النص والتأويل (في اللغة والثقافة)

أولًا: مفهوم النص: الدلالة اللغوية

هناك سؤال يمكن أن يتبادر إلى ذهن القارئ عن أهمية هذا البحث الدائم المستمر عن مفهوم النص، مرَّة في مجال علوم القرآن،١ واليوم في مجال الدلالة اللغوية، ومَن يدري بعد ذلك في أي مجال من مجالات العلوم الدينية، بل وعلوم النقد والبلاغة؟ والإجابة عن هذا السؤال قد تبدو بسيطة إلى حد السذاجة، لكنها تُحدِّد الهدف الذي نسعى إليه جميعًا في العلوم الإنسانية والاجتماعية، رغم تعدُّد الاختصاصات وتَنوُّع المداخل والمناهج. الهدف هو الكشف عن بعض خصائص الثقافة العربية الإسلامية في جانبها التراثي التاريخي، سعيًا لمزيد من الفهم لواقعنا الثقافي المعاصر. وإذا كانت الثقافة تُمثِّل الذاكرة الجمعية للجماعة، فليست الذاكرة إلا مجموعةً من النصوص المُحدِّدة للقيم والأعراف وأنماط السلوك ومعايير الخطأ والصواب.

وفي ثقافة احتل النص الديني فيها — ولا يزال — مركز الدائرة، يُعَدُّ الكشف عن مفهوم للنص، كشفًا عن آليات إنتاج المعرفة، بما أن النص الديني صار النص المولِّد لكل — أو لمعظم — أنماط النصوص التي تختزنها الذاكرة/الثقافة. ومعنى ذلك أن هذه الدراسة، وإن كانت تبدأ من البحث عن مفهوم للنص، تسعى إلى الكشف — ولو بطريقة ضمنية — عن نمط الثقافة التي تنتمي إليها.

في هذا السياق يصبح من الضروري البدء — قبل أي تَحليل آخر — بالكشف عن الدلالة اللغوية لكلمة «النص» في اللغة؛ لأن اللغة تُمثِّل النظام المركزي الدالِّ في بنية الثقافة بشكل عام. واكتشاف الدلالة اللغوية ورصد تطور اللفظ من الدلالة الاصطلاحية، يُمثِّل الركيزة الأولى للانطلاق إلى محاولة اكتشاف المفهوم في علوم الثقافة العربية كافَّة. وهذا هو موضوع الاهتمام، وبؤرة التركيز في هذا المقال.

(١) إذا كانت كلمة «النص» في اللغات الأوروبية تعني نسيجا من العلاقات اللغوية المركبة التي تتجاوز حدود الجملة بالمعنى النحوي للإفادة، الأمر الذي يُؤكِّده أصل اشتقاقها من اللغة اللاتينية، فلم يكن الأمر كذلك في اللغة العربية.٢ ومن استقراء الدلالات المتعددة الواردة في «لسان العرب» لابن منظور يمكن القول إن الدلالة المركزية الأساسية للدالِّ «نص» هي الظهور والانكشاف. ولا تزال هذه الدلالة بارزة في الاستخدام اللغوي المعاصر، كما نجد في الدالِّ «منصة» التي تعني المُرتفع البارز للناظرين، وهي في الاستخدام القديم المكان الذي تجلس عليه العروس للجلوة. وكلمة «الجلوة» — التي لا تزال تُستخدَم في اللهجة العامية بمعنى تزيين العروس وإظهار جمالها — تعني الظهور والانكشاف أيضًا. وإذا أردنا أن نرصد التطور التاريخي لدلالة الكلمة — رغم صعوبة ذلك — من الحسي إلى المعنوي فإن الترتيب التالي يمكن أن يكون مقبولًا:
  • (أ)

    الدلالة الحسية:

    • نَصَّت الظبية جِيدَها: رفعته.

    • نصَّ الدابَّةَ: رفع جِيدَها بالمِقْوَد لكي يَستحثَّها على السرعة في السير.

  • (ب)

    الانتقال من الحسي:

    • النص والتنصيص: السير الشديد.

    • نص الأمور: شديدها.

  • (جـ)

    الانتقال إلى المعنوي:

    • نصَّ الرجلَ: سأله عن شيء حتى يستقصي ما عنده.

    • بلغَ النساءُ نصَّ الحقاق: سن البلوغ.

  • (د)

    الدخول إلى الاصطلاحي:

    • الإسناد في علم الحديث.

    • النص: التوقيف.

    • التعيين.

يتبين من الترتيب أن الدلالة المركزية انتقلَت من الحسي إلى المعنوي ودخلَت في الاصطلاحي دون أن يَعْتَوِرَها تغيُّر كبير. ولذلك ظلَّت تُتداوَل بهذه الدلالة في مَجال العلوم الدينية كلها — أو جُلِّها — تقريبًا، وإن كانت قد تَحوَّلَت إلى مصطلح دلالي يُشير إلى البين بذاته الواضح وضوحًا لا يحتاج معه إلى بيانٍ آخَر، وذلك بالمقارَنة بأنماط دلالية أخرى تحتاج إلى بيان وشرح مُستقلَّين عنها. وبعبارة أخرى يمكن القول إن الدالَّ «نص» صار مصطلحًا دلاليًّا إجرائيًّا يدلُّ على جزء ممَّا يدل عليه اليوم بالدالِّ نفسه، هو ذلك الجزء الواضح الدلالة وضوحًا لا يختلف عليه اثنان من أهل اللغة.

(٢) يضع الإمام الشافعي (ت: ٢٠٥ﻫ) النص على رأس أنماط البيان — البيان الأول — ويُعرِّفه بأنه: «المُستَغنَى فيه بالتنزيل عن التأويل.»٣ وهو الذي لا يُعْذَر أحد بجهالته. ومن البيان النَّصِّي ما أبانه الله لخلقه في كتابه (الكتاب = النص بالمعنى الذي نستخدمه الآن) مما تَعبَّدَهم به، وهو البيان الذي يستخدم الشافعي كلمة «النص» بشكل متكرر للإشارة إليه فيقول:
«فمنها (= أنماط البيان في الكتاب) ما أبانَه لخلقه نصًّا. مثل جُمَل فرائضه، في أن عليهم صلاةً وزكاةً وحجًّا وصومًا، وأنه حرَّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ونص الزنا والخمر وأكل الميتة والدم ولحم الخنزير، وبيَّن لهم كيف فرض الوضوء، مع غير ذلك ممَّا بيَّن نصًّا»٤ (التأكيد لنا).
ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن وَضْع آيات التشريع المُشار إليها في نمَط الدلالة النصية، لا يَتعارَض مع وَضْع الشافعي لها في سياقٍ آخَر في نمط دلالة «المُجْمَل»، ذلك أن مفهوم «المُجْمَل» هو البين بذاته على مستوى الدلالة اللغوية، وإن كان يحتاج إلى «التفصيل» — وهو الشرعية.٥ وغالبًا ما يرتبط «التفصيل» بالنص الشارح — السنة النبوية — الذي يبين كيفيات التنفيذ وشروطه، وإن كان في الكتاب ما هو نص لا يحتاج إلى تفصيل. يسوق الشافعي مثالًا للنصوص التي لا تحتاج إلى أي نمط من أنماط البيان، إنْ لغويًّا أو شرعيًّا، الآيات القرآنية التالية:
  • (١)
    فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (البقرة: ١٩٦)
  • (٢)
    وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً (الأعراف: ١٤٢).
  • (٣)
    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (البقرة: ١٨٣–١٨٥).

ويعلق عليها كاشفًا عن وعيه بَتعدُّد مستويات الوضوح، من زيادة البيان والإطناب كما يَتبدَّى من الآيتين الأوليين، إلى البيان الكاشف دون زيادةٍ كما يَتبدَّى في آيات سورة البقرة عن الصيام. فإذا أضفنا إلى ذلك «المُجْمَل» السابق الإشارة إليه أمكن أن نستشف أن النص بوصفه مصطلحًا دلاليًّا لا يشير إلى مستوًى واحدًا من الوضوح، بل يشير إلى مستويات مُتفاوتة، وإن كانت تندرج جميعًا تحت دلالة «الوضوح» أو «البيان الأول». يقول الشافعي:

افترَض عليهم الصوم، ثم بيَّن أنه شهر والشهر عندهم ما بين الهلالين، وقد يكون ثلاثين أو تسعًا وعشرين. فكانت الدلالة في هذا كالدلالة في الآيتين، وكان في الآيتين قَبْلَه زيادةُ تَبْيِين جماع العَدَد. وأشبه الأمور بزيادة تبيين جملة العدد في السبع والثلاث، وفي الثلاثين والعشر، أن تكون زيادة في التبيين؛ لأنهم لم يزالوا يَعْرِفون هذين العددين وجماعه، كما لم يزالوا يعرفون شهر رمضان.٦
ورغم تفاوُت مستويات الوضوح من «زيادة التبيين» إلى مُجرَّد «التبيين الواضح» الدلالة إلى «المُجْمَل»، يظل مفهوم «النص» كما يطرحه الشافعي يدور في محور الدلالة اللغوية. ومعنى ذلك أن النَّقْلَة الدلالية الاصطلاحية لم تُضِف للدلالة اللغوية شيئًا يُذْكَر وهو ما يفسر لنا نفور بعض المُعاصرِين من إطلاق كلمة «النص» على القرآن، مُتَّهِمين من يفعلون ذلك بارتكاب معصية الخروج على المألوف المُتعارَف المُجْمَع عليه.٧ وقد ظلت تلك الدلالة الاصطلاحية لكلمة النص هي الدلالة السائدة في الخطاب العربي حتى القرن السابع الهجري تقريبًا.

(٣) يقول الزمخشري في سياق تفسير الآية رقم ١٧ من سورة البقرة:

وقد نص الله على تنزيه ذاته بقوله: وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ  وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ. إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ. ونظائر ذلك مِمَّا نَطَق به التنزيل. أما قوله تعالى: خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، فهي من المتشابه الذي يحتاج للتأويل.٨

وهو إذ يستخدم صيغة الفعل «نص» للدلالة على المُحْكَم الواضح البَيِّن الذي لا يحتاج التأويل، يعتبر أن الآية التي تسند فعل خَتْم القلوب إلى الله، من المتشابه الغامض. وهذا التقابل بين المفهومين: النص والمتشابه، يؤكد أن السياق المعتزلي الذي يَتحرَّك فيه الزمخشري، والذي يضع المُحْكَم الواضح مُقابِلًا للمتشابه الغامِض، ما زال يستخدم الدالَّ «نص» بالمعنى اللغوي/الاصطلاحي الشائع. ولما كان الخلاف بين المعتزلة وخصومهم يجد أحد تجلياته في النزاع حول تحديد المُحْكَم وتعيين المتشابه في القرآن، فمن الطبيعي أن ينازع ابن المُنَيِّر السُّنِّي، وَضْع الزمخشري للآية موضوع الخلاف، في إطار المتشابه الذي يحتاج للتأويل. والأهم من ذلك، في سياق تحليلنا الراهن، أنه — ابن المنير — يُصنِّفها دلاليًّا على أساس أنها «نص» لا يحتمل التأويل، ويَتَّهم الزمخشري بأنه:

نزل من منصة النص إلى حضَيض تأويله ابتغاءَ الفتنة؛ فإن الختم فيها مُسْنَد إلى الله تعالى٩ نصًّا.
(٤) ويظل استخدام الدالِّ «نص»، بمعنى الواضح البَيِّن الذي لا يحتمل التأويل شائعًا في الكتابة العربية، بما في ذلك الكتابة الصوفية، ويكفينا ابن عربي الصوفي الأندلسي الشهير (ت: ٦٣٨ﻫ) دليلًا على ذلك. في سياق الحديث عن الزمان وعلاقته بمستويات الوجود المختلفة ومراتبه المتعدِّدة، يُفرِّق الصوفي الكبير بين كلمة «الآن» والفعل «كان» من حيث الدلالة على الزمان، فيرى أن الكلمة «نص» في الدلالة على الزمان، وليس كذلك الفعل لدلالته أحيانًا على مُجرَّد الوجود. وعلى ذلك فعبارة «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان» لا تشير «كان» فيها إلى الزَّمان، بل تشير إلى مُطْلَق الوجود، وينتفي من ثَمَّ التَّعارُض الظاهري بين جزئيها، وهو التعارض الناشئ — فيما يرى ابن عربي — عن سوء فَهْم دلالة الفعل «كان» في العبارة. وبالإضافة إلى ذلك يُؤكِّد ابن عربي حرصًا على نَفْي مقولةِ الزمان كلية عن الوجود المُطْلَق الكلي للذات الإلهية — أن العبارة السابقة لم تَرِد كلها عن النبي، بل الوارد منها عنه جزؤها الأول فقط «كان الله ولا شيء معه.» ثم أُدْرِج الجزء الثاني «وهو الآن على ما عليه كان» في الحديث بعد ذلك، وهو الجزء المُسبِّب لسوء الفهم المشار إليه.١٠

هذه التفرقة بين «النصي» و«المحتمل»، يطرحها ابن عربي في سياق آخَر هو سياق الصراع بين الفقهاء والصوفية حول فَهْم الشريعة. وفي هذا السياق يطرح ابن عربي مفهوم «ندرة النصوص» وهو المفهوم الذي يسوغ «التأويل» ويجعله لا مجرد أمر مشروع، بل يطرحه بوصفه ضرورةً لا غنى عنها. إن الفقهاء الذين يعتمدون في مرجعيتهم الدينية على مُجرَّد النقل عن السابقين والاهتمام بطرق الرواية والتحمل والأداء لا يستطيعون — فيما يرى ابن عربي — فَهْم الشريعة وإدراك معناها كما يفهمها أهل الله الذين يأخذون علمهم مباشرةً بطريق الاتصال الروحي:

«فإن الفقهاء والمُحدِّثين الذين أخذوا علمهم ميتًا عن ميت، إنما المتأخر منهم هو فيه على غلبة الظن؛ إذ كان النقل شهادة والتواتر عزيزًا. ثم إنهم إذا عثروا على أمور تُفِيد الفهم بطريق التواتر، لم يكن ذلك اللفظ المنقول بطريق التواتر نصًّا فيما حكَموا فيه فإن النصوص عزيزة فيأخذون من ذلك اللفظ بقدر قوة فَهْمِهم فيه، ولهذا اختلفوا. وقد يمكن أن يكون لذلك اللفظ في ذلك الأمر فَهْم آخر يعارضه ولم يصل إليهم. وما لم يصل إليهم. تَعبَّدوا به، ولا يعرفون بأيِّ وجه من وجوه الاحتمالات التي في قوة هذا اللفظ، كان يحكم رسول الله المُشرِّع فأخذَه أهلُ الله عن رسول الله في الكشف على الأمر الجَلِي والنص الصريح في الحكم، أو منَّ الله بالبينة التي هي عليها من ربهم والبصيرة التي بها دَعَوا الخلق إلى الله.»١١

ولا تقف حدود التفرقة بين «النصي» و«الاحتمالي» في خطاب ابن عربي عند طرح مفهوم «ندرة النصوص»، بل تتجاوز ذلك إلى توظيف مفهوم «الاحتمالي» بشكل واسع في تأويله للقرآن والأحاديث النبوية على السواء، خاصَّةً إذا تعلق الأمر بأطروحات لا يتقبلها التأويل السُّنِّي الرسمي للإسلام، وإذا كان ابن عربي ينطلق من تصور أن «الرحمة» هي الصفة الإلهية التي انفتح بها وجود كل ما سوى الوجود الإلهي، فمن الطبيعي أن يكون مآل هذا الوجود إلى الرحمة الإلهية الشاملة في الختام. ولأن هذا التصور يتعارض مع الفَهْم السُّنِّي الرسمي المُستنِد إلى نصوص يَعتبِرُها هذا الفهم قطعيةَ الدلالة بشأن العقاب والعذاب وبالتخليد في النار إلى أبد الآبدين، يلجأ ابن عربي إلى إدراج تلك النصوص في خانة «الاحتمالي» نافيًا عنها صفتها «النَّصِّيَّة»:

«لما كانت الصفات نِسَبًا وإضافات، والنِّسب أمور عدمية، وما ثم إلا ذاتٌ واحدة من جميع الوجوه؛ لذلك جاز أن يكون العباد مرحومين في آخِر الأمر، ولا يُسَرْمَد عليهم عدم الرحمة إلى ما لا نهاية؛ إذ لا مُكْرِه له (= الله) على ذلك، والأسماء والصفات ليست أعيانًا تُوجِب حُكْمًا عليه في الأشياء. فلا مانع من شمول الرحمة للجميع، ولا سيما وقد ورد سَبْقُها للغضب (= ورحمتي سبقت غضبي)، فإذا انتهى الغضب إليها (= الرحمة) كان الحكم لها، فكان الأمر على ما قلناه. لذلك قال تعالى: لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا فكأن حُكْم هذه المشيئة في الدنيا بالتكليف. وأما في الآخرة فالحُكْم لقوله: يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ، فمن يقدر أن يدل على أنه لم يُرِد إلا تَسَرمُد العذاب على أهل النار ولا بد، أو على واحد في العالَم كله حتى يكون حكم الاسم: المُعذِّب (بكسر الذال) والمُبْلِي والمُنتقِم وأمثاله صحيحًا؟! والمُبْلِي وأمثاله نسبة وإضافة لا عين موجودة، وكيف تكون الذات الموجودة تحت حُكم ما ليس بموجود؟! فكل ما ذُكِر من قوله: لو شاء، ولئن شئنا، لأجل هذا الأصل، فله الإطلاق. وما ثَمَّ نَصٌّ لا يتطرق إليه الاحتمال في تَسَرْمُد العذاب كما لنا في تَسَرْمُد النعيم، فلم يَبقَ إلا الجواز، وأنه رحمن الدنيا والآخرة. فإذا فَهِمتَ ما أشرنا إليه قَلَّ تَشغيبُك، بل زال بالكلية.»١٢

(٤–١) هذه المقابلة بين «النصي» و«الاحتمالي» في النَّسَق الفكري الصوفي لابن عربي، تؤكد أن الدَّالَّ «نص» ظلَّ يُسْتخْدَم في حقله الدلالي اللغوي الأصلي؛ أي بمعنى الجَلِي الواضح الذي لا يحتاج للتأويل. ولعله من الصعب علينا حتى أن نُحدِّد على وجه اليقين متى وكيف حدَث التحوُّل الدلالي للكلمة لتدُلَّ على ما نقصده منها الآن؛ أي على البناء اللغوي الذي يتجاوز حدَّ الجملة المفيدة. ولعله ممَّا له دلالة في هذا الصدد أن نُدرِك أن الخطاب الديني المعاصر حين يتمسك بالمبدأ الفقهي القديم «لا اجتهاد فيما فيه نص»، وحين يُعيد إعلانه وطرحه دائمًا في وجه أي محاوَلة للاجتهاد الحقيقي، إنما يعتمد في الواقع على عملية مُخادَعة دلالية مُغرِضة. تَتمثَّل هذه المُخادَعة في استخدام كلمة «نص» للدلالة على «كل» النصوص الدينية — القرآن الكريم والأحاديث النبوية — بصرف النظر عن الوضوح والغموض. وبعبارة أخرى يخلط الخطاب الديني عن عمدٍ وقصدٍ بين الدلالة القديمة التي استخدمها الفقهاء حين قرروا المبدأ، وبين الدلالة المُعاصِرة التي تسبق إلى وعي المُخاطَب العادي، فيَترسَّخ في الذهن «تحريم» الاجتهاد. وإذا أضفنا إلى ذلك أن تحديد ما هو «نص» لا يحتمل التأويل وفصله عمَّا هو مُحْتَمل أمر خلافي بين الفقهاء والعلماء — كما سلفت الإشارة — أَدرَكْنا إلى أي حد يريد الخطاب الديني أن يُحْكِم الحصار حول النصوص لينفرد «الكهنوت» بسُلْطة التأويل والتفسير. ويظل استخدام اللغة القديمة في مناقشة قضايا وهموم مُعاصِرة، إحدى آليات الخطاب الديني لتعويق مسيرة العقل والعودة بالواقع إلى الوراء، وهي آلية ربما تحتاج إلى دراسة مستقلة.

(٥) وإذا كنا لا نستطيع أن نجزم يقينًا بكيفية التَّحوُّل الدلالي الذي حدَث للدالِّ «نص» من المعنى القديم إلى المعنى الحديث، فلعل فيما يذكره ابن خلدون (ت: ٨٠٨ﻫ) عن المُشتغلِين بالفلسفة أنهم كانوا يطلقون على كتاب المنطق لأرسطو اسم «النص»، ما يساعدنا قليلًا على استشفاف جذور التحول. يقول عن نشأة الفلسفة بشكل عام وكيف تَحدَّدت مجالاتها، وتَهذَّبت طُرُقها بظهور كتاب المنطق لأرسطو:

وتكلَّم فيه (= المنطق) المتقدمون أول ما تَكلَّموا به جُملًا جُملًا ومفترقًا، ولم تُهذَّب طُرُقه ولم تُجْمَع مَسائِله حتى ظهر في يونان أرسطو، فهَذَّب مباحثه، ورُتِّبَت مسائله وفصوله، وجعله أول العلوم الحكمية وفاتِحَتها. ولذلك يُسمَّى بالمُعلِّم الأول. وكتابه المخصوص بالمنطق يُسمَّى «النص».١٣

وسواء كانت هذه التسمية قد حدثت في اليونانية أم لم تحدث، فالمهم عندنا أن الفلاسفة المسلمين فيما يُؤكِّد ابن خلدون أيضًا قد أطلقوا عليه اسم «النص»:

«وتجد الماهر منهم عاكفًا على كتاب «الشفاء» و«الإشارة» و«النجاة» وتلاخيص ابن رُشْد للنَّصِّ من تأليف أرسطو وغيره.»١٤
قد يمكن أن يقال إن إطلاق اسم «النص» على كتاب المنطق — إذا صح ما يقوله ابن خلدون — هو من قَبِيل التسليم بوضوحه ونَفْي احتمالِيَّته، خاصَّةً إذا قورن بكتب أرسطو الأخرى التي اختلفت الشروح حولها وتَعدَّدت. وقد يمكن أن يقال أيضًا إنه أطلق عليه اسم «النص» بما هو خطاب في القوانين الكلية التي تضبط عمليات الاستدلال والقياس، من خلال ضبط الاستخدام اللغوي وتكوين القضايا طبقًا للقوانين الدلالية الصارمة. وفي كلتا الحالتين يظل استخدام الدالِّ «نص»، دائرًا في إطار الواضح الجَلِي؛ أي دائرًا في مَجال دلالته الأصلية. ولكن يمكن أن يقال أيضًا إن دلالة كلمة «النص» إشارة إلى كتاب «المنطق» عند المُشتغِلِين بالفلسفة، تَتوازى مع دلالة كلمة «الكتاب» التي تدلُّ على «القرآن» داخل دائرة العلوم الدينية، كما تدل على كتاب سيبويه داخل دائرة العلوم اللغوية، وهي التسمية التي يشير بها الإمام الشافعي دائمًا إلى مؤلَّفه الذي اشتهر باسم «الرسالة» في مجال علم الفقه.١٥ ومن المُحتمَل أن المشتغلين بالفلسفة وجدوا في كلمة «نص» بديلًا عن كلمة «الكتاب» تحقيقًا لعدة أهداف؛ الأول: تحاشي ما يُوهِمه إطلاق اسم الكتاب على منطق أرسطو من تشبيهٍ له بالقرآن. والثاني: أن ثَمَّة كُتبًا أخرى لأرسطو، فتخصيص اسم «النص» للمنطق وإفراده به يُميِّزه عمَّا سواه، ويكشف عن مكانته بالنسبة لها. والهدف الثالث والأخير — ولعله الأهم — تحقيق المُوازاة بين مكانة المنطق بالنسبة لعلوم الحكمة والفلسفة، وبين مكانة كتاب سيبويه بالنسبة لعلوم اللغة، وربما تحقيق الموازاة أيضًا بينه وبين «القرآن» بالنسبة للعلوم النقلية، دون استِثَارة عَدَاء رجال الدِّين، خاصَّةً أولئك الذين يقفون من الفلسفة وعلوم الحكمة موقف الرفض الكامل. وأيًّا كان الأمر فلا شك أن إطلاق كلمة «النص» على كتاب كامل، كان بداية النقلة الدلالية من المعنى القديم، إلى المعنى الحديث والمعاصر.

ثانيًا: دالُّ «التأويل» والمفهوم الثقافي للنص

والانتقال من تحليل دالِّ «النص» إلى تحليل دالِّ «التأويل»، معناه الانتقال من مجال اللغة إلى مجال الثقافة العربية قبل الإسلام، بحثًا عن مفهوم للنص بالمعنى الذي نفهمه الآن من كلمة «نص». والمفهوم الذي نبحث عنه واضح أنه مفهوم ضمني نأمل أن ينكشف بتحليل الدالِّ «تأويل»، الذي يُمثِّل الوجه الآخَر للنص في فهمنا المعاصر، هذا من ناحية. ومن ناحيةٍ أُخرى يُؤكِّد حضور الدالِّ «تأويل» في القرآن الكريم — أقدم نص عربي موثوق في صحته — سبع عشرة مرة، في مقابل غياب الدالِّ «النص» غيابًا كاملًا، أن ثمة مفهومًا للنصوص يتجاوز إلى حدٍّ كبير المفهوم من الدالِّ «نص»، كما حلَّلناه في مرة سابقة. والأهم من ذلك من ناحية ثالثة أن الوصول إلى المفهوم عَبْر تحليل الدالِّ «تأويل»، قد يُسهِّل مهمتنا في التعامل مع العلوم الدينية، ذلكم أن هذه العلوم ركَّزت جُل جهدها على طرائق الفهم وآليات التأويل كما سلفَت الإشارة.

(١) تستدعي كلمة «التأويل»، أول ما تستدعي، إلى مجالها الدلالي كلمات من قبيل: «الأحلام» و«الرؤيا» و«الأحاديث». وهذه الكلمات تستدعي بدورها — إلى جانب كلمة «التأويل» — كلمات أخرى؛ من مثل: «التفسير» و«التعبير». ومعنى ذلك أن ثَمَّة علاقة ارتباط دلالي بين هاتين المجموعتين من الكلمات، بحيث يمكن أن تستدعي إحدى الكلمات في كل مجموعة الكلمات الثلاث المُكوِّنة للمجموعة الأخرى، وذلك على النحو التالي، وفقًا لنمطين من العلاقات اللغوية: النمط الأول علاقة الفعل والمفعول، والثاني علاقة الإضافة:

أ ب
أول — … — الرؤيا. تأويل الرؤيا.
فسَّر — … — الرؤيا. تفسير الرؤيا.
عبر — … — الرؤيا. تعبير الرؤيا.
أول — … — الحُلم. تأويل الحُلم.
فسَّر — … — الحلم. تفسير الحلم.
عبَّر — … — الحلم. تعبير الحلم.
أوَّل — … — الحديث. تأويل الحديث.
فسَّر — … — الحديث. تفسير الحديث.

وهي كلها علاقات تقع في مجال الاستخدام اللغوي لتلك الدوالِّ، باستثناء العلاقة التي أسقطناها بين «عبَّر» و«حديث»، فلا يقال: «عبَّر الحديث» ولا «تعبير الحديث». وقبل أن نحاول اكتشاف علة غياب هذه العلاقة، نشير إلى أن نَمطَي العلاقة المشار إليهما بين عَمودَي الدوالِّ هما في الواقع شكلان نحويان وظيفيان لعلاقة دلالية واحدة، خاصَّةً إذا أخذنا بتأويل النحاة أنفسهم لعلاقة «الإضافة» تلك بأنها من قبيل «إضافة المفعول إلى المصدر».

والعلاقة بين الدوالِّ الثلاث التي تحتل موقع المفعول — أو المضاف إليه — تَتحدَّد على أساس أن الدالَّ «رؤيا» يشير إلى الدالِّ «حلم»، ولكن من منظور المُتكلِّم صاحب الحلم غالبًا. وفي مقابل ذلك يدل الدالُّ «حلم» على الرؤيا، ولكن من منظور المُراقِب المحايد، أو الآخَر، سواء قام بدور المُؤوِّل والمُفسِّر أم لم يَقُم. ويتوسط بينهما الدالُّ «حديث»، من حيث يشير إلى المشترَك بين صاحب «الرؤيا» وبين الآخَر، ذلك أن الحديث بمثابة تحويل للرؤيا من مَجال العلامات المرئية إلى مَجال العلامات المسموعة؛ أي إلى مجال اللغة الطبيعية. يؤكد هذا الذي نذهب إليه أن محمد بن جرير الطبري (ت: ٣١٠ﻫ) يفسر «تأويل الأحاديث» في سورة «يوسف» بأنها: «ما يَئُول إليه أحاديث الناس عمَّا يرونه في أحلامهم.»١٦ ويمكن تمثيل العلاقة بين الدوالِّ الثلاث على النحو التالي:

إن الاستخدام القرآني لمفردات «الرؤيا» و«الأحلام» و«الأحاديث» يؤكِّد — خاصَّة في سورة يوسف التي تعتمد في بنائها القصصي على الأحلام — ما نذهب إليه من فروق بينها. يقول يوسف لأبيه: يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ، فيرد الأب: يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ، ومن المهم ملاحظة أن استخدام الدال «رؤياك» من جانب المخاطَب/المُستمِع، يرتبط في سياق القصة بطبيعة المتكلِّم/الرائي، أي بكونه طفلًا قد لا يُدرِك الفارق بين «الرؤية» و«الرؤيا» إدراكًا واضحًا (الآيات: ٤-٥). لكنَّ المَلِك حين يَقصُّ رؤياه على الملأ مستفتيًا إياهم، يكون ردهم: أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (الآية: ٤٤)، مُستبدِلِين الدالَّ «أحلام» بالدالِّ «رؤيا» في الخطاب. أما استخدام الدالِّ «حديث» فيشير في الخطاب القرآني — في سياق الحديث عن الرؤى والأحلام فقط — إلى مدلول مُحايِد لا يتعلق بالمتكلِّم ولا بالمُخاطَب. يقول يعقوب ليوسف: وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ (الآية: ٥). ويتردد التعبير مرة أخرى في السورة بضمير المتكلم — الله —: وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ (الآية: ٢١).

والاستخدام القرآني لمفردات «التأويل» و«التعبير» في سورة يوسف، يقصر استخدام دالِّ «التعبير» في الدلالة على تأويل «الرؤيا» دون «الأحلام» أو «الأحاديث»، فالمَلِك حين يستفتي قومه في شأن رؤياه يقول: يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (الآية: ٤٣). وفي مقابل ذلك نجد أن الدالَّ «تأويل» يُسْتخدَم مع كل المفردات: «الرؤيا» و«الأحلام» و«الأحاديث»، فالقوم يردون على المَلِك: وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (الآية: ٤٤). ويقول يوسف في خاتمة القصة بعد تحقق الحلم: يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا (الآية: ١٠٠). وارتباط كلمة «التأويل» بكلمة «الأحاديث» أَبْيَن من أن نشير إليه استشهادًا، والطبري يُفسِّر عبارة «تأويل الأحاديث» دائمًا بأنها تعبير الرؤيا، أو عبارة الرؤيا، وأحيانًا يكتفي بالقول بأنها: العبارة.١٧ وإذا كانت العبارتان: «تأويل الأحاديث» و«تعبير الرؤيا» عبارتين يمكن أن تحل إحداهما محل الأخرى، فلماذا لا يمكن أن يحل الدالُّ «تعبير» محل الدالِّ «تأويل»، ولا يمكن مِن ثَمَّ أن نقول: «تعبير الأحاديث»، كما نقول: «تأويل الرؤيا».

(١–١) الخلاف الدلالي بين «الرؤيا» و«الرؤية» من جهة، وبين «رأى» البصرية و«رأي» العِلْمية بمعنى عَلِم — وبينهما وبين «رأى» الحلمية — رأى في المنام — من جهة أخرى، اختلاف معروف وهامٌّ لا شك في ذلك. لكن هذا الاختلاف لا يزيل كلية علاقات الاشتقاق من جذر واحد، فيظل المعنى الحسي — رؤية العين — حاضرًا — بدرجات متفاوتة بالطبع — في دلالة كل مِن رأى «العِلْمية» و«الحُلْمية» على السواء. ولا شك أن حضور الدلالة الحسية في الأخيرة أعلى من حضورها في العِلْمية، بدليل أن قابلية العِلْمية لأن يُسْتبدَل بها الدال «عَلِم» لا توجد في «رأى» الحُلْمية، رغم أن كِلا الفعلين يندرج — وظيفيًّا — في الأفعال التي تَتعدَّى إلى مفعولين، على خلاف جذرها الذي يتعدى إلى مفعول واحد. ومعنى ذلك أن «الرؤيا» مثلها مثل «الرؤية» تدل على الانطباعات الحسية المباشِرة قبل أن تَتحوَّل إلى «مُدرَكات» تخضع للتصنيف العقلي، الذي يُحوِّلها بدوره إلى معرفة؛ أي إلى «علم». والفارق بينهما أن «الرؤيا» تدل على الانطباعات التي تَتكوَّن من المخيلة أثناء النوم، وهي انطباعات يعلم الإنسان أنها تدلُّ على مَعانٍ وراءها، معانٍ غير مُباشِرة تحتاج للإفصاح عنها من خلال «العبور» من «ظاهر» الصور المُدرَكة إلى «الباطن» المستكن وراءها، من هنا يَتعلَّق دالُّ «التعبير» بالرؤيا تعلُّقًا مباشرًا صريحًا. لكن عملية «العبور» هذه لا تتم إلا بتحويل الرؤيا «إلى» حديث، أي الانتقال من لغة «الصور» إلى اللغة الطبيعية التي يتشارك فيها كل من الرائي/المتكَلِّم، والمُفسِّر/المُستمِع.

هكذا تكون الرؤى والأحلام في الثقافة العربية نصوصًا دالَّة، بالمعنى السميوطيقي للنصوص، لكنها نصوص تحتاج للترجمة إلى اللغة الطبيعية قبل أن تصبح موضوعًا للتأويل أو التفسير. إنها مثل اللوحة، أو التمثال، أو قطعة الموسيقى، من حيث سلسلة العلامات غير اللغوية المُنظَّمة تنظيمًا خاصًّا يجعلها مُنتِجة لدلالة كلية، ليست إلا حاصل تفاعُل دلالات العلامات داخل كل منظومة. إنها جميعًا نصوص في اللغات غير الطبيعية، وتحتاج — مثل الرؤى والأحلام — إلى أن تُترْجَم إلى اللغة الطبيعية في حالة الرغبة في مشاركة الآخرين في فَهْم «الرسالة» المتضمنة في مثل هذا النمط من النصوص. لكن الرؤى والأحلام تختلف عن تلك النصوص في كونها لا تقبل المشارَكة أصلًا إلا بعد تحويلها إلى «أحاديث»، بحكم أن إدراك علاماتها، وإدراك كيفية تنظيمها، لا يتأتَّى إلا بالترجمة.

ولأن الترجمة مسألة جوهرية لتعبير الرؤى وتأويل الأحلام، فقد كان الاهتمام بها في الثقافة العربية اهتمامًا ملحوظًا، لدرجة أن كُتب تفسير الأحلام تُقرِّر أن الرؤيا قد تُشابه رؤيا أخرى من حيث الصور ومن حيث تتابعها — أي من حيث العلامات ومن حيث تنظيمها — لكن هذا التشابه لا يعني أن تأويلهما واحد. ويرجع السبب في اختلاف التأويل رغم التشابه الذي يصل إلى حدِّ التطابق، إلى أمرين؛ أولهما: اختلاف الترجمة؛ أي اختلاف العلامات اللغوية واختلاف كيفية تنظيمها، والسبب الثاني: اختلاف الأشخاص واختلاف طبائعهم.١٨ إن المُؤوِّل يبني تأويله للحُلْم على أساس معرفته بشخص الرائي من ناحية، وعلى أساس الترجمة التي يُعبِّر بها الرائي عن رؤياه من ناحية أخرى. ومعنى ذلك أن الترجمة لا تمثل وسيطًا محايدًا ينقل الصور الحُلْمية كما هي، بل للغة الترجمة — اللغة الطبيعية — تأثير على تأويله، بما أنها إعادة إنتاج للنص الأول — للرؤيا — تُحوِّله إلى نصٍّ آخر، هو «الحديث». لذلك يصح أن يقال «تعبير الرؤيا» وأن يقال «تأويل الرؤيا»، على أساس أنه لا تأويل بلا تعبير، ولا يصح أن يقال «تعبير الحديث»، كما يقال «تأويل الحديث» لأن التأويل يتعلق بالحديث — النص اللغوي — تَعلُّقًا مباشرًا. ومعنى تُعلُّق التأويل في الاستخدام القرآني بكلٍّ مِنَ الرؤى والأحلام من جهة، وتُعَلُّقه بالأحاديث — من جهة أخرى — مع اختلاف وجْهَي التَّعلُّق أن الرؤى والأحلام نصوص مثلها مثل الأحاديث، وأن اختلاف اللغة لا يخرجها من دائرة النصوص القابلة للفهم والتأويل.
إن «تعبير الرؤيا» إخراج لما في الخيال يتماثل يمع «التعبير» عمَّا في النفس، من هنا يمكن أن نقول إن الفهم التراثي للرُّؤى والأحلام، يتوازى مع فَهْم المُتكلِّمِين للعلاقة بين «المعاني النفسية» — التي اعتبرها أكثرهم خاصَّةً الأشاعرة كلامًا وبين الكلام الذي هو بمثابة دليل يشير — مُجرَّد إشارة — إلى ما في النفس. والفارق بين المتكلمين ومُفَسِّري الأحلام يَكمُن في أن الأَخِيرِين أَعْطَوا للكلام — الحديث — فعاليةً خاصَّةً تساهم في إنتاج الدلالة، ولم ينظروا إليه بوصفه وسيطًا محايدًا. ولعل ما في هذا التَّصوُّر من ديناميكية هو الذي مَهَّد المجال أمام المتصوفة — خاصة ابن عربي — للربط بين النص القرآني، وبِنْية العالم والوجود، من خلال تصوُّر للعالم يربط بينه وبين الحُلْم، ويُحوِّله إلى نصٍّ يجد «تعبيره» في القرآن. ولأننا سنُفْرِد فقرة مستقلة لمفهوم النص عند ابن عربي نكتفي هنا بما يقوله عن المُماثلة بين «تعبير الحلم» والتعبير عن النفس من جهة، وما يقوله عن مُطابَقة التعبير — أو عدم مطابقته — للحلم أو عمَّا في النفس من جهة أخرى «وما سُمِّي الإخبار عن الأمور عبارة، ولا التعبير عن الرؤيا تعبيرًا، إلا لكون المُخبِر (بالكسر) يُعبِّر بما يتكلم به؛ أي يجوز بما يتكلم به، من حضرة نفسه إلى نفس السامع، فهو ينقله من خيال إلى خيال؛ لأن السامع يتخيله على قَدْر فَهْمِه. فقد يُطابَق الخيالُ والخيال، خيالُ السامع مع خيال المتكلِّم، وقد لا يُطابق، فإذا طابقه سُمِّي فَهْمًا، وإن لم يطابق فليس ذلك بفَهْم، ثم المُحدَّث عنه قد يُحَدَّث عنه بلفظ يُطابِقه كما هو عليه في نفسه، فحينئذٍ يُسمَّى عبارةً. وإن لم يطابقه كان لفظًا لا عبارةً؛ لأنه ما عَبَّر به عن مَحلِّه إلى مَحلِّ السامع.»١٩

وإذا كان ابن عربي يدور غالبًا في دائرة الطبيعة «الاحتمالية» للغة، فإن موقف الثقافة من نصوص الرؤى والأحلام وعلاقتها بتعبيرها اللغوي — في اللغة الطبيعية — يدور في دائرة إعطاء مركز الثِّقل والأهمية للتعبير اللغوي، الذي هو موضوع التأويل بشكل مباشر، وقصة حُلْم «ربيعة بن مُضَر»، التي تَتردَّد في كتب السيرة خيرُ شاهد على أهمية «التعبير»، إذ يروي أنه رأى رؤيا:

«هالته وفظع بها، فلم يَدعْ كاهنًا ولا ساحرًا ولا عائفًا ولا مُنجِّمًا من أهل مملكته إلا جمعه إليه، فقال لهم: إني قد رأيتُ رؤيا هالتني وفظعت بها، فأخبِروني بها وبتأويلها، قالوا: اقصصها علينا نخبرك بتأويلها، قال: إن أخبرتُكم بها لم أَطمئِنَّ إلى خبركم عن تأويلها، فإنه لا يعرف تأويلها إلا مَن عرفها قبل أن أخبره بها، فقال له رجل منهم: فإن كان الملك يريد هذا فليبعث إلى سَطِيح وشِقٍّ، فإنه ليس أحد أعلم منهما، فهما يُخبرانه.»٢٠

واللافت في هذه القصة أن صاحب الحلم/الرائي لا يطمئن لتأويل رؤياه إذا كان عليه أن يُحوِّلها بنفسه إلى «حديث»، بل يُريد من المُؤوِّل أن يعرف الحُلْم ويقوم بتأويله في الوقت نفسه. ومعنى ذلك أن تعبير الرؤيا التعبير الصحيح هو الكفيل بالوصول إلى تأويلها الصائب؛ لذلك لم يحقق مراد الرائي إلا سَطِيح الكاهن الذي كان جسده من شِدَّة لِين عظِامه «يدرج كما يدرج الثوب»، فيما يقول ابن خلدون. ولا يكتفي صاحب الحُلْم بحكاية سَطيح للرؤيا وتأويله لها، بل يلجأ إلى شِقِّ بن أنمار — كاهِنٍ آخر في كفاءة سطيح — ليطمئن قَلبُه للتأويل الذي طرحه سَطيح.

وإذا كانت قصة حلم «ربيعة بن مضر» تُبْرِز أهمية «التعبير» لتأويل الحُلْم، فإن قصة حُلْم السَّجِينَين في سورة يوسف — كما يروي تفاصيلها الطبري نقلًا عن بعض الرواة — تَسْتبدِل بالحُلْم التعبيرَ ذاته. فطبقًا لهذه المرويات أن يوسف لما دخل السجن قال:

«أنا أُعبِّر الأحلام. فقال أحد الفَتيَيْن لصاحبه: هَلُمَّ نُجرِّب هذا العبد العبراني. فتراءيا له فسألاه من غير أن يكونا رأيا شيئًا. فقال الخَبَّاز: إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ، وقال الآخر: إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا٢١
وحين كشف الفَتَيَان ليوسف عن حقيقة أنهما لم يَريَا شيئًا، وأنهما كانَا في الحقيقة يَختبِرَانه، يكون رد يوسف. قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (الآية: ٤١)، «قد وقعت الرؤيا على ما أُوِّلَت ووجَب حُكْم الله عليكما بالذي أخبرتُكما به.»٢٢ وليس المهم في هذه المرويات مدى مطابقتها للحقيقة، بقدر ما يهمنا منها ما تعكسه من قدرة «التعبير» وقُوَّته، وقابليته — وحده — للتحقق العيني في الواقع … وعند هذه النقطة يصح أن نفترض أن الثقافة العربية ثقافة تحمل مفهومًا للنص أوسع من مفهوم النصوص اللغوية، مفهومًا سميوطيقيًا — إذا صحت العبارة — لكنه مفهوم يجعل السيادة للنصوص اللغوية، فيحتل، «التعبير» من ثَمَّ مكانة عالية في هذه الثقافة.
(٢) لعل الافتراض السابق يتأكد حين نُحلِّل مفهوم «التأويل»، من خلال حصر المجالات التي يمارس فعاليته فيها، وذلك بالإضافة إلى مجال الرؤى والأحلام التي انصبَّ عليها تحليلنا في الفقرة السابقة. فهناك في الاستخدام القرآني لدالِّ «التأويل»: تأويل الطعام (سورة يوسف، الآية: ٣٧)، وهناك: تأويل الأفعال (الكهف، الآية: ٧٨)، وتأويل الكتاب، أو ما ورَد فيه من إنذار وتخويف (يونس، الآية: ٣٩)، وتأويل الآيات المتشابهات (آل عمران، الآية: ٧). هذا بالإضافة إلى ورُود الدالِّ منقطعًا عن الإضافة تمييزًا منصوبًا (النساء، الآية: ٥٩، والإسراء، الآية: ٣٥). والتأويل — فيما يقرر الطبري — هو: «التفسير والمرجع والمصير… وأصله من آل الشيء إلى كذا، إذا صار إليه ورجع، يُؤَوِّل أولًا، وأَوَّلْتُه أنا: صَيَّرْتُه إليه.»٢٣

ولذلك تصبح دلالة الكلمة متقطعة عن الإضافة: الجزاء والعاقبة مطلقًا، وتختلف الدلالة جزئيًّا في حالة الإضافة، فيصبح تأويل الأفعال — في قصة موسى والعبد الصالح في سورة الكهف — هو الكشف عن دلالتها التي كانت خفية بالنسبة إلى موسى. لقد بدَتْ أفعال العبد الصالح، وتصرفاته، من منظور الأفق الذهني المعرفي لموسى، أفعالًا خَرقاء؛ لأنه لم يكن يعرف غايتها وعاقبتها، حتى كشف له العبد الصالح عن تأويلها.

وقد حاول الطبري جهده في تفسير «تأويل الطعام»، الواردة في سورة (يوسف، الآية: ٣٧) فقال: «ويعني بقوله: بتأويله» ما يَئُول إليه ويصير ما رأيَا في منامهما من الطعام الذي رأيَا أنه أتاهما فيه.٢٤ وهي مُحاوَلة مشروعة للربط بين القول والرُّؤى التي حكى الفتيان أنهما رأياها، لكن سياق القول وصياغته لا تتفق مع تفسير الطبري؛ فالسياق سياق التَّحدُّث بنعمة الله التي وهبها ليوسف، والصياغة تدل على طعام يُرْزَقُه الفَتيَان، لا طعام يريانه في رؤيا. والأهم من ذلك أن يوسف يُدلِّل على قدرته على تأويل الطعام قبل إتيانه. وكل ذلك يدل على أن للتأويل معنًى غير ما ذهب إليه الطبري، وهو الكشف عن المصدر لا بيان العاقبة. وما لم يلتفت إليه الطبري أن التأويل هنا — بإضافة الطعام إليه — ليس من الضروري أن تكون دلالته مثل دلالة «تأويل الأحلام»، بل هي هنا الرجوع إلى المصدر والكشف عن الأساس، وهو من المعاني اللغوية التي عدَّدها الطبري نفسه، فيما نقلنا عنه قبل ذلك.
وأما تأويل المتشابهات من آيات القرآن (آل عمران، الآية: ٧)، فواضح من سياق سبب النزول أن المقصود بالمتشابهات: الحروف المقطعة في أوائل السور، وأن الآية وردت مَوْرد الذم والاستهجان لبعض اليهود الذين تَوهَّموا أن هذه الحروف تدل — بحساب الجُمَّل الذي يُقابِل فيه كل حرف من حروف اللغة عددًا حسابيًّا — على مدة نُبوَّة محمد وسيادة الدين الذي يدعو إليه.٢٥ وعلى هذا يكون معنى «التأويل» محاولة اكتشاف دلالة تلك الحروف، لغايات سمَّاها القرآن «ابتغاء الفتنة»، فهي الغاية من اتباع المتشابه ومن التأويل. ومن الضروري هنا الإشارة إلى أن الآية لا تضع قانونًا عامًّا ينهى عن التأويل، وإن كان هذا الفهم قد تم تسييده من قِبَل بعض الاتجاهات الفكرية في تراثنا، وهي اتجاهات نجد لها امتدادًا في مُفكِّرِي السُّلْطة الدِّينِيِّين. إن تأويل المتشابهات يجب أن يتم وفقًا لرَدِّها إلى «المُحْكَمات» اللاتي «هن أم الكتاب»، وهذا هو التأويل المشروع، وما سواه تأويل مذموم بالهوى والرأي والمصلحة الذاتية. والمهم في سياقنا الراهن — لأننا سنعود لقضية المُحْكَم والمتشابه عند الحديث عن علم الكلام — أن التأويل أداة معرفية، قد يكون موضوعها الرُّؤى والأحلام، وقد يكون موضوعها الأفعال الإنسانية، وقد يكون موضوعها الأشياء، وقد يكون موضوعها — أخيرًا — النصوص اللغوية. وهذا يؤكد الافتراض الذي خَتَمْنا به الفقرة السابقة، والذي يزعم أن للثقافة العربية مفهومًا للنص بالمعنى السميوطيقي، بل يمكن القول إن تلك الثقافة قد طَوَّرت مع الإسلام مفهومًا للنص يشمل الكون كله من أعلى مراتبه إلى أدناها.

(٣) النص في تعريفه المعاصر: سلسلة العلامات المُنتَظِمة في نَسَق من العلاقات تُنتِج معنًى كُلِّيًّا يحمل رسالة. وسواء كانت تلك العلامات علاماتٍ باللغة الطبيعية — الألفاظ — أم كانت علامات بلغات أخرى، فإن انتظام العلامات في نسق يحمل رسالة يجعل منها نصًّا. وليس من قبيل الصُّدْفة أن المفردات «عِلْم» و«عالَم» و«عَلَامة» مفردات من جذر لغوي واحد في اللغة العربية. وليس من قَبِيل الصدفة أيضًا أن كتاب العربية الأكبر، ونصَّها المهيمن، يُسمِّي نفسه «رسالة»، ويطلق على وحداته الأساسية المُكوِّنة للسور — الوحدات الأكبر — اسم «الآية». والآية — فيما يقرر الطبري:

تحتمل وجهين في كلام العرب: أحدهما أن تكون سُمِّيَت آية؛ لأنها علامة يُعْرَف بها تمام ما قبلها وابتداؤها، كالآية التي تكون دلالةً على الشيء يُسْتدَل بها عليه، كقول الشاعر:

أَلِكْني إليها عَمْرَك اللهَ يا فتى
بآيةِ مَا جاءت إليك تَهاديَا

يعني: بعلامة ذلك. ومنه قوله جل ذكره: رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ (سورة المائدة، الآية: ١١٤) أي علامة منك من السماء لإجابتك دعاءنا وإعطائك إيَّانا سُؤْلَنا.

والآخَرُ منهما: القصة، كما قال كعب بن زهير بن أبي سلمى:

ألا أَبْلِغَا هذا المُعَرِّض آيةً
أيقظان قال القول، إذ قال، أم حُلُم

يعني بقوله «آية»: رسالة مني وخبرًا عَنِّي، فيكون معنى الآيات:

القصص، قصة تتلو قصة، بفصول ووصول.٢٦

وإذا كانت «الآية» علامة، والنص: رسالة، فإن الكون كله — في الخطاب القرآني — سلسلة من العلامات الدالَّة — الآيات — على وجود الله، وعلى وحدانيته. ذلك أن ثَمَّة نَصَّيْن: نصًّا لغويًّا مُرْسَلًا من الله للإنسان، ونصًّا غير لغوي — العالَم — يُمثِّل رسالةً يتجاوب مضمونها مع مضمون الرسالة اللغوية. واستعراض دلالة كلمة «آية» ومُشتقَّاتها في الخطاب القرآني يؤكد ما نذهب إليه. وقد حصر «معجم ألفاظ القرآن الكريم» دلالاتها على الوجه التالي:

الأصل في معنى الآية: العلامة الواضحة، وهو مُتحقِّق في كل ما تطلق عليه كلمة «آية»، فسُمِّي خلق الكون آيةً؛ لأنه علامة على قدرة الله. وسُمِّيَت مُعجِزات الأنبياء آيةً؛ لأنها علامَة على صِدْقِهم، وعلى قدرة الله.

وسُمِّيَت العِبْرَة آيةً؛ لأنها علامة على معاني العظمة والاعتبار.

وقيل لكلِّ جملة في القرآن بين فاصلتين آية، علامة على ما تَضمَّنَته من أحكام وآداب، ونحوهما.

وسُمِّي البناءُ العالي آيةً؛ لأنه علامة على قُدْرَة بانيه.٢٧

وفي كثير من آيات القرآن — التي يطول بنا المقام إذا استشهدنا بها — توجيه للإنسان لكي يقرأ آيات الله في الكون وفي الناس وفي نفسه، وفي هذا التوجيه ما يدلُّ على وجود تَصوُّر لتَسانُد النصوص — لغوية وكَوْنِية وإنسانية — في إنتاج الدلالة المُنتِجة للرسالة. إن النظر في المَلَكوت وفي الخلق هو بمثابة قراءة لتأويل الآيات/العلامات — وصولًا إلى دلالتها، وبالمثل يُعَد تأويل القرآن — النص اللغوي — مُوصِّلًا للرسالة الموجودة — سلفًا — في الكون. ولا غرابة بعد ذلك كله أن يقرأ ابن عربي القرآن في الكون، كما يقرأ الكون في القرآن، ولا غرابة أيضًا أن يوازي — كما سنشرح مِن بعدُ — بين نصِّ الكون وبين «الحُلْم»، وأن يوازي كذلك بين «القرآن» و«التعبير» بالمعنى الذي تَعرَّضْنا له في الفقرة السابقة. وإذا كان المتكلمون في تقسيمهم لأنواع الأدلَّة، جَعلوا الدلالة اللغوية فرعًا للدلالة العقلية، وجعلوا المعرفة العقلية مُترتِّبَة على الإدراكات الحسية، فقد كانوا في الواقع يَخوضُون في إدراك «العالَم» المُكوَّن من علامات/آيات/أدلة، يؤدي «تأويلها» إلى «العالَم». وبما أن دلالة القرآن دلالة لغوية، فإن اكتشاف هذه الدلالة — بتأويل العلامات/الآيات — لا يمكن أن يتم بمعزل عن إدراك العالَم بالمعنى السالف. لكن هذه التطورات التالية في صياغة مفهوم للنص من خلال آليات القراءة ظَلَّت مشدودةً بخيط خَفِيٍّ لذلك المفهوم الضمني — الذي نأمل أن نكون قد استطعنا كشفه وتَتبُّعه — في ثقافة ما قبل الإسلام وبداية التطور الإسلامي. وقد يقول قائل: إن الخيط الذي حاولت اكتشافه خيط أمسكت آخِرَه وتَتبَّعته من المَصب إلى المَنْبَع، وكان الأَوْلى أن نَتبعه من المنبع/الأصل إلى المَصَب في اتجاه تَطوُّره الطبيعي. والحقيقة أنني حاولتُ تَتبُّع الخيط في مَساره الطبيعي، لكني أعترف في الوقت نفسه أن قراءة السابق في ضوء اللاحق قراءةٌ مشروعة، ما دام الإنسان لا يستطيع — مَهْمَا حاول — أن يتجاوز تَراكُم الخبرة في تاريخ ثقافته، ليقرأ بداياتها قراءة بريئة تمامًا من آثارِ تلك التراكمات.

١  مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء، ١٩٩٠م.
٢  انظر: معجم أكسفورد.
٣  الرسالة، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر، المكتبة العلمية، بيروت، بدون تاريخ، ص١٤.
٤  السابق، ص٢١.
٥  السابق، ص٢٢، ٢٨–٣٠.
٦  السابق، ص٢٧–٢٨.
٧  انظر: محمد محمد أبو موسى: التصوير البياني: دراسة تحليلية لمسائل البيان، مكتبة وهبة، القاهرة، ط٢، ١٩٨٠م، حيث يشنُّ المؤلف هجومًا حادًّا على ما يُطْلَق عليه اسم «النزعة الأعجمية في فَهْم القرآن»، ويُدْخِل فيها إطلاق اسم «النص» على القرآن، ويري أننا:
«لم نعرف في تاريخ الأمة من سمَّى كلام الله بغير ما سمَّاه الله من سور وآيات، ولم نعرف أن أحدًا من العلماء تناوَل القرآن من حيث هو نص؛ لأن هذا مِمَّا يُستَعاذ بالله منه، وإنما تَناوَلوه في كل حالٍّ من حيث هو تنزيل مِنَ الله العزيز العليم» (ص١٩). ولا شك أن المؤلِّف ينطلق من نزعةٍ أقل ما يمكن أن يُقال عنها أنها نزعة مُغْرِقة في «السلفية» العقلية، فالإصرار على استخدام المُفْرَدات اللغوية التقليدية، والفزع من استخدام أي مفردات معاصرة، يعكس موقفًا ارتداديًّا — لا رجعيًّا فقط — يغمض عينيه عامدًا عن تطورات الحياة والفكر والمفاهيم. لكن المثير للأسى حقًّا هذا التجاهل — ولا نقول الجهل — لدلالات كلمة «نص» في اللغة العربية، وتَصوُّر أنها كلمة أعجمية، هذا بالإضافة إلى العجز الواضح عن فَهْم تَطوُّر دلالة مفردات اللغة، مع تطور وعي الجماعة الناطقة بها. ومما يُحوِّل الإحساس بالأسى إلى إحساس بالكارثة أن المؤلِّف من دَارِسي علم البلاغة، ومن القائمين بتدريسه في جامعة الأزهر العريقة.
٨  الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، دار الكتاب العربي، بيروت، الجزء الأول، ص٥٠.
٩  الانتصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال «على هامش الكشاف»، الجزء الأول، ص٤٩.
١٠  الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت، بدون تاريخ، الجزء الثاني، ص٦٩٢.
١١  السابق، الجزء الأول، ص١٩٨.
١٢  السابق، الجزء الأول، ص١٦٣-١٦٤.
١٣  المقدمة، كتاب التحرير، دار الشعب، مصر، ١٣٧٢ﻫ، ١٩٥٣م، ص٤١٧.
١٤  السابق، ص٤٦٠.
١٥  انظر: الرسالة، مقدمة المحقق، ص١٢.
١٦  جامع البيان عن تأويل آي القرآن، تحقيق: محمود محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، ط١، ١٩٦٠م، الجزء الخامس عشر، ص٥٦٠.
١٧  السابق نفسه؛ وانظر أيضًا: الجزء السادس عشر، ص٢٠، ٢٨٠.
١٨  انظر: صلاح الراوي: الجوانب الفولكلورية في كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميري، رسالة ماجستير مخطوطة، جامعة القاهرة، ١٩٨١م، ص٣٠١–٣٢٢.
١٩  الفتوحات المكية، الجزء الثالث، ص٤٥٣-٤٥٤.
٢٠  ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق: طه عبد الرءوف سعد، دار الجيل، بيروت، ١٩٧٠م، الجزء الأول، ص١٣.
٢١  جامع البيان عن تأويل آي القرآن، الجزء السادس عشر، ص٩٥-٩٦.
٢٢  السابق نفسه، ص١٠٧–١٠٩.
٢٣  السابق، الجزء السادس، ص٢٠٤-٢٠٥.
٢٤  السابق، الجزء السادس عشر، ص١٠١.
٢٥  السابق، الجزء السادس، ص١٦٩–٢٠٨.
٢٦  السابق، الجزء الأول، ص١٠٦.
٢٧  صادر عن مجمع اللغة العربية بالقاهرة، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، ط٢، ١٣٩٠ﻫ/١٩٧٠م، المجلد الأول مادة: أي ي، ص٧٣-٧٤؛ وانظر تفسير الطبري للآيات الواردة في سورة البقرة المُتضمِّنَة للكلمة: جامع البيان، الجزء الثاني، ص٣٩٧، ٥٥٣-٥٥٤؛ والجزء الثالث، ص١٨٤، ٢٧٦؛ الجزء الرابع، ص٢٧٠-٢٧١، ٣٤٧، ٤٧١، الجزء الخامس، ص٣١٧، ٣٣٧، ٣٧٧.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥