تمهيد
لماذا حين يُذْكَر «التراث» يتبادر إلى الذهن «الدين» أو الفكر الديني بصفة عامَّة، والإسلامي منه بصفة خاصَّة؟ هذا سؤال يُمثِّل طرفًا من المشكلة التي نحن بصدد مناقشتها، أما السؤال الذي يمثل الطرف الثاني منها فهو: لماذا يلح علينا هاجس «التراث» هذا الإلحاح المُؤرِّق، والذي يكاد يجعلنا أمة فريدة في تعلُّقها بحبال الماضي كلما حزَّ بها أمر من الأمور أو مرَّت بأزمة من الأزمات وما أكثرها؟! فإذا كان التقدم يشير إلى المستقبل ويدل على الحركة، فإن «التراث» يشير إلى الماضي ويدل على السكون والخمود، وكأن العربي قد كُتِب عليه دون البشر كافةً أن تسير قدماه إلى الأمام بينما يلتفت رأسه إلى الخلف، فلا هو يحقق التقدم ولا يقنع بالحياة التي ورثها عن الأسلاف. ويظل المشكل ماثلًا: كيف نحقق التقدم دون أن نَتخلَّى عن «التراث»؟
لقد تحوَّل التراث — الذي تم اختزاله في الإسلام — إلى هُوِيَّة، يمثل التخلي عنها وقوعًا في العدمية وتعرُّضًا للضياع. صار مُعبِّرًا عن عراقتنا وأصالتنا في تاريخ الوجود الإنساني، في حين أصبح «التقدم» مُرتهنًا باستيعاب ما أنجزه العقل البشري في مجالات المعرفة العلمية، الأمر الذي يعني التعلُّم من الآخر الذي تَعرَّفنا عليه أول ما تَعرَّفنا مُعتديًا غازيًا محتلًّا لأراضينا مُستغِلًّا لأوطاننا.
هذا الوضع المعقَّد لعلاقتنا بالآخَر يختلف اختلافًا جذريًّا عن علاقة أسلافنا بالتراث الإنساني السابق عليهم والمعاصر لهم على السواء. وإذا كان الإسلام قد استوعب كل التراث السابق عليه، وأخضعه لآلياته الخاصَّة رفضًا وقبولًا، أو نفيًا وتأويلًا، فقد استطاع المسلمون بالمِثل استيعاب تراث الأمم الأخرى بطريقة فعَّالة حوَّلت هذا التراث إلى جزء من نسيج العقل الإسلامي. لكن علينا أن نُنبِّه إلى أن «العقل الإسلامي» الذي نتحدث عنه هنا ليس منظومة فكرية مُوحَّدة مُتجانسة — كما يَتوهَّم البعض — بل هو مجموعة من الأنساق الفكرية المختلفة الرؤى والتوجُّهات، تعبيرًا عن التعددية الاجتماعية والعِرْقية والثقافية لبِنْيَة المجتَمَعات التي تضمها الإمبراطورية الإسلامية.
وكما تم اختزال «التراث» في «الإسلام»، تم اختزال الحضارة الحديثة في أحد بُعْدَي «الآخَر»: الغازي المعتدي المُحتل، أو المتقدِّم المُتحضِّر «المعلم». هذا بالإضافة إلى أن «الإسلام» الذي اختزل التراث فيه، تم اختزاله بدوره في أحد بُعْدَيه: الإسلام الأشعري الرَّجْعي المُسَيطِر، أو الإسلام الاعتزالي الفلسفي التَّقدُّمي المُهمَّش. هكذا تَعقَّدت إشكالية النهضة في بُعْدَيها: التراث — عنوان الهُوِيَّة ورمز الأصالة — من جانب، والحضارة الحديثة — رمز التقدم وعنوانه — من جانب آخَر. ولا يمكن فَكُّ هذه الإشكالية المُعقَّدة إلا بإدراك العمق التاريخي للتراث من جهة، هذا العمق الذي يُغوص بعيدًا قبل الأديان الثلاثة المعروفة، وبإدراك تعددية هذا التراث من حيث الرؤى والتوجهات من جهة أخرى. بعبارة أخرى لا بُدَّ من إنجاز وَعْي علمي بالتراث يضعه في سياقه التاريخي، ويدرك إنجازاته التي أُضِيفَت لرصيد الحضارة الإنسانية، مُفرِّقًا بينها وبين تلك الإنجازات المرهونة بسياقها الزماني والمكاني. ولا بُدَّ إلى جانب ذلك من إدراك تركيبية الآخَر الوافد، فالغازي المحتل لا يُمثِّل بالضرورة الإنجاز الحضاري، والإنجاز الحضاري لا يَتمثَّل في جانب العلم والتكنولوجيا وحدهما. إن إدراك تركيبيَّة الآخر يحمينا من نتائج التعامل النفعي معه، ذلك التعامل الذي يفصل بين التكنولوجيا وبين الفكر العلمي الذي أنتجها، فيكتفي باستيراد التكنولوجيا لاعنًا أساسها العلمي. وبعبارة أخرى: لا بُدَّ من إنجاز وَعْي علمي بالحضارة الحديثة، بأصولها وأُسسها، وبإنجازاتها الحقيقية، مع ضرورة التمييز بين الإنجاز العلمي والفكري وبين الأيديولوجيات التي تلتبس بها عادة.
١
ولأن الموقف من التراث هو الذي يعنينا هنا بصفة أساسية، فلا بُدَّ من التعرُّض للسؤالين المُمثِّلَين لطرفَي المشكلة — مشكلة التراث — ولو بإلقاء الضوء على بعض الجوانب الغامضة فيهما. وإذا كان من الصعب أن نُحَدِّد بِدقَّة، وعلى وجه اليقين، متى حدث التوحيد المشار إليه بين «التراث» و«الدين»، فإن الاقتراب من محاولة التحديد يستلزم منا تقديم قراءة من داخل اللغة للألفاظ الدَّالَّة على تلك المفاهيم. إن «الدين» في التداول القرآني لفظ يَدلُّ على «الشريعة» بصفة عامَّة، سواء كانت تلك الشريعة وَضعِيَّة أم كانت مُنزلة من السماء؛ ولذلك يمكن الحديث عن «دِين المَلِك» الذي كان يوسف يعمل له (سورة يوسف، الآية ٧٦)، كما يمكن لمحمد أن يرد على الكافرين قائلًا: لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (سورة الكافرون، الآية: ٦). وفي الشعر، في عصر ما قبل الإسلام، تَرِد كلمة «الدين» بمعنى «طريقة الحياة»، فالشاعر يقول على لسان ناقته المُتبَرِّمة من رحيله الدائم، ومن عدم قراره في مكان:
لكن المعنى الذي يسيطر على الاستخدام القرآني هو «الشرائع السماوية»، وطريقة الحياة التي يرتضيها القرآن هي «الإسلام»: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ (سورة آل عمران، الآية: ٨٥). وهذا أمر طبيعي بالنِّسبة لنص يستوعب النصوص السابقة عليه فينفيها مُؤكِّدًا حضوره هو بوصفه نصًّا شاملًا، لكن هذا النفي لا يصل إلى درجة نفي صفة «الدين» عن تلك النصوص؛ إذ يُشار إليها دائمًا بوصفها أديانًا، وإن كانت غير مُرتَضاة. «الدين» إذن هو: طريقة الناس في الحياة، أو الشريعة التي يرتضيها الناس قانونًا لحياتهم، وإن كان القرآن يرى أن «الإسلام» وحده — شريعة الإسلام — هي الطريقة الوحيدة المُعْتَد بها. وفي كل المعاني والدلالات تظل كلمة «الدين» تشير إلى طريقة الحياة التي يعيشها الناس فعلًا في حاضرهم، بمعنى أنها لا تشير إلى تراث الماضي بأي معنًى من المعاني.
إذا أردنا أن نقدم قراءة من داخل اللغة لمفهوم التراث فعلينا أن نتخلى فورًا عن الجذر اللغوي «ورث» لأنه لا يشير في التداول القرآني إلا إلى ما يتركه الشخص المَيِّت من مال فيورث عنه، وبهذه الدلالة وردت الصيغة اللغوية «التراث» في الآية ١٩ من سورة الفجر، المادة اللغوية التي تُحِيل إلى مفهوم التراث في التداول القرآني مادة «سنن»، خاصَّة في المشتق «السُّنَّة». بل إن مادة «سنن» نفسها تشير إلى القِدَم والتَّصلُّب الشكلي، فيقال: سُنَّ الشيءُ — بالبناء للمجهول — والمعنى: تَغيَّرت رائحته، أو صُبَّ في قالب. وفي التداول القرآني للمشتق «السُّنَّة» نجد تفرقة بين السُّنن الإلهية — سنة الله — بمعنى القوانين الإلهية الشاملة في الطبيعة والكون من جهةٍ وفي الإنسان والمجتمع من جهةٍ أُخرى، وبين سُنَّة الذين خَلَوا من قبلُ. وعلى ذلك يمكن القول إن سُنَّة الذين خَلَوا مِن قَبلُ هي «التراث»، بكل ما يندرج فيه من مَفاهيم وقِيَم ومُعتقَدات وتَقاليد ومُحدِّدات للسلوك وأعرافٍ … إلخ. ومن قَبِيل تحصيل الحاصل أن نشير إلى أن القرآن يُناهض التَّمسُّك بالتقاليد والحرص على اتِّبَاع سُنن السابقين، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لنصٍّ يَستوعب النصوص السابقة ويطرح نفسه نصًّا شاملًا كما سبقت الإشارة.
مِمَّا مضى يمكن القول إن مفهوم «الدين» يُحِيل إلى «طريقة الحياة» أو إلى «الشريعة» في سياق الحاضر، في حين يُشير مفهوم «السُّنَّة» إلى نفس الدلالة ولكن في سياق الماضي. ولا يلغي هذا المفهوم الأخير بأي شكل من الأشكال تلك التفرقة الواضحة في التداول القرآني بين السُّنن الإلهية والسُّنن البشرية. لكن هذه التفرقة بين «الدين» و«السُّنَّة» — أو بالأحرى بين الدين والتراث — لم تَدُم طويلًا؛ فالنص نفسه — القرآن — يُؤسِّس ذاته دِينًا وتراثًا في الوقت نفسه؛ لأنه جعل من الإسلام «الدين» — الشريعة وطريقة الحياة — الوحيد المقبول من الله. وإذا كان القرآن قد أمَر المسلمين بطاعة الرسول، فقد فَهِم المسلمون الأوائل — جيل الصحابة — أن الطاعة مرتبطة فقط بما يبلغه الرسول عن الله من الوحي فقط. ولذلك كانوا دائمًا ما يطرحون عليه السؤال في اجتهاداته خارج إطار الوحي المُنزَّل — القرآن: أهو الوحيُّ أم الرأي والمَشورة؟ وكثيرًا ما كانوا يطرحون اجتهاداتٍ أخرى. ومن هنا طرح الرسول مبدأً هامًّا هو: «أنتم أدرى — أو أعلم — بشئون دنياكم.» وهو المبدأ الذي يكاد الخطاب الديني يُهْدِره إهدارًا شبه تامٍّ في ثقافتنا الراهنة.
في هذا السياق يجب أن نفهم أقوال الرسول الخاصة بوجوب اتباع سُنَّته بأن المقصود بها أقواله وأفعاله الشارحة والمُبَيِّنة لما ورد مُجْملًا في تعاليم القرآن. وما سوى ذلك من الأقوال والأفعال يجب أن يدرج في سياق الوجود الاجتماعي للشخص التاريخي، بمعنى أنها أقوال وأفعال غير مُلْزِمة للمُسْلِم في العصور التالية. هذه التفرقة بين «سنة الوحي» و«سنة العادات» كانت تُمثِّل نقطة الخلاف بين «أهل الرأي» و«أهل الحديث» من الفقهاء، حيث أصر الفريق الأول على التمييز بينهما، بينما أَصرَّ الفريق الثاني على التوحيد بينهما. ولأن السيادة الفكرية والعقلية حُسِمَت لصالح أهل الحديث بفضل جهود الإمام الشافعي (ت: ٢٠٥ﻫ) فَقد تمَّ توسيع مفهوم السُّنة ليشمل الأقوال كلها، والأفعال كلها، بالإضافة إلى المُوافقات (الصريحة أو الضمنية) على أنماط السلوك والمُمارَسات الحياتية في عصر النبوة.
إن القراءة المُتمهِّلة لكُتُب السنن، وعلى رأسها الصحيحان: البخاري ومسلم، تكشف أنها جميعًا حَشْد مُسهَب للسيرة النبوية، رغم أنها مُوَزَّعة على الأبواب الفقهية. ونحن هنا لا نَتعرَّض لإشكالية الصِّحة أو الضعف بالنسبة لتلك المروِيَّات، فمع افتراض الصحة الكاملة المُطْلَقة لصدور تلك الأقوال والأفعال والموافقات — الصريحة والضِّمْنِيَّة — عن الرسول، يظل السؤال قائمًا: هل يندرج هذا التراث كله — السُّنَّة — في مفهوم «الدين» المُقدَّس، أم إن تمييز أهل الرأي السابق الإشارة إليه تمييزٌ مشروع، يجب إعادة تأصيله في ثقافتنا الدينية المعاصرة؟
هكذا تَحدَّدت قوانين إنتاج المعرفة في الثقافة العربية على أساس سُلطة النصوص، وأصبحت مُهِمَّة العقل مَحصورة في توليد النصوص من نصوص سابقة. فإذا كان القرآن هو النص الأول والمركزي في الثقافة؛ لأنه استوعب النصوص السابقة عليه كافَّةً فقد تَولَّد عنه نص «السُّنَّة»، الذي تم تحويله — بفضل الشافعي كما سبقت الإشارة — من نص شارح إلى نص «مُشرِّع». وعن النَّصَّين معًا تولَّد نص «الإجماع» — الذي صار نصًّا مُشرِّعًا أيضًا — ثم جاء «القياس» ليُقَنِّن عملية «توليد النصوص». وإذا أخذنا من مجال علم الفقه وحده شاهدًا على سيادة آلية توليد النصوص في الثقافة العربية، فسنجد أن عصر سيادة التقليد فيه بدأ في منتصف القرن الرابع الهجري تقريبًا. ولم يَنجُ من هذا المصير الفقه الحنفي ذاته على يدي تلميذي أبي حنيفة — أبي يوسف، ومحمد بن الحسن الشيباني — اللَّذَيْن حوَّلَا المذهب عن عقلانية الأستاذ إلى الاستناد إلى النصوص، وذلك بحكم ارتباطهما بالسُّلْطة العباسية التي رفَض أستاذهما رفضًا قاطعًا التعاون معها أو مع النظام الأموي.
في عصر التقليد صارت أقوال الأئمة واجتهاداتهم هي «النصوص»، بمعنى أنها صارت مجال الشرح والتفسير والاستنباط والتعليل؛ أي مجال توليد النصوص. واقتصرت المؤلَّفات على أن تكون شروحًا لمؤلَّفات سابقة. وقد يُوضَع المتن في الهامش الجانبي، ويَتناوَل الشرحُ عبارةَ الأصل المشروح عبارةً عبارةً بِشَرْحها اللغوي والفقهي وبيان ما غَمض من شأنها. ثم تكثر الشروح على الشروح حتى لنجد مؤلَّفًا مشروحًا في حاشية، ثم تُشْرَح هذه الحاشية في حاشيةٍ ثانية وهكذا، فاقتصر الأمر على شروح المتون في الحواشي. وما يقال عن الفقه يمكن أن يقال مثله على العلوم العربية كافَّةً كالنحو والبلاغة وعلوم القرآن والحديث والتفسير، ولم تَنجُ العلوم العقلية من المصير نفسه، فصارت كتب علم الكلام المتأخرة شروحًا على المتون القديمة، أو تلخيصًا يستدعي بدوره الشَّرْح، وهلُمَّ جرًّا. وبعبارة أخرى: أدَّى التوحيد بين «الدين» و«التراث» إلى إضفاء القداسة على ذلك التراث، وإلى تَحويله من مرتبة النصوص الثانوية إلى مرتبة النصوص الأولية، واقتصرت مُهِمَّة العقل على التكرار والشرح والترديد. وقد أدَّى هذا كله إلى ركود الثقافة، التي عَزَّزت بدورها ركود الواقع العربي المُنتِج لهذه الثقافة.
٢
إذا كانت شمولية «الدين» أو سيادة سُلطة النصوص، هي التي أدَّت إلى ضمور مفهوم «التراث» ووقوفه عند حدود التراث الديني، فإن آلية «توليد النصوص» هي المسئولة عن جعل التراث الديني الإطار المرجعي الوحيد للعقل العربي. وقد ساعد على تثبيت هذه الآلية، بل وتعميقها، عواملُ متعدِّدة نكتفي منها هنا بتحليل عامِلَين فقط؛ نظرًا لأهميتهما القصوى من منظور هذه الدراسة. يتصل العامل الأول منهما بما يمكن أن نطلق عليه «ركود الواقع العربي» اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، سواء في سياق التاريخ، تاريخ الدولة العربية الإسلامية، أو في سياق التاريخ الحديث والمعاصر. أما العامل الثاني فهو تَعقُّد العلاقة بالآخَر والذي أشَرْنَا إلى طرَف منه فيما سبق، وسنحاول هنا أن نلقي عليه مزيدًا من الضوء.
بالنسبة للعامل الأول، فمن اللافت للانتباه، والمثير للدهشة في الوقت نفسه، أن يلاحظ الدارس أن تداول السُّلطة السياسية في العالم العربي والإسلامي — وهو علامة من علامات الحركة والصيرورة — لم يتم في أي لحظة من لحظات التاريخ وفقًا لآلياتِ الاختيار السِّلْمي. فمنذ عرف الواقع العربي فكرة «الدولة»، لم تُفارِق الدولة مفهوم «القبيلة» إلا نادرًا، وقراءة ابن خلدون للتاريخ العربي تُؤكِّد هذا الالتباس بين المفهومين. ورغم أن مبدأ «الشورى» يُعاد تأويله الآن بِوصْفه مبدأً دالًّا على «الديمقراطية» فالحقيقة أنه مبدأ يؤكد مفهوم الدولة/القبيلة ولا يتنافى معه. ومن الغريب أن أحدًا لا يلتفت إلى أنه المبدأ المُوظَّف الآن في آليات اتخاذ القرار في المؤسَّسات التنفيذية العربية كافَّة، وعلى رأسها مؤسَّسة الدولة؛ حيث تعتمد تلك الآلية على الاستعانة بعدد لا يُستهان به من المستشارين الأكْفَاء، لكن القرار يتم اتخاذه في النهاية من أعلى.
وفي أول خلاف نشأ في تاريخ الدولة الإسلامية، عَشِيَّة انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى، رفضتْ «قريش» رفضًا باتًّا ونهائيًّا مبدأ تداوُل السُّلطة أو المشارَكة فيها، وذلك حين طرح الأنصار — أهل المدينة — «مِنَّا أمير ومنكم أمير». أو «منكم الأمراء ومنا الوزراء». وكان معنى هذا الرفض من جانِب قريش تحويل المشروع الإسلامي المطروح في القرآن — وهو مشروع عربي إنساني — إلى مشروع قَبَلي، وربط النبوة بآفاق القبيلة. مِن هنا انحصر الصراع بين بني هاشم وبني أمية. وكان على القوى الاجتماعية الأخرى أن تخوض الصراع إما في جانب هذا الطَّرَف أو في جانب ذاك. واتخذ الصراع على المستوى الثقافي والفكري، بل والأدبي أيضًا، آليةَ الاستناد إلى الماضي لتأكيد الأحِقِّيَّة في حُكْم الحاضر، وفي السيطرة عليه. وظلَّت هذه الآليةُ آلِيَّةً هامة في كل أشكال الصراع العربي الإسلامي، وهي آلية تُؤكِّد ذلك الالتباس بين مفهوم الدولة ومفهوم القبيلة؛ ذلك أن القبيلة تعتمد في تعزيز علاقات الترابط بين أفرادها على رابطة الدم والعِرْق الممتد في الماضي، وتَترتَّب هيراركية العلاقة بين أفرادها على أساس «السِّن»، الذي هو قَرين الحكمة والخبرة الموروثة. وفي صراع العباسيين ضد الأمويين، وهو الصراع الذي دخَل الفُرْس طرفًا فيه، لم تختلف آليات الصراع اختلافًا جوهريًّا؛ إذ ظل الاستناد إلى الماضي والتراث على المستوى الثقافي والفكري هو محور ما عُرِف باسم «الشعوبية» في الثقافة العربية. وظلت آليات تداوُل السُّلطة تعتمد على «الغلبة» العسكرية، أو ما عُرِف باسم «الشوكة» في الفقه السياسي، وقد تم إقرار هذه الآلية وتحويلها إلى مبدأ فقهي ثابت حين ذهب أكثر من فقيه إلى عدم جواز الخروج على الحاكم الذي استولى على السُّلطة بقوة الشَّوكة وغَلبة السلاح؛ وذلك درءًا للفتن. الأهم من ذلك أن المبدأ الفقهي الذي بُنِيت عليه الفتوى السابقة، وهو مبدأ «درء المفاسد مُقدَّم على جَلْب المصالح» مبدأ يُعزِّز الركود الاجتماعي مَهْما كان الثمن، هذا إلى جانب أنه يَتحيَّز — بطريقة غير مباشرة — لنمط الحكم الديكتاتوري العسكري. ومن الأدلة البارزة على ركود الواقع العربي المعاصر أن المبادئ والمفاهيم السابقة ما زالت تَتمتَّع بدرجة مذهلة من الحضور والفاعلية في الفكر السياسي والاجتماعي العربي المعاصر.
هذا الاعتماد على مفهوم الدولة/القبيلة، وما يرتبط به من تَعلُّق مَرَضي بالماضي والتراث ظَلَّ مهيمنًا رغم تَغيُّر أشكال الدولة، وتَغيُّر الشعارات والأزياء، الرُّتَب والاحتفالات. وظل تداوُل السُّلطة يعتمد على «الانقلاب العسكري»، سواء كان انقلابًا باسم الخليفة، أم كان انقلابًا لحماية الوطن، وظلت كل سلطة انقلابية جديدة تُحاوِل تعزيز مشروعيتها بالاستناد إلى التراث والماضي، حدَث ذلك في عصر الدويلات بعد سقوط الخلافة العباسية تحت وطأة اجتياح المَغول لبغداد، وحدَث في عصر المماليك الذين انقسموا إلى قبائل على أساس الانتماء لشخص القائد، كما حدَث في عصر الدولة العثمانية. وظل الأمر كذلك حتى العصر الحديث: استيلاء على السُّلطة بقوة السلاح والشوكة، وتعزيز الأمر الواقع استنادًا إلى التراث الذي تم اختصاره في التراث الديني الإسلامي.
كان هذا شأن العامل الأول «ركود الواقع العربي»، أما العامل الثاني «تَعقُّد إشكالية العلاقة بالآخَر» فقد ساهَم في جَعْل التراث الديني الإسلامي الإطار المرجعي الوحيد لكل معرفة ولكل مُمارَسة وسُلوك. وقد ساعده على ذلك سيادة مفهوم «الإطار المرجعي الوحيد» — مرجعية النقل ضدًّا لمرجعية العقل — في الثقافات المحلية لشعوب المجتمعات العربية الإسلامية. لقد تعامل الاستشراق مع ثقافتنا من منظور وحيد، هو منظور الإسلام، وكوَّن لنفسه صورة أعاد تصديرها لنا، فحواها أَنَّنا مسلمون دينًا ووطنًا، وأن سِرَّ تأخُّرِنا وجهلنا وانحطاطنا وتَخلُّفنا هو الإسلام. لقد عرَض نابليون بونابرت نفسه على شيوخ الأزهر وعلى عامة المواطنين المصريين بوصفه مسلمًا أكثر حبًّا وإخلاصًا للمسلمين والإسلام من الخليفة العثماني نفسه. وحين كان المواطن المصري يحلم بالخلاص من الاستعمار الإنجليزي على يد النازية الهِتْلَرية، شاعت بين المصريين شائعة تُروِّج إسلام هِتْلر. والأعجب من ذلك، تلك الشائعة التي انطلقت بعد وفاة مُؤسِّس حزب البعث — ميشيل عفلق — بأنه كان قد أعلن إسلامه لخاصَّته قبل موته. هكذا تحوَّل الإسلام من دين إلى أن يكون «هُوِيَّة» لِلذَّات العربية في مُواجَهة الآخَر المسيحي. وفي هذا السياق تم استدعاء «الحروب الصليبية» واعتبارها نموذجًا متكررًا، واعْتُبِرَت الهجمةُ الاستعمارية على العالم العربي استكمالًا للحروب الصليبيَّة. ولِمَ لا؟ أَلَمْ يقف أللِّنْبِي على قبر صلاح الدين الأيوبي في دمشق، ويقول قولته المشهورة والحاضرة دائمًا الخطاب الدين العربي: «ها قد عُدْنا يا صلاح الدين»؟!
وإذا كان خطاب النهضة قد مارَس «التجديد» على أساس نفعي لتحقيق مهمة تَقبُّل المدنية الأوروبية، فإن الخطاب السلفي يعتمد نفس الأساس النفعي في تأويل الإسلام لرفضها، من أَجْل إقامة الدولة الدينية. والغريب في ذلك أن مفهوم الدولة الدينية — التي تَعْتد بعنصر الدين وحده أساسًا للمُواطَنة — مفهوم وَجَد في قِيام الكيان العنصري الإسرائيلي على أرض فلسطين المحتلَّة وقودًا لا ينفد. وكان للانتصارات التي حقَّقَتْها إسرائيل في حروبها ضد العرب تأثير ناجح في ترسيخ أن العودة للإسلام هي «الحل» الوحيد للخروج من أَسْر التبعية، ومناهضة العدوان العنصري. وبعبارة أخرى كان الغرب أيضًا — وإن بطريقة غير مباشرة هذه المرة — هو مَصْدر طرح الإشكالية التي تحددت على أساسها عناصر الإجابة. وكما كان «التجديد» هو شعار خطاب النهضة، أصبحت العودة إلى الأصول شعارًا للسَّلفية الجديدة، وكما اعتمد التجديد على النَّفعية الانتقائية التي تختار من القديم دون أن تمس هيكل بنائه، اعتمدت العودة إلى الأصول على الانتقائية النفعية نفسها. لكن خطاب النهضة كان يمارِس فعاليته غالبًا في إطار التراث الديني دون أن يقترب من مجال النصوص الدينية الأصلية، في حين تقترح السلفية العودة إلى النصوص الدينية، ولأن نهج الاقتراب واحدٌ فقد اعتمدت السلفية في تأويلها للنصوص الأصلية — عن وعي أو عن غير وعي — الغربَ إطارًا مرجعيًّا، لكنه الغربُ الذي تم اختصاره واختزاله هو الآخَر في العِلْم، بل في التكنولوجيا بصفة خاصَّة. وبعبارة أخرى وإذا كان خطاب النهضة قد جعل «التراث» إطارًا مرجعيًّا لتَقبُّل المَدنِيَّة الأوروبية الحديثة، فقد جَعلَت السلفية من المدنية الأوروبية — المُختزَلة في التكنولوجيا — إطارًا لتأويل النصوص الدينية. وفي كلتا الحالتين تم إنتاج وعي زائف بكل من التراث والحضارة الأوروبية معًا. وقد ساهم هذا الوعي الزائف في تغييب اللحظة الزمانية والتاريخية تغييبًا شبه تام، وأصبح العربي يَحْيا في الغالب تاريخًا غير تاريخه، سواء كان ذلك التاريخ لحظةً ماضية في الزمان الأوروبي، أم كان لحظةً فائتة في الزمان التراثي. ولم يبقَ له ما يَعيشه في لحظته الراهنة سوى التبعية للغرب على مستوى شكل الحياة المادي — استيراد التكنولوجيا — والتبعية لإحدى لحظات الماضي على مستوى الوعي.
٣
لا أحد يملك أن ينكر أن مشروع النهضة الذي تَولَّدت ملامحه مع مطالع القرن التاسع عشر في عالمنا العربي قد اعتمد على معادلة طرفاها: التراث العربي الإسلامي، الذي تم توحيده بجوهر الإسلام وذاتيته المُطلَقة من جهة، وبين التراث الأوروبي الغربي الذي تم تركيزه في الكشوف العلمية وثمارها التكنولوجية من جهة أخرى. وكان التوفيق بين طرفي المعادَلة هو أساس مشروع النهضة، سواء تحرَّكت المعادلة في اتجاه الإسلام بوصفه أساسًا مرجعيًّا لتقبل الوافد الغربي، أو تحركت في اتجاه الوافد الغربي لجعله معيارًا لسلامة فَهْم الإسلام ولمشروعية تأويله. في كلتا الحركتين ثَمَّة حضور غالب لأحد طرفي المعادلة، وثمة جهد دائب للتوفيق بين الطرفين.
ولا أحد يستطيع أن ينكر كذلك أن صياغة المعادلة على هذا النحو — الذي ما زال مستمرًّا بدرجات متفاوتة حتى الآن — يجد تفسيره في طبيعة اللقاء التصادمي الأول بين الدولة الإسلامية — متمثلة في الإمبراطورية العثمانية — وبين القوة الأوروبية الناهضة والنامية، والساعية إلى الاستحواذ على تَرِكة الرجل المريض.
ومن الخطأ التاريخي أن يؤرخ لهذا الصدام بحملة بونابرت على مصر (١٧٩٨-١٨٠١م)، إلا إذا كُنَّا نُؤرِّخ للقاء مصر الأول بأوروبا، هذا مع تسليمنا بأن حملة نابليون تُمثِّل أحد المفاصل الرئيسية في هذا الصدام. ومن شأن أيِّ لقاء تصادمي أن يؤدي إلى رَدِّ فِعْل؛ لأن المهزوم، عادةً، إما أن يتبع المنتصر ويميل إلى تقليد الغالب بحسب أطروحة ابن خلدون، وإما أن يميل إلى التَّقوقع داخل الذات والاحتماء وراء أسوار هُوِيَّة حقيقية أو مُتوهَّمة. لكن الذي حدث أنَّ ردَّ الفعل الإسلامي/العربي لم يقع في دائرة هذا الطرف أو ذاك؛ ربما لأن أوروبا المسيحية — هكذا تم توصيفها — لم تكن جديدة تمامًا بالنسبة للذاكرة الإسلامية. لقد كانت ثَمَّة سوابق للقاءات عقلية وفكرية انسربت تأثيراتها في التراث المتواصل حتى لحظة التصادم.
كانت «القوة» العسكرية — المُزوَّدة بترسانة التكنولوجيا التي أبدَعها العِلْم — هي الجانب «المُدْهِش» والمُسبِّب للصدمة. ولم يكن أيْسَر على العقل المسلم/العربي من الاقتناع بضرورة «التزود» بهذه القوة التي تصور أنها مُحايِدة. لا تَعارُض إذن بين الإسلام — علامة الهُوِيَّة وشارَتها في مواجهة العالَم المسيحي الذي قدَّم نفسه كذلك منذ الحروب الصليبية — وبين «استيراد» الأسلحة وتكنولوجيا الحرب. وبسببٍ من «عدم التعارض» هذا تم إرسال البعثات إلى أوروبا — وإلى فرنسا بصفة خاصَّةٍ — لنَقْل ثمار العقل الأوروبي في مجال التكنولوجيا. وإذا أخذنا الطهطاوي مثالًا على ذلك اللقاء غير التصادمي الأول لوجدنا أن ما كان يشغل الشيخ في الأساس هو محاولة «الاستيعاب» العقلية لكل ما يلفت عقله أو وجدانه. لم ينشغل رفاعة طويلًا بالتعارُض بقدر ما سعى إلى «التصالح». هناك أشياء في تلك الحضارَة لا يقبلها الإسلام دون شكٍّ، مثل الحريات المتاحة للمرأة في مُراقَصة الرجال والاختلاط بهم، لكن تلك أشياء تهون إلى جانب إنجاز تعليم المرأة وخروجها للعمل مثل الرجل وتَحمُّلها للمسئولية. فضلًا عن القوانين التي تُساوي بين البشر على أساس من الحرية والمساواة والإخاء، ناهيك عن النظافة والاهتمام بالصحة العامة للمواطنين … إلخ.
وعلينا ألَّا ننسى في هذا السياق أن حملة بونابرت قد أخفقَت في تحقيق أهدافها السياسية في الاستيلاء على مصر واحتلالها. وأن إحساس الشعب المصري بالانتصار على الحملة، بل وفي فَرْض حاكم اختاره زعماؤه على الباب العالي الذي خضع لمَطالب مُمثِّلي الشعب المصري بتعيين محمد علي واليًا على مصر، كل ذلك يُفسِّر لنا تَحرُّر رفاعة الطهطاوي من عُقَد النقص التي تُلازِم المهزوم عادةً في تعامله مع عدوه.
لقد كانت الهزيمة واقعةً عامَّةً، حالةً إسلاميةً أساسًا، وليست حالةً مصريةً تحديدًا. هكذا ظلَّت أوروبا حتى منتصف القرن التاسع عشر تقريبًا تُمثِّل الخَصْم المُتفوِّق لا العدو المُنتَصِر. في هذا السياق نفسه كان محمد علي يواصل انتصاراته في الشام والجزيرة العربية مناهضًا الباب العالي ذاته بالأسلحة التي استوردها من أوروبا. من هنا منشأ «عدم التعارض» الذي ظل مُحايِثًا لمشروع النهضة في كتابات رفاعة الطهطاوي، وربما في كتابات معاصرِيه.
٤
في تقديرنا أن «التعارض» بين الأنا والآخَر، أو بين «الإسلام» و«أوروبا المسيحية» بدأ يَتبلور مع انكشاف الطابع الاستعماري الإمبريالي لأوروبا السياسية في علاقَتها بالعالم العربي والإسلامي، وبعد أن كانَ الخصم المتفوق، يحتفظ بالمسافة التي تُبعِدُه عن الأنا، وتسمح لها مِن ثم بإدراكه إدراكًا مُكتمِلًا أو شبه مُكتَمِل، واقترب من حدود تهديد الذات بالاحتلال المباشر للأرض؛ تَحوَّل «الخصم المتفوق» إلى خَطر ماثل، وإلى عُدوٍّ قاهر، هكذا تم إطفاء مصابيح الديمقراطية الوليدة التي أراد إسماعيل إقامتها، وتم القضاء على كثير من المؤسَّسات المدنية الجديدة. وكان نفي رفاعة الطهطاوي إلى السودان علامةً فارِقَة تُحدِّد بداية عصر «التعارض» وانتهاء عصر التصالح.
ومع تَبلوُر «التعارض» نشأت الحاجة إلى «التوفيق»، وبدأ التفتيش داخل تراث الذات — الإسلامي بصفة خاصة — عن مُبرِّرات لقبول ما هو صالِح فقط من مُنتَجات الغرب العقلية والفكرية من جهةٍ، والاجتماعية والسياسية من جهةٍ أخرى. وكان هذا «التوفيق» هو مِحْوَر إنجاز التيار الإصلاحي الذي مثَّلَه بالأساس جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده. كان منطق «الإصلاح» أنه: «لا يَفِلُّ الحديد إلا الحديد، وأن علينا أن نُناهِض الغرب ونقاومه مستعينين بأسلحته المادِّيَّة والفكرية. إن الهدف الأساس هو المُقاوَمة مع الحفاظ على هُوِيَّة الذات خَشيةَ أن تذوب. من هنا قَدَّم محمد عبده قراءته لعلم الكلام في «رسالة التوحيد»، كما بدأ تفسيره للقرآن بهدف نفي الأسطورة والخرافة وتأكيد الطابع العقلي للوحي. وفي الوقت نفسه بدأت ردوده على رينان في هجومه على الثقافة العربية الإسلامية.
غني عن البيان القول إن معادلة النهضة — عند الأفغاني وعبده — قد تَجاوَزت ثُنائية الإسلام/تكنولوجيا الغرب وإنجازاته العلمية، إلى التراث الإسلامي/الفكر الغربي؛ أي إنه حدَث تحوُّل من مجال المنافع المادية، وانتقالٌ إلى مجال المنافع الفكرية والعقلية. لكن ظل مفهوم «المنفعة» هو الباعث الجوهري لعمليات التوفيق. وليس معنى ذلك أن المعادلة عند الطهطاوي كانت خالية تمامًا من العقلي والفكري، بل معناه أن العقلي والفكري كان مفسرًا للعلمي والتكنولوجي، وكان ثَمَّة افتراض لإمكانية نقل المادي دون التورط في التعرُّض لعدوى الفكري والعقلي. ولعل أوروبا كانت حريصة في ذلك الوقت على أن يظل العالم العربي الإسلامي رهين هذا الانفصام، وذلك ليستمر في لعب الدور الذي كانت تريده أوروبا: دور السوق المفتوحة لمنتَجات الغرب، دون أن يتجاوز ذلك إلى دَوْر المشارِك في إنتاج العِلْم والتكنولوجيا، وهو الدور الذي يستلزم الاستيعاب الفكري والعقلي.
الدليل على ذلك أن مُحاوَلات إسماعيل لِنَقْل المؤسَّسات الغربية، ومن أهمها الديمقراطية، للحياة السياسية المصرية لم تُقابَل بالرفض فقط، بل بالسعي للقضاء على هذه التجربة الوليدة بإغراق مصر في الديون وتوريطها اقتصاديًّا إلى الاحتلال الكامل (١٨٨٢م)، وعلينا ألا ننسى في هذا السياق أن أوروبا في منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كانت أوروبا الاستعمارية الإمبريالية، في حين أن أوروبا التي أراد العقل العربي التوفيق بينها وبين العقل الإسلامي كانت أوروبا القرن الثامن عشر، أوروبا عصر الأنوار. وفي حين تصور العقل العربي أنه يتعامل مع أوروبا واحدةٍ كلية ذات جوهر غير تاريخي اسمه التقدم لم يستطع أن يفسر بشكل تاريخي هذا التَّعارُض بين السياسة والفكر من جانب أوروبا. بل إن العقل العربي وقع هو ذاته في ازدواجية مُتعارضة بين من ينشدون الاندراج في سياق الثقافة الأوروبية — وهم ينظرون إلى أوروبا عصر الأنوار — وبين مَن ينشدون الانسلاخ عن الشيطان الأوروبي والاحتماء بالهُوِيَّة الإسلامية، وهم في الواقع، ينظرون إلى أوروبا الاستعمارية، أوروبا منتصف القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، أوروبا المتأهبة بجيوشها وأساطيلها لابتلاع العالم الإسلامي عامَّةً، والعربي بصفة خاصَّة.
٥
هذه الازدواجية في النظر إلى أوروبا وفي استيعابها ازدادت تعقيدًا وتركيبًا حين حاول العقل العربي «التوفيق» بين أوروبا والتراث الإسلامي، ذلك أن التراث الإسلامي العقلاني المُؤهَّل للتواصل مع فلسفة الأنوار، هو بالأساس التراث الرُّشْدي والمعتزلِي على مستوى الفلسفة واللاهوت، والتراث العلمي التَّجريبي المُتمثِّل في إنجازات الرازي وابن الهيثم وابن النفيس … إلخ، وهذا التراث ذاته هو الذي انتقل عبر الأندلس إلى أوروبا في عصر النهضة وأفادت منه في صياغة معادَلة نهضتها. لكن هذا التراث ذاته — في سياق تاريخ الحضارة الإسلامية — كان تراثًا مُهمَّشًا، تَمَّ حصاره وتهميشه داخل دائرة ضَيِّقة من الصفوة لحساب تُراثٍ آخَر امتزجت فيه الحنبلية والأشعرية والصوفية. وهذا التراث هو الذي كُتِبَت له السيادة والسيطرة والهيمنة التي قَوَّت شوكتها الهيمنة التركية العثمانية على مُقدَّرات العالم الإسلامي.
من هنا نفهم تردُّد الشيخ محمد عبده بين «عدل» المعتزلة، و«توحيد» الأشاعرة من جهة، بل ونفهم هذا التَّردُّد إزاء مسألة «خَلْق القرآن» وهي مسألة ذات أهميةٍ قصوى في طريق فتح باب التأويل والاجتهاد على أساس لاهوتي وفَلْسَفي في آنٍ واحد. وهذه نقطة سنعود لها بعد استعراض مَظاهر التَّردُّد في خطاب النهضة. هذا التردد في الاختيار من عناصر التراث يعكس عدَم الوعي بتاريخية التراث من جهة، وعدم إدراك أن «تعددية» هذا التراث جزء من تعددية المنظومات الفكرية والعقلية المُعبِّرة عن مصالح ورُؤًى واتجاهات من جهةٍ أخرى. التعامل مع التراث العربي الإسلامي بوصفه كلًّا جوهريًّا موحَّدًا يُمثِّل نوعًا من الانعكاس لازدواجية التعامل مع أوروبا بوصفها كلًّا جوهريًّا موحَّدًا. إنه في الحالتين انعدام الوعي التاريخي بالظاهرة، سواء كانت تلك الظاهرة أوروبا أو كانت التراث العربي الإسلامي.
هذا التَّردُّد نجده في منهجية طه حسين الديكارتية التي حاوَل تطبيقها على الشِّعْر الجاهلي. والقراءة المُتعَمِّقة للكتاب تكشف عن حضور منهجين مُتجاوِرين لم يتم التركيب منهما: منهج الشك الديكارتي المتمثِّل في أطروحة أن الشعر الجاهلي لا يعكس الحياة الجاهلية بحيويتها وثرائها وعنفوانها كما يعكسها القرآن مثلًا. وَلْنُلَاحِظ هنا أن القرآن يُمثِّل بالنسبة لطه حسين «مرجعية تاريخية» للحياة الجاهلية. وهناك منهج علماء الحديث في نَقْد الرواية كما يتمثَّل في نقد محمد بن سلام الجُمَحي للشعر الجاهلي. وقد ظلَّ هذان المنهجان في حالة تجاوُر سُكوني مِمَّا أعطى مبرِّرًا لمُهاجِمي طه حسين إلى ادِّعاء أنه نقل عن «مرجليوث» من جهةٍ، وإلى أنه لم يَقُل جديدًا عمَّا قاله ابن سلام الجُمَحي من جهةٍ أخرى.
وقبل أن نمضي في تحليل منهجية طه حسين، علينا أن نلاحظ هنا أن معادَلة التوفيق كما مثَّلَها محمد عبده قد تَحرَّكت قليلًا عند طه حسين، فلم يَعُد «الغرب» بالنسبة له أفكارًا تحتاج لإيجاد مثيل لها يوافقها من التراث الإسلامي، بل تحول إلى «أداة» منهجية لتحليل التراث وفهمه ونقده. وقد ظل هذا التحول في استيعاب الغرب ماثلًا في الفكر العربي الحديث بمستوياته وتجلياته النوعية المختلفة حتى سقوط معادلة النهضة ذاتها سقوطًا نهائيًّا في منتصف الستينيات. نقول إن معادلة النهضة التوفيقية في أساسها تَحرَّكت قليلًا مع منهجية طه حسين — نكرر قليلًا ولم تَمضِ إلى غاياتها المرجُوَّة. وتعليلنا لذلك — دون إنكار للتفسير الاقتصادي الاجتماعي الخاص بنشأة الطبقة وبطبيعة تكوينها الهجيني … إلخ — أن إنجاز التوفيق السابق عليه — محمد عبده تحديدًا — لم يكن حاسمًا في مجال القضايا الشائكة الحساسة، خاصَّةً قضية «خلق القرآن».
ورغم أن «لو» أداة شرط غير تاريخية، فلا مَناص أمامنا من استخدامها لنقول: ربما لو حَسَم محمد عبده الإشكالية باختيار «الخلق» كما اختار «العدل» لتَمكَّن طه حسين من تجاوُز حالة التردد بين الاعتداد بالمرجعية التاريخية للنص القرآني وبين إنكار هذه المرجعية. وَلَرُبَّما استطاع أن يَتجاوز الوضع الثنائي الازدواجي إلى تركيبة إبداعية على مستوى المنهج وعلى مستوى النتائج. لكن هذه اﻟ «لو» التي التمني، وهذه اﻟ «ربما» التي تُعبِّر عن الأماني الضائعة لا يُجْدِي كلاهما في تحقيق وعْيِنا — نحن جيل سقوط معادَلة النهضة التوفيقية — بضرورة تجاوُز هذه المعادلة. لكن السؤال الآن: هل كان بمقدور محمد عبده الانحياز إلى «الخَلْق» — خَلْق القرآن — كما انحاز إلى خَلْق الأفعال التي هي محور مَقُولة «العدل» الاعتزالية؟! والإجابة عن هذا السؤال تكشف عن عجز المعادَلة ذاتها، العجز النابع عن التَّردُّد بين طرفين على أساس «النفع» المباشر. لم يكن ثَمَّة ما يمنع من اختيار «خَلْق الأفعال» لالتقائه مع مفهوم «الإرادة الحرة» للإنسان كما صاغَها الفكر الغربي، لكن كان من المستحيل التخلي عن «التوحيد» الأشعري لحساب «التوحيد» الاعتزالي لما يؤدي إليه هذا الأخير من تعطيل الصفات الإلهية عن الفعالية في التَّدخُّل الدائم في العالَمَين الطبيعي والاجتماعي. ومفهوم «التعطيل» هذا يفضي في ذهن عبده إلى «الإلحاد» الذي كان يخشاه عبده من أوروبا. هكذا احتفظ عبده — من داخل التراث — بفكرتين مُتناقِضَتين: حرية الإرادة الإنسانية من جهة، والتدخل الدائم لله في صُنْع العالم — بما فيه الإنسان — وفي تشكيله من جهةٍ أخرى. التفسير المباشر لهذا التناقض ازدواجية فَهْم أوروبا، والتَّردُّد بين «التعلُّم» منها ومناهضتها في الوقت نفسه.
هذا التردد — الذي هو نتيجة لانعدام الوعي التاريخي بكلٍّ مِن طرفَي المعادَلة ظل محايثًا لخطاب النهضة، لكنَّه كان ينتهي دائمًا للتضاد مع مفهوم النهضة ذاته. وكما انحسم تردُّد طه حسين في بذرة مشروعه الأول «في الشعر الجاهلي» انحسم في مشروعه كله لصالح التراث والإسلاميات. وانحسم على مستوى الناقد الأدبي لمُناهَضة مَظاهر الحَدَاثة في الشعر. والأمر نفسه حدث مع عباس محمود العقاد، وخالد محمد خالد الذي استمعنا إلى خطابه خلال أزمة الخليج يُكرِّس الوجود الأدبي الأمريكي في المنطقة استنادًا إلى مرجعية التراث والدين. وإذا كان علي عبد الرازق رفض إعادة طبع كتابه «الإسلام وأصول الحكم» خاصَّةً بعد انتهاء الظروف التي أدَّت إلى المُصادَرة والمنع، فقد رفض نجيب محفوظ إعادة طبع روايته «أولاد حارتنا» بل هَدَّد جريدة «المساء» القاهرية باللجوء إلى القضاء إذا نَشرَت هذه الرواية.
ليس التردد هنا عيبًا في الأفراد من حيث هم ذواتٌ مُفكِّرة، ولكنه خلل في المعادَلة ذاتها، نابعٌ من عدم الوعي بطرفيها وعيًا تاريخيًّا يُمكِّن من إحداث «التوفيق» الحقيقي بينهما. لكن الوعي التاريخي بطرفَي المعادَلة وحْدَه ليس كافيًا، فلا بُدَّ من تَضامِّ ذلك مع الوعي التاريخي بمكوِّنات الواقع بما يَتضمَّنه على مستوى الوعي والفكر والسلوك والممارَسة من عناصر تراثية، ومن عناصر تأثُّر بالغرب تَسرَّبَت كلها إلى نسيج الواقع وشَكَّلَت خصوصيته التاريخية، إضافة إلى حقائق الوجود الطبيعي الجغرافي، والوجود الاجتماعي الثابتة والمُتغَيِّرة. لكن الطبقة لأسباب ليس هنا مجال مُناقشتها لم تُحَقِّق هذا الوعي، بالإضافة إلى أنها كانت تَخُوض معركةَ النهضة وسط عوامل كثيرةٍ مُحبِطة من التآمُر الاستعماري الصهيوني من جهةٍ، وعناصر الثورة المضادَّة التابعة في قلب المشروع والكامنة فيه من جهةٍ أخرى. من أجل ذلك كان الدافع المسيطر في عملية «التوفيق» هو الدافع النَّفْعي المباشر الذي حوَّل التوفيق إلى «تلفيق» يحتفظ للطرفين بتمايزهما بحيث إذا أمكن إسقاط أحد طرَفي المعادلة، احتفظ الطرفُ الآخُر بكل قُوَّته وجبروته، وظل ممارسًا لفعاليته، وهذا ما نلمسه الآن من انحسار بين طرفين: التبعية الكاملة للغرب اقتصاديًّا وسياسيًّا وفكريًّا بالشروط الاستعمارية الإمبريالية من جهة، والسلفية الرجعية الكاملة جهة أخرى. ورغم التَّناقُض الظاهري بين الطرفين فإن كُلًّا منهما يفضي إلى الآخَر بوسيلته الخاصة، تُفْضي التبعية إلى الديكتاتورية والاستغلال، ومحاصرة الإنسان باسم التغريب والحداثة، وتفضي السلفية إلى النتائج نفسها، ولكن باسم الدين والتراث وتحقيق الهُوِيَّة الخاصة.
٦
تتجمع الخيوط الناتجة عن تلك المراحل الأربع في منظومة فكرية مُوحَّدة، أو «رؤية مُوحَّدة»، كما يطلق عليها الكاتب، تُمثِّل محور كتاباته الأخيرة، والتي دأَب على نشرها تباعًا في جريدة الأهرام.
والسؤال الذي يجب علينا أن نطرحه ونحن نقرأ «حصاد السنين»، وحتى تكون قراءتنا قراءة تأويلية مُنتِجة، ما الذي جعل «حصاد التنوير» فقيرًا إلى هذا الحد؟ والإجابة عن هذا يجب أن نبحث عنها في طبيعة الخطاب التنويري ذاته، بكل ما يتضمنه هذا الخطاب من عناصر الإيجاب ومن عناصر السلب، والأهم من ذلك كله أن نبحث في الخطاب التنويري عن الأسئلة المضمَرة والمكبوتة، بل والمقهورة إلى حد التحريم. ودون البحث عن هذه الأسئلة من أجل إزاحة القهر والتحريم عنها، سيظل خطاب التنوير رهين قضبان اللحظة التاريخية الأولى التي أَنْتجَتْه وحاصرته في الوقت ذاته. لقد كان الخطاب التنويري في صيغته التي قابلها المؤلف في مُستَهَل حياته مُجرَّد صدًى للفكر الأوروبي الذي أمكن له تلخيصه في بُعْدين: الإيمان بقيمة الحرية والمطالبة بها على مستوى الشعوب والأفراد، وفَهْم الحياة الاجتماعية والطبيعية على أساس أن «التطور» جوهرها. كان مَطلب «الحرية» مطلبًا أساسيًّا في الحياة المصرية، أما فكرة «التطور» فلم يعرف منها مُعظم المثقفين: «إلا الصورة البيولوجية التي تُنْسَب إلى «داروين» في كتابه «أصل الأنواع» وانعكاساتها التطبيقية على كثير من جوانب الحياة الاجتماعية، كما أوضحها بصفة خاصَّة هربرت سبنسر، وكان أبرز مَن عرض الفكرة في صورتها الداروينية إسماعيل مظهر بترجمته الكاملة لكتاب أصل الأنواع، كما كان أبرز من أشاع جوانبها التطبيقية في المجال الاجتماعي، نقلًا عن هربرت سبنسر، شبلي شميل، وازدادت الفكرة شيوعًا بعرضها عرضًا موجزًا متكاملًا على يدي سلامة موسى» (ص٢٠).
واستمر الخطاب التنويري يكتسب أرضًا جديدة، ويعمق جذوره في التربة الثقافية المصرية على يد: «أحمد لطفي السيد بما نادى به من وجوب الحرية الفردية المسئولة، رجلًا كان ذلك الفرد أم امرأة، وطه حسين بما عمل على إشاعته في النفوس من إزاحة التقديس عن حقائق التاريخ … وعباس محمود العقاد بمجموعة دواوينه الشعرية، إنما قدَّم للناس تطبيقًا مُجسَّدًا للفردية المستقلة الحرة التي اضطلع لطفي السيد بالدعوة إليها في مجال السياسة» (ص٣١). ومع ذلك فلم يكن خطاب التنوير صدًى سلبيًّا لما تُنتِجه أوروبا من أفكار بل كان كثيرًا ما يجد نفسه في علاقة تضاد مع بعض أطروحات الفكر الغربي عن الإسلام والمسلمين؛ أي إن انعكاس ضوء التنوير على مرآتنا كان كثيرًا ما يثور على الأصل ويتجاوزه، خاصَّة إذا تَعارَض مع ركائز ثقافتنا. ومِن هنا رأَيْنا بين رُوَّادنا مَن شغل نفسه بالرد الرافض لما يُكْتَب عَبْر البحر أو يقال، على غرار ما فعل الأفغاني في «الرد على الدهرِيِّينَ» والشيخ محمد عبده في الرد على «هانوتو» و«رينان»، والعقاد في الرد على كثير مما قاله مستشرقون كتبوا عن الإسلام والمسلمين» (ص٣٢، والتأكيد لنا).
ولم يكن الخطاب التنويري محاصَرًا بتناقضه مع بعض أطروحات نموذجه الغربي فحسب، بل كان محاصَرًا بالدرجة الأولى بنقيضه السلفي الذي يرى في أوروبا، وفي كل ما يأتي من جهتها، قضاءً على الذات وانتهاكًا للأصالة، لا يُستَثْنى من ذلك إلا الناتج التكنولوجي لشئون الحياة اليومية. وهكذا يدرك مُؤلِّفُنا أن «أزمة العقل» هي المسئولة عن عثرات التنوير في بلادنا، ذلك أن: «الموقف العام في بلادنا تسوده نظرة لا علمية على نحو لا يدع مجالًا للشك خصوصًا إذا رأينا حقيقة الموقف من وجهة نظر الجمهور … أنه لا عجب أن تَعرَّض العقل ويتعرَّض في حياتنا لأزمات لا تنتهي؛ فللرأي العام عندنا قوة ضاغطة، لا يجرؤ على عصيانها علنًا إلا مُغامِر، وهو رأي عامٌّ تسوده اللاعلمية كما أسلفنا، فانشُرْ فيه من الخرافات ما شاء لك خيالك أن تنشر، وأنت في ذلك بمأمن من الخطر، بل يُرجَّح لك أن تُحْمَل على الأعناق لتوضع في مكانة رفيعة تتناسب مع قدرك العظيم. لكنْ حاوِل أن تلقي ضوءًا على فكرة مقبولة عند الرأي العام، بحيث تحيط الفكرة بشيء من الريبة في وضوح معناها، وعندئذٍ لا تدري ما عسى أن يصيبك من عدم الرضا … فها هو طه حسين وما تَعرَّض له من هجمات الرأي العام — ولا أقول شيئًا عن العلماء — مع أن فكرته المرفوضة كانت مُتعلِّقة بالشِّعر، وها هو علي عبد الرازق وما تَعرَّض له من سخط الرأي العام لفكرة قالها في مجال هو بالقطع أعلم به من الجمهور؛ لأنها خاصَّة بما يقوله الإسلام عن نظام الحكم، فأيُّ عجَب أن تفقد الأمة ما فَقدَتْه في هجرة العقول الممتازة من أبنائها؟» (ص١٣٩-١٤٠).
إن الحديث عن أزمة العقل وربطها بانعدام التفكير العلمي، خاصة عند الجماهير، يشير إشارة ضمنية إلى أحداث وقعت للمؤلف نفسه، حين اصطدم بالخطاب الديني السلفي مُمثَّلًا في قطب من أبرز أقطابه، هو الشيخ محمد متولي الشعراوي، وذلك في تعليقه على ما يُعْرَف بحديث الذبابة، التي في أحد جناحيها الداء وفي الآخَر الدواء. لقد استطاع الشيخ أن يُؤلِّب «العامة» على فيلسوفنا، كما أَلَّبَهم في مناسبة أخرى على «توفيق الحكيم» حين بدأ ينشر في «الأهرام» بعنوان «حديث مع الله». وإذا كنا نختلف مع توصيف المؤلِّف لظاهرة العامة بأنها «رأي عام»، فإن هذا لا ينفي دلالة الوقائع التي يستشهد بها. ولأمر ما — لعله إيثار السلامة — لم يذكر زكي نجيب محمود هذا الصدام، واكتفى، في سياق آخر، بالإشارة إلى ما عاناه هو شخصيًّا من هجوم بسبب دعوته المستمرة إلى «الوضوح». ورغم تفرقته الدائمة بين مجالات المعرفة، وتمييزه بين العلمي والديني والأدبي، ورغم أنه يجعل مطلب «الوضوح» مقصورًا على الخطاب العلمي، فإن هذا لم يمنع المهاجمين من اتهامه بالتَّنكُّر للدِّين والأخلاق. والحقيقة أن الاتهام بالتَّنكُّر للأخلاق: «لم يكن عند صاحبنا بذي خطر» ومع ذلك لم يفتر عن البيان والشرح؛ ليزيل غمامة الغموض لعل الغشاوة تزول عن الأبصار، وأما الجانب الذي كان له في نفسه أثر عميق وحزين، فهو الاتهام الثاني الذي زعم أصحابه أن كل ما نشره عمَّا رآه من ضوابط للفكر الواضح هو في الحقيقة مُوجَّه نحو الدين كما هو متمثل في نصوصه؛ لأن تلك النصوص قلما تجيء على نحو ما تجيء القوانين العلمية؛ إذ أقل ما يقال فيها هو أنها تخاطب في الإنسان قلبه وشعوره، جنبًا إلى جنب مخاطبتها لعقله العلمي، واستشهد أصحاب هذا الاتهام بكتاب أصدره صاحبنا سنة ١٩٥٣م، وعنوانه «خرافة الميتافيزيقا». وقد عدل العنوان الطبعات التالية ليصبح «الموقف من الميتافيزيقا» (ص٣٠١).
هذا الانسحاب السريع الذي يصل إلى حدِّ الاستسلام والاعتراف بالهزيمة، أمر مُتكرِّر عدا استثناءات قليلة، في علاقة الخطاب التنويري بنقيضه السلفي، وهذا ما يُؤكِّد «أزمة العقل» في واقعنا الثقافي. لكن أزمة العقل هذه ظاهرة تحتاج إلى التفسير. ولا بُدَّ من الغَوْص في تاريخنا الثقافي بحثًا عن هذه التفسير ومع ذلك فقراءة زكي نجيب محمود لتراثنا الفكري والديني — في المرحلة الثالثة من سيرته العلمية — كشفت له أن «العقل» دعامة أساسية من دعائم بنائنا الثقافي، بل هو الدعامة المُقابِلة لدعامة الدين، الذي يُمثِّل البُعد الوجداني (ص٣٨٨–٣٩٤). وإذا كان الأمر كذلك، فإن «أزمة العقل» في الواقع الثقافي تحتاج إلى تفسير آخر، ويبدو أن فيلسوفنا يجد هذا التفسير الآخر في «ازدواجية المثقف» أو مُفكِّر التنوير. ورغم أنه لا يطرح هذا التفسير طرحًا مباشرًا صريحًا، فإن إدانته الدائمة لمفكري عصره واتهامه لهم بالتناقض بين السلوك والفكر، بين ما ينادون به ويدعون إليه بأقلامهم وبين سلوكهم في الحياة اليومية والوظيفية، يطرح تفسيرًا ضمنيًّا لعجز فِكْرِهم عن أحداث تَحوُّل حقيقي في الثقافة (ص٨، ٤٤، ٤٥، ٤٦، ٦٨، ٦٩، ١٠٣، ٢٥٤).
لكن ازدواجية المثقف، كما تتجلَّى في التناقض بين فكره وسلوكه، تُمثِّل هي الأخرى ظاهرة تحتاج إلى التفسير، بل الأَوْلى القول إنها إحدى تَجلِّيات أزمة العقل على مستوى الصفوة. ومعنى ذلك أنَّنا ما نزال في إطار وصف الظاهرة، ولم نَتحرَّك خطوة واحدة نحو تفسيرها، وهي ظاهرة تَتفاقَم بشكل ملحوظ في كل أنماط الخطاب. ولعل ما حدث في ندوة «نحو علم كلام جديد» — الندوة التي أقامتها الجمعية الفلسفية المصرية في جامعة الأزهر في الفترة من ١٥–١٧ يونيو ١٩٩١م — من اغتيال للعقل، وتسفيهٍ لأي اجتهاد في قراءة التراث وتأويله. لعل تلك الندوة تُمثِّل مؤشرًا كاشفًا لحالة التَّردِّي الفكري التي يعانيها واقعنا الثقافي. ولقد تَعرَّض فيلسوفنا لهجوم ظلامي عاتٍ في الجلسة الافتتاحية لتلك الندوة، لمجرد أنه أكد حاجتنا إلى الاطلاع على الثقافة الأوروبية الحديثة. ليس ثمة خلاف إذَنْ في توصيف الأزمة، إنما يَتركَّز الخلاف في تفسيرها. والميل إلى تبرئة تاريخنا الثقافي والفكري من مسئولية الأزمة — كما هو الحال في قراءة زكي نجيب محمود للتراث — مَيل يُمثِّل في حدِّ ذاته وجهًا من وجوه أزمة الخطاب التنويري ذاته، خاصَّةً إذا كان الحديث عن التراث الديني بالذات. هكذا يبدو الخطاب التنويري شديد الجرأة في تحليل الواقع الثقافي وتشريحه، لكن تلك الجرأة تتحول إلى نوعٍ من «التبرير» الذي يصل إلى حد «تحسين» كل ما يتصل بالتراث الديني. كان طه جريئًا شديد الجرأة في نَقْد الواقع الثقافي، بل وفي نقد تاريخنا السياسي والأدبي، لكنه كان يقترب من التراث الفكري الديني على استحياء. وسرعان ما تراجَع عن بعض مقولاته الفكرية، وحذَفها في الطبعة الثانية من كتابه «في الشعر الجاهلي» بعد تغيير العنوان. وهو نفس ما قام به زكي نجيب محمود حين غيَّر عنوان كتابه من «خرافة الميتافيزيقا» إلى «الموقف من الميتافيزيقا». ولأن مشروع علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» كان نقدًا مباشرًا للتراث الديني، فقد تمَّ اسكات صوت الرجل إسكاتًا شبه نهائي. والمشكلات التي تثور بين الحين والآخَر حول تلك الرواية — «أولاد حارتنا» لنجيب محفوظ مثلًا — أو تلك الأغنية أو هذا العرض المسرحي أو السينمائي، ناهيك عن المُطالَبة بأسلمة الآداب والفنون — بل والعلوم — تؤكد أن خطاب التنوير فشل في إحداث التنوير. وأحد أسباب هذا الفشل تَرتدُّ إلى عَجْزِه عن إحداث وَعْي علمي حقيقي بالتراث الديني خصوصًا، وعي ينقل الثقافة، كما ينقل المواطن الفرد، من حالة إلى حالة أخرى، ومن مرحلة «الوعي الديني الغيبي الأسطوري» إلى مرحلة «الوعي العلمي» بالظواهر الطبيعية، والاجتماعية والإنسانية على حدٍّ سواء.
وليس معنى نقدنا للخطاب التنويري تحميله — وحده فقط — مسئولية الإخفاق في إحداث التنوير المطلوب، ذلك أن «الخطاب» وحده، أيًّا كانت درجة الوعي المُعبِّر عنها وحدته وإرهافه، ليس مسئولًا عن إحداث التغيير، الذي هو فاعلية شاملة تساهم فيها كل عناصر الوجود الاجتماعي ومُحرِّكاته. نقدنا هنا ينصبُّ على الخطاب بما هو موضوع تحليلنا ونقاشنا، فلا بُدَّ بالتالي من البحث عن عوامل الإخفاق المتضمنة في بِنْيَة الخطاب ذاته، دون تقليل من شأن العوامل الأخرى التي لا تعنينا هنا. وما طَرحْناه الآن هو الموقف التبريري لخطاب التنوير من التراث الديني بشكل خاص، وهو الموقف الذي حول هذا التراث إلى منطقة «مُحرَّمة» تتأبَّى على آليات التحليل العلمي، ويُكْتَفى بالقول إنها أدخل في دائرة «الوجدان» والشعور، كما يذهب زكي نجيب محمود. وإذا كنا فيما سبق قد بيَّنَّا أثر الخطاب السلفي النقيض في إحداث بعض خطوات التراجع في أطروحات الخطاب التنويري، فإن السِّجَال الأيديولوجي بين الخطابين لا يمثل كل القصة، فعلاقة الخطاب التنويري العربي بمثيله الأوروبي يمثل بُعْدَها الآخر.
في كتابات الطهطاوي لا نكاد نجد حضورًا لافتًا لإشكالية التراث، فقد كان المُشْكِل المُسيطِر على خطابه مُشْكل «التقدُّم» تجاوزًا لحالة «التخلف» التي كشفها اللقاء مع أوروبا. كان «الإسلام» واقعًا حيًّا ماثلًا — وعلينا ألا ننسى أن الشيخ سافر إلى فرنسا إمامًا لأعضاء البعثة في شئون الدين — لا يتأبَّى على «الاتساع» للقِيَم الاجتماعية والفكرية الموجودة في بلاد التَّقدُّم. وحين زار الشيخ «محمد عبده» إنجلترا لأول مرة، عاد يُقرِّر أنه وجد هناك «إسلامًا بلا مسلمين»، في حين أن قومه «مسلمون بلا إسلام»، وهذا معناه أن الفارق «الأخلاقي» الذي وجده الطهطاوي بيننا وبين فرنسا — والمتمثل في بعض أنماط السلوك المتعلق بالاختلاط بين الرجل والمرأة — قد وُجِد تفسيره عند محمد عبده في «اختلاف العقيدة»، دون أن يتجاوز ذلك إلى مجالات الحياة الأخرى المختلفة. هكذا أصبحت «العقيدة» تمثل «خصوصية الذات» من جهة، وأصبحت بمنأى عن إعادة التفسير أو «التأويل» من جهة أخرى. وبالفصل بين العقيدة والشريعة، أمكن إعادة تأويل الشريعة لِتَتَّسِع لاستيعاب الجديد الذي أتت به أوروبا المتحدية — والمعتدية — خاصَّة في مجال استيعاب مؤسَّسات المجتمع المدني والتكنولوجيا. والسؤال الذي ظل مكبوتًا في خطاب النهضة: هل هذا الفصل بين العقيدة والشريعة فصل مشروع؟ وهل العقائد موضوع يتأبَّى على النقد والتأويل؟
وإذ وقع الخطاب التنويري بين سندان نَقِيضه السلفي وبين مطرقة الخطاب الاستشراقي أصبح الدفاع عن التراث الديني — لا نقده أو تحقيق وعي علمي بدلالته — أحد مهامه. هكذا دافع محمد عبده عن العقيدة في «رسالة التوحيد»، جامعًا بين المفهوم الاعتزالي «للعدل» وبين المفهوم الأشعري «للصفات»، دون أدنى إحساس بتعارض المفهومين. وحين يتخلَّى المفكر التنويري عن موقف «الدفاع»، يظل في خانة «التبرير» تعبيرًا عن عجزه عن «النقد». وإذا كانت الأنا قد تم اختزالها في «العقيدة»، وما يرتبط بها من «تراث»، فقد كان من الطبيعي والمنطقي أن يختزل الآخر أوروبا — في «العلم»، وما يرتبط به من تكنولوجيا. ويصبح السؤال: كيف حققت أوروبا تلك النقلة الهائلة من ظلام عصورها الوسطى إلى نور التقدم؟ سؤالًا مُضمَرًا مكبوتًا هو الآخر. ذلك أن الإجابة الحقيقية عنه — والمتمثِّلة فيما أحدثه الفكر التنويري هناك من نقد للتراث والعقائد — تكشف لخطابنا التنويري عن مكامن العجز والقصور في بِنْيَته. إن العلم الذي أبدعته أوروبا — فيما يرى زكي نجيب محمود — مُجرَّد إضافة — بمعنى الجمع الرياضي، لا التفاعل الجدلي من خلال جدلية «النفي والإثبات» — إلى موروثها السابق من العصور الوسطى: «ما قد أبدعه الغرب في نهضته من عصوره الوسطى، كان لَفْتَة جديدة نحو مُتَّجه جديد، هو أن يُضِيف إلى قراءة الموروث مِن كُتُب السابقين، قراءةً أخرى هي قراءة الطبيعة لاستخراج قوانينها» (ص٢٨٠). وإذا كانت أوروبا لم تَفعلْ أكثر من الإضافة تلك، فليس ثَمَّة ما يَمنعُنا من إضافة «العلم»، الذي نتعلمه من أوروبا — بشرط أن نساهم في إبداعه ولا نكتفي بحفظه واستيعابه — إلى تراثنا الفكري والديني، الذي ثبت لنا عدم تعارُضه مع منهج التفكير العلمي.
يفخر كاتبنا — على طول الكتاب — بأنه كان من أوائل الذين تَنبَّهوا لأهمية هذه القضية، بل يؤكد أنه الوحيد الذي رأى في حلها حلًّا لإشكالية النهضة (انظر: ص١٣٢، ٢٦٩، ٣٩٩، ٤١٠-٤١١).
والغريب أن أحدًا ممَّن أثاروا تلك القضية لم يَنتَبِه إلى اعتماده ثنائيةً رئيسيةً، يمكن أن تَنحلَّ إلى ثنائيات لا تنتهي ولا تُحَل؛ إذ يَفْترِض مفهوم «الأصالة» هُوِيَّةً ذاتيةً تَمتدُّ في الماضي مُوغِلةً فيه، وهي الهُوِيَّة التي حدَّدها فيلسوفنا في بُعْد «الثقافة» بأبعادها الثلاثة؛ الدين، الفنون والآداب، الأعراف والتقاليد. أما جانب المعاصرة فيرتبط ارتباطًا بِبُعد «العلم»، الذي أبدعَتْه أوروبا في الأساس. وهكذا تنحل ثُنائية «الأصالة والمعاصَرة» إلى ثنائية أخرى هي ثنائية «العلم والثقافة». وإذا كانت هويتنا التاريخية تَتحدَّد بالأصالة/الثقافة، فإن نهضتنا وتقدُّمَنا لن يَتحقَّقَا إلا بإضافة — لاحِظ هنا مفهوم الجمع الرياضي — جانب المعاصرة/العلم إليها. هكذا نكرر أو نعيد ما تَوهَّمْنا أن أوروبا قد حقَّقَت نهضتها به، ويظل السؤال الأساس عن سر الأزمة سؤالًا مكبوتًا محبَطًا، ويظل الحديث عن تأويل العقائد أو نقد التراث — وهو ما حقَّقتْه أوروبا في سعيها لتُجاوِزَ عصورها الوسطى — حديثًا مُحرَّمًا.
هذه الإضافة بالجمع الرياضي لا تعني تحوُّلًا كيفيًّا، وغاية ما تُؤدِّي إليه هو التراكم الكَّمِّي المؤدي إلى ازدواج الوعي، وعي الفرد والأمة على السواء، حيث يَحْيا العقل ويُفكِّر طبقًا للقيم والأعراف والتقاليد الموروثة، بينما يحيا الجسد في العصر مُتمتِّعًا بكل ما أنتجه العلم، دون أن يكون له دَور مشارك في إنتاجه. والأمر بالنسبة للصفوة لا يختلف إلا في أنهم يمكن أن يُفكِّروا بطريقة عصرية، بينما تَتحرَّك مشاعرهم وعواطفهم ورغباتهم وفقًا للموروث الثقافي. وحين يتعارض الجانبان — الأصالة والمعاصَرة، أو لِنَقُل العلم والثقافة، أو جانِب الفكر وجانِب الوجدان، أو ما شئتَ من ثنائيات متفرعة — يكون «التلفيق» بينهما هو الحل، وهو تلفيق يجنح في الغالب إلى جانِب التراث/الأصالة. فإذا حدث تناقُض بين نتائج العلم وبين بعض النصوص الدينية: «كما حدث مثلًا عندنا وعند غيرنا من أصحاب الديانات الأخرى حيال النظرية الداروينية في تَطوُّر الحيوان تَطوُّرًا جعل الإنسان حلقة أخيرة من حلقات السلسلة، بينما يَرِد في النص القرآني الكريم، وكذلك في التوراة والإنجيل، ما يدل على أن كل كائن حي بصفة عامة والإنسان بصفة خاصة قد خُلِق على نحو ما خلق منذ لحظة خلقه بأَمْر إلهي قضى له بأن يكون فكان، فها هنا يتطلب الأمر مخرجًا لا ينتقص من الإيمان شيئًا، ثم يُحاوِل أن يرى الحقيقة العلمية في ضوء ينسق مع ما يقتضيه إيمان المؤمن إذا كان مثل ذلك المخرج مُستطاعًا، فَقَد يكون العلم أخطأ جَوْهر الحقيقة، وكذلك قد يكون في مُستطاعنا أن ننظر إلى الفارق النوعي الذي طرأ على ضُروب الحيوان عامَّةً وعلى الإنسان خاصَّةً فجعله نوعًا قائمًا بذاته على أنه — أي الفارق النوعي — هو المقصود في عملية الخلق بالنسبة إلى كل نوع على حدة. على أننا لا نُقدِّم هذا القول ليكون رأيًا نتمسك به» (ص٣٢٩، والتأكيد لنا).
في العبارة المؤكَّدة تَتجسَّد أزمة مشروع النهضة التنويري، كما يطرحه زكي نجيب محمود، وهو مشروع لم يبدأ من الصفر، بل الأحرى القول إنه مشروع ساهَم في صنعه. إنه المشروع نفسه الذي شارك فيه في مُقتَبَل حياته العلمية، حين وقع عليه الاختيار ليكون عضوًا في «لجنة التأليف والترجمة والنشر»، وهي اللجنة التي تُوزِّع نشاطها بين «إحياء التراث» من جهة، ومواصَلة حركة «الترجمة» عن التراث الغربي من جهة أخرى؛ أملًا في أن يثمر الجناحان — الأصالة والمعاصرة — في توليد حالة «الإبداع»، التي تحتاجها حياتنا الفكرية (انظر: ص٣٥، ١١٧). وعلينا أن نُلاحِظ أن هذا المشروع يُعَد امتدادًا لجهود الطهطاوي في الجانبين، وهو المشروع الذي يحاول حسن حنفي تطويره. بادئًا بتجديد التراث، ثم دارسًا للفكر الأوروبي «مقدمة في علم الاستغراب»، وخاتمًا ﺑ «من النقل إلى الإبداع»؛ أي إنه مشروع ما زال مطروحًا، رغم طابعه التلفيقي الواضح. هذه ملاحظتنا الأولى، أما الملاحظة الثانية فهي أن منهج التلفيق هذا ينتهي دائمًا إلى الجنوح ناحية الأصالة/الثقافة بكل ما تتلبس به من قيم ومفاهيم تراثية. إن ما يطرحه زكي نجيب محمود في النص السابق من ضرورة «البحث عن مخرج»، وما يقترحه بشأن هذا المخرج، لا يكاد يختلف عن أطروحات الخطاب الديني السلفي إلا في درجة الحسم واليقين والقطع التي يمارسها الثاني. لكن نبرة التردد والاحتمالية التي يلوذ بها خطاب التنوير لا تعني مُغايرَته التامة لنقيضه، ولعل في تلفيقيته الناتجة عن ثنائية تصوراته وأطروحاته، ما يُفسِّر لنا فَقْر حصاد التنوير، الفقر الناتج عن تجاهُل الأسئلة الحقيقية والالتفاف حولها، وترك تأثير تجاهلها يعمل في الخفاء.
يَتجلَّى الطابع التلفيقي لفكر النهضة التنويري على مستويات عديدة، تلتقي كلها في البحث عن حلول وسطى لكل المتناقضات التي يزخر بها الواقع الاجتماعي والثقافي من جهة، وفي البحث عن «مبدأ واحد» يُعَد بمثابة «العلة الأولى» أو «علة العلل» لتفسير أي تَعدُّديَّة، فكريةً كانت أم اجتماعيةً سياسيةً، من جهة أخرى. وإذا كان رد الفروع إلى أصولها والبحث عن مبدأ واحد يفسرها يُعَدُّ — من منظور زكي نجيب محمود — المهمة الجوهرية للفلسفة (انظر: ص١٥، ٣٥، ٤٤، ٤٥، ٤٦، ٦٨، ١٠٣، ٣٥٤)، فإنَّ البحث عن حلول وسطى لكل التناقضات التي يزخر بها الواقع الاجتماعي والثقافي يعكس موقفًا يَلُوذ بالسلامة، ولو على حساب التواطؤ الفكري والعقلي (انظر: ص١١٥، ٤٠، ٣٩، ٤٠٥، ٣٨٣، ٣٦٦، ٣٦٥، ٢٤٤، ٣٣٩، ٢٨٥، ٢٧٠، ٢٣٨، ٢٣٦، ٢١٣، ٢٠٢، ١٩٧، ١٧٢، ١٦٩، ١٦٨)، وكِلَا النمطين من البحث ينتهي في التحليل الأخير إلى وضع «العلة» كلها في حقل الخطاب الديني السلفي.
لكنَّ هناك فروقًا لا بُدَّ من الإشارة إليها والإشادة بها، ولو كانت فروقًا جزئية؛ لأن تلك الفروق هي التي تُمكِّنُنا اليوم من نقد خطاب التنوير نقدًا يستهدف تجاوزه لتأسيس خطاب تنويري لا يتجاهل الأسئلة المكبوتة والمُحرَّمة، خطاب لا يخشى المُغامرة، فينقل تلك الأسئلة من مستوى الكَبْت والتحريم إلى مستوى الإفصاح والعلن، نازعًا قناع التحريم ومُسلِّطًا عليها ضوء العقل. ولعل أهم تلك الفروق هو الحرص الدائم على طرح إشكالية «المنهج»، بوصفها الإشكالية التي تُميِّز العقل «المتسائل» من العقل «المُذعِن» من جهةٍ، كما أنها تُميِّز العقل القادر على إنتاج المعرفة من ذلك «القابل» للمعلومات للحفظ والتكرار، من جهة أخرى. تلك إشكالية طرحها التنويريون جميعًا، وما زال زكي نجيب محمود يُواصل طرْحَها بلا مَلل ولا تَعَب منذ كان أستاذًا للفلسفة بالجامعة، حتى كتاباته التي نُشِرَت في جريدة الأهرام. في هذا الفارق يَتجلَّى دور «المُعلِّم» و«المُرَبِّي» الذي حرص عليه التنويريون جميعًا، وهو الدور الذي قنعوا به، وأثَّروا من خلاله في أجيال لاحقة.
الفرق الثاني، وهو يرتبط بإشكالية المنهج ارتباطًا وثيقًا، هو التشديد الدائم على ضرورة وضوح الأفكار في ذهن المُتعاملِين بها، وهو الوضوح الذي يجب أن يَتجلَّى على مستوى التعبير عن الفكرة انطلاقًا من مبدأ أن «اللغة هي الفكر». ولولا استثناء التراث الديني من هذا الشرط، تأسيسًا على أنه يَنتمِي لمجال «الوجدان» والشعور، لأمكن لهذا المبدأ أن ينقل الخطاب التنويري إلى مرحلةٍ أخرى. إن تحليل اللغة، وصولًا إلى تحليل الفكر، هو الذي قادَنا إلى مفهوم «تحليل الخطاب»، والفارق بين المفهومين أن الأخير لا يُفرِّق بين خطاب وخطاب بناءً على اختلاف قَنَوات الإدراك عند الإنسان إلى عقلي ووجداني، ذلك أن «الإنسان» وحدة واحدة، مهما تَعدَّدت قنوات الإدراك والتعبير؛ لذلك لا يَسْتَبعِد نهج «تحليل الخطاب» من مجال فاعليته أي نمط أنماط الخطاب؛ السياسي والديني والثقافي والأدبي، وإن كان يفرق بالطبع بين أنماط الخطاب وفقًا لآلِيَّاته الذِّهْنِيَّة والعقلية من خلال الآلِيَّات اللغوية المُعبِّرة عنه.
٧
ولعل من أهم إنجازات خطاب التنوير المُميِّزة له عن الخطاب السلفي، نظرته الديناميكية للماضي والتراث. فرغم أنه يضعه — على سبيل التَّقِيَّة ربما في خانة «الوجدان» والشعور، التي لا تخضع لآليات التحليل العلمي ومنهجه، فإنه يُفَرِّق في التراث بين «المعقول واللامعقول». والأهم من ذلك أنه يقف في صف «المعقول»، ضدًّا للخطاب الديني السَّلَفي الذي لا يكتفي بالوقوف في صف «اللامعقول»، بل يعيد إنتاجه في ثقافتنا وواقعنا. هذا الانحياز للمعقول يمهد الأرض لتأصيل «تاريخية التراث الديني»، ومِن شأن إدراكِ هذه التاريخية أن تُؤدِّي إلى نَزْع قناع القداسة عن وجهه، وهو ما يُؤدِّي في نهاية الشرط إلى طرح كل الأسئلة الممكنة، بلا خوف، ولا تَردُّد ولا تَواطُئِيَّة تبريرية. إنها ممارَسة «الحرية» على مستوى الفكر والقول والفعل، الحرية التي اعتبرها التنويريون صرخة العصر، وشارة إنسانِه وشُعوبِه التي تسعى لقهر «الضرورة» على مستوى العلم بفهم قوانين الطبيعة والمجتمع، والحرية كما تتجلى في تعبيره الجميل عن أحلامه وأشواقه. إن ممارسة هذه الحرية في نقد التراث تُعَد شرطًا ضروريًّا في مشروع النهضة سعيًا لتغيير بِنْية العقل من «الإذعان» و«التَّقبُّل السَّلْبي» إلى حالة «التساؤل» و«إنتاج المعرفة»، وهل للتنوير معنًى دون هذا الشرط الجوهري؟
لكن هذا «التلفيق» المردود إلى النقص في وعي الطبقة، الناتج من طبيعة تكوينها الهَشِّ والجنيني، لا يزال يحتاج إلى مزيد من التعمق في التفسير؛ خروجًا من هشاشة التفسير الواحد الجاهز الذي يُفسِّر كل شيء. لكنه في الحقيقة قد يُؤدِّي إلى تفسير لا شيء حين يُساء فَهمُه ويُساء بالتالي استخدامُه. إن وعي الطبقة ليس إلا مُحصِّلة لتفاعل عناصر ثلاثة؛ حقائق وجودها الاجتماعي وشروطه أولًا، ممارساتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في حركتها ثانيًا، وتراثها الفكري والعقلي الذي تَستمِدُّه من ماضيها ثالثًا. وقد تم تحليل العنصر الأول تحليلًا كافيًا في كتابات كثيرة، وتم الاقتراب من العنصر الثاني اقترابًا ليس كافيًا لكن العنصر الثالث لا يَزال غائبًا عن محاوَلات التفسير والفَهْم، وهو العنصر الذي نَوَدُّ هنا الاقتراب منه اقترابًا استكشافيًّا. لكننا نَوَد قبل ذلك إلقاء مزيد من الضوء على العنصر الثاني الخاص بالممارَسة السياسية للصفوة الفكرية أو الإنتلجنسيا صاحبة مشروع معادَلة النهضة التلفيقي.
مع التسليم بأن معادَلة النهضة التي أَسَّس قواعدها رفاعة الطهطاوي لم تنشأ عن المشروع السياسي لإقامة الدولة الحديثة الذي أسَّسه محمد علي، فإنَّ أحد مَقاتِل معادَلة النهضة كان ذلك الحرص الدائم — من جانب رجال الحكم ومن جانب الإنتلجنسيا أيضًا — على التطابق بين «السياسي» و«الفكري»، أو بعبارة أخرى يمكن القول إن تحويل المشروع السياسي إلى مشروع فكري يُدْخِل «الفكر» في دائرة التبرير بالقَدْر الذي يتباعد به عن مهمته الأساسية، وهي التحليل والتفسير، والعكس صحيح أيضًا حين يَتبنَّى السياسي مشروعًا فكريًّا، ويطلب من المفكر معاونته في تحقيق المشروع على أرضِ الواقع الاجتماعي الاقتصادي سياسيًّا. في كلتا الحالتين تدخل الممارَسة داخل دائرة التبرير؛ حيث يُبرِّر الفكري الغايات النفعية المباشرة للسياسي في الحالة الأولى، ويُبرِّر السياسي الوسائل بالغايات في الحالة الثانية. هل نحتاج هنا إلى تأكيد حقيقة أن الفعالية الفكرية نوع من ممارَسة السياسة، ولكن بآليات الفكر، وأن الفعالية السياسية نوع من ممارسة الفكر ولكن بآليات السياسة؟! ومع ذلك يظل هناك اختلاف نوعي من حيث الآليات، إذ تنشغل السياسة — رغم أساسها الفكري، باليومي والمُتغَيِّر والمباشر في خِضَم انشغالها باتخاذ القرارات، في حين ينشغل الفكر — رغم دلالاته السياسية — بالجوهري والثابت والحقيقي الذي يَقْتَرب من حدود العلم.
والذي حدث في تاريخنا الحديث وربما الوسيط كما سنشير في الفقرة التالية أن التداخل بين السياسي والفكري قد أزال الحدود الفاصلة والمُميِّزة لكلٍّ منهما. لنتذكر مع غالي شكري هذه الملاحظات الخمس التي تُؤكِّد ذلك التداخل وتنبع منه في نفس الوقت؛ الملاحظة الأولى «أن الرواد الأوائل للنهضة في معادلتها التوفيقية وفي مختلف مراحل حياتها وموتها، كانوا دائمًا من رجال الدين وأئمته.» الملاحظة الثانية «أن علماء الدين يَمَّموا بوجوههم شطر الغرب وأساسًا فرنسا.» الملاحظة الثالثة: «أن هؤلاء الرواد قالوا بوضوح وحَسْم بأن الإسلام ليس ضد العلم والأخذ عن الآخرين.» والملاحظة الرابعة: «أنهم حين قالوا بذلك التوفيق بين طَرَفَي معادلة النهضة، فإنهم أُقِيلوا من الأزهر وصُودِرَت كتبهم، وأنهم تراجعوا خطوة أو خطوات سواء بالصمت أو بالرضا.» الملاحظة الخامسة: «أنه رغم العقاب الديني أو الحكومي … فإن النظام الاجتماعي والدولة قد أخذَا واقعيًّا بتنفيذ معادلة النهضة التوفيقية في الدُّستور والقانون وهياكل الحكم؛ كالأحزاب والبرلمان، والتشريع الاجتماعي كحرية المرأة وتكوين النقابات.»
وهناك سؤالان تثيرهما تلك الملاحظات الخمس الهامة جدًّا؛ السؤال الأول: أَيُّهما كان الأصل في صياغة معادَلة النهضة، المشروع السياسي لمحمد علي أم الرؤية الفكرية للطهطاوي؟ ولا شك في أن الإجابة عن هذا السؤال — بأن الأصل هو السياسي كما هو معروف من الوقائع التاريخية — تفضي إلى السؤال الثاني: لماذا يحدث «العقاب» الديني أو الاجتماعي أو السياسي، خاصَّةً إذا كانت «الدولة» تنهض في الواقع في تأسيس مشروعيتها على أساس من إنجازات مُفكِّريها؟! وبعبارة أخرى في صياغة السؤال: ما منشأ التعارض الذي يحدث بين السياسي والفكري فيؤدي إلى التضحية بالمُفكِّر ذاته، إن لم تحدث التضحية بالفكر؟! وقبل أن نجيب عن هذا السؤال نستعرض مَظاهر التعارض المتواترة في تاريخنا الحديث: نَفْي رفاعة الطهطاوي إلى السودان، ووَقْف النشاط الحيوي المتمثل في الترجمة إلى أجَل غير مُسمًّى في عصر الخديوي عباس الأول، نَفْي محمد عبده بعد فشل الثورة العرابية، وإبعاده من دون قرار رسمي — بعد عودته — من العمل بالأزهر خاصَّةً في مجال الفتوى للتدريس في دار العلوم والعكوف على تطوير التعليم، أزمة كتاب «في الشعر الجاهلي» وإبعاد طه حسين من الجامعة، وكذلك فَصْل علي عبد الرازق من هيئة كبار العلماء ومن القضاء الشرعي بعد نَشْر «الإسلام وأصول الحكم»، الأمر الذي تَكرَّر مع خالد محمد خالد، إلغاء رسالة الدكتوراه «الفن القصصي في القرآن» لمحمد أحمد خلف الله، وحرمان مُشْرِفها أمين الخولي من الإشراف على رسائل علمية في الموضوعات المُتَّصلة بالدين، وحين نصل إلى التاريخ القريب جدًّا جدًّا نشير إلى الاستدعاءات المتتالية من مباحث أمن الدولة للتحقيق مع كُتَّاب ومفكرين بشأن بعض الأفكار التي جاءت في كتبهم، والتي رأى الأزهر أو أحد رجاله أنها تتناقض مع بعض المبادئ الإسلامية. المُصادَرة الغريبة لكتب المستشار محمد سعيد العشماوي، وهو أحد المُثقَّفِين الذين لا يمكن حسابهم على المعارَضة السياسية بأي معنًى من المعاني، تطول القائمة التي تعكس تناقض جهاز الدولة السياسي في تعامله مع المثقف الذي لا يتناقض جذريًّا مع مشروعات الدولة وتَوجُّهاتها. ولا تفسير لذلك التناقض إلا بالتعارض الطبيعي الذي يمكن أن ينشأ بين الفكر من حيث هو فِكْر؛ أي من حيث هو فعالية نوعية مُستقِلَّة عن الفعالية السياسية ، وإن تضمنتها، وبين السياسة من حيث هي فعالية ذات طبيعة نوعية مُغايِرة رغم اعتمادها على الفكري. بالإضافة إلى ما سبق يَصعُب أن يقال في حالة «الدولة» في الواقع العربي الحديث والمعاصر: إن لها مشروعًا فكريًّا ثابتًا يتمتع باستمرارية سياسية. هناك مشروع اجتماعي، أعني في وعي الجماعة وفي ضميرها، قد تَقْترِب منه الدولة — بما هي جهاز طبقي — وقد تتباعد عنه، وفي ظِل غياب آليات مدنية ديمقراطية لانتقال السُّلْطة أو تداولها يترجرج المشروع الاجتماعي غيابًا وحضورًا، يلتقي أو يتقاطع أو يتناقض مع مشروعات الدولة، طبقًا لعلاقة الطبقة بغيرها من الطبقات الداخلية من جهةٍ، وطبقًا لعلاقاتها بمثيلاتها الخارجية من جهة ثانية.
ولأن معادلة النهضة الفكرية تولَّدت في رَحِم المشروع السياسي، ظل المفكر تابعًا للسياسي رغم كل مظاهر التناقض بل والصراع الدموي أحيانًا. وبسبب من ذلك التلازم العضوي، ومن عَجْز المفكر — لأسباب كثيرة — عن قطع «الحبل السُّرِّي» الواصل بين إنتاج الفكر وبين مُمارَسة السياسة، ظلَّت معادَلة النهضة في إطار «التلفيق» النفعي البراجماتي المباشر؛ أي ظلَّت ممارسة سياسية عينها على اليومي والمُتغَيِّر والمباشر، ولم تَتحرَّك داخل حدود الفكري — الثابت والجوهري والعلمي — إلا قليلًا، وكثيرًا ما تَمَّ التراجع عن هذا القليل بسبب عدم تأسيسه معرفيًّا؛ لذلك كله كثيرًا ما يتراجع الفكر، وقد يتراجع المفكِّر ويَرتَدُّ — والشواهد كثيرة — مع تراجُع المشروع السياسي، ويزدهر مع ازدهاره، ولعل هذا يفسر ازدهار الستينيات على جميع المستويات، حيث التقى المشروع الاجتماعي بمشروع الدولة الوطنية، كما يفسر أيضًا الانهيار العظيم حين تناقَض مشروع الدولة — السبعينيات والثمانينيات — مع المشروع الاجتماعي، فانهارت كل مظاهر ازدهار الستينيات.
وفي المأزق الحالي الذي يعانيه مشروع الدولة، بين ضغط الجماعات السَّلَفِيَّة وتَطرُّفها من جهةٍ، وضغط ما يُسمَّى بالنظام العالمي الجديد من جهةٍ أخرى، وذلك في ظل حالة التشرذم والتَّشظِّي العربية، وتَراجُع كل مشروعات العدل الاجتماعي لحساب سيطرة المشروع الفردي في سياق ازدهار الانفتاح الاقتصادي المعتمد على السمسرة أساسًا، تعددت المشروعات الطائفية لا الفكرية؛ ولأن الخطر الجاثم من هذه الطائفية أقسى من إمكانيات الدولة وحدها، بدأ النظام السياسي يَتوجَّه إلى المثقَّفِين والمُفكِّرِين طالبًا منهم العون، أعني من أولئك الذين تناقَض معهم إلى حدِّ النفي والسجن والفصل والحصار في أحسن الأحوال. وتظل الخشية أن يكون توجُّه النظام السياسي للفكر والثقافة — طالبًا العون والمساعدة — مُجرَّد تَوجُّه نفعي للخروج من أزمته الحالية الخانقة. لكن الخشية الأشد والأخطر والأقسى أن تكون استجابة المثقفين والمفكرين مرتهنة — بوعي أو بدون وعي — بالشروط النفعية البراجماتية للنظام السياسي.
وحتى لا نقع في المحظور — والوقوع فيه يعني السقوط الأبدي الذي يفتح الباب أمام المجهول — يجب أن نَتنَبَّه جميعًا إلى ما يُكرِّره غالي شكري من أن «معادلة النهضة قد سقطت نهائيًّا.» أعني تلك المعادلة التوفيقية التي انتهت إلى التلفيق فأعادتنا إلى «السلفية» التي حافظت المعادَلة على تَجذُّرها بالالتفاف حولها دون مواجهتها. لقد انتهت التلفيقية وسقطت، لكن الدولة ممثلة في نظامها السياسي لا تزال حريصة عليها. وإذا كان مطلوبًا من الفكر والثقافة حماية الدولة والدفاع عن نظامها السياسي، فإن إعادة إنتاج فكر النهضة، حتى في أرقى أشكاله ثورية، سيكون هو السلوك الغالب على خطاب الصفوة. سيتصور البعض أن إعادة إنتاج فكر النهضة بمعادلته التلفيقية كفيل بالقضاء على عوامل الركود الفكري والثقافي، وقد يحدث ذلك بالفعل لبعض الوقت، لكنه سيكون بمثابة حُقَن المُخدِّر المزيلة للألم لبعض الوقت، والتي يزول أثرها تدريجيًّا مع التعود. إن خطاب النهضة وفكر النهضة صار تراثًا يخضع للفهم والتفسير والتحليل، لا لإعادة إنتاجه وتسويقه على طريقة الانفتاح الاقتصادي. إن إعادة خطاب النهضة يُفضِي إلى نمطٍ جديد وغريب من السلفية، وإذا كانت السلفية الدينية تَستمِدُّ تراثها القريب من حسن البنا ورشيد رضا، وتستمد تراثها البعيد من الحنابلة والأشاعرة والصوفية، فإن السَّلفية التنويرية ستستمد تراثها القريب من الطهطاوي، والأفغاني، ومحمد عبده، وطه حسين … إلخ، في حين تستمد تراثها البعيد من المعتزلة وابن رُشْد. وفي الحالتين نحن داخل نطاق السلفية وإن تَعدَّدت الصفات المضافة إليها.
لقد آنَ الأوان أن يعي المفكِّر والمثقَّف العربي أن الحاجة إلى قَطْع «الحبل السُّرِّي» الواصل بين السياسي والفكري باتت قضية «نكون أو لا نكون»، وذلك بالطبع دون إنكار أن ممارَسة الفكر هي في عمقها ممارَسة للسياسة، وأن ممارَسة السياسة لا تنفكُّ عن قاعدة فكرية صريحة أو مُضْمَرة. إن للفكر آلياته وأهدافه، وللسياسة آلياتها وأهدافها ومن الخطر أن يتنازل الأول عن آلياته ليكون في خدمة الثاني، حتى في حالة تَبنِّي الدولة لمشروع فكري مُحدَّد الملامح أيديولوجيًّا، فواجب المفكر المنتمي إلى تلك الأيديولوجيا ألَّا يتنازل عن استقلاله لِيُبرِّر السلوك السياسي.
إن المفكِّر — أيًّا كان انتماؤه بشرط أن يظل مفكرًا — حارِسٌ للقيم ومُدافع عنها، ومكانه الدائم في صف المُعارَضة بمعناها الإيجابي. والذي أقصده بالمعنى الإيجابي للمعارَضة يستبعد المعنى السلبي الذي يفرض على المفكر المُعارِض أن ينتج أفكاره في سياق التعليق، ورَدِّ الفعل المباشر على أطروحات السياسي. إن المفكر يظل مُرتَهنا بمشروع السلطة السياسية، ولو كان في صفوف المعارَضة السياسية، طالما ظلَّت آليات إنتاجه للمعرفة تخضع لآليات السلوك السياسي. وعلى العكس من ذلك المعارَضة الإيجابية للفكر، التي تَتمسَّك بآليات الفكر وبقوانين إنتاجه ومنها كَوْنُ الفِكْر في جوهره ممارسةً سياسيةً.
٨
إن الارتباط — غير المشروع — بين الفكري والسياسي في تاريخنا العقلي لم يبدأ مع مشروع محمد علي السياسي في بداية القرن التاسع عشر. وكذلك لم تكن «التلفيقية» سِمةً لِمُعادَلة النهضة التي ارتبطت بمشروع محمد علي السياسي فقط، بقَدْر ما هي سِمَة أيديولوجية يمكن تَلمُّس مَظاهرها وتجلياتها على طول التاريخ العربي الإسلامي بصفة خاصَّة. ويبدو أن ثَمَّة علاقةً جديرةً بالكشف عنها بين الظاهرتين المشار إليهما، وقد ألمحنا إلى جانب من هذه العلاقة حين قُلنا إن تداخُل آليات إنتاج الفكر بآليات الممارَسةِ السياسية إلى حدِّ التطابق يفضي إلى نوع من البراجماتية الفكرية. ولا شك أن «التلفيقية» تُعَد الآلية الأساسية في السلوك البراجماتي، ذلك أن «الحقيقة» في هذا السلوك تكون كذلك، أي تكون حقيقةً لأنها نافعة. في حين أن المنطق الفكري — المبني على آليات إنتاج المعرفة — يقوم على أساس أن «الحقيقة» نافعة؛ لأنها كذلك — أي لأنها «حقيقة» وليس لأي عِلَّة خارج كونها حقيقةً. وحين يتم هذا الربط بين «الحقيقة» و«المنفعة» على أساس أن الثانية الأصل، والأولى مُترتِّبة عليها، تَظل عمليات اكتشاف الحقيقة — بالمعنى البراجماتي — (أي عمليات إنتاج الفكر) تعتمد على التزييف المتواصل، التزييف الذي يربط بين أشياء لا رابطَ بينها، ويستنتج من المُقدِّمات ما لا تَتضمَّنه بأيِّ حال من الأحوال، وتلك كلها عمليات ذهنية يُمثِّل «التلفيق» لُحْمتها وسُداها. ليس معنى ذلك أن البحث عن «الحقيقة» — طبقًا لآليات التفكير الحق — بحث عن حقيقة ثابتة جوهرية متعالية قائمة «هناك» في المطلق. بل نحن في إطار الحديث عن «الحقيقة» النِّسْبية بالنِّسْبة لتطوُّر الوعي في سياق اجتماعي ثقافي مُحدَّد يصوغ رؤية للعالم تُحدِّد إطار المعرفي بنفس القدر الذي يساهم به المعرفي في تطوير تلك الرؤية وتحريكها. إن الفارق بين القانون العلمي — أو الحقيقة العلمية في العلوم الطبيعية — وبين الحقيقة في العلوم الإنسانية ليس فارقًا بين «العلم» و«الأيديولوجيا»، بل هو في الأساس فارق بين «حقائق» تجريبية يمكن التَّثبُّت من صدقها أو كذبها بصرف النظر عن المكان والزمان، وبين «الحقيقة الثقافية» التي تكون صادقة وصحيحة في سياق وضْع اجتماعي إنساني مُحدَّد بسياق تاريخي مُتميِّز.
هذا التداخل بين السياسي والفكري إلى حدِّ التطابق أحيانًا، وما يفضي إليه من تَلْفِيقيَّة — تُسَمَّى «توفيقية» على سبيل التحسين — له حضور ملموس في تاريخنا العقلي والثقافي. وذلك منذ تَحوَّل الدين — الإسلام بصفة خاصَّة — إلى أرض المعركة التي يدور فيها الصراع الاقتصادي والاجتماعي، ومن ثَمَّ السياسي، وهي المعركة التي لا تزال دائرة حتى الآن على الأرض نفسها؛ أرض تأويل النصوص الدينيَّة لتنطق بهذا الموقف أو ذاك، ولا شك أن المشروع الإسلامي — الذي يمكن استنباطه من النصوص والمواقف والممارَسات في حياة مُؤسِّسه الأول — مشروع عربي إنساني. ومن المُؤكَّد أنه مشروع ضد طائفية القبيلة. وضد عصبية العرق والدم، ولو كان عربيًّا. إنه مشروع عربي ثقافي إنساني حضاري، وبِقَدْر إدراك هذه الحقيقة كان المشروع يَتقدَّم، وبِقَدْر إغفالها كان المشروع يَتعثَّر. وتاريخ العثرات في السياق التاريخي للإسلام هو في الحقيقة تاريخ إغفال تلك الحقيقة.
الحل الوسط «التلفيقي» لخلاف أهل الرأي وأهل الحديث قدَّمه الإمام الشافعي، لكنَّه حلٌّ يُمثِّل انحيازًا واضحًا لأهل «الحديث». على صعيد مِحْوَر الخلاف الأول أنجز الشافعي مسألة استقلالية السُّنَّة بالتشريع، وبذلك جعَل النص الثانوي مُساويًا للنص الأول الأساس في قوة الالتزام التشريعي، وعلى صعيد مِحْوَر الخلاف الثاني وضع مجموعة من الضوابط لقبول أحاديث الآحاد، وكلها ضوابط تتصل بالرواية؛ أي في التَّحقُّق من اتصال سلسلة السَّنَد وصِدْق الرواة، وذلك دون أن يدخل في «الدراية»؛ أي في مدى «معقولية» مَضْمُون النص. وهكذا يكون الشافعي قد كرَّس «النَّصِّيَّة»، وحدَّد لفترة طويلة — ما نزال نعيش آثارها حتى الآن — أسبقية سُلطة النصوص على سُلطة العقل والخبرة الإنسانية. والحل الوسط الذي قدَّمه الشافعي على مستوى علم أصول الفقه قدَّمه الأشعري على مستوى علم العقائد، أو علم أصول الدين. ومن أهم إنجازاته التلفيقية مَقولة «الكسب» لحل التعارض بين «الجَبْرية» و«القَدَرية»، وهي مقولة تَنحاز في التحليل الأخير إلى «الجبرية» من باب خلفي.
لكن أخطر إنجازات الأشاعرة التلفيقية ارتبطت بقضية «الكلام الإلهي» بين «القِدَم» و«الخَلْق»، حيث انتهوا، إلى أن للكلام جانبين، جانب القِدَم من حيث هو صِفَة قديمة من صفات الذات الإلهية مُرتبطة بالعلم، وجانب الحدوث أو «الخَلْق» من حيث هو أصوات مَنطوقة تُحاكي الكلام القديم. وبارتباط الكلام الإلهي بالعلم اكتسب صفة الأزلية، وتحدَّد معناه في منطقة عالم الملكوت التي يجب أن يسعى الإنسان للاتصال بها بحثًا عن المعنى الديني للكلام الإلهي في أزلية وإطلاق. وهكذا أتاح الأشعري الفرصة لأبي حامد الغزالي لكي يَثِبَ وَثْبَته الأخيرة للربط بين الحنبلية والأشعرية والتصوف من جهة، والربط بين ذلك كله وبين الشافعية منهجًا في التفكير الفقهي من جهة أخرى.
هذه الخطيئة الكبرى أكسبت «ابن حنبل» تعاطف جماهير المسلمين الذين انتصروا للسُّنَّة والسلفية ضد عَسْف المأمون والمعتزلة. وهكذا أدَّى الانصياع إلى مبدأ «الغاية تُبرِّر الوسيلة» إلى القضاء على الغاية ذاتها؛ ذلك لأن الأفكار مهما كانت عظيمة وهامَّة وفي صف الناس تحتاج إلى اقتناع الناس بها؛ أي إلى أن تَتحوَّل إلى معرفة شائعة مُتاحة للبشر جميعًا، تحتاج إلى أن تخرج من ضيق النُّخْبة أو الصَّفْوة إلى اتساع الثقافة العامة، وهذه نقطة سنعود لها في فقرتنا الأخيرة من هذا البحث.
علينا ألا ننسى في هذا السياق أن ابن رشد الذي أُحْرِقَت كُتُبه الفلسفيةُ بعد وفاته كان في حياته «قاضي قرطبة» أي كان يُمثِّل المُثقَّف المَرْضِي عنه من جانب السُّلطة السياسية، إنه رفاعة الطهطاوي أول، لكن نفيه حدث بعد أن غادَر الحياة.
هل يمكن القول بعد هذا الاستعراض بأن التداخل بين السياسي والفكري، بما يُفْضي إليه من «تلفيقية» وتبريرية، تَتمتَّع بعمق ثقافي وفكري في الذاكرة العربية يتجاوز حدود تَكوُّن الطبقة الوسطى، بما أحاط بهذا التَّكوُّن من ظروف وملابسات؟! وهل يمكن — بناء على ذلك — افتراض أن هذا التراث يُمثِّل أحد عناصر التكوين الهش والهَجِيني لتلك الطبقة، بمعنى أن الفكري التراثي ربَّما هو جزء من نَسيج الذاكرة — له تأثيره على الاقتصادي/الاجتماعي من منظور أن الْبِنى — التحتية والفوقية — تتفاعل في جدَلِيَّة مُعقَّدة، تَتجاوَز مسألة أولية الاقتصادي/الاجتماعي على الثقافي الفكري؟!
ربما تصح مسألة «الأولية» في شكلها البسيط وفي فهمها الساذج في حالات التَّكوُّن الجنيني المغرق في البدائية للتَّشكُّلات الاجتماعية في تاريخ البشرية. لكن بعد أن انتقل الواقع البشري من مرحلة التاريخ الطبيعي إلى مرحلة التاريخ الاجتماعي يصعب تَصوُّر تلك الأولية في شكلها البسيط والساذج. إن سيادة الذهنية التلفيقية التبريرية على مُجْمَل نشاط العقل العربي حتى الآن يُمثِّل في حدِّ ذاته دليلًا يُناقِض هذه الأولية، بما أن المجتمعات العربية قد حدث فيها تحولات اقتصادية اجتماعية لا يمكن إنكارها. ورغم ذلك فإن تلك التحولات لم تُحْدِث قطيعةً مع الذهنية التي لا تزال ماثلة حتى هذه اللحظة.
٩
بقيت نقطة هامة وأخيرة ربما تساعدنا على فَهْم سبب إخفاق مشروع النهضة بمعادلته، «التوفيقية» التي أفضت به إلى التلفيقية في التحليل الأخير؛ أي أفضَتْ إلى إلغاء التوفيقية ذاتها والانحياز الكامل لهذا الطرف أو ذاك من أطراف المعادلة وسواء كنا نتحدث عن المظهر السياسي — منذ محمد علي إلى جمال عبد الناصر — أو عن المظهر الفكري — منذ رفاعة الطهطاوي إلى حسن حنفي — لمعادلة النهضة، فنحن في إطار مشروعات نخبوية تستبعد الجماهير — صاحبة المصلحة في تحقيق المعادلة — استبعادًا تامًّا من مجال اهتمامها، أعني من مجال المشاركة الفعلية في صياغة المشروع أو في تحقيقه، الأمر الذي يُفْضي إلى تقدُّم الجماهير — في لحظات الانكسار لحماية المشروع من السقوط النهائي. لم تشارك الجماهير في أيٍّ من هذه المراحل، ومن ثم لم يجد المشروع — في لحظات اصطدامه بالخارج الساعي إلى السيطرة والهيمنة — مَن يحميه ويدافع عنه.
كان «التعليم» هو محور اهتمام النخبة، سواء السياسية أو الفكرية، لكن التعليم كان بالنسبة للنخبة السياسية محدودًا بهدف خدمة المشروع السياسي من تخريج المهنيين والخبراء في المجالات العملية المختلفة، وكان يمثل بالنسبة للمفكرين وعاءً للتنوير العقلي، وتحقيق الاستنارة المُفْضِية إلى تحديث المجتمع. وفي لحظات الانكسار كان أول مِعوَل يُوجَّه إلى هدم التعليم وإغلاق المجلات ومُصادَرة الصحف وتضييق نشاط المفكِّر إلى أبعد مدًى. ورغم أهمية المشروع الذي تقدَّم به طه حسين في «مستقبل الثقافة في مصر» بل وأهمية «المرشد الأمين بتعليم البنات والبنين» لرفاعة الطهطاوي، فقد كان تحقيق أي مشروع من هذين مُرتهنًا بالإرادة الحرة المطلقة لشخص الحاكم. والدليل على ذلك تأكيد محمد عبده لأهمية دور المُستبِد العادل في تحقيق الاستنارة وتحديث المجتمع انطلاقًا من تنفيذ مخطط تعليمي يحقق هذه الأهداف.
إنها حالة «المثقف» المُنتِج للثقافة — والأدب والفن — والمُغتَرِب عن نِتاجه في الوقت نفسه؛ لأنه ينتجه تحت وصاية سُلطة، قد يتجاوب معها فيتوقَّع منها الاستجابة لخطابه، وقد يَتعارض معها، فيكون اصطدامه بها «مفسرًا» كافيًا، و«مبررًا» في الوقت نفسه لعُزْلَته عن الجماهير وانفصاله عن المساهمة في تحديث وعيها.
لقد أثبتت التجربة أن «التعليم» وإصدار «صحيفة» أو «مجلة»، أو المساهمة نشاط حزبي محاصَر — كما هو الحال الآن في العالم العربي — ليس كافيًا، رغم أهمية التعليم والصحيفة والمجلة والحزب. إنه ليس كافيًا في سياق الشروط الراهنة التي تجعل من السهل تغيير نظام التعليم، ومن السهل إغلاق الصحيفة وإلغاء تصريح إصدار المجلة، ومحاصرة نشاط الحزب. ومعنى ذلك أنه لا بُدَّ من تَغْيِير الشروط الراهنة، وعلى رأسها الخروج من عنق الزجاجة المتمثل في حُكْم النُّخَب العسكرية أو القَبَلية أو الطائفية المُستَنِدة إلى حقوق الوراثة المُرتَكِزة على مبدأَي «القوة» و«القهر»، لا البوليسية وحدها، بل وسائل القهر الثقافية المتمثِّلة في السيطرة التامة على التعليم — خاصَّةً الجامعات — وفي السيطرة التامَّة على أجهزة الإعلام من إذاعة مسموعة ومَرئية ومن صحافة إعلامية مُتخصِّصة.
لا بُدَّ مِن كسر احتكار السُّلطة، واحتكار ما يُمثِّل أدوات صُنع الوعي وصياغة الذاكرة على مستوى كل شعب من الشعوب العربية، وعلى مستوى الأمة كلها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالنضال من أَجْل إقرار التعدية وممارستها على مستوى الفكر وعلى مستوى المجتمع وعلى مستوى السياسة. إنها الديمقراطية بمعناها الشامل، ديمقراطية العقل، وديمقراطية الحياة المُتمثِّلة في حق البشر المتساوي في المشارَكة في جَنْي ثمار الناتج القومي، وديمقراطية السياسة المتمثِّلة في حق تداوُل السُّلطة وحق المشارَكة فيها عَبْر المؤسَّسات الاجتماعية والثقافية والسياسية.
وعلينا أن نَتَّفق جميعًا — دون تبرير — أن التعددية تعني حق «الجميع» دون استثناء. وهذا التأكيد ضروري في سياق التوترات السياسية الناشئة عن أن «الجميع» ينادي بالديمقراطية ويُغَنِّي لها، لكن «البعض» سرعان ما يَتنكَّر لها إذا أثبتت أن الجماهير — طبقًا لمستوى وعيها الراهن — اختارت غيره.
إن مُمارسة الحياة ليست مشروطة دائمًا بشروط الذات على أي صعيد من الأصعدة، بل هي مشروطة بقُدرة الذات على استثمار الشروط الموضوعية الراهنة من أجل إمكانية تغييرها — بالفهم العلمي — في المستقبل. الديمقراطية التي هلَّل الجميع لقتلها في الجزائر بدبابات الجيش ومصفَّحاته، خَشْية أن يقتلها الإسلاميون المُنتصرون عَبْر صناديق الانتخابات — هذه الديمقراطية قُتِلَت على أي حال، لن يجدي أن يكون قاتلها الإسلاميون أو العسكر، طالما أن «الخشية» — مجرد الخشية — من احتمال القضاء على الديمقراطية إن جاء الإسلاميون للحكم قد أفضى إلى تحويل «المُحتَمل» أو «الممكن» إلى فعلي واقعي. إنه الانتحار السياسي، بل والعقلي، استنادًا إلى المثل العربي — ولاحظ الاتفاق — «بِيَدي لا بِيَد عمرو.»
سنجد أن حالة الانتحار الجزائرية — والعربية أيضًا — تجد تبريرًا آخر لها بعيدًا عن «التواطؤ» الناتج عن النهج التلفيقي التبريري في العقل العربي الراهن. سنجد هذا التبرير في إعادة إنتاج المبدأ الفقهي القديم: «درء المفاسد مُقدَّم على جلب المصالح»، وهكذا نعود مرة أخرى — من خلال العقل السياسي المناهض للعقل الديني على مستوى البنية السطحية — إلى الكشف عن تجذُّر حالة الاتفاق بين المثقَّف والسياسي على عَزْل الجماهير وحرمانها من ممارَسة حقها الطبيعي في الاختيار. إذا كانت الجماهير — بسبب نقص وعيها — ستختار «حلًّا إسلاميًّا» فإن من حقها أن تمارِس تجربة اختيار هذا الحل، وعليها أن تدفع الثمن اللازم لاستكمال وعيها التاريخي والاجتماعي، إن وصاية المثقف والسياسي تنتهي كلتاهما إلى نتيجة واحدة. الدكتاتورية السياسية المُطْلَقة من جهةٍ، وكَهنُوتِيَّة الفكر من جهة أخرى، ذلك أن «الوصاية» على الجماهير — استنادًا إلى نقص وعيها — يفضي إلى تثبيت هذا الوعي الناقص وتأبيده.
إن التعليم والصحافة والأحزاب والإعلام مجرد أدوات لتشكيل الوعي الذي لا يتحقق كاملًا إلا من خلال انصهار الشعوب في التجربة التي حرمت منها على امتداد تاريخنا، بدعوى «الحماية» من الفتن والحروب إلخ. هل نجحت «الوصاية» حقًّا في حماية شعوبنا العربية من كل ذلك؟! على المُثقَّف قبل السياسي أن يُقِرَّ أن «الفكر» ليس وظيفة تَمنحه سُلطة «الأب» و«الوصي» و«الحامي». وعليه مِن ثم أن يسعى — بآليات الفكر الحقيقية — لممارسة الفكر في الحياة خارج منطق «التعالي» الذي ينظر للوظائف الأخرى في الحياة الاجتماعية نظرة دونية. من هنا يمكن للمفكِّر أن يُسلِّم بحق الجماهير في اختياراتها. دون أن يوقفه ذلك عن العمل الحثيث للانتقال بالفكر من مساحة «الكهنوت» ومن داخل جدران «المعابد» ولو اتخذت مُسمَّيات أخرى — إلى الساحات والتجمعات.
لن يكون للفكر ولا للثقافة دور إلا بأن تشيع وتنتشر بكل الوسائل الممكنة والمتاحة، بالكلمة المكتوبة والمُذاعة والمرئية، بالكتاب والمتحف والمعرض، والأهم من ذلك إشاعة روح العلم، لا بين الجماهير فحسب، بل بين النخبة والصفوة أساسًا.
ويحتاج تحقيق ذلك كله إلى تغيير الشروط الراهنة للحياة السياسية والاجتماعية بالحِرْص على ترسيخ «التعددية» وممارستها. ويبقى الشرط الأَوَّلي لممارَسة تعددية حقيقية.
البدء وعلى الفور في قطع «الحبل السُّرِّي» الذي يربط المفكِّر والمثقَّف والسياسي، والعمل على استقلال أدوات إنتاج المعرفة بكل فروعها من العلوم إلى الأغاني والأناشيد، مرورًا بالفلسفات والفنون والآداب، عن سُلطة السياسي. إن السياسة — فيما يقال — هي فن تحقيق الممكن، أما المعرفة فهي فن بناء المستقبل وتحقيق المستحيل.