مقدمة

يضم هذا الكتاب مجموعة من الدراسات التي كُتِبَت ونُشِرَت في الفترة من عام ١٩٩٠م حتى الآن، وذلك باستثناء فصل «اللغة الدينية: العالم بوصفه علامة»، والذي يُنْشَر في هذا الكتاب لأول مرة. ومنعلى اللغة الأساسية والاستحواذ الجدير بالذكر أن «التمهيد» الذي يتصدَّر فُصول الكتاب يُعَد إلى حدٍّ كبير دراسةً جديدةً، من حيث إنه يقدم قراءة نقدية لخطاب النهضة، خاصَّةً من جهة قراءة هذا الخطاب للتراث العربي الإسلامي في بُعْده الديني. وقد كشفَت هذه الدراسة حقيقة أن خِطاب النهضة العربي كان مَسكونًا بخطاب الآخَر الأوروبي في بِنْيَته؛ ذلك أن الأسئلة والإشكاليات التي انشغل بها خِطاب النهضة كانت مطروحة عليه من خارجه، أي من الخِطاب الأوروبي. ويُعْتَبر هذا الوضع الناتج عن مسكونية خِطاب الآخَر في خِطاب النهضة مسئولًا إلى حدٍّ كبير عن القراءة التلفيقية المُوجَّهة أيديولوجيًّا، والتي أنتجها خطاب النهضة عن التراث العربي الإسلامي. هذا بالإضافة إلى أن هذا الوضع المُلْتَبس ساهَم بدوره في تغييب كثير من الأسئلة، بل في تحريمها، خاصَّةً تلك الأسئلة التي تتناول طبيعة الخِطاب الإلهي ودلالته.

كان هذا التمهيد ضروريًّا من أجل الانتقال إلى إثارة بعض الأسئلة التي غابت في خِطاب النهضة؛ لذلك يتناول الفصل الأول «التاريخية – المفهوم الملتبس»١ أول تلك الأسئلة فيحاول تأسيس تاريخية النص الديني فلسفيًّا وعقيديًّا ولغويًّا، كاشفًا الطبيعة الأيديولوجية لتَصوُّر «الأزلية»، ومبرزًا تاريخيته عن طريق تفكيك بنيته المفهومية التي استقَرَّت في الوعي الديني حتى اتَّخذَت شكل «العقيدة» المنزلة. وفي هذا التفكيك يكشف التحليل طبيعة نسقٍ خطابي فرضته آليات القهر السياسي والاجتماعي بوصفه «الحقيقة المطلَقة» التي يُعَد الاقتراب منها بالنقد أو التحليل كُفرًا وإلحادًا وهرطقةً. إن استدعاء مفهوم «خَلْق القرآن» الاعتزالي في هذا السياق استدعاء يهدف إلى الكشف عن الطبيعة الزَّمَنية لخطاب «القِدَم» والأزلية، بما يتضمنه هذا الخطاب الأخير من تَصوُّرات أسطورية تَجاوَزها الوعي الإسلامي ذاته في ذلك الزمن نفسه.

وكان من الطبيعي بعد تأسيس «التاريخية» في بنية الخطاب الإلهي ودلالته، أن يتحرك الفصل الثاني لكشف بنية القراءات الأيديولوجية للنص الديني، ويُبيِّن اعتمادها بشكل جوهري على انتزاع النص من سياقه التاريخي/الثقافي/اللغوي. وإذا كان هذا الفصل في جانبه النظري التأسيسي قد تَوقَّف عند المستويات العامة جدًّا لمفهوم «السياق»، والتي تبدأ بالسياق الثقافي وتنتهي بسياق «القراءة»، فإن محاولة إبراز علاقات التشابه، وكذلك علاقات المخالَفة، بين القرآن والنصوص غير الدينية هي التي فَرضَت الوقوف عند هذه المستويات.

يتحرك الفصل الثالث، وكذلك الفصل الرابع، تاريخيًّا إلى الماضي؛ وذلك بهدف الكشف عن «جذور» التأويل الأيديولوجي المعاصر في بنية بعض التأويلات التراثية التي أَهدرَت بدورها مستويات السياق في الخِطاب الإلهي؛ أي أهدرت تاريخيته، ويتناول مُفهومَي «النص والتأويل» بوصفهما مَفهومَين ثقافِيَّين «تاريخِيَّين» لهما حضور في ثقافة ما قبل الإسلام. هذا الحضور ظل مُحايثًا لبنية المفهومَين ودلالتيهما في الثقافة الإسلامية. لكن بعض الخطابات المعاصِرة تحاول إهالة التراب على تلك الدلالات، وذلك بإسقاط الدلالات المعاصرة على الاستخدام التراثي، سعيًا لتعميق دلالات تُؤسِّس الخطاب الإلهي كخطاب مُفارق لسياقه وواقعه، بل ومفارقًا للغته.

أما الفصل الرابع: «إشكالية المجاز: النزاع حول الحقيقة» فيتناول بالتحليل آليات التأويل المجازي للقرآن في الفكر العربي الإسلامي. والتركيز على إشكالية «المَجاز» في هذا الفصل نابِع من «الاتفاق» الصريح والمُعْلَن بين كل فرق الفكر الإسلامي واتجاهاته الكلامية والفلسفية، على أن «المَجاز» هو أداة التأويل الأساسية على قانون اللغة العربية. لكن الصراع الفكري الاجتماعي، والذي عَبَّر عن نفسه دائمًا في الاستناد إلى مرجعية النصوص الدينية من خلال آلية «التأويل»، خاض معاركه أيضًا حول مفهوم «المَجاز» بوصفه سلاح التأويل الأساسي. وقد كشف التحليل في هذا الفصل عن وجود نَسقَين شبه مُتعارضَين: نسق يبدأ من «العالَم» و«الإنسان» فيرى اللغة الدينية مَجازًا إذا تعارضَت في دلالتها مع بِنْيَة العالَم والإنسان، وهو مبدأ «قياس الغائب على الشاهد». والنسق الآخر يرى اللغة الدينية هي الأصل، بينما يقع «المَجاز» في اللغة الإنسانية الدَّالَّة على كلٍّ مِن «العالَم» و«الإنسان». وهذا الصراع ينكشف في التحليل الأخير عن صراع حول «الحقيقة» وأين تستكن، هل هي خارج العالم ومن ثَمَّ تستعصى على الوعي الإنساني؟ أم هي قارة في بنية العالم وقابلة من ثَمَّ للاكتشاف من خلال وعي الإنسان ولغته؟ ومن البديهي أن تصور «الحقيقة» خارج العالم، وفي لغة النص الحَرْفِيَّة، تصوُّر يفضي إلى «تغريب» الإنسان في العالم، والذي تَمَّ ارتهانه أيديولوجيًّا كنَسَق جزئي من بِنْية حقيقة مُتخارِجة عنه تخارجًا تامًّا.

يأتي بعد ذلك الفصل الخامس والأخير عن: «اللغة الدينية: العالم بوصفه علامة»، لكي يُقدِّم مُحاوَلة للقراءة التي تعيد زَرْع النص في سياقه بمستويات السياق المُتعدِّدة والمُركَّبة. تنطلق هذه القراءة من فَرْضيةٍ مفادها أن اللغة الدينية نَسَق من النظام اللغوي، لكنه النَّسَق الذي يحاول أن يفرض هيمنته وسيطرته على النظام اللغوي. وتتم هذه الهيمنة والسيطرة من خلال عملية إعادة بناء دلالة العلامات اللغوية في نظام اللغة الأساسي، حيث يتم تحويل تلك العلامات في نسق العلامات اللغوية إلى نسق العلامات السميولوجية (أو السميوطيقية). وبعبارة أخرى تُقدَّم اللغة الدينية من خلال عملية التحويل تلك — ويُطْلَق عليها مصطلح السمطقة Semiosis — بالاستيلاء على اللغة الأساسية والاستحواذ عليها. والاستيلاء يعني الاستيلاء على «العالم» الذي تُنظِّمه اللغة من خلال نظامها العلاماتي، وهذا يفضي بدوره إلى الاستيلاء على «الإنسان» عن طريق امتلاك وعيه بآليات التحويل المشار إليها. وهذا يكشف عن وظيفة اللغة الدينية في الاستحواذ على الإنسان وامتلاكه لكي يندمج داخل دائرة نظام «الإيمان» و«الجماعة» الذي تسعى اللغة الدينية إلى تأسيسهما.

هذه هي فصول الكتاب الخمسة، والتمهيد الذي يَتصدَّرُها، وهي فصول تتناول موضوعًا من زوايا مختلفة. هذا الموضوع هو: قراءة التراث الفكري الديني في الثقافة العربية الإسلامية قراءة تحليلية تفكيكية. ولمَّا كان هذا التراث الفكري الديني الذي يَستَمِدُّ مرجعيته الأساسية والأصلية من النص الديني الإسلامي، ويُعَد من ثَمَّ قراءات له، فإن إشكاليات قراءة النص الديني وتأويله تُعَد إشكاليات جوهرية «تأسيسية» لكثير من إشكاليات القراءة التي يطرحها التراث من ذاته، فضلًا عن إشكاليات قراءة هذا التراث وتأويله.

يَتضافَر مع وحدة «الموضوع» وحدة «المنهج» في هذه الفصول، بل إن وحدة المنهج تُعَد قاعدة تأسيس وحدة الموضوع المشار إليها. والمنهج المُوظَّف هنا هو منهج تحليل الخطاب، وإن كانت إجراءات التحليل تعتمد إلى حدٍّ كبير على طبيعة «الخطاب» موضوع التحليل ذلك أن كل نمط من أنماط الخطاب له من حيث هو خطاب، خصوصيته التي تستوجب تنشيط فعاليات إجرائية خاصة، قد لا تكون ناجعةً بذاتها في تحليل نمط آخَر، والمنهج هنا — في كُلِّيَّته — ينطلق من حقيقة أن قراءة «التراث» وقراءة «النص» الديني تَتجلَّى في شكل «خطابات» تستوجب التحليل من أجل الكشف عن الدلالات الصريحة — وكذلك المُضْمَرة — في الخطاب، سواء على مستوى «المنطوق» أو على مستوى «المفهوم» وصولًا إلى تحليل «بنية» الخطاب أسلوبيًّا وسرديًّا. ولكل خطاب «سياق» يُمثِّل جزءًا من بنية دلالته، سواء كان هذا السياق، خطابًا أو خطابات أخرى، أو كان سياق «مساجلة» دينية أو سياسية … إلخ. ولا يتوقف منهج تحليل الخطاب عند مستوى اكتشاف الدلالة اللغوية أو السردية والسياقية؛ لأن بعض الخطابات تُوظِّف دلالات سميولوجية تحتاج للتحليل والكشف عن بنيتها.

لذلك يعتمد منهج تحليل الخطاب على الإفادة من «السميولوجيا» و«الهرمنيوطيقا»، بالإضافة إلى اعتماده على «الألسنية» و«الأسلوبية» و«علم السرد». ولا يقوم هذا الاعتماد على توظيفٍ حرفيٍّ لمقولات تلك العلوم وقواعدها المنهجية، بقدر ما يحاول الانطلاق كذلك من قراءة معاصرة للإنجازات التراثية في علوم اللغة والبلاغة، خاصَّةً تلك الإنجازات ذات الطابع المتقدِّم، والتي تطرح بذورًا تسمح لنا بتأسيس إنجازات العلوم الحديثة تأسيسًا ثقافيًّا عربيًّا.

وثَمَّة قاعدتان أساسيتان يحسن الإشارة إليهما في منهج تحليل الخطاب، وذلك لأهميتهما في تحديد طبيعة «الإجراءات» التحليلية المستخدَمة في هذا الكتاب. القاعدة الأولى أن الخطابات المُنتَجة في سياق ثقافي حضاري تاريخي ليست خطابات «مُغلَقة»، أو مُستقِلَّة بعضها عن بعض. إن آليات «الاستبعاد» و«الإقصاء» التي يمارسها خِطابٌ ما ضد خطاب آخَر تعني «حضور» هذا الخطاب الآخَر — بدرجات بنيوية متفاوتة — في بنية الخطاب الأول. هذا مع افتراض غيابه التام العمومي على مستوى «المنطوق» و«المفهوم»؛ لأن هذا الغياب ليس إلَّا عملية «تغييب» لتحقيق «الإقصاء». فإذا أضفنا إلى ذلك أن تلك الخطابات تَشترك إلى حدٍّ كبير في طبيعة «الإشكاليات»، التي تحدد منطوقها ومَفهومها وبِنْيَتها، أدركنا أن الحديث عن خطاب مُستقِل ليس إلا نوعًا من التبسيط الذي يُفْضِي إلى تزييف الخطاب موضوع الدراسة.

القاعدة الثانية أن كل الخطابات تَتساوى من حيث هي خطابات، وليس من حق واحد منها أن يزعم امتلاكه للحقيقة؛ لأنه حين يفعل ذلك يحكم على نفسه بأنه خطاب «زائف». قد يتمتع خطاب ما في سياق سياسي اجتماعي تاريخي بعينه بالذيوع والانتشار، الذي يؤدي إلى سيطرته وهيمنته على الخطابات الأخرى فيقوم بتهميشها وإلقائها خارج دائرة الضوء وبؤرة الاهتمام. لكن تاريخ الثقافة في كل المجتمعات الإنسانية يُعلمنا أن هذه السيطرة والهيمنة لخطابٍ بعينه كانت تتم من خلال عوامل القهر السياسي، والإذعان الاجتماعي، وتزييف الوعي في أحسن الأحوال؛ لذلك يبرأ منهج تحليل الخطاب هنا — قدر الإمكان — من الاستسلام لأوهام اليافطات المستقرة — تراثيًّا وإعلاميًّا — لوصف بعض الخطابات وصفًا يستهدف وضعها في قلب «الدين» ذاته. هذا بالإضافة إلى أن «الدين» ذاته ليس إلا مجموعة من النصوص التي تَتحدَّد دلالتها — بدورها — بالسياق، وذلك بوصفها «خطابًا». وكون الخطاب إلهيًّا — من حيث المصدر — لا يعني عدم قابليته للتحليل بما هو خطاب إلهي تَجسَّد في اللغة الإنسانية بكل إشكاليات سياقها الاجتماعي والثقافي والتاريخي.

لذلك فإن هذا الكتاب حين يقتحم ببعض أسئلته دوائر «المحظور» و«المحرم» في الوعي السائد والمسيطر، لا يقتحمها إلا بوصفه خطابًا بدوره، لا يزعم لنفسه امتلاك الحقيقة، لكنه من جهة أخرى خطاب واعٍ بذاته إلى حدٍّ كبير، يسعى جاهدًا إلى تجنُّب تزييف الإشكاليات، الأمر الذي قد يشده إلى إنتاج الأيديولوجيا. إنه خطاب يحاول من خلال ما يثير من أسئلة مضمرة في بنية الخطابات الأخرى — التي يقوم بتحليل وتفكيك أبنيتها — مقاربة بعض جوانب «الحقيقة»، بالمعنى النسبي؛ أي الثقافي التاريخي. إنه بالإضافة إلى ذلك خطاب منفتح قابل للنقد كما هو قادر عليه ممارِس له؛ ذلك أن وعي الخطاب بذاته لا يتجلَّى إلا من خلال تلك القدرة على نقد ذاته في محاولة دائمة لتجاوُز أسئلته إلى أسئلة أخرى.

وككل خطاب واعٍ بذاته وبسياقه وبحدوده وآفاقه المعرفية، كما هو واعٍ بالضغوط التي تمارسها الخطابات الأخرى على أسلوبه وبِنيته، يمكن لهذا الكتاب أن يضع خطابه في سياق خطاب النهضة العربي، بكل طموحاته وإنجازاته، وبكل انكساراته كذلك.

منذ محمد عبده ومقارَبة إشكاليات النص الديني بين مَدٍّ وجَزْر، لكن ثنائية البنية التلفيقية لخطاب محمد عبده لم تمنعه من إنجاز مجموعة من الإنجازات الجزئية بخصوص العلاقة بين «الاجتماعي» و«الديني» من جهة، وبخصوص مستويات الدلالة وإجراءات التأويل في تفسير النص الديني من جهة أخرى، وفي كل إنجازاته كان محمد عبده ينحاز بطريقة لافتة إلى الموقف الاعتزالي والطريقة الرُّشْدية في قراءة التراث العربي الإسلامي. وكان وعيه المنتِج لهذه الإنجازات معلَّقًا بالتحديات والضغوط التي يفرضها الآخَر الأوروبي، والتي جعلت استدعاء «العقلاني» ملتبسًا بالحرص على تأكيد خصوصية الهُوِيَّة، التي تمثَّلت في «طريقة السلف». لكنه انتهى — في تفسيره — إلى طرح مجموعة من البذور الهامة، التي استمرت بعد ذلك في خطاب «قاسم أمين» في مصر، و«الطاهر الحداد» في تونس، حيث تجرَّأ الثاني وصرَّح بأن «الاجتماعي» هو الأساس في فهم «الديني»؛ لأنه هو الأساس في «الخطاب الإلهي». واستند خطاب كل من الرائدين على أن أحكام القرآن عن المرأة ليست أحكامًا نهائية؛ لأنها أحكام «تاريخية».

بنفس المنهج تَعرَّض علي عبد الرازق في «الإسلام وأصول الحكم» لنقد مفهوم «الخلافة»، عن طريق وضعه في سياق «السياسة» وإخراجه من نطاق «الدين». وهنا أنْجَز لأول مَرَّة مفهوم الفصل بين «الدولة» و«الدين»، وهو الإنجاز الذي دفع ثمنه غاليًا وما يزال، وذلك إذا استثنينا الفترة، التي تولَّى فيها وزارة الأوقاف، وقد حاول طه حسين أن يوظف مفهوم محمد عبده للقصص الديني، باعتبارها «تمثيلات» وليست حقائق تاريخية حَرْفِيَّة، في دراسته للشعر الجاهلي، حين قال إن قصة هجرة إبراهيم بإسماعيل وأُمِّه هاجر إلى مكة ليست حقيقة تاريخية يُسْتَنْبط منها وجود لغة واحدة في الجزيرة العربية منذ ذلك العهد، لكنَّ ردَّ الفعل السلفي كان عنيفًا، وكان ذلك بعد عامين فقط من وقائع محاكمة علي عبد الرازق.

وبعد حوالي عشرين عامًا وقعت واقعة ثالثة — في جامعة القاهرة أيضًا — حين أنجز محمد أحمد خلف الله أطروحته لِنَيل درجة الدكتوراه، عن «الفن القصصي في القرآن الكريم» تحت إشراف الشيخ أمين الخولي. كانت مُشْكِلة المنهج المرفوض من الوعي الديني السائد والمُسَيطِر هي نفس المشكلة، حيث حاوَل خلف الله، انطلاقًا من أطروحات أستاذه وإنجازات محمد عبده، تَناوُل القصص القرآني بمنهج التحليل الأدبي، وذلك على أساس أن تلك القصص أَنساقٌ من السرد المُوظَّف توظيفًا دينيًّا، وليست حقائق تاريخية. وكانت النتيجة هي فَصْل خلف الله من الجامعة وعدم قبول الأطروحة، وبعد سنوات قليلة تم فصل أستاذه مع عدد كبير من أساتذة الجامعات في «عملية التطهير» التي قامت بها حكومة الضباط الأحرار.

الخطاب الذي يطرحه هذا الكتاب يُعَد في جانِب منه تواصُلًا مع خطاب النهضة في جانبه الديني، ليس فقط بدءًا من محمد عبده حتى محمد أحمد خلف الله، بل هو تواصُل مع هذا التراث في بُعْده الأعمق، التمثل في الإنجازات الاعتزالية والرُّشْدية. لكنه تواصُل يُمثِّل «الامتداد» النقدي لا لخطاب النهضة فقط، بل للخطاب التراثي كذلك، بوصفها خطابات تاريخية يُحدِّدها السياق ويفرض عليها التاريخ والواقع حدود الإنجازات الممكنة والمُتحقِّقة. لذلك يتراوح الخطاب في حركته النقدية بين الماضي والحاضر، بين «التراث» والخطابات الحديثة والمعاصرة. من هنا كانت البدايات، «الاتجاه العقلي في التفسير: دراسة في قضية المَجاز في القرآن عند المعتزلة» و«فلسفة التأويل: دراسة في تأويل القرآن عند مُحيي الدين بن عربي».

كانت هذه البدايات في دراسة قُطْبَي الفكر والتأويل في التراث الإسلامي نابعةً من انشغال قومي عام بأسئلة التراث والهُوِيَّة، خاصَّةً بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧م. لكن النتائج التي أفضت إليها تلك البدايات تَولَّدت عنها أسئلة المنهج، خاصَّةً في قراءة النص الديني؛ إذ كان واضحًا أن القراءات التراثية غَلبَتْها الأيديولوجيا بدرجات مُتفاوتة، حتى صار النص الديني ساحةَ عراكٍ للاجتماعي والسياسي والفكري، يهدف المتصارعون من خلال تأويله إلى إعطاء «أيديولوجيتهم» مشروعيةً عُليَا، دينية إلهية.

وما كشَفتْ عنه البدايات — في هذا الخطاب — من نتائج في دراسة التراث، كان يَتبدَّى عيانًا في الواقع الاجتماعي السياسي الفكري في مرحلة السبعينيات، مرحلة التَّحوُّل من «النص» الاشتراكي القومي التقدُّمي إلى «النص» الإقليمي الانفتاحي المُتَّجه نحو قِبْلة «الغرب». وكما حاوَل النص السابق أن يُضْفي على نفسه مشروعيةً عُليَا بقراءة الإسلام قراءةً اشتراكيةً، حاوَل النص الثاني أن يقدم قراءةً مُغايرةً للإسلام ولنصوصه. وتَواكب مع ذلك، وتَزامن معه، بداية الانتقال من علاقة «الصراع» مع الصهيونية العالمية إلى علاقة «المصالَحة»، وكان لا بد لتبرير هذا التحوُّل من إيجاد سند له في النصوص الدينية كذلك.

وإذ يدرك الباحث أن ما كشف عنه التحليل في الخطاب التراثي ما زال واقعًا ماثلًا يَتجلَّى في خطابات، ينبثق السؤال عن «مفهوم النص» وعن إشكاليات التأويل. وكان السعي إلى بلورة مفهوم للنص من خلال إعادة قراءة علوم القرآن التقليدية قراءةً نقديةً تحليليةً، وهي المحاولة التي بدأ فيها الخطاب الاشتباك مع الخطاب الديني السائد والمسيطر سياسيًّا وإعلاميًّا. وفي نفس المَنْحَى كان التساؤل عن «إشكاليات القراءة وآليات التأويل». وهكذا ظَل الخطاب — على مستوى الموضوع — يتحرك حركته البندولية بين «القديم» و«الحديث»، فكانت دراسة: «الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية» محاولةً لاكتشاف جذور «الآني» على بنية الخطاب في «الماضي»، ثُم كان «نقد الخطاب الديني» حَفْرًا في بنية الخطاب تعريةً لجذوره التي يحاول أن يخفيها مُدَّعيًا أنه نتاج مباشر للنص الديني.

أما على مستوى المنهج فهو — مثل الموضوع — يُمثِّل حركةً دائبةً بين قراءة مفاهيم الدراسات الحديثة والإفادة منها، وبين القراءة النَّقدية للإنجازات التراثية في مجال علوم اللغة والبلاغة والنقد بمعناه العام. والناتج النهائي لم يتحقق بعدُ، ذلك أن سؤال المنهج سؤال متواصل دائم، وحين يتوقف السؤال ويَتصوَّر الباحث أنه حقَّق نُضْجه المنهجي، فإن ما يكون متحققًا بالفعل هو «الجمود» المنهجي. إن قراءات في الهرمنيوطيقا والسيميولوجيا وتحليل السَّرد والأَلْسُنِية والأسلوبية وحدها منهج، ذلك أن المنهج هو ناتِج حَرَكة التفاعل العميقة جدًّا والخصبة بين سؤال الباحث وموضوع البحث.

والمنهج هنا امتداد لإنجازات خطاب النهضة على مستوى طرح الأسئلة وعلى مستوى الإجراءات التحليلية، لكنه امتداد لا يعيد ولا يُكرِّر، بل يَحمِل السؤال إلى مدًى أبعد، ويُطوِّر المنهج في شكل إجراءات أعمق، وكما ينطلق الخطاب من «نقد» المرجعيات التي يُعَد هو ذاته امتدادًا لها، لا يَليق به إلا أن يكون «ناقدًا» دائمًا لكل المرجعيات. والغاية من ذلك كله استنباط الجوهري والإنساني والمعرفي، وتَعرية التاريخي (المرحلي) والعِرْقي والأيديولوجي. الغاية التي يحاول الخطاب في هذا الكتاب أن يحققها بشكل أعمق منهجيًّا، مع الاحتفاظ بتلك الحركة المزدوجة أي على مستوى الموضوع والمنهج، بين «الماضي» و«الحاضر» من جهة، وبين «الحداثة» و«التراث» من جهة أخرى.

نصر أبو زيد
٢ أبريل ١٩٩٥م
١  قصدتُ وضعه في هذا الكتاب رغم نشره سابقًا، لأهميته في سياق الكتاب، ولأهمية الأسئلة التي يطرحها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥