركزي.
يمتلك الثقب الأسود المركزي في مجرتنا كتلة أصغر بكثير من نظيره في المجرات المهيمنة على العناقيد؛ إذ تبلغ كتلته أربعة × ‏١٠٦ كتلة شمسية. ولكنه لا يزال قادرًا على إعادة تسخين البلازما المحيطة به، وربما يفعل ذلك بشكلٍ دوري. في الوقت الحالي، يبدو أنه في حالة سكون، مثل بركانٍ خامد. وتفسر هذه الحالة سبب عدم كون مركز مجرتنا المنطقة الأكثر كثافة في تكوين النجوم؛ إذ تعود هذه المكانة إلى منطقة الجُزيئات المركزية. وكما رأينا في مناقشتنا لانتفاخ المجرة، تُغذَّى هذه المنطقة، التي تمتد على نطاق نحو ٠٫٢ كيلوفرسخ، بالغاز البارد القادم من الحلقة الجُزيئية العملاقة التي تقع عند نصف قطر نحو خمسة كيلوفراسخ. يكمن مفتاح فهم سبب عدم هيمنة مجرة حلزونية عملاقة على كل عنقودٍ مجرِّي في إدراك سبب افتقار هذه العناقيد إلى نظائر للحلقات الجُزيئية العملاقة، ومن المرجَّح أن يكون السبب وراء ذلك مرتبطًا بالتغير في آلية تبريد البلازما عند درجة حرارة تقارب ١٠٦ كلفن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥