التاريخية: المفهوم المُلْتَبِس
١
كثير من العَدَاء في مجال الفكر بصفة خاصَّة يرتد إلى «عدم الفهم» أو إلى عمليات «التباس» ناتجة عن سيطرة نزعة تتصور أن ما في «لأذهان» مُطابِق مطابقة تامَّة «لما في الأعيان» وتتزايد درجة «الالتباس»، وما تفضي إليه من «عدم الفهم»، وما يترتب عليها من «عداء» ورفض، حين يكون «ما في الأذهان»، قديمًا راسخًا؛ لأنه يكتسب من «القِدَم» صفة العراقة التي تضفي عليه مشروعية لا يجوز المساس بها أو الاقتراب منها؛ لأنها مشروعية مُقدَّسة.
كثيرة هي الأفكار التي يحدث لها ذلك في أذهان العامة؛ لذلك تكون مقاومتهم لما يناقض أفكارهم تلك، أو حتى يخالفها مخالفةً جزئيةً؛ مقاومةً عنيفةً، هي مقاومة الكاهن لما يتصوره ضدَّ المقدَّس الذي تقوم عليه حياته كلها. كل ذلك طبيعي ومفهوم بالنسبة للعوامِّ، لكن الظاهرة حين تطال المُثقَّفين والنخبة من رجال الثقافة والإعلام، ومن المُعلِّمين وأساتذة الجامعات تصبح علامةً على وجود أزمة عقلية تُنذِر بكارثة. وحين تتجاوز الظاهرةُ حدود العامَّة والنخبة، وتصل إلى عقول المُتخصِّصين يكون ذلك دليلًا على وقوع الكارثة. وهذا هو الحاصل في مَجال الفكر الديني، وعند كثير من علمائه المُختَصِّين.
من أخطر تلك الأفكار الراسخة والمهيمنة، حتى صارت بسبب قِدَمها ورسوخها جزءًا من «العقيدة»، فكرة أن القرآن الكريم الذي نزل به الوحي الأمين على محمد ﷺ من عند الله سبحانه وتعالى؛ نصٌّ قديم أزلي وهو صفة من صفات الذات الإلهية؛ ولأن الذات الإلهية أزلية لا أول لها فكذلك صفاتها وكل ما يصدر عنها. والقرآن كلام الله فهو صفة من الصفات الأزلية القديمة؛ أي إنه قديم، وكل مَن يقول إنه «مُحْدَث» وليس «قديمًا»، أو إنه «مخلوق» لم يكن ثُمَّ كان — أي حدَث في العالَم — فقد خالف العقيدة واستحق صفة «الكفر». فإن كان مَن يقول ذلك مسلمًا فالحكم عليه أنه «مُرتَد»؛ لأن قِدَم القرآن — أي عدم خلقه وحدوثه — من مفردات العقيدة التي لا يكتمل إيمان المسلم إلا بالتسليم بها.
والحقيقة أن مسألة طبيعة القرآن — هل هو قديم أم مُحْدَث — مسألة خلافية قديمة بين المفكرين المسلمين. وقد ذهب المعتزلة مثلًا إلى أن القرآن مُحْدَث مخلوق لأنه ليس صفةً من صفات الذات الإلهية القديمة. القرآن كلام الله، والكلام فِعْل وليس صفةً، فهو مِن هذه الزاوية ينتمي إلى مجال «صفات الأفعال» الإلهية ولا ينتمي إلى مَجال «صفات الذات»، والفارق بين المَجالَين عند المعتزلة أن مجال صفات الأفعال مَجال يمثل المنطقة المشتركة بين الله سبحانه وتعالى والعالَم، في حين أن مجال «صفات الذات» يمثل منطقة التفَرُّد والخصوصية للوجود الإلهي في ذاته؛ أي بصرف النظر عن العالَم، أي قبل وجود العالم وقبل خلقه من العدم. وتفصيل ذلك أن سُنَّة «العدل» الإلهي لا تُفْهَم إلا في سياق وجود مجال لتحقق هذه الصفة، وليس من مجال إلا العالَم. وصفة «الرازق» تتعلق بالمَرْزُوق؛ أي وجود العالم … إلخ. وإلى هذا المجال «مجال صفات الأفعال» تنتمي صفة «الكلام» التي تستلزم وجود «المخاطب» الذي يتوجه إليه المُتكلِّم بالكلام، ولو وصَفْنَا اللهَ سبحانه وتعالى بأنه متكلِّم منذ الأزل — أي إن كلامه قديم — لكان ذلك أنه كان يتكلَّم دون وجود مُخاطَب؛ لأن العالَم كان ما يزال في العدم وهذا يُنافي الحكمة الإلهية. أما صفات الذات فهي تلك التي لا تحتاج لوجود العالَم؛ كالعِلم والقُدرة والقِدَم (الأزلية) والحياة، فالله كما يقول المعتزلة عالِم لنفسِه قادِر لنفسه قديم لذاته حيٌّ لذاته. ومن هذه الصفات الأربعة أوجَد العالَم، فلولا الحياة والقِدَم والعِلْم والقدرة ما وجد العالم. ولذلك اضطر المعتزلة للاتساق مع سياقهم الفكري والعقلي إلى افتراض أن العالَم كان له مستوًى من الوجود في العدم أطلقوا عليه «الوجود الشيئي في العدم» وذلك ليكون هناك مخاطَب بقوله تعالى: كُنْ التكوينية التي يخاطب بها الأشياء فتكون.
ذهبت بعض الفرق الأخرى إلى عكس ما ذهب إليه المعتزلة، فقالوا إن الكلام الإلهى صفة من صفات الذات، وذهبوا بالتالي إلى أن القرآن كلام الله الأزلي القديم؛ لأنه صفة ذاته، والشاهد في هذا كله أن تحديد طبيعة القرآن مسألة خلافية بين المسلمين. وقد حاوَل الخليفة المأمون أن يفرض فكرة المعتزلة على العلماء والفقهاء بقوة السُّلطة وسيف السلطان لكنه فشل. وتم على العكس فَرْض فكرة الأشاعرة التي قالت إن القرآن له جانبان، جانب القِدَم والأزلية وهو الكلام الإلهي في ذاته وأحيانًا يُطلِقون عليه «الكلام النفسي القديم»، والجانب الآخَر هو القرآن الذي نقرؤُه، وهو محاكاة للكلام الأول وليس هو. وهذه الفكرة التي سادت تم اختصارها بعد ذلك في كُتُب التلخيصات المتأخِّرَة على النحو الذي ساد واستقر وشاع وصار من «العقائد» التي يقال إن مُخالفَتها خروج عن المِلَّة، بل هو كُفر بالإسلام وارتداد عنه.
هنا يجب أن نلتفت إلى أن سيادة الأفكار وهيمنتها تم وما زال يتم بأدوات القهر والقمع السلطوي، وكما حاوَل المأمون فرض فكرة المعتزلة حاوَل خلفاؤه قَتْل فكرة المعتزلة وفرض فكرة خصومهم، وفي سياق الانهيار الحضاري والتَّخلُّف الفكري الذي أصاب العالم الإسلامي بفعل عوامل التَّفتُّت الداخلي والهجوم الخارجي — والمستمر حتى هذه اللحظة — استقَرَّت الفكرة، ولُخِّصَت وشُوِّهَت واكتسبت قداستها عند العامَّة والخاصَّة، بل وعند المتخصصين.
ليس مفهوم أزلية القرآن إذن جزءًا من العقيدة، وما ورد في القرآن الكريم عن «اللوح المحفوظ» يجب أن يُفْهَم فهمَا مجازيًّا — لا فهمًا حرفيًّا — مثل «الكرسي» و«العرش» … إلخ. وليس معنى حفظ الله سبحانه للقرآن حفظه في السماء مُدوَّنًا في اللوح المحفوظ، بل المقصود حفظه في هذه الحياة الدنيا، وفي قلوب المؤمنين به، وقول الله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ لا يعني التدخل الإلهي المباشر في عملية الحفظ والتدوين والتسجيل، بل هو تَدخُّل بالإنسان المؤمن بالبشارة والحضِّ والحثِّ، والترغيب على أهمية هذا «الحفظ». وفَهْمُ «الحفظ» بأنه تدخُّل مباشر من الزاوية الإلهية فَهْم يدل على وَعْي يُضادُّ الإسلام ذاته من حيثُ إنه في جوهره الدين الذي أنهى العلاقة المباشرة بين السماء والأرض إلا عن طريق التوجُّهات والإرشادات المُضمَّنة في القرآن الكريم وفي سُنة الوحي الثابتة عن النبي ﷺ وحين يصف التصور الذي يذهب إلى أن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ باللغة العربية، كل حرف منه يُقدَّر بحجم جبل يسمى جبل «قاف»، حين نقول إن هذا تَصوُّر أسطوري، فالوصف خاص بالتصور الذهني مهما كانت الروايات التي تدعمه، ولا ينصرف الوصف نفسه «أسطوري» إلى القرآن الكريم ذاته، والمأساة الحقيقية أن يصر بعض المتخصصين على «عدم الفهم» ويستمروا في «التلبيس» على العوامِّ وعامَّة المثقفين؛ لأنهم يَتصوَّرون — مرة أخرى يتصورون — مُطابَقة ما في أذهانهم (أفكارهم المُستمَدة من بعض الآراء التراثية) لِمَا في الأعيان؛ أي للحقيقة المُطلَقة، ثم يزعمون بعد ذلك كله أنهم لا يؤمنون بالكهنوت، ويزعمون أنهم مع حرية الفكر لا مع «الكفر»؛ فأيُّ «كفر» هنا؟ وأي «فكر» هناك؟!
٢
الفكرة الثانية التي تتعلق بهذا الموضوع، والتي أصابها كثير من الفهم الذي يفضي إلى الضلال والتضليل، هي مسألة تَعلُّق الفعل الإلهي بالقدرة الإلهية وعلاقة كلٍّ منهما بالآخر. وهنا نعود إلى التفرقة التي وَضَع أساسها المعتزلة بين القُدْرة والفِعْل في تَصوُّر الحقيقة الإلهية. القدرة الإلهية مُطلَقة لا حدودَ لها على الإطلاق بحكم أنها صفة من صفات الذات الأزلية القديمة، هذا من ناحية، ولكنها — القدرة — من ناحيةٍ أخرى تمثل «الإمكانيات» غير المتناهية للأفعال، والتي ليس من الضروري أو اللازم أو الحتم أن تتحقق، أي تنتقل من الإمكانية إلى «الفعل»، هذه التفرقة بين «القدرة» بوصفها مجموعة الإمكانيات القابلة للتَّحقُّق نظريًّا، وبين الفعل بوصفه التحقق العيني للقدرة، هي التفرقة التي أقرَّها العلماء المسلمون في مقولة هامة من مقولاتهم وهي «ليس كل مقدور مُحتَّم الوقوع». إذا كانت القدرة الإلهية مطلقة، فإن مقدوراتها من الأفعال كذلك لا تتناهى، ولكن العالم مُتناهٍ من حيثُ بنيته في الزمان والمكان، وهذا دليل على أن إمكانات القدرة الإلهية لا تتطابق مع الأفعال بأي معنًى من المعاني.
الأفعال إذنْ تتعلَّق بالعالَم الممكن وإن كان مصدرها وجذر فاعليتها كامنًا في القُدْرة المطلقة، وهي من حيث التعلق بالممكن التاريخي تظل مُحايِثة للتاريخ، أول الأفعال الإلهية إيجاد العالم، إخراجه من ظُلمة العدم إلى نور الوجود، حسب تَعبير أبي حامد الغزالي في «مشكاة الأنوار». هذا الفعل يُعَد بمثابة افتتاح للتاريخ؛ لأنه الفعل الذي افتتح مفهوم «الزمن». «خلق العالم» إذن يُعَد واقعةً تاريخية في ذاته، أي من حيث كونه «حدثًا» غير مسبوق إلا في «العلم الإلهي» على هيئة مَشروعٍ لا ندري كُنْهَه؛ لذلك نقول جميعًا إن العالَم «مُحْدَث» ولا خلاف حول مسألة «حدوثه» التي لا تعني شيئًا سوى زمانيَّته وتاريخيته، والذين ذهبوا في تاريخ الفكر الإسلامي إلى القول بأن العالم «قديم» إنما كانوا يَتحدَّثون عن المادة التي صِيغ منها العالَم؛ أي الهَيُولَى حسب المصطلح الأرسطي، ولكن قولهم بقِدَم المادة لا يعني بالضرورة إنكار تاريخية إيجاد العالم. مفهوم التاريخية إذن مُحايِث لوجود العالم — أو بالأحرى لعملية إيجاده — سواء كان هذا الوجود «خَلْقًا» من عدم أم كان «صُنعًا» لا من مادة قديمة.
التاريخية هنا تعني الحدوث في الزمن، حتى لو كان هذا الزمن هو لحظة افتتاح الزمن وابتدائه، إنها لحظة الفَصْل والتمييز بين الوجود المُطلَق المتعالي — الوجود الإلهي — والوجود المشروط الزَّمَاني، وإذا كان الفعل الإلهي الأول — فعل إيجاد العالم — هو فِعْل افتتاح الزمان فإن كل الأفعال التي تَلَت هذا الفعل الأول الافتتاحي تظل أفعالًا تاريخية، بحكم أنها تَحقَّقتْ في الزمن والتاريخ، وكل ما هو ناتج عن هذه الأفعال الإلهية «مُحْدَث» بمعنى أنه حدَث في لحظةٍ من لحظات التاريخ، هكذا يتم التمييز بين «القُدْرة» الإلهية «والفعل» الإلهي على مستويين:
المستوى الأول: عدم تناهي القُدْرة؛ لأنها إمكانيات للأفعال، بينما تتناهى الأفعال لتعلقها بالعالَم المتناهي رغم أنها — الأفعال — تتجذر في القُدْرة غير المتناهية، والعلاقة بينهما في هذا المستوى أشبه بالعلاقة المنطقية بين «الإمكان» و«التحقق»، فليس كل ممكن متحققًا كما سبقت الإشارة.
والمستوى الثاني: للتمييز بين «القدرة» و«الفعل» هو أن القدرة «أزلية» بما هي صفة مُحايِثة للذات الأزلية القديمة، والفعل ليس أزليًّا، بل هو تاريخي طالما أن أول مَجْلًى فعلي من مَجالي القدرة الإلهية كان إيجاد العالم، الذي هو ظاهرة مُحدَثة تاريخية.
ماذا عن «اللوح المحفوظ» الذي ذهبت بعض التصورات إلى أن القرآن مُدوَّن فيه؟ هل هذا اللوح المحفوظ قديم أزلي أم مُحْدَث مخلوق؟ ولا بُدَّ أن يكون مُحدثًا مخلوقًا مثل العرش والكرسي وإلا دخلنا في تصور «تعدد» القُدماء الذي لا يقبله أي مُفكِّر في التراث الديني الإسلامي. إذا كان «اللوح المحفوظ» مَخلوقًا مُحدثًا، فكيف يكون القرآن المسطور عليه قديمًا أزليًّا، ألا يدخلنا ذلك في سلسلة التناقضات المنطقية تجعل «المحتوى» قديمًا بينما نعلم أن اللوح الذي يتضمن هذا «المحتوى» مُحْدَث مخلوق؟ كيف أمكن أن يتم تسجيل «القديم الأزلي» — الذي هو القرآن كلام الله القديم الأزلي — على سطح لا يَتمتَّع بالصفة نفسها؟!
يزعم أصحاب تَصوُّر قِدَم القرآن وأزليته أن الكلام الإلهي صفة ذاتية قديمة وليس فعلًا كما ذهَب المعتزلة. إنهم يعتمدون على ما جاء في القرآن نفسه من أن الله افتتح الخَلْق بالأمر التكويني «كن» وأن هذا الأمر التكويني مُلازِم للإرادة الإلهية فكلما أراد الله سبحانه وتعالى شيئًا فإنما يقول له «كن» فيكون، وطبعًا يستحيل أن نتصور أن الله سبحانه وتعالى يَتلفَّظ بالكلام كما نتلفظ نحن البشر، وإلا كان علينا أن نتخيل وجود أعضاء للنطق والتلفظ والتصويت، الأمر الذي يفضي بنا إلى التشبيه الغليظ القريب من حدود التصورات الوثنية. ومفهوم «الوحدانية» والتنزيه المنصوص عليهما في سورة «الإخلاص» يقفان ضد هذه التصورات، فلا بُدَّ أن يُفْهَم الأمر الإلهي التكويني «كن» فَهمًا مجازيًّا، كما اقترحنا أن نفهم «اللوح المحفوظ» فهمًا مجازيًّا لأن الفهم الحرفي يُوقِعُنا في إشكالات تُشوِّش علينا عقيدتنا.
وحتى مع التسليم بأن الله سبحانه وتعالى ابتدأ الوجود بفعل الأمر «كن» وأنه كلما أراد أمرًا فإنما يقول له «كن» بالمعنى الحرفي الذي يفهمه البعض — دون الانزلاق إلى أي تصورات أسطورية وثنية — فإن ذلك لا ينفي كون «الكلام» يدخل في دائرة «الأفعال» وليس الصفات الأزلية القديمة المُحايِثة للذات، ومِنَ المُؤكَّد أن هذا لا يمنع إطلاقًا من وصف الله سبحانه بأنه مُتكلِّم كما يوصف بأنه «سميع» و«بصير» رغم أن تلك الصفات تنتسب إلى مجال الأفعال، بشرط التفرقة بين الاتصاف بالصفة من حيث هي إمكانية، وبين تَحوُّل الصفة إلى «فعل»، وكما نقول إن الله سبحانه وتعالى «قادر» و«قدير» ولا تظهر القدرة إلا في الأفعال، فكذلك الصفات «مُتكلِّم» و«سميع» و«بصير» صفات مُحايِثَة لا تظهر إلا في الأفعال، والظهور في الفعل هو التَّحقُّق التاريخي، من هنا يمكن القول إن القول الإلهي «كن» في افتتاح الوجود، أو فيما يتلو ذلك من موجودات إلى أبد الآبدين، يدخل دائرة الفعل الزماني، الفعل في التاريخ.
٣
إذا كان الكلام الإلهي في تحققه يُعَد فعلًا، فكيف يكون القرآن الكريم وهو واحد من تَجلِّيات الكلام الإلهي قديمًا أزليًّا؟ سنجد أن الخلط والالتباس جاء من عدم التمييز بين صفة «العلم» وصفة «الكلام»، وهو التباسٌ شبيهٌ بالالتباس الذي ناقشناه بين صِفَتي «القدرة» و«الفعل».
«العلم» مثل القدرة صفة مُطلَقة من صفات الذات مُحايِثة لها في أزليتها، لكن هذه الصفة إما أن تَتجلَّى مثل القدرة وفي تفاعُل معها في شكل «الفعل»، الذي يَدلُّ بمُجرَّد وجوده على «القدرة» ويدل بإحكامه وإتقانه على «العلم» والحكمة — كما يستدل المعتزلة — وإما أن تَتجلَّى وحدها — صفة العلم — في نَمَط آخَر من الفعل هو «الكلام»، فيكون «الكلام» بذلك «فعلًا» يُظْهِر «العلم» ولا يطابقه تمامَ المُطابَقة، كما أن فعل إيجاد العالم — وهو فعل لم يَتوقَّف — يُظْهِر القُدْرة ولا يطابقها أو يتساوى معها.
هذه التصورات هي التي سادت تاريخ الثقافة العربية الإسلامية وسيطرت بآليات الغرض السياسي. وسيطرتُها وسيادتها لا يعني امتلاكها قوة «الحقيقة» بأي حالٍ من الأحوال وذلك لما تَتضمَّنه من عناصر أسطورية شبه وثنية تُشوِّش مفهوم «التوحيد» الذي نعلم أنه مفهوم جوهري في العقيدة الإسلامية، والتصور الذي يطرحه المعتزلة والذي حاوَلْنا شرحه فيما سبَق هو التصور الأكثر ملاءمة لروح العقيدة، ويمكن إجمال هذا التصور في الشكل التوضيحي التالي:

٤
إذا كان الكلام الإلهي فعلًا كما سبقت الإشارة، فإنه ظاهرة تاريخية؛ لأن كل الأفعال الإلهية أفعال «في العالَم» المخلوق المُحدَث؛ أي التاريخي. و«القرآن الكريم» كذلك ظاهرة تاريخية، من حيث إنه واحد من تَجلِّيات الكلام الإلهي، وإن يكن أشمل هذه التجليات؛ لأنه آخرها. وهنا نأتي إلى بيت القصيد في حملة الهجوم الضارية — والجاهلة للأسف — على مفهوم «التاريخية». أصحاب النوايا الحسنة في رفض مسألة «التاريخية» ينطلقون من تَوَهُّم أن هذا المفهوم يُؤدِّي إلى هدم مبدأ «عموم الدلالة»، الأمر الذي يفضي في زعمهم إلى اعتبار «القرآن» الكريم من «الحفريات»، التي لا يدرسها إلا المتخصصون بهدف اكتشاف التاريخ المجهول. وهؤلاء يخلطون عن جهل لا شكَّ فيه بين أنماط مختلفة من «الدلالة» ولا يدركون أن للدلالة اللغوية قوانين تختلف عن قوانين أنماط الدلالات الأخرى. وإذا كنا حتَّى يوم الناس هذا ما نزال نجد مُتعةً في نصوص أدبية وشعرية تاريخية مضى على عصر إنتاجها أكثر من خمسة عشر قرنًا من الزمان، فما ذلك إلا لأن هذه النصوص ما تزال قادرة على التواصل معنا دلاليًّا عبر تلك العصور الطويلة. والأمر كذلك بالنسبة لنصوص إبداعية بشرية، فهل يمكن تصوُّر أن دلالة النصوص الدينية التي نالت وما تزال من الحفاوة والتعظيم والتوقير بالدراسة والبحث من مختلف جوانبها غير قادرة على مخاطبة الإنسان والتواصل معه دلاليًّا؟!
أما هؤلاء الذين ينطلقون من «سوء قصد» ونِيَّة مُبيَّتة للاغتيال الفكري والمعنوي، مدعومة بالطبع بجهل فاجر بلَغ به فُجْره أن يتمسح بمسوح «العلم» الكاذبة، فقد ذهبوا يملئُون الدنيا ضجيجًا وصخبًا مُتباكِين على «القرآن» الذي يضعه مفهوم «التاريخية» في خانة الفلكلور. وهكذا حين أرادوا أن يتَظاهروا بالعلم كشفوا دون وعي عن عورات جهلهم التي لم تستطع أن تَستُرَها كل أسمال «الدراية» و«الرزانة» و«التعقل» و«الاعتدال» واحتلال أعمدة الصحف وصفحاتها بشكل منتظم. وبلغ الجهل ببعض مَن يَتستَّر بأسمال «اللقب العلمي» أن يَدَّعوا على هذا المفهوم أنه يَقْضي على «قدسية» النص القرآني، وينكر أنه من عند الله سبحانه وتعالى.
المُشْكِل في كل هذا الجهل المركَّب — سواء حسنت النوايا أم ساءت — أنه يَصدُر عن تَصوُّر لطبيعة اللغة عفَا عليه الزمن، وصار من مُخلَّفات العصور الماضية، سواء تلك التي كانت ترتع في بقايا الفكر الأسطوري، أو تلك التي حاولت تجاوُز مرحلة الفكر الأسطوري، ودخلت أفق نهج التفكير العقلاني. في نهج التفكير الأسطوري بصفة عامة لا تنفصل اللغة عن العالم الذي تدل عليه، أو بعبارة أخرى «اللفظ» والمعنى الذي يدل عليه علاقة تطابق. وما تزال بقايا هذا النهج الأسطوري في تصوُّر اللغة موجودة حتى الآن في كثير من المظاهر التي يمكن تَلمُّسها في حياتنا الاجتماعية، لن نَتطرَّق هنا إلى مسألة «الحجاب» الواقي للصغار والكبار من الحسد ومن العيون الشريرة في المعتقدات الشعبية، كذلك لن نتعرض لمسألة «التداوي» و«العلاج بالقرآن. ورغم أن كلتا المُمارستَين تستمد مرجعيتها من مفهوم القوة السحرية للغة الناتج عن قدرة اللفظ منطوقًا أو مكتوبًا لا على استحضار المعنى في الذهن فقط، بل على استحضار الشيء أو منعه، رغم ذلك لن نطيل في مناقشة هذه الممارَسة؛ لأن البعض قد يَتوهَّم أننا نُقلِّل من شأن لغة القرآن التي تمثل أساس اللغة المستخدَمة فيهما، يكفي هنا أن نُدلِّل على ظاهرة الإيمان السحري بقوة اللفظ — بعيدًا عن إطار اللغة القرآنية — بِتجنُّب المتكلمين عادةً استخدام الألفاظ الدَّالَّة على بعض الأمراض.
يكتفي كثير من الناس باستخدام صيغة «المرض الخبيث» إشارة إلى «السرطان» وذلك خشيةً مِن ذكر اسم المَرَض نفسه. وإذا أرادوا نقل خبر حادث خطير وقع لشخص في حضرة شخص آخَر في السن نفسه، أشاروا إلى اسم المصاب بكلمة «البعيد» استبعادًا للحدث الخطير خشية أن يتكرر، والأمهات غالبًا ما يَتحدَّثن عن الأحداث والوقائع المؤسفة مُستَهِلِّين حديثهن بعبارة «الشر بره وبعيد»، هل يمكن أن نشير كذلك إلى ممارسة صارت شائعة جدًّا بين الناس من جميع الأوساط، وذلك حين يكون اثنان على وشك الافتراق — ولو لساعات قليلة أو أيام — فينطق أحدهم الجزء الأول من الشهادة «أشهد أن لا إله إلا الله» فيردُّ الآخَر «محمد رسول الله»؟ نفس الممارسة يمكن أن نلاحظها في نهاية المكالمات التليفونية ولو كان الشخصان قد تَواعدَا على اللقاء بعد المكالمة، وهي ممارَسة تعتمد على أن عبارَتَي الشهادة مترابطتان دومًا، وهذا الترابط يمثل ضمانًا من نوع ما أن الشخصين اللذين تقاسماها سيلتقيان مَرَّة أخرى.
هذه ممارَسات باقية من آثار بعض التَّصوُّرات الأسطورية عن قوة اللغة السحرية، وليس من الضروري أن يكون المنخرطون في هذه الممارَسات واعِين بالضرورة بهذه الدلالة، وأغلب الظن أن جميعهم سينكر إنكارًا شديدًا أن تكون تلك تصوراتهم وهم صادقون في ذلك لا شك، لكن ذلك لا ذلك لا يمنع أنها بقايا من آثار تلك التصورات، بقايا تُحِيلها الممارسات الاجتماعية إلى مجرَّد عادات وأعراف وتقاليد مُنبَتَّة الصلة — على مستوى الوعي على الأقل — بأصولها الغائرة البعيدة.
وحتى لا نُكرِّر ما سبق أن ناقشناه هناك نكتفي هنا بإيراد الرد الذي رد به محمد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ المشهور «جامع البيان عن تأويل آي القرآن» على أصحاب القول باتحاد الاسم والمُسمَّى، وذلك في سياق تعرُّضه لتفسير «البسملة» من سورة الفاتحة في الجزء الأول من تفسيره. يقول الطبري ساخرًا من أولئك سخرية حادَّة؛ لأنهم يقولون إن «اسم الله» في «البسملة» هو «الله» دون فصل بين الاسم والمسمى: «لو جاز ذلك وصح تأويله فيه على ما تأول، لجاز أن يقال: رأيتُ اسم زيد، وأكلتُ اسم الطعام، وشربتُ اسم الشراب، وفي إجماع جميع العرب على إحالة ذلك، ما يُنبئ عن فساد تأويل قول لبيد «ثُمَّ اسم السلام عليكما» أنه أراد ثم السلام عليكما، وادعائه أن إدخال الاسم في ذلك وإضافته إلى السلام إنما جاز، إذا كان اسم المُسمَّى هو المسمى بعينه.» ويُسْأَل القائلون قول مَن حكينا قوله هذا، فيُقال لهم «أتستجيزون في العربية أن يقال: أكلت اسم العسل» يعني بذلك: أكلتُ العسل، كما جاز عندكم: اسم السلام عليك، وأنتم تريدون: السلام عليك؟»
بهذه السخرية الحادَّة ينفي الطبري تَوهُّم الاتحاد بين الاسم والمسمى، ولكن ليس معنى ذلك أنهما وجهان لا علاقة بينهما. الجاحظ (أبو عثمان عمرو بن بحر) الأديب والكاتب الموسوعي المعتزلي يرى بين اللفظ والمعنى مِثْلَ علاقة الروح بالجسد، ويقول اللفظ للمعنى جسد، والمعنى للجسد روح، والمعتزلة عمومًا يدركون العلاقة بينهما على أساس أنها علاقة «مواضعة» و«اتفاق» و«اصطلاح» وليست علاقة ذاتية ضرورية. إن اللفظ مجرد صوت سمعي أو رمز كتابي، وهو بلا مَعنًى إذا لم يكن هناك دلالة اتفاقية. والدليل على اتفاقية العلاقة الصوت أو الرمز المكتوب وبين المعنى أن ألفاظًا مختلفة في لغات مختلفة تُعبِّر عن المعنى نفسه مثل كلمة «رجل» فهي في العربية غيرها في الفارسية أو في اللفظ بين ما سواها من اللغات.
وهنا صاغ المفكرون المسلمون مفهوم «اللغة» بوصفها نظامًا شأنها شأن أنظمة العلامات الأخرى كالحركات والإشارات. وذهب الشيخ عبد القاهر الجرجاني — شيخ البلاغيين العرب والمسلمين — إلى أن الألفاظ لا تدل على المعاني بذاتها بل بالاتفاق، وليس هناك علاقة ضرورية بين اللفظ «ضرب» والحدث الذي يدل عليه في الخارج، حدث «الضرب» الواقعي، بل اللفظ علامة تدل على الحدث، وكان يمكن أن تدل عليه علامة لفظية أخرى لو كان قد حدث اتفاق عليها.
وظل الفكر اللغوي يرى العلاقة بين اللفظ والمعنى علاقة اصطلاح مباشرة حتى جاء العالم السويسري «ألفريد دي سوسير» في كتابه المهم «محاضرات في علم اللغة» وأضاف إلى مفهوم «العلامات» بُعدًا جديدًا، حيث ذهب إلى أن العلاقة بين «اللفظ أو الدَّالِّ» و«المعنى أو المدلول» علاقة اصطلاح، لكنه عمَّق مفهوم «الدالِّ» ومفهوم «المدلول» بعيدًا عن مسألة اللفظ والمعنى، وذلك على النحو التالي:
إن الوحدة اللغوية (التي تُسمَّى اللفظ) ظاهرة مزدوجة، ليس من جهة أنها تدل على ارتباط بين ملفوظ أو مكتوب من جهة، وبين موجود خارجي من جهة أخرى — أي بين اللفظ والشيء — بل هي ظاهرة مزدوجة بشكل أكثر تعقيدًا من جهتي الدالِّ والمدلول. هنا يَتجنَّب دي سوسير استخدام مُصطلحَي «اللفظ والمعنى» ليحل محلهما مصطلحَي «الدالَّ والمدلول» لأنهما أكثر دقة في التعبير عن تَعقُّد الوحدة اللغوية. والدالُّ والمدلول يُمثِّلان جانبي العلامة اللغوية — أو الوحدة اللغوية — التي لا تدل على «شيء» بل تحيل إلى مفهوم «ذهني» هو بمثابة «المدلول» دون الشيء، وكذلك «الدالُّ» ليس هو الصوت الملفوظ أو الرمز المكتوب، بل هو «الصورة السمعية»، وليس المقصود بالصورة السمعية الصوت المسموع، أي الجانب المادي البحت منه، ولكن المقصود هو الأثر النفسي الذي يتركه فينا الصوت المسموع أو الرمز المكتوب، أو بعبارة أخرى، ليس «الأثر النفسي» — الصورة السمعية — إلا التصور الذي تنقله لنا حواسنا للصوت (تصور الصوت في الذهن).
وعندما نَتفحَّص كلامنا بدقة تبدو الخاصية النفسية لصورنا السمعية واضحة، فبإمكاننا دون أن نحرك شفتينا ولساننا، أن نتكلم مع أنفسنا كأن نستعيد — على سبيل المثال — ذهنيًّا قطعة شعرية أو أغنية أو مناقشة مع صديق، والنتيجة التي يتوصل إليها دي سوسير أن «العلامة» اللغوية عبارة عن وحدة نفسية مزدوجة يترابط فيها العنصران (المفهوم والصورة السمعية) ارتباطًا وثيقًا بحيث يَتطلَّب وجود أحدهما وجود الثاني. وفي ظِلِّ هذا التصور تُعْقَد العلاقة على النحو التالي:

هذا التصور الذي صاغه دي سوسير أنهى وإلى الأبد التصور الكلاسيكي عن علاقة اللغة بالعالَم بوصفها تعبيرًا مباشرًا عن هذا العالم. لقد صارت العلاقة بين اللغة والعالَم محكومةً بأفق المفاهيم والتصورات الذهنية الثقافية. إنها لا تُعبِّر عن العالَم الخارجي الموضوعي القائم؛ لأن مثل هذا العالَم — إن كان له وجود — يُعاد إنتاجُه في مجال التصورات والمفاهيم. وقد أحدث هذا التصور ثورة في علاقة الفكر باللغة وفي طبيعة النظام الرمزي للغة والفرق بينه وبين الأنظمة الرمزية الأخرى داخل النظام الثقافي نفسه. هذه الثورة الفكرية غائبة غيابًا تامًّا عن وعي كل الذين يَتوَهَّمون اللغة نظامًا ساكنًا بسيطًا يدل على الأشياء، أو يستدعيها، ويتصورون بالتالي أنها نظام إشاري.
٥
إذا كانت العلامات اللغوية لا تحيل إلى الواقع الخارجي الموضوعي إحالةً مباشرةً، ولكنها تحيل إلى «التصورات» و«المفاهيم» الذهنية القارَّة في وعي الجماعة — وفي لَاوَعْيِها كذلك — فمعنى ذلك أننا في قلب «الثقافي». والثقافي وإن كان يَتجلَّى في أكثر من مظهر — كالأعراف والتقاليد وأنماط السلوك والاحتفالات الشعائرية والدينية والفنون — فإن «اللغة» تُمثِّل النظام المركزي الذي يُعبِّر عن كل المظاهر الثقافية. من هذه الزاوية يقول علماء السميوطيقا — أو علم العلامات — إن «الثقافة» هي عبارة عن أنظمة مُتعدِّدة مركَّبة من العلامات يقع في قلب المركز منها «نظام العلامات اللغوية» لأنه هو «النظام» الذي تنحلُّ إليه تعبيريًّا باقي الأنظمة في مستوى الدرس والتحليل العِلْمِيَّين.
وإذا كان البُعد «الثقافي» هذا هو الذي يُميِّز الوجود الإنساني ويفصله عن الوجود «الطبيعي» الحيواني مثلًا، بحيث يمكن القول: إن الإنسان حيوان ثقافي؛ أي قادر على تَمثُّل وجوده في العالَم من خلال أنظمة العلامات، فإن «الثقافة» ليست قيمةً مُضافةً يمكن تصوُّر الوجود الإنساني بدونها إلا على سبيل «الوهم» و«التقدير» كما يقول القدماء، أي على سبيل الافتراض. لكن البعض يفهم «الثقافة» بوصفها بُعدًا ناتجًا عنْ عملية «التعليم» الحديثة وأثرًا من آثارها منطلقًا في ذلك من الاستخدام الشائع للفرق بين «المثقف» — أي المتعلم — و«الجاهل». وهذا الاستخدام العامِّي الذي يضع «الثقافة» في مقابل «الجهل» استخدام غير صائب من الوجهة العلمية والمنهجية، فالثقافي — علميًّا ومنهجيًّا — يقابل «الطبيعي».
والغريب أن بعض الأكاديميين لا يكادون يفارقون هذا الاستخدام العامِّي الذي يضع «الثقافة» في مقابل «الجهل»، هذا رغم أن جميعهم يعلم ويُكرِّر القول — دون فهم — إن النبي محمدًا — عليه السلام — كان «أميًّا» لا يقرأ ولا يكتب، ولكنه لم يكن «جاهلًا» ولا ينكر أحد أنه من صفوة مُثقَّفِي عصره، وكذلك كان أصحابه. إن «الثقافة» تعني تحوُّل الكائن من مجرد الوجود الطبيعي إلى «الوعي» بهذا الوجود. وهو وعي يَفْصِله عن الموجودات الطبيعية الأخرى غير الواعية ويسمح له بالسيطرة عليها. قد تتفاوت مستويات هذا الوعي من مرحلة إلى مرحلة أخرى زمانيًّا، وقد تتفاوت بين جماعة وجماعة أخرى، بل قد تتفاوت بين الأفراد في المجموعة البشرية الواحدة. وهذا يسمح للباحث بالحديث عن «تعدُّد» ثقافي في بنية الثقافة الخاصة بمجتمع ما أو بمجموعة بشرية مُعيَّنة.
إذا كانت «الثقافة» هي تَصوُّر العالم لدَى مجموعة بشرية بعينها — مع التسليم بتفاوت مستويات هذا التصور — فإن اللغة هي «النظام» المُعبِّر عن هذا التصور، وهي من ثَمَّ لا تُمثِّل نظامًا ذا مستوًى واحد، بل تتعدَّد مستوياتها بتعدُّد مستويات «الثقافة» التي تُعبِّر عنها. ولأن «العالم» — في وجوده الموضوعي المستقل عن الوعي — لا ينعكس في التصوُّرات والمفاهيم الثقافية انعكاسًا آليًّا؛ وذلك لأن للعالم قوانين من حيث وجوده المستقل تختلف عن قوانين تَشكُّل المفاهيم والتصورات في الوعي، فليس من المنطقي القول بأن «اللغة» تعكس التصورات والمفاهيم عكسًا آليًّا؛ وذلك لأن للغة قوانينها التي تختلف عن قوانين تَشكُّل المفاهيم والتصورات في الوعي.
ومعنى ذلك أنَّنا إزاء ثلاث حقائق مُستقِلَّة عن بعضها البعض استقلالًا من نوع خاص؛ أي استقلالًا لا ينفي «التداخل» و«التَّوالُج». ويمكن وضع العلاقة إذن على مستوًى أفقي لا رأسي تجنبًا لتوَهُّم الأسبقية أو الأولية. الحقيقة الأولى هي «العالَم» بكل ما ينتظم فيه من حقائق طبيعية واجتماعية، والحقيقة الثانية هي «الثقافة» بكل ما تنتظمه من مَظاهر ومجالات، وأنظمة علامات، والحقيقة الثالثة هي «اللغة» بكل ما تنتظمه من قوانين. والعلاقة بين هذه «الحقائق» الثلاث تختلف بحسب المنظور الذي يُرتِّبها وينظمها، فلو تَبنَّى الباحث المنظور الأنطولوجي؛ أي البدء بالوجود كمفهوم وليس كماهيَّة، فإنه يضع «العالَم» أولا، ثم «الثقافة» ثم «اللغة». ولو بدأ من منظور إبستمولوجي؛ أي معرفي، فإنه يضع «اللغة» أولًا، ثم «الثقافة» ثم «العالم». ولو نظر الباحث من منظور «تركيبي» فإن العلاقة لا بُدَّ أن تأخذ شكل «الدائرة»، وذلك على النحو التالي:

والحديث عن حقائق ثلاث «مُستقِلَّة»، رغم ذلك كله، هو حديث على سبيل «الوهم» و«التقدير»، فنحن في مجال «الحديث»؛ أي في مجال «اللغة» النظام التعبيري الذي «يقول» من خلالنا، أو «نقول» من خلاله. وهو «النظام» الذي وُلِدْنا فيه، ونمارس حياتنا — بكل ما ينتظم في هذه الحياة من أنشطة عُلْيا ودُنْيا — من خلاله. وقد بلغ من سطوة اللغة وسيطرتها أن صار الوجود في مَنشئه الأول «كلمة». جاء في إنجيل يوحنا: «في البدء كان الكلمة.» وفي القرآن الكريم أن الأصل في الإيجاد هو الأمر الإلهي التكويني «كن». و«اللوجوس» في الفكر اليوناني «هو العقل» الذي لا يظهر نشاطه إلا من خلال «الكلمة». حتى ذهب المفسرون لقول أرسطو: «الإنسان حيوان ناطق» إلى أنها بمعنى «عاقل»؛ لأن النطق اللغوي هو مجال ظهور النشاط العقلي.
هل يمكن القول بِناءً على ذلك كله إن «اللغة» تُمثِّل «الرَّحِم» الذي ينبثق عنه «الوعي» بكل أبعاده؟ نعم يمكن قول ذلك دون تردُّد، خاصَّةً إذا أدركنا أنها ليست «مُعطًى» ثابتًا، بل هي حالة سيرورة مُستمِرَّة وحيوية دافقة نابعة من قوانينها الخاصة، بدءًا من المستوى الصوتي وصولًا إلى المستوى الدلالي. إن اللغة نظام من العلامات، لا تشير العلامة فيه كما سبقت الإشارة إلى «الخارج» بشكل مباشر، بل تشير إلى «الصورة السمعية» التي هي «الدالُّ». وهذا «الدالُّ» يحيل بدوره إلى «الصورة الذهنية» أو «المفهوم» الذي هو «المدلول». هذا على مستوى «العلامة» المُفرَدة، لكن اللغة نظام من العلامات التي تدخل في علامات أكثر تعقيدًا على مستوى «نظام» النحو، وتزداد درجة التعقيد حِدَّة حين نتجاوز حدود الجملة إلى «النص».
ولكي تتضح ملامح استقلال قوانين اللغة عن قوانين الواقع والحياة والعالم الخارجي، يكفي هنا أن نعطي مثالين يكشف أولهما عن هذا الاستقلال من زاوية «عدم التماثل»، ويكشف الثاني عن قُدرة اللغة على خلق واقعها الخاص. المثال الأول جملة «مات الخليفة الأول أبو بكر الصديق» وهي جملة تشير إلى واقعة حدثت خارج اللغة، لكن النظر للجملة من خلال قوانين اللغة يكشف «عدم التماثل». الجملة تقول إن هناك فعلًا «مات» وتقول إن الفاعل هو «أبو بكر الصِّدِّيق»، وهذا ليس صحيحًا على مستوى الواقعة الخارجية، فالخليفة رحمه الله لم يفعل «موته». هذه ملاحظة أولى، الملاحظة الثانية أن «الفاعل» نحويًّا هو كلمة «الخليفة» وهي تمثل في الواقع الخارجي «وصفًا» للشخص. وتقول الجملة ثالثًا — من خلال تحليلها نحويًّا — إن كلمة «أبو بكر» بدَلٌ من كلمة «الخليفة» مع أن الحقيقة «الخارجية» غير ذلك. ولكن تَتَّضِحَ هذه المسألة فلو حدث تأخير وتقديم في «التركيب» فصارت الجملة مثلًا: «مات أبو بكر الصديق الخليفة الأول» لتَوهَّم مُتوهِّم أن الجملة الآن تُماثِل العلاقات الخارجية بين الاسم «أبو بكر» وصفاته «الصديق، والخليفة الأول»، ولكن الحقيقة تظل غير ذلك فالاسم «أبو بكر» صوت وكذلك الصفات أصوات منطوقة لا تماثل الكائن المشخص، بل تدل عليه بوصفها علامات كما سبقت الإشارة. ومن جهة أخرى يظل الفاعل النحوي في الجملة اللغوية فاعلًا مع أنه لم يفعل شيئًا في الواقعةِ موضوعِ التعبير اللغوي.
المثال الثاني الكاشف قُدْرة اللغة على خلق واقعها الخاص الجملة التي تقول مثلًا «غابة الحياة تمتلئ بالأشجار الميتة»، فالمُركَّب «غابة الحياة» لا يشير إلى مُدرَك ذهني سابق، بقدر ما يصنع هذا المُدرَك، وذلك رغم أن كل جزء في هذا المُركَّب يشير وحده إلى مُدْرَك ذهني مستقل، فالغابة مُدرَك مستقل وكذلك «الحياة»، لكن «غابة الحياة» مُدرَك تركيبي جديد في النظام اللغوي (الجِدَّة طبعًا مسألة يحددها إطار وعي المخاطب بالجملة، وليست مسألة مُطلَقة). والسؤال الآن: كيف أَمْكَن للغة من خلال قوانينها أن تفعل ذلك؟ والإجابة عن هذا السؤال تكشف لنا عن البُعد الاستبدالي في قوانين اللغة، ذلك أن الذي حدَث أن المتكلم، قائل الجملة السابقة، لم يكن يشير إلى واقع خارجي بقَدْر ما كان يُعبِّر عن «تجربة» عاطفية أو وجدانية أو فلسفية … إلخ. وفي ذلك التعبير ساعَدَتْه قدرة اللغة الاستبدالية، ذلك أن كلمة «غابة» تستدعي ذهنيَّا مجموعة من المُفرَدات اللغوية التي تنتمي إلى «الحقل» الدلالي المرتبط بها مثل «الجَبَل» «أفريقيا» «خط الاستواء» «الوحوش» … إلخ، ولو كانت الجملة مثلًا: «غابة الجبل تمتلئُ بالأشجار المَيِّتة» لكانت جملة وصفية عادية لا تحمل شحنةً كتلك التي تحملها الجملة السابقة. إن استبدال كلمة «الحياة» بالكلمة المُفْتَرَضة «الجبل» لم يُؤثِّر في دلالة العلامة «غابة» وحدها، بل أثَّر في دلالة كلمة «الأشجار» وفي دلالة الصفة «مَيِّتة». إنها ليست إذن مُجرَّد عملية استبدال علامة بعلامة أخرى، بل هي عملية تحويل كامل في الدلالة.
هكذا، يمكن القول إن للغة قوانين خاصَّةً في إنتاج الدلالة، تعتمد أساسًا على تفاعُل مستوياتها الصوتية والصرفية والنحوية من خلال علاقتي «التركيب» و«الاستبدال»، فالتقديم والتأخير، والحذف والذِّكْر، والتكرار، والوصل والقطع، والعطف والاستئناف، كلها ظواهر تركيبية على مستوى الجملة تُمثِّل إنتاج الدلالة على هذا المحور، كما تمثل عملية «الاستبدال» محورًا آخَر. ويتفاعل المحوران مع المستويات الصوتية والصرفية والنحوية ليشكل هذا التفاعل المُعقَّد قانون إنتاج الدلالة على مستوى «الجملة»، ناهيك بمستوى «النص» مع تَعدُّد أنماط النصوص وأنواعها من القانوني والتاريخي والديني والفلسفي والمنطقي والصوفي والشِّعْري والروائي والقصصي والمسرحي، ناهيك بالنصوص المركَّبة … إلخ.
لكنَّ النصوص — مَهْمَا تعددت أنماطها وتَنوَّعت — تستمد مرجعيتها من «اللغة» ومن قوانينها، وبما أن «اللغة» تُمثِّل «الدَّالَّ» في النظام الثقافي، فكل النصوص تستمد مرجعيتها من «الثقافة» التي تنتمي إليها. هذا جانِب من القضية، أما جانبها الآخَر فإن النصوص قادرة على استثمار قوانين الدلالة المشار إليها فيما سبق للتأثير في الدلالة؛ أي للتأثير في الثقافة. هذا بالطبع باستثناء النصوص الدعائية الفَجَّة، وتلك الوعظية الإنشائية، التي تُكرِّر ما سبق قوله آلاف، بل ملايين المرات؛ ذلك أنها ليست في الحقيقة «نصوصًا» بل هي «اللغة» في ثباتها وتَحجُّرها ومقاوَمتها للتطور. إن «اللغة» — فيما ذهب دي سوسير كذلك — تُقاوِم التغيير وتسعى للثبات بما هي اجتماعية جماعية. لكن «الكلام» الذي هو الذي هو الاستخدام الفردي للغة هو الذي يُجدِّد اللغة ويطورها. وهكذا أدرك دي سوسير من خلال تفرقته المعروفة بين «اللغة» و«الكلام» — أو بين الاجتماعي والفردي في اللغة — بعض عناصر الصراع الأيديولوجي في الحياة الاجتماعية على أرض اللغة. فهناك نصوص تَنطِقها «اللغة»، وتلك التي تُسمَّى نصوصًا على سبيل المَجاز والتساهل، وهناك نصوص لديها «كلام» تُريد أن تَنطِقَه من خلال «اللغة».
وإذا كان الحديث عن النص القرآني كلام الله فهو بامتياز نصٌّ يمتلك «كلامًا»، وليس نصًّا تنطقه «اللغة» وإن كان يَستمِد مقدرته القولية أساسًا من «اللغة». ومرة أخرى المقصود بمقدرته «القولية» مقدرته من حيث هو نص مُوجَّه للناس في سياق ثقافة بعينها، وليس المقصود مقدرته من حيث طبيعة المتكلِّم به، الله عز وجل. وهذا شرح لازِم حتى لا يزايد علينا المزايدون الذين تُنْطَق «اللغة» من خلالهم ولا يمتلكون «كلامًا» يقولونه من خلال «اللغة». النص القرآني يستمد مرجعيته من «اللغة»، لكنه «كلام» في اللغة، قادر على تغييرها، وإذا انتقلنا إلى «الثقافة» — مدلول اللغة — قلنا إن القرآن «مُنتَج ثقافي»، لكنه مُنتَج قادر على «الإنتاج» كذلك؛ لذلك فهو «مُنتَج» يَتشكَّل لكنه في الوقت نفسه — من خلال استثمار قوانين الدلالة — يساهم في التغيير وإعادة التشكيل في مجال الثقافة واللغة أيضًا.
هذا بالضبط ما قُلتُه في كتاب «مفهوم النص»، وقلتُ مثله بعبارات أخرى في كثير من الدراسات والأبحاث. وهذا هو مفهوم «التاريخية» في مجال النصوص عمومًا، وهذا شرحه حين يُوصَف به القرآن على وجه الخصوص. ورد في «مفهوم النص»: «إن القول بأن النص مُنتَج ثقافي يكون في هذه الحالة قضية بديهية لا تحتاج لإثبات. ومع ذلك فإن هذه القضية تحتاج في ثقافتنا إلى تأكيد متواصل نأمل أن تقوم به هذه الدراسة. لكن القول بأن النص مُنتَج ثقافي يُمثِّل بالنسبة للقرآن مرحلة التكوين والاكتمال، وهي مرحلة صار النص بعدها مُنتجًا للثقافة، صار هو النص المُهيمِن المسيطر الذي تُقاس عليه النصوص الأخرى، وتَتحدَّد به مشروعيتها. إن الفارق بين المرحلتين في تاريخ النص هو الفارق بين استمداده الثقافة وتعبيره عنها، وبين إمداده للثقافة وتغييره لها».
هذا هو ما ورد من «التمهيد». والكتاب في أبوابه الثلاثة وفصوله الكثيرة يثبت صحة هذه الفرضية ويدلل على مشروعيتها من خلال تحليل «علوم القرآن» التي أوردها كل من الزركشي في «البرهان في علوم القرآن»، والسيوطي في «الإتقان في علوم القرآن». لكن لأن الخطباء والوعاظ ممن يتلقبون بألقاب العلماء ويَحتلُّون كراسيهم لا يقرءون؛ ولأن بعضهم إذا قرأ لا يفهم. فقد اكتفى واحد من ممثليهم — متظاهرًا بالتعليق والتحليل، أي متظاهرًا بأنه يُنتِج «كلامًا» — بأن يدَع «اللغة» الوعظية والإنشائية تَتلَبَّسه وتنطق من خلاله، فكتب: «لقد طعن الأقدمون في القرآن فقالوا أساطير الأولين، وقالوا: كَهانة، وقالوا شعر، وقال نصر أبو زيد: مُنتَج ثقافي بفتح التاء وكسرها؟! (وعلامات التعجب من وضعه) وإذا كان القرآن كذلك، فالسُّنَّة من باب أولى …» وتواصل اللغة الوعظية الإنشائية حديثها قائلة: «القرآن يقول وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (سورة الشعراء: ١٩٢) ويقول: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ (سورة الإسراء: ١٠٥) ويقول في أول سورة النجم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ود. نصر أبو زيد يقول: «منتج ثقافي» «تشكلت» نصوصه في الواقع بقطع النظر عن أي وجود سابق له — والسُّنَّة كذلك — في العلم الإلهي أو اللوح المحفوظ. فهل قولُه هذا يوافق قول أهل الإيمان، أم يوافق قول مَن قال عن القرآن إنه أساطير، وأقوال الكهان؟!» ا.ﻫ.
أوردنا كلام «صاحب الفضيلة» كاملًا ليعرف القارئ: هل قال حقًّا كلامًا؟ أم إن «اللغة» المُحنَّطة تنطق على لسانه، فيصل إلى حدِّ تحنيط الكلام الإلهي دون أن يدري. لقد حلَّلْنا في الكتاب أقوال الكهان عن القرآن ووصفهم له، وشرحنا (بما يُفْهِم) أنهم كانوا يحاولون جَذْب أُفِق النص إلى أُفِقهم غير مُدركِين لخصوصيته. ويوافق «صاحب الفضيلة» صحافيٌّ بدأ حياته الصحفية هاويًا يكتب في «الإسلاميات»، ثم عاش فترة في بلاد «النفط» فارتفعت أسهم جهله حتى صار من كبار مُمثِّلي خطاب «الاعتدال». وقد قال عن الباحث في إحدى مقالاته الصحفية: «هو القائل في كتابات عديدة بفكرة «تاريخية» النص القرآني، وهي فكرة تَتعارَض في مُنطَلَقِها مع مقتضى الإيمان الديني.» ثم كرَّر ذلك في مقالةٍ أخرى حين وصف الباحثَ بأنه مشغول بقضية التأويل التي تُؤدِّي إلى «تعطيل» النصوص الدينية، وتحويلها إلى «فولكلور».
وكما احتاج صاحبٌ غيره لمن يشرح له «الثقافة» و«الأسطورة» وأشياء أخرى كثيرة، يحتاج الآخَر لمن يشرح له معنى «مقتضى الإيمان الديني» و«التعطيل»، ناهيك عن حاجته لمن يُعلِّمه أبجديات ما هو الفولكلور. ويحتاج الاثنان لمن يُعلِّمهم الفارق بين مفهوم «التاريخ» ومفهوم «التاريخية» في مجالات العلوم الإنسانية بشكل عام، وفي مجال «علم النص» بوجه خاص. إنهم يفهمون التاريخ بوصفه تعاقبًا زمنيًّا للأحداث والوقائع محكومًا بقانون «الصُّدفة» وحدها. وهكذا يجعلون من «الحكمة الإلهية» التي أنزلت القرآن على نَبِيِّه محمد ﷺ باللغة العربية في مكة، ثم في المدينة، من الجزيرة العربية مُجزَّءًا على مدى بضع وعشرين سنة في توقيت بعينه هو القرن السادس الميلادي، يجعلون من ذلك كله مُجرَّد «مصادَفة» حدثت على هذا النحو بإرادة إلهية مُطلَقة لا حكمة وراءها. وهذا لا يصح أن يكون فَهْم عامة المؤمنين فضلًا عن الكُتَّاب، فكيف بالعلماء وأصحاب الألقاب؟!
وهم يفهمون «تاريخية النصوص» على أساس أنها غير قادرة على مخاطَبة الناس بعد عصر نزولها، فضلًا عن مخاطَبتهم خارج دائرة النظام اللغوي الذي تَشكَّلت من خلاله تلك النصوص، تلك هي دائرة «العجز عن الفهم» «وذلك لآفة مُستعصِية في العقول».