الصورة الكلية
في الفصل السادس، ناقشنا عددًا من الظواهر التي يمكن تفسيرها باستخدام نظرية النسبية العامة. ولكن أكبر مساهمة للنسبية العامة في الفيزياء الفلكية تمثَّلَت في أنها جعلَت من الممكن دراسة هندسة الكون بأكمله وديناميكيته، مما حوَّل علم الكونيات إلى فرع من الفيزياء بدلًا من كونه مجالًا للفلسفة أو اللاهوت. لا يتسع المجال هنا لتقديم عرضٍ منهجي لعلم الكونيات؛ لذلك يمكن للقارئ الرجوع إلى كتاب «علم الكونيات: مقدمة قصيرة جدًّا». ولكننا، بدلًا من ذلك، نقدم لمحة عن فهمنا الحالي لكيفية نشوء النجوم والمجرات من الانفجار العظيم، مما يوفر سياقًا للعمليات الفيزيائية التي تناولناها في الفصول السابقة.
في جوهره، يتمحور علم الكونيات حول ثلاثة مكوِّنات رئيسية: «الطاقة المظلمة»، التي لا يفهمها أحد، والمادة المظلمة، التي لا يمكن لأحد رؤيتها، وإشعاع الأمواج الصغرية الكونية، الذي كان المكون السائد للكون قبل انزياحٍ أحمر يقارب الثلاثة آلاف ويمكن دراسته بتفصيلٍ دقيق، إذ يشكِّل إشعاع الأمواج الصغرية للخلفية الكونية. أصبحَت الطاقة المظلمة هي المكوِّن السائد حديثًا (عند انزياحٍ أحمر يقترب من ٠٫٥)، بينما كان العصر الفاصل تهيمن عليه المادة المظلمة. من منظور كوني، فإن ما يميز هذه المكونات الثلاثة هو الضغط الذي تبذله. فالإشعاع يبذل ضغطًا إيجابيًّا، والمادة المظلمة تبذل ضغطًا ضئيلًا للغاية، أما الطاقة المظلمة فتبذل ضغطًا سلبيًّا؛ أي إنها تولِّد توترًا.
وفقًا لنظرية النسبية العامة، يشكل الضغط مصدرًا لجذب الجاذبية تمامًا كما تفعل طاقة الكتلة. ومن ثَم، فإن قوة الجذب التي تبذلها الشمس على الأرض تكون أكبر مما يمكن أن تكون عليه لولا الضغط المرتفع في أعماق الشمس. وعلى العكس من ذلك، فإن التوتر يولِّد تنافرًا جاذبيًّا، وفي حالة الطاقة المظلمة، فإن التنافر الناتج عن توتُّرها يتغلب على الجاذبية الناتجة عن كثافة طاقتها. وبما أن الطاقة المظلمة تهيمن الآن على الكون، فإنه يتمدد بسرعة متزايدة نتيجةً للتنافر الجذبوي الذي تولِّده. وقد أمكن اكتشاف هذا التأثير من خلال قياس الانزياحات الحمراء والمسافات للمستعرات العظمى الناتجة من الاضطرام، (الفصل الثالث). من هذه القياسات، استطعنا استنتاج معدل توسع الكون في العصور الماضية، ويبدو أنه عند انزياحٍ أحمر يقارب ٠٫٥ بدأ معدل التوسع في التزايد، بعد أن كان يتباطأ مع مرور الزمن.
خلال أول ٢٠٠ ألف عام بعد الانفجار العظيم، كان الكون متجانسًا تقريبًا ويسيطر عليه الإشعاع، مما جعل الجاذبية عاملًا جاذبًا قويًّا يُبطئ باستمرار من تمدُّد الكرة النارية الكونية. ونظرًا لأن الإشعاع يبذل ضغطًا، فقد بذل هذا السائل الإشعاعي شغلًا على التمدُّد، مما أدى إلى انخفاض كثافة طاقته بسرعة أكبر من كثافة طاقة المادة المظلمة، التي لم تبذل أي شغل يُذكر بسبب ضغطها المهمل. ونتيجةً لذلك، عند انزياحٍ أحمر يقارب الألف، انخفضَت كثافة طاقة الإشعاع إلى ما دون كثافة المادة المظلمة. في هذه المرحلة، بدأَت التفاوتات الطفيفة في كثافة الطاقة بالنمو بوتيرة أسرع؛ إذ أصبح مجال الجاذبية مُولَّدًا في المقام الأول بفعل المادة المظلمة بدلًا من الإشعاع، ولم يعُد الضغط يعاكس ميل بعض المناطق لأن تصبح أكثر كثافة من غيرها. وفي هذه المرحلة، كانت المادة العادية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالسائل الإشعاعي شبه المتجانس؛ لذا لم تشارك في تكتل المادة المظلمة. ثم عند انزياحٍ أحمر يقارب الألف، انخفضَت درجة حرارة الإشعاع إلى المستوى الذي عنده ارتبطَت الإلكترونات بالبروتونات وجُسيمات ألفا، مما أدى إلى تكوُّن ذرات الهيدروجين والهيليوم. أدى تشكُّل هذه الذرات إلى فصلٍ فعلي بين المادة العادية والسائل الإشعاعي؛ لأن الذرات كانت تبعثر الفوتونات بالكاد. الآن، لم يعُد هناك ما يقاوم سحب الجاذبية للمادة العادية نحو المناطق ذات الكثافة العليا من المادة المظلمة، وبدأَت عملية تشكُّل البِنى الكونية بجدية. يمكننا دراسة «حقبة التصَوُّع» هذه بتفصيلٍ دقيق من خلال قياس خصائص إشعاع الأمواج الصغرية للخلفية الكونية؛ إذ إن الفوتونات المُشكِّلة قد وصلَت إلينا دون أي تفاعل منذ تلك الحقبة.
في حقبة التصَوُّع، كانت التباينات في كثافة المادة المظلمة لا تتجاوز أجزاءً من ١٠٠ ألف؛ لذا استغرق الأمر وقتًا طويلًا حتى تتمكن الجاذبية من تضخيمها بدرجةٍ كافية، مما أدى إلى توقف المناطق ذات الكثافة الأعلى عن التمدُّد وانهيارها لتكوين النجوم والمجرات. بدأَت هذه العملية تحدث عند انزياحٍ أحمر يقارب ١٥، وكانت الأجرام الأولى المنهارة تشمل نجومًا ضخمة. أطلقَت هذه النجوم فوتوناتٍ عالية الطاقة، مما أدى تدريجيًّا إلى إعادة تأيين ذرات الهيدروجين والهيليوم، وهي عملية اكتملَت إلى حد كبير بانزياحٍ أحمر يقارب ٦.
حاليًّا، لا نمتلك الكثير من البيانات الرصدية المتعلقة بالفترة الزمنية الممتدة بين الانزياح الأحمر الذي يقارب ١٠٠٠ إلى الذي يقارب ٦، ولكن بعد الانزياح الأحمر ٦ أصبح السجل الرصدي أكثر وضوحًا. من المؤكد أنه بحلول ذلك الوقت كانت بعض المجرات الضخمة قد تكوَّنَت بالفعل، إذ رُصدَت النجوم الزائفة الساطعة عند انزياحٍ أحمر أكبر من ٧، ونحن نعلم (الفصل الرابع) أن هذه الأجرام تستمد طاقتها من ثقوبٍ سوداء فائقة الكتلة تُوجَد في مراكز المجرات الضخمة.
وعلى الرغم من وجود عددٍ قليلٍ من المجرات الضخمة عند الانزياح الأحمر الذي يقارب ٦، فإن نسبةً ضئيلةً فقط من النجوم الحالية كانت قد تكونَت حينها. في ذلك الوقت، كانت معظم المجرات أصغر بكثير من نظيراتها الحديثة، وكانت هناك وفرةٌ من الغاز البارد والكثيف. ومع تدفُّق هذا الغاز إلى المجرَّات الناشئة، استمرَّ معدل تكوين النجوم في الارتفاع حتى انزياحٍ أحمر يقارب ٢. كان تدفق الغاز إلى المجرات فوضويًّا، وغالبًا لم يكن منتظمًا في قرصٍ رقيق ومسطَّح، كما هي الحال في قرص مجرتنا الحالي. بدلًا من ذلك، كانت تيارات الغاز تتحرك في اتجاهاتٍ متباينة، متصادمة فيما بينها، مما أدى إلى تشكل النجوم بسرعة عند نقاط التصادم.
كانت الثقوب السوداء الهائلة في قلب المعمعة تبتلع الغاز بأسرع ما يمكنها. لذلك، نمَت الانتفاخات المجرِّية والثقوب السوداء بسرعة خلال هذه الفترة. وتحولت الطاقة المنبعثة من تراكم المادة حول الثقوب السوداء بواسطة الغاز المحيط الوفير إلى فوتوناتٍ مرئية وتحت حمراء، مما أدى إلى تألق المنطقة المحيطة بكل ثقبٍ أسود كنجمٍ زائف. أدت الطاقة المنبعثة من فناء النجوم الضخمة إلى تسخين الغاز البينجمي المحيط (الفصل الثاني)، مما تسبَّب في احتلال نسبةٍ متزايدةٍ باستمرار من حجم المجرات وما حولها بواسطة غاز عند درجة الحرارة الفيريالية أو أعلى. تدفق الغاز الساخن إلى الفضاء بين المجرات، حاملًا معه الكثير من العناصر الثقيلة التي جرى تخليقها في النجوم التي فَنِيَت أخيرًا (الفصل السابع).
بدءًا من انزياحٍ أحمر يقارب ٢، بدأ معدل تشكُّل النجوم وتغذية الثقوب السوداء في التباطؤ تدريجيًّا مع انخفاض تدفُّق الغاز إلى المجرات، وأصبح المزيد من الغاز ساخنًا جدًّا لدرجة لا يمكنه معها تكوين النجوم، أو السماح للثقوب السوداء بالتهام المزيد من المادة. في الفصل السابع، وصفنا كيف أثَّرَت هذه الاتجاهات الكونية على أشكال المجرَّات الفردية.
وهكذا، هذا ملخَّصٌ وجيزٌ لتاريخ الكون. والكثير من العمليات الفيزيائية الكامنة وراءَه معقَّدة للغاية، وما زلنا بعيدين عن فهم جميع تفاعلاتها. لذا، إذا حاولنا الخوض في المزيد من التفاصيل، فسرعان ما سنصل إلى حدود معرفتنا الحالية.
إن الكون مثل لوحةٍ ضخمة رسمَتْها الطبيعة بأساليبَ متعددة. ورغم أن معرفتَنا بهذه اللوحة وأساليب تشكيلها في تسارُع، فإنه لا يزال أمامنا طريقٌ طويلٌ لفهم المزيد.