مدخل
يتصور ابن عربي في هذا النص (أعلاه) أنه يَحل إشكالية الفكر الديني الإسلامي كله،
بل إشكالية
الفكر الديني بصفةٍ عامَّة، ذلك الفكر الذي يتذبذب بين طرفين هُما الله من جهةٍ والعالَم
والإنسان
من جهةٍ أخرى. فأولئك الذين رَكَّزوا على جانِب العالَم والإنسان — أي بدَءُوا بالطبيعة
— جعلوا من
عالَم ما وراء الطبيعة عالمًا موازيًا، تُطبَّق عليه — باستخدام آلية القياس — قوانينُ
العالَم
الموضوعي المُشاهَد والمحسوس. وعند هؤلاء — المعتزلة والفلاسفة العقلانيين بشكلٍ عامٍّ
— أصبح مبدأ
«قياس الغائب على الشاهد» مبدأً أساسيًّا في نَسقِهم الفكري والفلسفي. وتم التركيز في
فَهْم النصوص
الدينية على بُعْد «التنزل»؛ أي إن حركة الوحي حركةٌ تُوجه من جانب الله لمُخاطبة الإنسان؛
تحقيقًا
لسعادته في الدنيا وفي الآخرة على السواء. هذا «التنزل» على مستوى الحركة هو «التنزيل»
على مستوى
النص الإلهي، وكلاهما يعني أن «الإنسان» أصلُ الحركة وغايتُها، وهذا يسميه ابن عربي في
النص السابق
«فالعبد طريق الرب فإليه غايته». وإذا كان الإنسان في هذا التصور هو الأصل والغاية؛ فمن
الطبيعي أن
يكون اتصال الرب به اتصالًا يتم وَفْق آليات الثقافة التي أنتجها، و«اللغة» — بكل ما
تشتمل عليه من
قوانين في صلبها قانون «المجاز» والتغير في الدلالة — في مركز القلب منها.
لكن هناك مَن رَكَّزوا على جانب «الله» واختاروا الطريق الآخَر. وإذا كان أهل الطريق
السابق قد
بَنَوا تَصوُّرَهم وفقًا لحركة العقل المعرفية الطبيعية والتلقائية، الحركة من المحسوس
إلى
المُجرَّد ومن المُدرَك إلى المعقول، فقد بنى أهل الطريق الثاني تَصوُّرَهم بناءً على
«الأنطولوجيا»
الدينية، التي تَتصوَّر الوجود حركةً دائريةً تبدأ من أصل واحد — هو الله — يَتخلَّق
عنه —
بالتَّجلِّي أو بالفيض أو بفعل الخَلْق من مادة قديمة أو من العدم — العالَم والإنسان.
في البدء كان
العالَم واحدًا، حيث يعيش الإنسان في جَنَّة الرَّب مُنعَّمًا، لكن إبليس يغري الإنسان
— وفقًا لخطة
إلهية سابقة بأن يكون إلهًا خالدًا إذا أكل من الشجرة الوحيدة التي حرَّم الرَّب عليه
ثَمرَها.
وهكذا يقع الإنسان في المعصية فيناله عقاب الرَّب بالخروج من الجنة، والحُكْم عليه بالسعي
في الأرض
والشقاء فيها، ومُكابَدة الصراع ضد القوانين الطبيعية القاهرة من جهةٍ وضد أخيه الإنسان
من جهةٍ
أخرى. ووفقًا لمُعطَيات الوحي الإسلامي فقد تَقبَّل الله توبةَ آدم، ووعده بأن يرسل له
بين الحين
والآخر رُسلًا تكون مُهمَّتهم هدايةَ بني البشر لطريق العودة إلى الجنة التي خرج منها
آدم بمعصيته.
من هذا المنظور الأنطولوجي فالطريق — بحسب تعبير ابن عربي: «والرب طريق العبد فإليه غايته»
يكون
حركةً من جانب الإنسان «عودة» إلى «الأصل» — الله — بالعروج بالمعنى الصوفي. وفي مثل
هذا التصور لا
يمتلك الإنسان شيئًا، حتى اللغة والثقافة والتراث، فهي وسائل زَوَّد اللهُ بها الإنسان
حتى يتمكن من
اكتشاف طريق العودة إليه، فالله هو الذي علَّم آدم الأسماء كلها، هو الذي زوَّده بالعقل
ومنحه
القدرة على هذا الفعل … إلخ.
وليس من الضروري حين نتحدث — مع ابن عربي عن طريقين، وعن تَصوُّرَين في إطار الفكر
الديني
الإسلامي أن نَتصوَّرَهما طرفي نقيض، فلكل تصور منهما سنده المشروع من معطيات النصوص
الدينية
الأصلية — الكتاب والسنة — وكل منهما يُمثِّل طرفًا من الحقيقة الدينية. لذلك لم تهدأ
المحاولات
والمشروعات الفكرية التي تَسعَى لجمع التَّصوُّرَين في منظومة فكرية واحدة، تصور أصحابها
بدءًا من
أبي الحسن الأشعري (ت: ٣٣٠ﻫ) وانتهاءً بابن عربي نفسه (ت: ٦٣٨ﻫ) أنها المنظومة التي تُمثِّل
الحقيقة
الدينية في كُلِّيَّتها وتستوعب أطرافها. وأيًّا كان مردود عمليات الجمع والتوفيق، فالذي
لا شكَّ
فيه أن «ازدواجية» الحقيقة الدينية في ذاتها لا يُعَدُّ مسئولًا وحده عن «افتراق» التصورات
إلى حدِّ
الصراع اختلاف؛ زاوية النظر أو «تَعدُّد» المداخل للاقتراب من نفس الحقيقة، فهذا تفسير
للماء بعد
الجهد بالماء من جهةٍ، وهو تفسير أقرب إلى التبرير من جهةٍ أخرى. وحين يَتمسَّك فريق
من الناس بجانب
من الحقيقة الدينية، ويتمسك فريق آخَر بجانبٍ آخَر من نفس الحقيقة، فلا بد لتفسير هذا
الخلاف من
الابتعاد عن الظاهرة موضوع الخلاف والبحث عن أسبابه في حياة الناس أنفسهم، وما يحكمها
من قوانين
تُحدِّد حركتهم وتصوغ فِكْرَهم. إنها الحياة الاجتماعية بكل أبعادها الاقتصادية والسياسية
والفكرية
المُفسِّرة للخلافات الفكرية، وبالأخص للخلافات الفكرية الدينية.
وإشكالية «المَجاز» في الفكر الإسلامي العربي من الإشكاليات التي لا يمكن دراستها
معزولة عن
سياق الخلاف العام الذي حدَّده ابن عربي في «الطريقين سالِفَي الذِّكْر»: فالبدء من «الله»
يجعل
«الحقيقة» هناك، بينما يكون العالَم الذي نحياه هو عالَم «المَجاز»، والعكس صحيح، بمعنى
عالمنا هذا
يجعله عالَم «الحقيقة» بينما يكون «المَجاز» سِمَة عالَمِ ما وراء الطبيعة، ومعنى ذلك
أن اختلافات
المختلفين حول المجاز ليست مُجرَّد خلافات لغوية أو مُجرَّد خلافات فكرية أيديولوجية،
بل هي خلافات
تمتد إلى «رؤية العالم» في عمقها الحقيقي. وحين نقول «رؤية العالم» فإنما نعني اختيار
جانبٍ واحد من
جانِبَي الحقيقة الدينية «المزدوجة» والتركيز عليه دون إهمال الجانب الآخَر إهمالًا تامًّا،
الاختيار الكاشف عن الفَرْق بين المسلمين الذين يُصِرُّون على الحياة «في» العالم، وبين
أولئك الذين
يَعتبرون هذا العالم مُجرَّد «مَعْبَر» أو «مَجاز» — بالمعنى اللغوي الأصلي من جازَ يَجُوز،
بمعنى:
عَبَر — لِلعالَم الآخَر، عالم الحقائق الأزلية الثابتة. ومعنى ذلك أن إشكالية «المَجاز»
ليست
إشكالية تراثية تنتسب للتاريخ فقط، ولكنها إشكالية ذات حضور مختلف المستويات في الخطاب
الديني
المعاصر، وذلك بحكم «جوهريتها» في صياغة «رؤية العالَم» التي يتبناها هذا الخطاب.
من هنا تتطلب الإشكاليةُ العودةَ إلى دراستها مُجدَّدًا، لا للكشف عن «رؤية العالَم»
الضمنية
في هذا الموقف أو ذاك فقط، وإنما — وهذا هو الأهم — للكشف عن الامتدادات التراثية لمواقف
الخطاب
الديني المعاصر. وهذا ما تُحاوِل هذه الدراسة رَصْدَه وتَتبُّعه من خلال رصد الجوانب
المختلفة
لإشكالية المَجاز، لا بوصفها إشكاليةً لُغويةً بلاغية فحسب، بل بوصفها إشكاليةً ذات مُستوًى
أعمق من
المستوى الذي تم تناوله من خلالها حتى الآن في مُعْظَم الدراسات، بما فيها دراساتي السابقة
عن
الموضوع.
(١) المجاز: معركة الوجود الاجتماعي على أرض البلاغة
لعل جَهْم بن صفوان (ت: ١٢٨ﻫ) يُعَد أول مَن طرح إشكالية المَجاز من الزاوية التي
نتناولها
هنا، نعني زاوية النظر إلى العالَم الذي نحيا فيه — العالَم الطبيعي والإنساني — بوصفه
عالَم
«المَجاز» في مقابل عالَم «الحقيقة» الإلهي الماورائيّ. فقد ذهب إلى القول «أنه لا فِعْل
لأحد في
الحقيقة إلا لله وحده، وأنه هو الفاعل، وأن الناس إنما تُنْسَب إليهم أفعالهم على المَجاز،
كما
يقال: تَحرَّكَت الشجرة، ودار الفَلَك، وزالت الشمس، وإنما فَعَل ذلك بالشجرة والفلك
والشمس اللهُ —
سبحانه — إلا أنه خلق للإنسان قُوَّة كان بها الفعل، وخلَق له إرادةً للفعل واختيارًا
له منفردًا
بذلك، كما خلق له طولًا كان به طويلًا، ولَونًا كان به مُتلَوِّنًا.»
١ في مثل هذا التصور تَنتَفِي عن العالم الذي نعيش فيه كل صفات الفعالية والحركة، على
المستويين الطبيعي والإنساني على السواء، فالله هو الفاعل لحركة الشجرة — نموها — وهو
الفاعل لدوران
الفَلَك، وهو كذلك الفاعل لحركة الشمس. هذا على المستوى الطبيعي، فإذا انتقلنا للمستوى
الإنساني
نَجِد أن فعالية الإنسان — كما تتمثل في قدرته على الفعل — فعالية مستعارة ممنوحة له
لا دَخْل له
فيها مثل طوله ولونه، بمعنى أنها شيء عارِض مُؤقَّت وليست خصيصة من الخصائص الجوهرية
للإنسان. ولا
تتمثل خطورة هذا التصور في «إهدار قوانين الطبيعة» وما يترتب على ذلك من عَزْل الإنسان
عن إمكانية
فَهْمِها واستثمارها لصالحه فقط، فالأخطر من ذلك ما يُؤدِّي إليه من «نَفْي» للإنسان
ولعالَمه نفيًا
شبه تامٍّ بحَصْره داخل دائرة «المجاز».
ولم يكن عبد القاهر الجرجاني (ت: ٤٧١ﻫ) اللغوي البلاغي يُناقِش مفهوم «المجاز» بمعزل
عن التصور
السابق، خاصَّةً في إصراره على التفرقة بين المَجاز إذا كان من جهة اللغة، المجاز
اللغوي، وبينه إذا
كان من جهة العقل، المجاز العقلي. ولمَّا كُنَّا قد ناقشنا أسباب تَفرِقَتْه تلك في دراسة
سابقة،
فإننا نكتفي هنا ببيان أوْجُه التشابه بين التصور السابق والتَّصوُّر الذي ينطلق منه
عبد القاهر.
٢ يقول تعليقًا على الشاهد الشعري:
أشابَ الصغيرَ وأفنى الكبيرَ
كَرُّ الغَداةِ ومَرُّ العَشِي
«المجاز واقع في إثبات الشَّيْب فعلا للأيام ولِكَرِّ الليالي وهو الذي أُزيل عن
موضعه الذي
ينبغي أن يكون فيه؛ لأن من حق الإثبات — أعني إثبات الشيب فعلًا — ألا يكون إلا مع أسماء
الله
تعالى، فليس يصح وجود الشيب فعلًا لغير القديم سبحانه، وقد وُجِّه في البيتين — كما ترى
— إلى
الأيام، والليالي، وذلك مما لا يَثْبُت له فِعلٌ بوجهٍ، لا الشيب ولا غير الشيب.»
٣ وفي سجال طويل وشاقٍّ ومُرهِق للقارئ — يشتبك عبد القاهر مع مُعارِض لرأيه لا يرى
مبررًا للفصل والتقسيم في «المجاز» إلى لغوي وعقلي، يكشف عبد القاهر عن جذر الأيديولوجية
التي ينطلق
منها في فَهْمِه لطبيعة المَجَاز. والقارئ لكُتِب عبد القاهر يستطيع أن يكتشف بعد تأمُّل
طويل أن
هناك حرصًا على التفرقة في المجاز بين المَجاز إذا كان في الاسم، وبينه إذا كان في الفعل.
وهو تقسيم
يبدأ في تفرقته بين الاستعارة إذا كانت في الاسم وبينها إذا كانت في الفعل: «وإذا تقَرَّر
أمْر
الاسم في كون استعارته على هذين القسمين (= الاستعارة التحقيقية والاستعارة التخييلية)
فمن حقنا أن
ننظر في الفعل هل يحتمل هذا الانقسام؟ والذي يجب العمل عليه أن الفعل لا يُتَصَوَّر فيه
أن يتناول
ذاتَ شيء كما يُتَصوَّر في الاسم، ولكن شأن الفعل أن يُثْبِت المعنى الذي اشْتُقَّ منه
للشيء في
الزمان الذي تدل صيغته عليه، فإذا قلت: ضرب زيد، أثبتَّ الضرب لزيد في زمان ماضٍ، وإذا
كان كذلك
فإذا استعير الفعل لما ليس له في الأصل فإنه يثبت له باستعارته له وصفًا هو شبيه بالمعنى
الذي ذلك
الفعل مُشتَقٌّ منه. بيان ذلك أن تقول: نَطقَت الحالُ بكذا، وأخبرَتْني أساريرُ وجهه
بما في ضميره،
وكلَّمَتْنِي عيناه بما يحوي قلبه، فتَجِد في الحال وصفًا هو شبيه بالنُّطْق من الإنسان،
وذلك أن
الحال تدلُّ على الأمر، ويكون فيها أمارات يُعْرَف بها الشيء كما أن النطق كذلك. وكذلك
العين فيها
وصف شبيه بالكلام، وهو دلالتها بالعلامات التي تظهر فيها وفي نظرها، وخواص أوصاف يَتحدَّد
بها ما في
القلوب من الإنكار والقبول … وإذا كان أَمْر الفعل في الاستعارة على هذه الجملة رجَع
بنا التحقيق
إلى أنَّ وصف الفعل بأنه مُستعار حُكْم يرجع إلى مصدره الذي اشْتُقَّ منه. فإذا قلنا
في قولهم:
نَطقَت الحال، إن نَطَق مُستعارٌ فالمعنى أن النُّطْق مُستعار، وإذا كانت الاستعارة تنصرف
إلى
المصدر كان الكلام فيه على ما مضى (= أي إلى تقسيم الاستعارة في الاسم إلى تحقيقية وتخييلية).»
٤
والقراءة المُتعجِّلة للنص السابق تُوهِم أن جُلَّ هَمِّ عبد القاهر هو رَد دلالة
الفعل إلى
دلالة المصدر وصولًا إلى التسوية بين الاستعارة في الأسماء والاستعارة في الأفعال، لكن
القراءة
المتأنِّية تكشف الرابطة بين هذا النص عن الاستعارة وبين حرص عبد القاهر على التفرقة
بين المَجاز
اللغوي والمجاز العقلي. والمتأمل للأمثلة الواردة في النص للاستعارة في الأفعال يجد أن
جميعها ممَّا
يندرج تحت مفهوم «المجاز العقلي» الذي يقع في «الإثبات» دون المثبت حسب تحديده. وعبد
القاهر يُؤكِّد
ذلك حين يجعل الاستعارة في الفعل تكونُ تارةً من جهة الفاعل وتارةً تكون من جهة المفعول،
بمعنى أن
علاقات الإسناد — الإثبات — هي التي تُحدِّد استعارِيَّة الفعل: «ومما تَجِب مراعاته
أن الفعل يكون
استعارةً مرَّةً من جهة فاعله الذي رُفِع ومثاله ما مضى (= في النص السابق) ويكون استعارةً
من جهة
مفعوله، وذلك نحو قول ابن المعتز:
جُمِع الحقُّ لنا في إمامٍ
قَتَل البُخْل وأحيا السَّماحَا
فقَتَل وأحيا: إنما صارَا مُستعارَيْن بأن عُدِّيَا إلى البُخْل والسماح، ولو قال:
قَتَل
الأعداءَ وأحيا الأحباب لم يكن قَتَل استعارة بوجهٍ، ولم يكن أحْيَا استعارةً على هذا
الوجه.»
٥
وعلينا أن نلاحظ — إضافةً إلى ذلك — أن رَدَّ «الفعل» إلى «الوصف» يكاد يكون تكرارًا
لما سبق
أن قاله جهم بن صفوان عن خلق الله لفعل الإنسان ومُنْحه له كما خَلَق له صفاته.
ليست التفرقة بين الاستعارة في الاسم والاستعارة في الفعل إذَنْ مُجرَّد تَفرِقَة تصنيفية
تهدف
إلى رَد دلالة الفعل إلى دلالة الاسم، بل هي تفرقة تَصُوغ بالأساس الفارق بين المَجاز
اللغوي
والمجاز العقلي. إن الخلاف بين عبد القاهر والخصم الذي يساجله بالرد على اعتراضاته المُتخَيَّلة
خلاف في الحقيقة حول دلالة «الفعل»؛ إذ يذهب الخصم إلى اقتراح التسوية بين المجاز اللغوي
والمجاز
العقلي على أساس أن: «الفعل الذي هو مصدر فَعَل قد وُضِعَ في اللغة للتأثير في وجود الحادث،
كما أن
الحياة موضوعة للصفة المعلومة، فإذا قيل: فَعَل الربيعُ النورَ، جُعِل تَعلُّق النور
في الوجود
بالربيع من طريق السبب والعادة فعلًا، كما تَجعل خضرة الأرض وبهجتها حياةً، والعلمَ في
قلب المؤمن
نورًا وحياةً (= في قوله تعالى:
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ
وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ الآية: ١٢٢، من سورة الأنعام)، وإذا
كان كذلك، كان المجاز في أن جعَل ما ليس بفعل فعلًا، وأطلق اسم الفعل على غير ما وُضِع
له في اللغة
كما جعل ما ليس بحياةٍ حياةً وأجرى اسمها عليه، فإذا كان ذلك مجازًا لغويًّا فينبغي أن
يكون هذا كذلك.»
٦
وفي رد عبد القاهر على اقتراح الخصم تَستبين لنا مسألتان أساسِيَّتان؛ الأولى منهما:
تأكيد عبد
القاهر لِمَا سبق له قوله في باب الاستعارة من أن الاستعارة — أو المجاز — في الأفعال
لا تنكشف إلا
من خلال الإسناد — الإضافة — سواء من جهة الفاعل أو من جهة المفعول؛ أي من خلال التركيب.
والمسألة
الثانية أن مجاز الأفعال — دون مجاز الأسماء — هو محور الجدل والخلاف، الأمر الذي يكشف
عن ارتباط
القضية برُمَّتها بقضية نفي تَعلُّق الأفعال الموجودة في العالَم بكلٍّ مِن الطبيعة والإنسان،
وجعلها خالصةً الله وحده. ومن الضروري الإشارة إلى أن عبد القاهر في رده على الخصم يكاد
يَتقمَّص
شخصية المُتكلِّم — نسبةً إلى علم الكلام — ولغته، مُتخلِّيًا عن شخصية اللغوي البلاغي.
يقول فيما
يتصل بالمسألة الأولى: «إن الذي يدفع هذه الشبهة أن تنظر إلى مدخل المجاز في المسألتين،
فإذا كان
يدخلهما من جانبٍ واحد فالأمر كما ظننت وإن لم يَكُن كذلك استبان لك الخطأ في ظنك. والذي
يُبَيِّن
اختلاف دخوله فيهما أنك تَحصل على المجاز في مسألة الفعل بالإضافة (= الإسناد) لا بنفس
الاسم (=
الفعل المُؤَوَّل إلى معنى المصدر كما سبق) فلو قلتَ: أَثبت النورَ فعلًا لم تقع في مَجازٍ؛
لأنه
فِعْل الله تعالى، وإنما تصير إلى المجاز إذا قلتَ: أَثبتُّ النورَ فعلًا للربيع. وأما
في مسألة
الحياة فإنك تحصل على المَجاز بإطلاق الاسم فحسبُ من غير إضافةٍ، وذلك قولك: أثبت بهجة
الأرض حياة
أو جعلها حياة. أفلا ترى المَجاز قد ظهر لك في الحياة من غير أن أضفتها إلى شيء؛ أي من
غير أن قُلتَ
لكذا. وهكذا إذا عَبَّرت بالنفي تقول في مسألة الفعل: جعل ما ليس بفعلٍ للربيع فعلًا
له، وتقول في
هذه: جعل ما ليس بحياة حياة، وتسكت، ولا تحتاج أن تقول: جعلت ما ليس بحياة للأرض حياة
للأرض، بل لا
معنى لهذا الكلام؛ لأنه يقتضي أنك أضفْتَ حياةً حقيقية إلى الأرض وجعلتَها مثلًا تحيا
بحياة غيرها
وذلك بَيِّن الإحالة.»
٧
ولا يقبل منا عبد القاهر أن نقول له: إن المجاز في قوله:
فَأَحْيَيْنَا
بِهِ الْأَرْضَ لا يتحقق إلا بتعدِّي الفعل إلى المفعول به «الأرض»، والدليل على ذلك أننا
لو استبدلنا بالأرض كلمة أخرى، المُيِّت مثلًا، لتَحوَّلت الجملة من المَجاز إلى الحقيقة.
والسبب في
عدم قبول عبد القاهر لمثل الكلام المبني على منطقه هو مشغول بقضية نفي الأفعال الطبيعة
والإنسان،
وهذا هو محور المسألة الثانية التي يكشفها رَدُّه على خصمه المتخيل: «وممَّا يجب ضبطه
في هذا الباب
أن كل حكم يجب في العقل وجوبًا حتى لا يجوز خلافُه فإضافته إلى دلالة اللغة وجَعْلُه
مشروطًا فيها
مُحال؛ لأن اللغة تجري مَجرى العلامات والسِّمات ولا معنى للعلامة والسِّمة حتى يحتمل
الشيء ما
جُعِلَت العلامة دليلًا عليه وخلافه … فمن ذهب يَدَّعي أن في قولنا «فعَل وصَنَع» ونحوه
دلالةً من
جهة اللغة على القادر فَقَد أساء مِن حيث قصد الإحسان؛ لأنه — والعياذ بالله — يقتضي
جواز أن يكون
ها هنا تأثير في وُجود الحادث لغير القادر حتى يحتاج إلى تضمين اللفظِ الدلالةَ على اختصاصه
بالقادر، وذلك خطأ عظيم. فالواجب أن يقال: الفِعْل موضوع للتأثير في وُجود الحادث في
اللغة، والعقلُ
قد قضى وبَتَّ الحكمَ بأن لا حَظَّ في هذا التأثير لغير القادر. وما يقوله أهلُ النظر
(= المتكلمون
والفلاسفة) — مِن أنَّ مَن لم يعلم الحادث موجودًا من جهة القادر عليه فهو لم يعلمه (=
لم يعلم
كَونَه فعلًا) — لا يخالف هذه الجملة، بل لا يصح حَقَّ صِحَّته إلا مع اعتبارها. وذلك
أن الفعل إذا
كان موضوعًا للتأثير في وجود الحادث، وكان العقل قد بَيَّن بالحُجج القاطعة والبراهين
الساطعة
استحالةَ أن يكون لغير القادر تأثيرٌ في وجود الحادث، وأن يقع شيء مما ليس له صفةُ القادر،
فمن ظن
الشيء واقعًا من غير القادر فهو لم يَعْلَمه فعلًا؛ لأنه لا يكون مُستحِقًّا هذا الاسم
حتى يكون
واقعًا من غيره. ومن نَسب وقوعه إلى ما لا يَصِح وقُوعُه منه ولا يُتصوَّر أن يكون له
تأثير في
الوجود وخروجه من العدم فلم يَعْلمْه واقعًا من شيء البتة. وإذا لم يعلمه واقعًا من شيء
لم يَعْلَمه
فعلًا، كما أنه مَن لم يعلمه كائنًا بعدَ أن لم يَكُن، لم يعلمه واقعًا ولا حادثًا فاعرفه.»
٨
ويبقى الفارق بين عبد القاهر وبين جَهْم بن صفوان فارقًا في الدرجة لا في النوع،
أو بعبارة
أخرى هو الفارق بين «الجبرية» و«الأشعرية». وإذا كان الأشاعرة قد حاولوا التوفيق والتوسط
بين نَفْي
الجبرية لقُدْرة الإنسان نفيًا كاملًا، وبين إثباتها إثباتًا كاملًا من جانِب المعتزلة
— أهل العدل
— فإنَّ تَوسُّطهم ذاك قد جعلهم يقتربون من المعتزلة في الإقرار بأهمية المَجاز، وفي
توظيفه آلية
جوهرية أساسية من آليات التأويل. وانحصر الخلاف بين المعتزلة والأشاعرة في تَحديد المجالات
التي
توظف فيها آلية المجاز، فحيث عمَّمَها المُعتزِلة لإزالة التناقض بين النقل والعقل قصَرَها
الأشاعرة
على مَجال نَفْي صفات التشبيه الواردة في النصوص الدينية. من هنا نفهم حرص عبد القاهر
على إثبات
المَجاز في اللغة بشكل عامٍّ، كما نفهم هُجومه المزدوج على مَن يُطلق عليهم «المُفْرِطِين»
ويعني
بهم المعتزلة الذين بالَغوا — في زعم عبد القاهر — في استخدام آلية المَجاز، وهجومه كذلك
على
«المُفرِّطِين» — بتشديد الراء — أي الذين يُنكرون المَجاز ويتمسكون بالمعاني الحرفية
لآيات الصفات:
«ومَن قدح في المَجاز وَهَمَّ أن يصفه بغير الصدق فقد خبَط خبطًا عظيمًا وتَهدَّف لِمَا
لا يخفي.
ولو لم يجب البحث عن حقيقة المَجاز والعناية به حتى تُحَصَّل ضُروبُه وتُضْبط أقسامه
إلا السلامة من
مثل هذه المقالة، والخلاص ممَّا نَحا نحو هذه الشبهة، لكان من حقِّ العاقل أن يَتوفَّر
عليه، ويصرف
العناية إليه. فكيف وبطالب الدين حاجةٌ ماسَّةٌ إليه من جهات يطول عدُّها، وللشيطان من
جانِب
الجَهْلِ به مَداخِل خَفيَّة يأتيهم منها فيسرق دينهم من حيث لا يشعرون، ويلقيهم في الضَّلَالة
من
حيث ظنوا أنهم يهتدون؟ وقد اقتسَمهم البلاءُ فيه من جانبي الإفراط والتفريط، فمِن مَغرور
مُغْرًى
بِنَفْيه دفعةً، والبراءةِ منه جُملةً، يَشمَئِز من ذِكْره ويَنبو عن اسمه يرى أن لزوم
الظواهر فرضٌ
لازم، وضرب الخيام حولها حَتمٌ واجب، وآخَر (= المعتزلي) يغلو فيه ويُفْرط، فيعدل عن
الظاهر والمعنى
عليه، ويَسوم نفسه التَّعمُّق في التأويل ولا سببَ يدعو إليه.»
٩
(٢) التأويل: الوجه الآخَر للمَجاز
وإذ يصبح التأويل هو الوجه الآخَر للمجاز، يَتحوَّل التأويل في فكر عبد القاهر البلاغي
إلى
مَقولة تصنيفية تتحدَّد على أساسها الفروق الدقيقة للأنماط البلاغية. إن الفارق بين الاستعارة
التحقيقية والاستعارة التخييلية — مثلًا — فارق في درجة «التأويل» المطلوبة في كلٍّ منهما
للوصول
إلى الدلالة والنفاذ إليها. ففي الاستعارة التحقيقية يشير الاسم المستعار إلى مدلول ثابت
معلوم
يَتناوله تناوُل الصفة للموصوف، كما يقول عبد القاهر: «وذلك قولك: رأيت أسدًا، وأنت تعني
رجلًا
شجاعًا، ورَنَت لنا ظبية — وأنت تعني امرأة — وأَبْدَيت نورًا، وأنت تعني هدًى وبيانًا
وحُجَّةً،
وما شاكَل ذلك. فالاسم في هذا كله كما تراه متناولًا شيئًا معلومًا يمكن أن يُنَصَّ عليه
فيُقال إنه
عنى بالاسم وكنَّى به عنه، ونقل عن مسماه الأصلي، فجعل اسمًا له على سبيل الاستعارة والمبالَغة
في التشبيه.»
١٠ ومعنى ذلك أننا لا نحتاج في الاستعارة التحقيقية إلى كَدِّ الذِّهن والتعميق في
«التأويل» وصولًا إلى الدلالة؛ لأنها تعتمد علاقة المشابهة المباشرة في إنتاج دلالتها.
والاستعارة التخييلية — على العكس من ذلك — لا تعتمد علاقة المشابهة المباشِرة، ولا
يشير الاسم
المستعار فيها إلى مدلول ثابت معلوم، فهي تَحتاج من المُتلقِّي — من ثم — إلى كَدِّ الذهن
وإعمال
الفكر والتعمق في «التأويل». إن «اليد» في قول لبيد:
وغَداة ريحٍ قد كشفتُ وقرَّةٍ
إذ أصبحَت بِيَد الشَّمَال زِمامُها
لا تشير إلى مُشارٍ إليه معلوم: «يمكن أن تُجْرى اليدُ عليه، كإجراء الأسد والسيف
على الرجل في
قولك: انبرى لي أسد يزأر، وسللتُ سيفًا على العدو لا يُفلُّ … لأن معك في هذا كله ذاتًا
يُنصُّ
عليها، وترى مكانها في النفس، إذا لم تجد ذِكْرَها في اللفظ. وليس لك شيء من ذلك في بيت
لبيد، بل
ليس أكثر من أن تُخَيِّل إلى نفسك أن الشَّمال في تصريف الغداة على حُكْم طبيعتها كالمُدبِّر
المُصرِّف لما زمامه بيده، ومَقادته في كَفِّه، وذلك لا يَتعدَّى التخيل والوهم والتقدير
في النفس.»
١١ ومما يؤكِّد الحاجة إلى «التخيل والوهم»، وما يقترن بهما من الحاجة إلى «التأويل»، أن
وجه المُشابَهة في الاستعارة التخييلية لا يَتأتَّى بنفس الوضوح ودرجة البساطة التي يَتأتَّى
من
خلالهما في الاستعارة التحقيقية: «وإنما يتراءى لك التشبيه بعد أن تَخرِق اليه سترًا،
وتُعْمِل
تأمُّلًا وفكرًا، وبعد أن تُغيِّر الطريقة، وتَخرُج عن الحذو الأول.»
١٢
وخلاصة ما يريد أن ينتهي إليه عبد القاهر أن فيصل التفرقة بين نَمطَي الاستعاري في الاسم
هو
«التأويل» الذي يُعَد آليةً لكشف دلالة النمط الثاني — التخييلية — بينما لا يحتاج النمط
الأول —
التحقيقية — إليها. وليس أدَلَّ على ذلك من أن عدم الوعي بهذا الفارق يُؤدِّي إلى التمسك
بظواهر
النصوص التي تحتاج إلى «التأويل»، الأمر الذي يُفضِي إلى الضلال الديني: «واعلم أن إغفال
هذا الأصل
الذي عرَّفْتُك من أن الاستعارة لا تكون على هذا الوجه الثاني كما تكون على الأول ممَّا
يدعو إلى
مثل هذا التعمق، وأنه نفسه قد يكون سببًا إلى أن يقع قوم في التشبيه، وذلك أنهم إذا وضَعُوا
في
أنفسهم أن كل اسم مُستعار فلا بُدَّ أن يكون هناك شيء يمكن الإشارة إليه يتناوله في حال
المَجاز كما
يتناول النور مُسمَّاه في حال الحقيقة، ثم نظروا في مَخْرج قوله تعالى:
وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي، و
اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا، فلم يجدوا لِلَفظة العين ما يَتناولُه على حدِّ تناوُل النور مثلًا للهُدى والبيان،
ارتَبَكوا في الشك وحامُوا حول الظاهر، وحملوا أنفسهم على لُزومه، حتى يُفضِي بهم إلى
الضلال البعيد
وارتكاب ما يقدح في التوحيد، ونعوذ بالله من الخذلان.»
١٣
وتكاد مقولة «التأويل» تستوعب تصنيفات عبد القاهر للاستعارة والتشبيه، فهو في تصنيفه
لأنماط
الاستعارة يعتمد معيار المباشرة وعدم المباشرة في وجه الشبه، وهو المعيار الذي كشفنا
عن بعده
التأويلي في النصوص السابقة. يقرر عبد القاهر أن: «الاستعارة تعتمد التشبيه أبدًا.»
١٤ لكن وجه الشبه يتفاوت قربًا وبعدًا، وتتحدد قيمة الاستعارة على أساس هذا التفاوت، فكلما
كان وجه الشبه قريبًا كلما قَلَّت قيمة الاستعارة، وتتزايد قيمتها كُلَّما كان وجه الشبه
بعيدًا.
فأدنى ضروب الاستعارة: «أن يرى معنى الكلمة المُستعارة موجودًا في المستعار له من حيث
عموم جنسه على
الحقيقة، إلا أن لذلك الجنس خصائص ومراتب في الفضيلة والنقص، والقوة والضعف. فأنت تستعير
لفظ الأفضل
لما هو دونه.»
١٥ أما إذا كان وجه الشبه الذي تعتمد عليه الاستعارة يتجاوز الجنس الواحد إلى جنسين
مختلفين فإن الاستعارة في هذه الحالة تتميز عن النمط السابق تَميُّزًا جزئيًّا. لذلك
يرى عبد القاهر
أن هذا الضرب الثاني «يشبه … الضرب الذي مضى وإن لم يكن إيَّاه، وذلك أن يكون الشبه مأخوذًا
من صفة
هي موجودة في كل واحد من المستعار له والمستعار منه على الحقيقة، وذلك قولك: رأيت شمسًا،
تريد
إنسانًا يتهلل وجهه كالشمس، فهذا له شبه باستعارة (طار) لغير ذي الجناح (= أي النمط الأول
من
الاستعارة)، وذلك أن الشبه مُراعًى في التلألؤ وهو كما يعلم موجود في نفس الإنسان المُتهلِّل؛
لأن
رونق البصر مُجانِس لضوء الأجسام النيرة.»
١٦
ولعلنا لاحظنا أن الضربين السابقين من الاستعارة أقرب إلى الحقيقة منهما إلى المجاز،
وذلك
لاعتماد وجه الشبه فيهما على ما يُدرَك بالحس دون ما يُدرَك بالعقل. والمقارَنة بين وَسيلَتَي
الإدراك لا بد أن تُعلِيَ من العقلي على حساب الحسي. فالعقل هو أداة التفكر والتأمل والتدبُّر،
أو
بعبارة أخرى هو أداة «التأويل». لذلك كله يضع عبد القاهر الاستعارة التي تعتمد على الصورة
العقلية
في بناء علاقات المشابهة تحت عنوان «الصميم الخالص من الاستعارة»، مشيرًا بهذا إلى قيمة
الضربين
الأول والثاني وأنهما أقرب إلى العامِّي المُبتَذَل. ولذلك يحرص عبد القاهر على الاهتمام
بهذا الضرب
الثالث وتحديد أقسامه وفروعه تحديدًا دقيقًا: «واعلم أن هذا الضرب هو المنزلة التي تبلغ
عندها
الاستعارة غاية شرفها، ويتَّسع لها كيف شاءت المجال في تَفنُّنها وتَصرُّفها. وها هنا
تخلص لطيفة
روحانية، فلا يُبصرها إلا ذَوُو الأذهان الصافية، والعقول النافذة، والطِّبَاع السليمة،
والنفوس
المُستعِدَّة لأن تعي الحكمة، وتعرف فصل الخطاب. ولها ها هنا أساليب كثيرة، ومسالك دقيقة
مختلفة.
والقول الذي يجري مَجرى القانون والقسمة يغمض فيها، إلا أن ما يجب أن تعلم في معنى التقسيم
لها أنها
على أصول؛ أحدها: أن يُؤْخَذ الشَّبهُ من الأشياء المُشاهَدة والمُدرَكة بالحواس على
الجملة للمعاني
العقلية، وثانيها: أن يُؤخَذ الشبهُ من الأشياء المحسوسة لمثلها إلا أن الشبه مع ذلك
عقلي. وثالثها:
أن يُؤْخذَ الشبه من المعقول للمعقول.»
١٧
ورغم أن عبد القاهر يعتمد في تقسيمه السالف للاستعارة على تقسيمه لعلاقات المُشابَهة،
فإنه
يعود ليُكرِّر نفس التقسيم تقريبًا في حديثه عن أنماط التشبيه. والفارق بين التَّقسيمَيْن
أنه في
الاستعارة يعتمد على ثُنائِيَّة الحسي/العقلي، بينما يستخدم في تقسيم أنماط التشبيه مقولة
«التأويل»، التي سبق أن استخدمها معيارًا للتفرقة بين الاستعارة التحقيقية والاستعارة
التخييلية.
ولما كانت ثنائية الحسي/العقلي تحيل بطريقة غير مباشرة لمعيار «التأويل»، فمعنى ذلك أن
مقولة
«التأويل» — التي هي الوجه الآخَر لمقولة «المجاز» — قد أصبحت مَقولةً تصنيفية تساهم
في بناء العلم،
علم البلاغة. يجري تقسيم التشبيه على النحو التالي: «اعلم أن الشيئين إذا شُبِّه أحدُهما
بالآخَر
كان ذلك على ضربين: أن يكون من جهةِ أمرٍ لا يحتاج فيه إلى تَأوُّل، والآخر أن يكون الشَّبَه
مُحصَّلًا بضرب من التأول.»
١٨ ونلاحظ أن عبد القاهر يُدرِج في الضرب الأول علاقات المشابهة الحسية كلها، في الصورة
والشكل أو اللون أو الهيئة، أو ما جَمَع بين صفتين أو أكثر من الصفات الحِسِّيَّة المُشترَكة
بين
المُشبَّه والمُشبَّه به، ويضيف إلى هذا الضرب: «التشبيه من جهة الغريزة والطباع: كتشبيه
الرجل
بالأسد في الشجاعة، وبالذئب في المَكْر. والأخلاق كلها تدخل في الغريزة نحو؛ السخاء والكرم
واللُّؤْم. وكذلك تشبيه الرَّجل بالرَّجُل في الشِّدَّة والقوة وما يتصل بها.»
١٩ وهذا النمط الأول من أنماط التشبيه يستوعب الضربين الأول والثاني من ضروب الاستعارة،
الأمر الذي يُؤكِّد أن أساس التصنيف واحد عند عبد القاهر رغم اختلاف الألفاظ. وإذا كان
عبد القاهر
في الحديث عن الاستعارة يُقسِّمها إلى حسي وعقلي فإن حديثه عن التشبيه يقسمه إلى ما لا
يحتاج إلى
التأويل وما يحتاج إليه. هكذا يُقرِّر عبد القاهر أن وجه الشبه في هذا الضرب الأول: «بِيِّنٌ
لا
يجري فيه التأوُّل، ولا يفتقر إليه في تحصيله. وأيُّ تأوُّل يجري في مُشابَهة الخد للوردة
في
الحُمْرة، وأنت تراها هنا كما تراها هناك، وكذلك تعلم الشجاعة في الأسد كما تعلمها في
الرجل.»
٢٠
وكما يستدعي الضرب الأول من التشبيه ضروب الاستعارة العامية التي تقترب من الحقيقة،
يستدعي
الضرب الثاني — الذي يحتاج إلى تأوُّل الضرب الثالث من الاستعارة والتي اعتبرها عبد القاهر
«الصميم
الخالص من الاستعارة». وكما انقسم ذلك الضرب من الاستعارة إلى ثلاثة أقسام ينقسم التشبيه
الذي يحتاج
للتأوُّل أيضًا إلى ثلاثة أقسام بحسب درجات التأوُّل: «فمنه ما يقرب مأخذه، ويسهل الوصول
إليه،
ويعطي المقادة طوعًا، حتى إنه يكاد يُداخِل الضرب الأول الذي ليس من التأويل في شيء …
ومنه ما يحتاج
إلى قَدْر من التأمُّل، ومنه ما يدق ويغمض، حتى يحتاج في استخراجه إلى فضل رَوِيَّة ولطف
فكرة.»
٢١ وإذا كان صحيحًا أن مثل هذا التقسيم لأنماط التشبيه يُعَدُّ توطئةً للتفرقة بين التشبيه
والتمثيل — وهي التفرقة التي يصوغها عبد القاهر صياغتها النهائية في تاريخ البلاغة العربية
— فإن
هذا لا يتعارض مع ما نَدَّعيه هنا من أن معيار التصنيف هو مقولة «التأويل». يؤكد ذلك
أن حركة عبد
القاهر العقلية للتفرقة بين التشبيه والتمثيل تدفعه لما يبدو تصنيفًا آخَر للتشبيه يُعَّد
أساسًا
للتصنيف التأويلي «اعلم أن الذي أوجب أن يكون في التشبيه هذا الانقسام: أن الاشتراك في
الصفة (= بين
المُشبَّه والمُشبَّه به) يقع مرةً في نفسها وحقيقتها وجنسها، ومرةً في حُكْم لها ومُقتضًى.»
٢٢ لكن السبيل الوحيد لاكتشاف علاقة المشابهة إذا كانت في حُكْم الصفة ومقتضاها — لا فيها
نفسها — هو «التأويل». فإذا شبه اللفظ بالعسل في الحلاوة — مثلًا فالتشبيه ليس من جهة
الحلاوة نفسها
وجنسها، ولكن من مُقتضى لها: «وصفة تَتجدَّد في النفس بسببها، وأن القصد أن يخبر بأن
السامع يجد عند
وقوع هذا اللفظ في سمعه حالةً في نفسه شبيهة بالحالة التي يجدها الذائق للحلاوة من العسل
… وليس ها
هنا عبارة أخص بهذا البيان من التأوُّل؛ لأن حقيقة قولنا: تأوَّلت الشيء، أنك تطالب ما
يَؤَوَّل
إليه من الحقيقة، أو الموضع الذي يُؤَوَّل إليه من العقل.»
٢٣
ورغم كل ما يمكن أن يقال عن إنجازات عبد القاهر في مجال الفكر البلاغي — ولا جدال
في صِحَّته —
فإن التشابه بينه وبين مُنْطَلق جهم بن صفوان — من منطلق هذه الدراسة — أمر ملحوظ؛ ملحوظ
أولًا في
محاولته الدائبة لرد دلالة «الفعل» إلى دلالة «الوصف»، وملحوظ — ثانيًا في تفرقته بين
المَجاز
اللغوي والمَجاز العقلي، بهدف نفي إسناد الأفعال لغير الله. والأهم ذلك أنه ملحوظ في
اعتماده مقولة
«التأويل» — الوجه الآخر لمقولة «المجاز» — أداة تصنيفية للأنماط البلاغية ولتفريعاتها
الدقيقة. وقد
ترتب على ذلك أن ارتبط المَجاز بالوهم والتَّخْيِيل والتقدير، في حين تَحدَّدت وظيفة
التأويل في رده
— المجاز — إلى الحقيقة والمعقول. هذا التردد بين «الحسي» و«المعقول»، والإعلاء من شأن
الأخير على
حساب الأول ينتهي في التحليل الأخير إلى جعل «المجاز» سِمَة للعالَم الحسي المشهود في
حين تكون
«الحقيقة» سِمَة عالَم المعقولات، عالَم ما وراء الطبيعة. لكن هذه الصياغة المُضْمَرة
في فِكْر عبد
القاهر الأشعري وَجدَت تعبيرها الجَلِي الصريح عند أشعري آخر هو الإمام أبو حامد الغزالي
(ت: ٥٠٥ﻫ)،
الذي صاغها صياغتها النهائية التي يمتح منها الخطاب الديني الوسيط والحديث والمعاصر إلا
استثناءات
قليلة، وضعيفة التأثير.
(٣) العراك حول اللغة: من يمتلكها؟
تَعوَّدْنا أن نَمُرَّ على هذا العراك مُرورَ الكِرام، مكتفين من نتائجه بالقول إن
معظم
الفرقاء قد اتفقوا على أن «المُواضَعة» والاصطلاح أساس الدلالة في اللغة، ومُعْتَبِرِين
خلافهم حول
«أصل» المُواضَعة شأنًا لا يعنينا من منظور علم اللغة الحديث. والحقيقة أن هذا الشأن
مِمَّا يعني
دراستنا هذه لارتباطه بمسألة مَن يقود عَرَبة المجاز وإلى أين يوجهها: هل تُوَجَّه لتأكيد
فعالية
الإنسان؟ أم تُوَجَّه لنفي فعاليته لحساب الفعالية الإلهية المُطْلَقة؟ وبالعودة إلى
الإشكالية التي
يحاول ابن عربي في النص الذي صَدَّرْنا به دراستنا هذه يكون السؤال: هل اللغة بكل ما
تُمَثِّله من
نشاط وفعالية معرفية وفكرية وثقافية إبداعٌ إنساني يُحدِّد القوانين التي على أساسها
يَتنزَّل
الرَّبُّ إلى العبد؟ أم إنها هِبَة إلهية ضمن الهبات الإلهية العديدة التي وهبها الرب
للإنسان لكي
يعود إلى فردوسه الذي طُرِدَ منه؟ وإذا كان المنظور الديني البسيط والساذج لا يجد تعارضًا
بين
الطريقين، فإن الصياغات الأيديولوجية تُصِرُّ على تعميق التعارض بين القدرة الإلهية والقدرة
الإنسانية، بحيث لا يتم التسليم بالأولى إلا بنفي الثانية نفيًا تامًّا ومطلقًا.
اللغة ليست مُجرَّد أداة للتعبير عن المعرفة، بل هي في الأساس أداة التَّعرُّف الوحيدة
على
العالم والذات، وهي من ثَمَّ أهم أدوات الإنسان في امتلاك هذا العالَم والتعامل معه.
فإذا لم تكن
اللغة مِلْكًا للإنسان ومُحَصِّلَة لإبداعه الاجتماعي، فلا مَجال لأي حديث عن إدراكه
للعالم أو عن
فَهْمِه له؛ إذ يَتحوَّل الإنسان ذاته إلى مُجرَّد «ظرف» تُلْقَى إليه المعرفة من مصدر
خارجي
فيحتويها. تُرَى هل هناك علاقة بين هذا المفهوم الذي صاغته جماعات فكرية تمثل بالضرورة
قوًى
اجتماعية ذات مصالح مُحدَّدة وبين الدلالة اللغوية الأصلية لكلمة «عقل» في اللغة العربية؟
إن
الدلالة تعني «الإمساك»، ومنه «عقل الدابة»، أي تقييدها حتى لا تهرب، وهي الدلالة التي
اعتمد عليها
كل من يشككون في قُدْرَة «العقل» على إنتاج المعرفة، فقالوا إنه سُمِّيَ كذلك لأنه «يمسك»
المعرفة
التي تأتيه من الخارج.
٢٤
العراك إذن حول أصل الدلالة اللغوية ومصدرها عِراكٌ مُمْتدٌّ في نتائجه إلى الآن،
هذا بالإضافة
إلى أن هذا العراك يُعَد بمثابة الأصل في معركة المَجاز، فالقائلون بمَجازية الوجود الطبيعي
والإنساني يَمِيلُون في الغالب إلى جَعْل اللغة من الهِبَات الإلهية التي وُهِبَت للإنسان،
يستوي في
ذلك «الظاهرية» الذين ينكرون وجود المَجاز في اللغة إنكارًا تامًّا، والأشاعرة الذين
يُقِرُّون
بوجوده مع التحفظ في مجالات تطبيقه في النصوص الدينية. أما القائلون بحقيقة الوجود الطبيعي
والإنساني فيميلون — في الغالب كذلك — إلى الإقرار بأن اللغة نتاج بشري خالص، وهم الذين
يجعلون
«المَجاز» من سمات عالَم ما وراء الطبيعة، قياسًا على العالَم الطبيعي والإنساني الذي
يُمثِّل عندهم
عالَم «الحقيقة». والذي يهمنا من هذا العراك النتائج التي ينتهي إليها عند أولئك الذين
يتمسكون
بمقولة «التوقيف»، أي بأن الله هو واضع اللغة ومُحدِّد دلالتها. صحيح أن هؤلاء لا ينكرون
قدرة
الإنسان على إبداع لغة من اللغات، لكن إبداع هذه اللغة مشروط بوجود المواضَعة الإلهية
الأصلية. ولا
شك أنهم كانوا مضطرين إلى مثل هذا الاعتراف، وإلا أصبح واقعُ تَعدُّد اللغات واختلافها
أمرًا واقعًا
على خلاف الإرادة الإلهية. لكن الارتباط المعروف بين مشكلة أصل الدلالة اللغوية ومشكلة
الخلاف حول
قِدَم القرآن وحدوثه — وهي قضية ناقشناها في دراسة سابقة
٢٥ — يجعل من اللغة العربية حالة خاصَّة هي التي تُمثِّل المُواضَعة الإلهية
تحديدًا.
ولعل من أهم نتائج القول بالتوقيف — ضدًّا للاصطلاح الاجتماعي — أن العلاقة بين الدالِّ
والمدلول لا يمكن أن تكون «اعتباطية»، وإلا أدَّى ذلك إلى وَصْف أحد الأفعال الإلهية
وصفًا يَتعارَض
مع الحكومة الإلهية المُفترَضة في كل الأفعال. ولعل القول الذي يُنْسَب إلى عبَّاد بن
سليمان أن
الألفاظ تدلُّ على المعاني بذاتها — وهو القول الذي لم يُكْتَب له الشيوع والانتشار أن
يكتسب في
سياقنا هذا دلالةً خاصَّة.
٢٦ ولقد تم تفنيد هذا القول اعتمادًا على تَعدُّد اللغات واختلافها، و«دليل فساده أن اللفظ
لو دلَّ بالذات لَفَهِم كل واحد منهم كل اللغات، لعدم اختلاف الدلالات الذاتية.»
٢٧ ولأن عَبَّاد بن سليمان يكاد ينفرد بهذا الرأي فمن الطبيعي أن ينفرد كذلك بإنكار جواز
أن يقلب الله أوضاع اللغة، فلا يجوز عليه أن يُغَيِّر الأسماء عمَّا استقرت عليه فلا
يُسمِّي
العالِمَ جاهلًا والجاهلَ عالمًا، يقول عَبَّاد إن هذا لا يجوز على وجه من الوجوه.
٢٨ لكن هذا الرأي الخاص بذاتِيَّة العلاقة بين الدالِّ والمدلول في اللغة والذي لم يُكْتَب
له الشيوع بصياغته النظرية تلك — قد امتد بطريقة غير مباشرة في بِنْيَة الفكر الديني،
وإن انتهى إلى
نتائج مُغايِرة لتلك التي انتهى إليها مؤسِّسُه الأول.
الخلاف الشهير بين المعتزلة وخصومهم حول الأسماء والصفات الإلهية، هل هي اللهُ أم
غَيرُه؟
يُعَدُّ ثاني النتائج التي أدَّى إليها القول بالتوقيف، وهو — من جهة أخرى — يُعَد نتيجةً
مباشرة
للقول بذاتية العلاقة بين الدالِّ والمدلول. إن الربط التلازمي الذاتي بين الأسماء والمُسمَّيات
ينتهي إلى إعطاء الأسماء/الألفاظ نوعًا من الوُجُود الموضوعي، بحيث تَتحوَّل اللغة إلى
أنطولوجيا
بدلًا من أن يقتصر دورها على الدلالة. في مثل هذا التصور لا بُدَّ أن يكون لكل لفظ من
ألفاظ اللغة —
ناهيك بألفاظ القرآن، كلام الله الأزلي — مُشار إليه مُتعيَّن مستقل، وهذا هو الأساس
الذي دفع إلى
القول بوجود صفات مُستقِلَّة لله زائدة على ذاته سبحانه. وكان من الطبيعي أن ينكر المعتزلة
— أصحاب
القول بالاصطلاح الاجتماعي في المواضَعة اللغوية — هذه التعددية، ويَتمسَّكون بأن الأسماء
والصفات
مُجرَّد أقوال، فقالوا فيما يروي الأشعري: «الأسماء والصفات هي الأقوال، وهي قولنا: اللهُ
عالِم،
الله قادِر، وما أشبه ذلك.»
٢٩ أما مَن يُطلِق عليهم الأشعري اسم «أصحاب الحديث» فقد ذهبوا إلى أن أسماءه هي هو،
٣٠ فوَحَّدُوا بين الاسم والمُسمَّى. ولا شك أن هؤلاء هُم مَن يهاجمهم الطبري في مُفْتَتح
تفسيره للقرآن، وفي سياق تفسيره للبسملة بشكل خاصٍّ.
٣١ وقد ذهب عبد الله بن كُلَّاب، المؤسِّس الفعلي لنهج التفكير الأشعري إلى أن «صفات الله
سبحانه هي أسماؤه»،
٣٢ فتابَعَ أصحابَ الحديث — أهلَ النقل — في حين ذهب بعض أصحابه، وهم الأشاعرة إلى «أن
أسماء الباري لا هي الباري ولا هي غيره»، وذهب البعض الآخَر إلى أن «أسماء الباري لا
يقال هي
الباري، ولا يقال هي غيره، وامتنعوا من أن يقولوا: لا هي الباري ولا غيره.»
٣٣
ومن الواضح أن موقف الأشاعرة من مشكلة المَجاز وتأويل آيات الصفات دون آياتِ «العدل»
— المتصلة
بإثبات أفعال الإنسان له، أو نفيها عنه. وهو الموقف «الوسطي بين المُفْرِطِين والمُفَرِّطِين
—
بتشديد الراء — يُعَدُّ امتدادًا طبيعيًّا لموقف ابن كُلَّاب من مشكلة العلاقة بين الاسم
والمسمَّى.
وإذا كان أهل الحديث — النَّقليِّينَ — قد رَبَطوا بين الاسم والمسمى ووَحَّدوا بينهما،
فإن أتباعهم
من «الظاهرية» قد أَنْكَروا وُجود المَجاز، لا في القرآن وحده، بل في اللغة كلها. وكيف
يُمْكِن
تَصوُّر وُجود المَجاز — وهو انتقال في الدلالة — إذا كانت العلاقة بين الدالِّ والمدلول
علاقةً
ذاتية لا يمكن فصمها؟! وهل يمكن تَصوُّر أن تكون العلاقة على غير هذا الوجه في اللغة
الإلهية؟! وعلى
هؤلاء يَرُد عبد القاهر قائلًا: «وأقلُّ ما ينبغي أن تعرفه الطائفة الأولى وهم المنكرون
للمَجاز —
أن التنزيل: كما لم يَقْلِب اللغة في أوضاعها المفردة عن أصولها، ولم يُخْرِج الألفاظ
عن دلالتها،
وأن شيئًا من ذلك إِن زِيدَ إليه — ما لم يكن قَبْلَ الشرع يَدلُّ عليه — أو ضُمِّن ما
لم
يَتَضمَّنه أُتْبِع ببيانٍ من عند النبي
ﷺ وذلك كبَيانِه للصلاة والحج والزكاة والصوم، كذلك
لم يَقْضِ بتبديل عادات أهلها ولم ينقلهم عن أساليبهم وطُرقِهم، ولم يمنعهم ما يتعارفونه
من التشبيه
والتمثيل والحذف والاتساع.»
٣٤
لكن وسطية الأشاعرة لم يكن لها أن تصمد طويلًا على وسطيتها، فمقولة «الكسب» توسطًا
بين الجبرية
والاعتزال تنتهي في التحليل الأخير إلى الانحياز للجبرية وتكريسها، خاصَّةً حين يتحرك
الواقع
الاجتماعي/الاقتصادي نحو مزيد من القهر لحرية الإنسان ومُحاصَرة جسده وروحه. وإذا كان
للوسطية — أي
وسطية فكرية — أن تُواصِل الحياة مُبْقِيَة على وسطيتها، فإن حياتها مشروطة بمناخ من
الحرية
الاجتماعية والسياسية والفكرية، مناخ يسمح بمُمارَسة الصراع الفكري الحر. لكنها بحكم
تَلفيقِيَّتها
تَنحازُ إلى الطرف الذي يتحرك الواقعُ في اتجاهه؛ وذلك لأن تلفيقيتها ليست تَلْفيقًا
على مستوى
الفكر فقط، لكنها تَتجاوَز التلفيقية إلى التبريرية بحُكْم بِنْيَتِها التلفيقية ذاتها.
وإذا كان
عبد القاهر ظلَّ بِمنأًى عن هذا التورط، فما ذلك إلا لأنه انشغل بِهَمِّ «العلم» أكثر
من انشغاله بالأيديولوجيا.
٣٥ هذا إلى جانب أن عبد القاهر لم يتورط فيما تورط فيه غيره من الارتباط المباشر بحبال
السُّلطة السياسية، وهو الارتباط الذي يُرَشِّح المفكِّر لأن يحطب دائمًا في حَبْل السُّلْطة،
مُبرِّرًا تَوجُّهاتها، ومُدافعًا عن مَصالحها التي تَتوحَّد بمصالحه. كان هذا شأن أبي
حامد
الغزالي، الذي مَهَّد السبيل — بنفيه للإنسان داخل دائرة المَجاز — لابن عربي (ت: ٦٣٨ﻫ)
لينفي
العالَم كله وجودًا، بحبسه داخل دائرة الوجود الإلهي المطلق.
(٤) حضيض المجاز ويفاع الحقيقة
تَعرَّضْنا في دراسات سابقة لطبيعة المشروع الفكري الذي طرحه الإمام الغزالي بما
يُغْنِينا عن
إعادته هنا.
٣٦ والذي يهمنا هنا من هذا المشروع الفكري الكيفية التي صاغه بها من خلال عملية «تحريك
دلالي» للألفاظ تنتهي بنقل «الحقيقة» إلى عالَم الملكوت — ما وراء عالَمنا الحسي المشهود
— في حين
يظل عالَمنا الذي نحياه رهين سِجْن «المَجاز». من هنا ترتبط الحقيقة بالعُلُو والارتفاع
— الْيَفاع
— في حين يظل المَجاز أَسِير عالَم السفل والانحطاط/الحضيض. وكما تتوازى ثنائية الحقيقة/المَجاز
وثنائية عالَم المُلْك/عالَم الشهادة يتوازى مع هذه الأخيرة العديد من الثنائيات الأخرى
أهمها:
المعنى/اللفظ، المَثَل/المَمْثُول، الباطن/الظاهر، وكلها تَشِي أن ثنائية الحقيقة/المجاز
قد
تَجاوَزت في دلالتها حدود عالَم «التعبير اللغوي» وصارت بمَثابة مفاهيم أنطولوجية وإبستمولوجية
في
وقتٍ واحد. ومن الطبيعي في مثل هذا التصور أن تكون «الحقيقة» — بالمعنى الفلسفي — خارج
إطار عالَمنا
الذي نعيش فيه، وأن يصبح تَجاوُز هذا العالَم وإهماله شرطًا جوهريًّا للوصول إلى الحقيقة
ومعاينتها.
ولأن مشروع الإمام الغزالي — لأسباب مُعقَّدة لا سبيل لتناولها هنا — صار هو المشروع
السائد
والمهيمن في تاريخ الفكر الديني، حتى تَوحَّد إلى حَد التطابق بالإسلام في الوعي الديني
الوسيط
والحديث والمعاصر، فقد انسرب تَصوُّر «انحطاط» المَجاز مقابلًا لارتفاع شأن الحقيقة إلى
مَجال تأويل
النصوص الدينية. وإذا كان عبد القاهر يكتفي في رده على المعتزلة المُفْرِطين في التأويلات
المَجازية
بالقول بأن تأويلاتهم تُحَوِّل اللغة — والقرآن من ثَمَّ — إلى أَلْغَاز وأحَاجٍ، فإن
ابن
المُنَيِّر (أحمد بن محمد) الإسكندري المالكي يتعقب الزمخشري في تفسيره للقرآن، نافيًا
كل تأويلاته
المَجازية، مُتَّهمًا إياه بالنزول من «يَفَاع الحقيقة» إلى «حَضيض المَجاز». يقول عبد
القاهر في
رده على المعتزلة: «وكذلك كان من حق الطائفة، الأخرى (= يعني المعتزلة) أن تَعْلَم أنه
— عز وجل —
لم يَرْضَ لنَظْمِ كتابه الذي سمَّاه هُدًى وشفاءً، ونورًا وضياءً، وحياةً تحيا بها القلوب،
وروحًا
تنشرح عنه الصدور، ما هو عند القوم الذين خُوطِبوا به خلاف البيان، وفي حدِّ الإغلاق
والبعد عن
التبيان، وأنه تَعالى لم يَكُن لِيُعْجِزَ بكتابه من طريق الإلباس والتعمية، كما يتعاطاه
المُلْغِز
من الشعراء، والمُحاجِي من الناس، كيف وقد وُصِفَ بأنه عربي مبين؟ هذا وليس التَّعسُّف
الذي يرتكبه
بعض من يجهل التأويل من جنس ما يقصده أصحاب الألغاز والأحاجي، بل هو شيء يخرج عن كل طريق
وبيانِ كل
مذهب (= الإشارة هنا إلى تأويلات الصوفية في الغالب)، وإنما هو سوء نظر منهم ووَضْع للشيء
في غير
موضعه وإخلال وخروجٌ عن القانون وتَوَهُّمٌ أن المعنى إذا دار في نفوسهم وعُقِلَ من تفسيرهم
فَقَد
فُهِم من لفظ المفسَّر (بفتح السين)، وحتى كأنَّ الألفاظ تنقلب عن سَجِيَّتها، وتزول
عن موضوعها،
فتحمل ما ليس من شأنها أن تَحْتَمِلَه، وتؤدي ما لا يوجب حُكْمُها أن تَؤدِّيَه.»
٣٧
لكن ابن المُنَيِّر يكاد يكرر الغَزَالِيَّ تكرارًا حَرْفِيًّا حتى في الحالات التي لا
يُشِير
فيها إلى «المَجاز» إشارةً مباشرة. ففي تفسير الزمخشري للآية رقم ٧ من سورة البقرة:
خَتَمَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ
وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ، من الطبيعي أن يلجأ للتأويل المَجازي في إيقاع «الخَتْم» على
القلوب والأسماء، من جهة، وفي إسناد فعل «الختم» واقعًا من جهة أخرى. ولأن إسناد الفعل
إلى الله هو
الجانب الأكثر أهمية في تأويل الزمخشري للآية؛ لأن هذا الإسناد إذا فُهِم فَهْمًا حرفيًّا
يتناقض مع
مَبْدَأ «العدل» عند المعتزلة، فإن الزمخشري يلجأ إلى الاستشهاد ببعض الآيات التي تُعْتَبر
مُحْكَمات في دلالتها على العدل من منظور المعتزلة. يقول: «وقد نص (= الله) على تنزيه
ذاته (= عن
ظلم الإنسان بجبره على الأفعال) بقوله:
وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ
لِلْعَبِيدِ،
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ
يَظْلِمُونَ،
إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ،
ونظائر ذلك مما نَطَق به التنزيل.»
٣٨ ويرى ابن المُنَيِّر أن الزمخشري في تأويله لإسناد الختم لله بأنه إسناد على سبيل
«المَجاز» لا «الحقيقة» قد: «نزل مِن منصة النص إلى حَضيض تأويله ابتغاءَ الفتنة … فإن
الختم فيها
(الآية) مُسْنَدٌ إلى الله تعالى نصًّا.»
٣٩ إن استخدام كلٍّ من الزمخشري وابن المُنَيِّر لمصطلح «النص» — وهو العبارة التي لا
تَحْتَمِل التأويل لوضوح دلالتها كما حَلَّلْنا في دراسة سابقة
٤٠ — يقترب بدلالته إلى حدٍّ لافِتٍ من مصطلح «الحقيقة». ومما يُؤكِّد هذا الاستنتاج أن
الخلاف بينهما يدور في جانبٍ منه في دائرة الاختلاف حول تحديد «المُحْكَم» — وهو الواضح
الجلي من
منظور كل فرقة — «والمتشابه». — وهو الغامض الذي لا سبيل لأخذه على دلالته الظاهرة وهو
الاختلاف
الذي يتأسس عليه اختلافهم في التأويل. ولما كان قد سبق لنا الكشف في الفقرة الثانية عن
الترابط
التلازمي بين «التأويل»، و«المَجاز»، بحيث صارَا وجهين لعُمْلة واحدة، فإن تعبير ابن
المُنَيِّر
بنزول الزمخشري من منصة النص إلى حَضيض التأويل هو تكرار لعبارة الغزالي بضرورة الارتفاع
من حضيض
المَجاز إلى يَفَاع الحقيقة.
هكذا نرى أن الفارق بين هجوم عبد القاهر على المُؤَوِّلة وبين هجوم ابن المُنَيِّر
ليس مجرد
فارق في الدرجة، بل هو فارق في النوع أساسًا، فلا يَقِلُّ هجومُ عبد القاهر في الدرجة
عن هجوم ابن
المُنَيِّر شيئًا. وهذا الفارق في النوع يَرتدُّ الجانب أكبر منه — بلا شك — إلى سيطرة
نهج المشروع
الفكري للغزالي، وهو المشروع الذي ينتهي في التحليل الأخير إلى نَفْي الإنسان عن طريق
سجنه وسجن
عالَمه داخل دائرة المَجاز؛ أي غير الحقيقي. إننا نكاد نسمع أصداء أقوال ابن عربي — الذي
أتى بعد
الغزالي بقرنٍ من الزمان ونُسِب إليه وَحْدَه القول بوحدة الوجود — في كثير من أقوال
الغزالي، التي
نكتفي منها بقوله: «فالموجودُ الحقُّ هو الله تعالى، كما أن النور الحقَّ هو الله تعالى،
ومن هنا
تَرَقَّى العارفون من حَضيض المَجاز إلى يَفاع الحقيقة، واستكملوا مِعْراجَهم فرَأَوا
بالمُشاهَدة
العيانية أن ليس في الوجود إلا الله تعالى.»
٤١
في مثل هذا التصور تكتسب مفاهيم والحقيقة» و«المَجاز» أبعادًا أنطولوجية وأخرى إبستمولوجية.
يَتجلَّى البعد الأنطولوجي في انتساب «الحقيقة» إلى عالَم الملكوت والأرواح، عالم النور
والمُثُل
المُفارِقة، في حين يكون «المَجاز» من نَصِيب عالَمِنا، عالَم الحس والشهادة، عالَم الأجساد
والظُّلْمة. وتعتمد العلاقة بين العالَمَين (أو المفهومين) على التعارض المُطْلَق الذي
لا سبيل إلى
حَلِّه أو إلى تَجاوُزه إلا بآليات «المعراج» الصوفي. وعلى خلاف التصور البلاغي لعلاقة
المَجاز
بالحقيقة — علاقة العَرْض الحسن والتجميل — نجد العلاقة في تَصوُّر الغزالي هي علاقة
الإخفاء
والتغطية، بل والتعمية، فالمجاز بمثابة «القِشْر» والحقيقة بمثابة «اللُّبَاب»، المجاز
بمثابة
«الصَّدَف»، والحقيقة بمثابة «الدُّر» المستكِنِّ فيها. ولا سبيل للوصول إلى الحقيقة
إلا بإزالة
القِشْر والصَّدَف وصولًا إلى اللُّباب والدُّر، وذلك بالانتقال من هذا العالم الحسي،
عالم الظلمة
والقشر، إلى عالم الملكوت، عالم النور واللباب. والغزالي يصوغ العلاقة بين العالمين —
علاقة التعارض
من خلال هذه المفردات اللغوية، إذ يُمثِّل عالم الملكوت بمفردات الصف الأيمن، يقابلها
في الصف
الأيسر مفردات عالَم الحس والشهادة:
٤٢
اللباب |
القشر |
الروح |
الصورة |
النور |
الظُّلْمة |
العلو |
السفل |
الشخص |
الظل |
المُثْمِر |
الثمرة |
السَّبَب |
المُسَبَّب |
الأصل |
المحاكاة |
ومن الطبيعي بعد ذلك أن يحدث تحوُّل شبيه لمفهوم «التأويل» — الوجه الآخَر لمفهوم
المجاز — فلا
يعود آليةً لفَهْم النصوص الدينية، ولا يصبح مجرد مَقولة تصنيفية في علم البلاغة، بل
يصبح أداةً
معرفيَّةً لحل إشكالية الوجود المُلْتَبِس المعنى. وإذا كانت حقيقة هذا الوجود لا تنكشف
بالنسبة
للإنسان العادي إلا بالموت الفيزيقي — مُفارَقة الرُّوح للجسد وانتقالها إلى عالَم الحقائق
— فإن
«الخاصَّة» من أهل الطريق الصوفي — أهل الحقيقة — قادرون على الاتصال بعالَم الحقائق،
وذلك عن طريق
أداة تنتمي إلى هذا العالَم، هي القلب. والمعرفة تلك لا تأتي إذنْ من الخارج، بل تَنْبُع
من داخلِ
القلب عن طريق التصفية والتطهير بحيث يَتحوَّل القلب إلى مرآة تنتقش فيها الحقائق الموجودة
في
«اللوح المحفوظ».
٤٣ وحين يقارِن الغزالي بين المعرفة العقلية المُكتسَبة وبين المعرفة الوهبية المكسوبة
بالقلب يلجأ في كثير من الأحيان إلى استخدام لغة التمثيل والمَجاز، ويعتمد في هذا المسلك
على أن
للقلب عجائبَ لا تصل إليها الأفهام إلا بطريق ضرب المثال: «فإن التصريح بعجائبه وأسراره
الداخلة في
جملة عالَم الملكوت مِمَّا يَكِلُّ عن دركه أكثر الأفهام.»
٤٤ في أحد هذه التمثيلات يقرن المعرفة العقلية المُكتسَبة بماء المطر بكل ما يتعلق به من
أدران وأوساخ، في حين يقرن المعرفة القلبية بالماء الجوفي النابع من البئر بعد تعميقه
ومُداوَمة
تنظيفه وتطهيره.
٤٥ وفي مثال آخَر يقرن بين المعرفة العقلية والمحاكاة والتقليد، وبين المعرفة القلبية
وانطباع الصورة في المرآة الصقيلة الموازية للأصل: «حكي أن أهل الصين وأهل الروم تَباهَوا
بين يدي
بعض الملوك بحُسْن صناعة النَّقْش والصور، فاستقرَّ رأي المَلِك على أن يُسَلِّم إليهم
صورة (في
الأصل: صفة) لينقش أهل الصين منها جانبًا وأهل الروم جانبًا، ويُرْخَى بينهما حجاب يمنع
اطلاع كل
فريق على الآخر. ففعل ذلك، فجمع أهل الروم من الأصباغ الغريبة ما لا ينحصر، ودخل أهل
الصين من غير
صبغ، وأقبلوا يجلون جانبهم ويصقلونه. فلما فرغ أهل الروم، ادَّعَى، أهل الصين أنهم فرغوا
أيضًا،
فعجب الملك من قولهم، وأنهم كيف فرغوا من النقش من غير صبغ. فقيل: وكيف فرغتم من غير
صبغ؟ فقالوا:
ما عليكم، ارفعوا الحجاب، فرفعوا، وإذا بجانبهم يتلألأ منه عجائب الصنائع الرومية مع
زيادة إشراق
وبريق، إذ كان قد صار كالمرآة المَجْلُوَّة لكثرة التصقيل فازداد حُسْنُ جانِبِهم بمزيد
التصقيل.»
٤٦
ولا نريد هنا أن نناقش الغزالي في طبيعة التمثيلات التي يستخدمها للإقناع، ولا أن
نكشف القناع
عن درجة التشويش والاضطراب التي تُسَبِّبُها للفكرة التي تُمَثِّلُها، فذلك جزء من فَهْمِه
لطبيعة
المَجاز والتمثيل على أيَّةِ حال. لكن التمثيلات تكشف من جانِبٍ آخَرَ طبيعة اختيار المفكر؛
أي تكشف
عن انحيازه، فالمُقارَنة بين أهل الروم وأهل الصين هي في الحقيقة مُقارَنة بين نَسَقَيْن
مَعْرِفِيَّيْن، يعكسان رؤيتين للعالَم مختلفتين. وتمثيلات الغزالي — وهي كثيرة وشائعة
في كتاباته
كلها — تحتاج هذه الزاوية إلى دراسة خاصَّة ليس هنا مجالها. وإذا كان التعارض بين معرفة
العقل
ومعرفة القلب أحد تجليات التعارض بين المَجاز والحقيقة، فإن كِلا التعارضين مظهر لتعارُض
العالَمَين: عالَم الملكوت وعالَم الشهادة. وثَمَّ تعارضات أخرى نكتفي بالإشارة إليها
مثل التعارض
بين الدنيا والآخرة، والتعارض بين الخاصة والعامة، وبين التأويل والتفسير … إلخ.
حين تَتحوَّل مفاهيم الحقيقة والمَجاز إلى مفاهيم أنطولوجية، ويتحوَّل مَفهوم التأويل
إلى
مفهوم إبستمولوجي، تَتحدَّد مهمة التأويل في نفي المَجاز واستبعاده وصولًا إلى الحقيقة.
وحين يكون
التأويل قدرةً خاصَّةً لا يقدر عليها إلا القليلون — أهل الحقائق — فلا مجال أمام الأكثرين
إلا
الحياة في «وَهْم» المجاز؛ أي في عالَم «الخيال» والصور الزائفة. وإذا كانت الحياة بالنسبة
لأهل
الحقيقة حلمًا يدركون ضرورة العبور من صوره الظاهرية المُدرَكة إلى معانيها الباطنية
المُسْتكِنَّة
فيها، فإن الحياة بالنسبة للأكثرية من أهل الظاهر خدعة كبرى؛ لأنهم يعيشونها بوصفها حقيقةً،
وليست
إلا مَجازًا ووهمًا. ويصبح السؤال عن اللغة، وعن دلالتها في مثل هذا النَّسق المعرفي
الصارم سؤالًا
لا معنى له؛ فثنائية الظاهر والباطن التي تختصر كل الثنائيات والتعارضات — تتجلَّى في
اللغة
تَجلِّيَها في كل مستويات الوجود. قد لا نجد للغزالي طرحًا واضحًا لثنائية الظاهر والباطن
في
الدلالة اللغوية، لكن نهجه التأويلي في التعامل مع الدلالة اللغوية هو الذي مَهَّد الطريق
دون شكٍّ
أمام ابن عربي لكي يصوغ نَظرِيَّته المزدوجة لطبيعة اللغة ودلالتها. ونهج الغزالي في
التأويل نفاذًا
من المَجاز إلى الحقيقة، أو من الصور إلى المعاني، إنما هو نهج «التحريك الدلالي»، وهو
النهج الذي
نتناوله في الفقرة التالية والأخيرة في بحثنا هذا.
(٥) التحريك الدلالي: تحريك للدلالة اللغوية من «هنا» إلى «هناك»
الدالُّ والمدلول في لغتنا المتداوَلة علاقة مَجازية؛ لأن عالمنا هذا ليس عالَم المعاني.
وإذا
كانت المعاني تنتمي إلى هناك — عالم الملكوت — فمِنَ الطبيعي بأن تكون دلالتها — اللغة
— على
المعاني الماثلة في ذلك العالَم هي الحقيقية. وبعبارةٍ أخرى لا تدلُّ اللغة على عالَمِنا
هذا ولا
تشير إليه إلا بطريقة غير مباشرة، والذين يفهمون دلالتها بوصفها دلالةً على هذا العالَم
لا يفهمون
في الواقع إلا الدلالة الظاهرة، ولا يتجاوزون إطار القِشْر الظاهري للمعنى. ويبدو الغزالي
للعين غير
الفاحصة كما لو كان يقع غير عامدٍ في أَسْر التمثيلات التي يُكْثِر من استخدامها في خِطابه
كما سبقت
الإشارة. لكن القراءة المُدقِّقَة تكشف لصاحبها أن شبكة التمثيلات تلك ليست مُجرَّد أدوات
تعبيرية
تشير إلى مدلولات وراءها، بل المقصود معناها الحَرْفي. فحين يتحدث الغزالي مثلًا عن العلوم
المتضمنة
في علم القرآن، ويستخدم مفردات مثل: «الكبريت الأحمر» إشارة إلى العلوم المتعلِّقة بمعرفة
الله فإنه
لا يقصد أن يكون هذا الاستخدام استخدامًا مَجازيًا، بل يقصد المعنى الحرفي، ويعتبره دلالة
حقيقية
على المعنى المقصود. وحين يُقارِن بين دلالة عبارة «الكبريت الأحمر» في عالَم الشهادة
وبين دلالتها
في عالَم الملكوت ينتهي إلى أن دلالتها على معرفة الله هي الدلالة الحقيقية، أو الأَولى
أن تكون
حقيقية. وهو يستخدم كلمة «الأَولى» بشكل متكرر — كما سنرى — الأمر الذي يجعل دلالة اللغة
تدل
بالأصالة على مفردات عالَم الملكوت ومُكوِّناته: «إن الكبريت الأحمر عند الخلق في عالَم
الشهادة
عبارة عن الكيمياء التي يتوصل بها إلى قلب الأعيان من الصفات الخسيسة إلى الصفات النفيسة،
حتى ينقلب
به الحَجرُ ياقوتًا والنحاسُ ذهبًا إبريزًا؛ لِيتوصَّل به إلى اللذات في الدنيا مُكدَّرَة
مُنَغَّصَة في الحال، مُنصَرِمة على قُرْب الاستقبال. أفترى أن ما يقلب جَواهر القَلْب
من رُزالة
البهيمة وضلالة الجهل إلى صفاء الملائكة وروحانيتها ليَترقَّى من أسفل سافلين إلى أعلى
عِلِّيين،
وينال به القرب من رب العالمين والنظر إلى وجهه الكريم أبدًا دائمًا سرمدًا، هل هو أَوْلى
باسم
الكبريت الأحمر أم لا؟ فلهذا سَمَّيناه (= علم معرفة الله) الكبريت الأحمر. فتأمَّلْ
وراجِعْ نفسك
وأَنصِف لتعلم أن هذا الاسم بهذا المعنى أحق عليه وأصدق، ثم أنفس النفائس التي تستفاد
من الكيمياء
اليواقيت وأعلاها الياقوت الأحمر، فلذلك سميناه معرفة الذات.»
٤٧
وعلينا أن نلاحظ أن المقارَنة بين دلالة العبارة في عالَم الحس والشهادة وبين دلالتها
في عالم
الملكوت تستدعي المقارنة بين اللذات الدنيوية المتحققة بالأحجار الكريمة الناتجة بتأثير
«الكبريت
الأحمر» اللذات الأخروية الناتجة عن معرفة وبين الله، أي إنها تستدعي كثيرًا من المقارَنات
التي سبق
أن أثبتناها في الفقرة السابقة. والغزالي حين يُحدِّد دلالة «الكبريت الأحمر» في «الكيمياء
التي
يتوصل بها إلى قلب الأعيان من الصفات الخسيسة إلى الصفات الذميمة» يَتصوَّر أنَّه يُحدِّد
بذلك روح
المعنى، وهي الدلالة التي تشير إلى عالَم الملكوت، دلالة تحويل حالة القلب من الحيوانية
إلى
الملائكية. أما صورة المعنى، والتي هي الدلالة في عالَم الحس والشهادة، فهي قلب الأحجار
الخسيسة إلى
أحجار نفيسة. هذه التفرقة بين «روح» المعنى و«صورته» تُمثِّل ثنائية أخرى من الثنائيات
العديدة التي
يقوم عليها النَّسَق الفكري للأشاعرة عامَّة وللغزالي بوجهٍ خاصٍّ. وعلى أساس من هذه
الثنائية تشير
اللغة كلها إلى عالَم الملكوت بدلالتها «الروحية» وتشير إلى عالَم الحس والشهادة بصورة
دلالتها فقط،
وعلى هذا الأساس أيضًا لا نحتاج لتأويل آيات الصفات؛ لأن روح المعنى والدلالة يشير إلى
الله وإلى
صفاته إشارةً حرفية، في حين تكون صورة المعنى هي التي تشير إلى الصفات الإنسانية: «فانظروا
إلى قوله
ﷺ «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن»، فإن رُوح الإصبع القدرة على سرعة التقليب،
وإنما
قلب المؤمن بين لُمَّة المَلَك وبين لُمَّة الشيطان هذا يغويه وهذا يَهْديه. والله تعالى
بهما
يُقَلِّب قلوب العباد كما تُقَلِّب الأشياء أنت بين إصبعيك، فانظر كيف شارَك نِسْبَة
المَلَكَين
المُسخَّرَين إلى الله تعالى إصبعيك في رُوح إصبعية وخالَفَها في الصورة؟ ومتى عرفتَ
معنى الإصبع
أمكنكَ التَّرقِّي إلى القلم واليد واليمين والوجه والصورة، وأخذَتْ جميعها معنًى روحانيًّا
لا
جسمانيًّا فتعلم أن روح القلم وحقيقته التي لا بُدَّ من تحقيقها إذا ذَكرت حدَّ القلم
هو الذي يكتب
به، فإن كان في الوجود شيء يتسطَّر بواسطته نَقْشُ العلوم في ألواح القلب فأَخْلِق به
أن يكون هذا
القلم! فإن الله تعالى عَلَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم. وهذا القلم رُوحاني
إذا وُجِدَت
فيه رُوح القلم وحقيقته، ولم يُعْوِزْه إلا صورت، وكونُ القلم من خشبٍ أو قصبٍ ليس من
حقيقة القلم؛
ولذلك لا يوجد في حَدِّه الحقيقي، ولكل شيء حد وحقيقة هي رُوحه. فإذا اهتديتَ إلى الأرواح
صِرتَ
روحانيًّا، وفُتحتْ لك أبواب الملكوت وأُهِّلْتَ لمُرافَقة الملأ الأعلى.»
٤٨
هذه المقارَنة بين «الروح» و«الصورة» على مستوى المعنى والدلالة تجعل الأصل — الروح
والحقيقة —
هناك في عالَم الملكوت، بينما تكون المحاكاة — الصورة والمجاز — هنا في هذا العالم. ومعنى
ذلك أن
المبدأ الذي رسَّخَه المعتزلة على المستوى الأنطولوجي، وكذلك على المستوى الإبستمولوجي
وما يستتبعه
من مستوى الدلالة اللغوية — مبدأ قياس الغائب على الشاهد — ينقلب هنا على جميع المستويات
فيصبح
قياسًا للشاهد على الغائب. هذه نتيجة أُولى، والثانية أن الطريق المختار من الطريقين
اللذين أشار
إليهما ابن عربي في شاهدنا الافتتاحي هو الطريق الثاني، طريق العبد إلى الرب. أليس هذا
العالَم هو
عالَم الخيالات والصور التي تُشوِّش على الإنسان معرفة الحقيقة، ويُزيِّف الوقوف عندها
وحدها
وَعْيَه؟ وللنَّفاذ من عالَم الخيالات والصور هذا لا بُدَّ من «التأويل» الذي لا يَقْدِر
عليه إلا
المتحققون الذين تَرَكوا الدنيا وراء ظهورهم، فتحرروا من سجن الأوهام والخيالات. وهكذا
لم يَعُد
التَّخْيِيل أداةً للتعبير اللغوي تَعْتَمِد على «المَجاز» أداة لغوية أساسية، بل صار
تشويشًا
للحقيقة وإخفاءً لها؛ اختبارًا للإنسان وابتلاء. ويكاد الغزالي في هذا النَّسق الفكري
يُذكِّرنا
بأسطورة الكهف عند أفلاطون، فالإنسان مُكبَّل بالقيود التي تَشُدُّه إلى عالَم الخيال
والصور،
ويحتاج إلى قوة خارجية تنزع عنه تلك الأغلال ليستطيع أن يستدير إلى عالم الحقائق الأصلي.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه علينا من منظور هذه الدراسة: كيف يستطيع الغزالي أن يقلب دلالة
اللغة هكذا رأسًا على عقب؟ ولعلنا لاحظنا في النصوص السابقة التي استشهدنا بها كيف يحاول
الغزالي
جاهدًا أن «يحرك» دلالة الألفاظ في اتجاه ما يعتبره «جوهرًا» للمدلول، فالكبريت الأحمر
ليس هو الحجر
فقط — حجر الفلاسفة — بل هو العملية الكيميائية ذاتها، وليس الإصبع هو ذلك العضو المعروف
من اليد
الإنسانية بل هو عملية «التقليب»، وكذلك ليس القلم هو الأداة التي تُسْتخْدَم في الكتاب
بل هو عملية
الكتابة ذاتها. ومن السهل أن نُدْرِكَ أن عملية «التحريك الدلالي» تلك تعتمد أساسًا على
عملية أخرى،
يمكن أن نطلق عليها اسم «المخادَعة الدلالية». وإذا كنا نحتاج إلى بعض الجهد لاكتشاف
ذلك التحريك
المُعْتَمِد على الإبهام والمُخادَعة في كل كُتُب الغزالي، فإننا لا نحتاج لأي جهد لاكتشاف
ذلك في
كتابه: مشكاة الأنوار. والكتاب مُحاوَلة لتأويل آية قرآنية من «سورة النور» هي قوله تعالى:
اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ
الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ
شَجَرَةٍ
مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ
وَلَوْ لَمْ
تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ
اللهُ
الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (الآية ٣٥).
وقد أجمع المفسرون على اختلاف اتجاهاتهم أن عبارة «الله نور السموات والأرض» عبارة
مَجازية؛
لأن النور هو الهداية، والظلمة هي الضلال، والمقصود بالسموات والأرض مَن فيهما، فمعنى
العبارة: الله
هادي مَن في السموات.
٤٩ ولم يَكَد الإمام القشيري في تفسيره المسمى «لطائف الإشارات» يتجاوز إجماع المفسرين
حتى
في اعتبار أن الصورة التمثيلية التالية للعبارة السابقة تمثيل لنور المؤمن، النور الموهوب
من الله
سبحانه وتعالى.
٥٠ لكن الغزالي يرى أن عبارة «الله نور السموات والأرض» عبارة حقيقية لا مَجاز فيها؛ ولذلك
يبدأ الفصل الأول من كتابه المشار إليه — مشكاة الأنوار — في «بيان أن النور الحق هو
الله تعالى،
وأن اسم النور لغيره مَجاز محض لا حقيقة له.»
٥١ ولكنه لكي يصل إلى إثبات ذلك يقوم بتحريك دلالة كلمة «النور» على عدة خطوات مستندًا
إلى
ما سبق أن أشرنا إليه باسم «المُخادَعة الدلالية». وأُولى المُخادَعات قوله: «وعلى الجملةِ
فالنور
عبارة عمَّا يُبْصَر بنفسه ويُبْصَر به غيره كالشمس. هذا حدُّه وحقيقته بالوضع الأول
(يعني عند العوام).»
٥٢ وهذا التحديد الدلالي يعتمد على مُخادَعة دلالية تحصر النور في الأجسام المضيئة، ولا
تكتفي بدلالة اللفظ على الشعاع — أو الأشعة — المنبعثة عنها. ثم يحرك الدلالة حركة أخرى
ليجعلها من
حظ «الروح الباصرة» في عين المبصر للنور؛ استنادًا إلى أن النور و«روحه» هو «الظهور للإدراك».
ولَمَّا كان الإدراك موقوفًا على وجودِ النور المُدْرَك ووجودِ العينِ المُدرِكة: «وليس
شيء من
الأنوار ظاهرًا في حقِّ العميان ولا مُظْهِرًا، فقد تساوى الروحُ الباصرة والنورُ الظاهر
في كونه
ركنًا لا بُدَّ منه للإدراك. ثم ترجَّح في أن الروح الباصرة هي المُدْرِكة وبها الإدراك،
وأما النور
فليس بمُدْرِك ولا به الإدراك، بل عنده الإدراك. فكان اسم النور بالنور الباصر أحقُّ
منه بالنور
المبصر … فقد عرفت بهذا أن الروح الباصرة سُمِّي نورًا، وأنه لِمَ سُمِيَّ نورًا، وأنه
لِمَ كان
بهذا الاسم أَوْلى. وهذا هو الوضع الثاني وهو وضع الخواص.»
٥٣
ويعتمد تحريك الدلالة في النص السابق — التحريك من مستوى الوضع الأول عند العامة
إلى مستوى
الوضع الثاني عند الخاصة — على آلِيَّتَيْن مُتناقِضَتَيْن: الأولى آلية «التوسيع الدلالي»
وذلك حين
تتسع دلالة النور لتصبح الظهور للإدراك، وذلك رغم أن النور يُمَثِّل واحدًا فقط من شروط
تَحقُّق
الإدراك. والآلية الثانية هي آلية «التضييق الدلالي»، وهي الآلية التي يتم عَبْرَها نَقْل
الدلالة
إلى المستوى الثاني؛ إذ يعود الغزالي ليجعل الروح الباصرة هي «الأساس» في عملية الإدراك،
ويُقَلِّل
من قيمة تأثير النور في العملية، فالنور — وفقًا لتعبيره — ليس بمدرك «ولا به الإدراك،
بل عنده
الإدراك». والغزالي يشير بهذا الفارق بين أن يكون الإدراك «بالنور» وبين أن يكون «عنده»
إلى أن
«النور» ليس عِلَّةً في حدوث الإدراك، بل هو مجرد شرط لحدوثه. والفارق بين العلة والشرط
عند الغزالي
أن العلة ترتبط بالمعلول وجودًا وعدمًا، في حين أن الشرط ليس كذلك، وهي تفرقة تسمح للغزالي
بإزالة
علاقات العِلِّيَّة والسببية في قوانين الطبيعة وفي الفعل الإنساني — بحصرها داخل دائرة
الشرط —
وذلك للاحتفاظ للإرادة الإلهية بالتدخل الدائم في شئون العالم
٥٤ وإذ ينحصر دور النور في كونه مُجَرَّد شرط لحدوث الإدراك، تصبح الروح الباصرة
«الأَوْلى»، أو «الأحق» باسم النور من النور. ومن المهم هنا أن نلاحظ أن مَسْلَك الغزالي
هذا —
التحريك الدلالي باستخدام آلِيَّتَي التوسيع والتضييق — يُمَثِّل نهجًا ثابتًا في الخطاب
الديني
المعاصر خاصَّةً، وهو نهج اشرنا إلى بعض مظاهره في دراسة سابقة
٥٥
وتتواصل عملية التحريك الدلالي خطوة خطوة للوصول إلى المعنى «الحقيقي» من منظور الغزالي،
فالمقارنة بين إدراك الروح الباصرة وبين الإدراك العقلي ينتهي في تحليل الغزالي إلى وَسْمِ
الإدراك
البصري بكل سِمات النقص والقصور. وهكذا يصبح «العقل أَوْلى باسم النور من العين. بل بينهما
العين.
بل بينهما من التفاوت ما يَصِحَّ معه أن يقال إنه أَولى، بل الحق أنه المُستحِقُّ للاسم
دونه.»
٥٦ لكن العقل الذي يتحدث عنه الغزالي هنا ليس العقل الاستدلالي الذي يَكْتَسِب المعرفة
عَبْرَ حركته المعرفية انتقالًا من المحسوس إلى المعقول، ومن الواضح إلى الغامض، اعتمادًا
على
فعاليته الخاصة. إنه ليس العقل الاعتزالي القادر على الوصول إلى معرفة الله ومعرفة صفاته،
والقادر
كذلك على الاهتداء لكثير من الحقائق التي يأتي الوحي مُصَدِّقًا لها. العقل الذي يَتحدَّث
عنه
الغزالي هو العقل «القابل» للمعرفة تأتيه من الخارج، إنه «القلب» الذي أَفْرَد له في
موسوعته الكبرى
إحياء علوم الدين بابًا باسم «عجائب القلب»، سبق لنا أن استشهدنا ببعض ما جاء فيه. هذا
العقل/القلب
يحتاج إلى نور يشرق عليه بالحكمة حتى يصير مبصرًا، وهذا النور — ولاحظ التحريك خطوةً
أخرى — هو
«الأَوْلى» باسم النور من العقل: «فعند إشراق نور الحكمة يصير العقل مُبصِرًا بالفعل
بعد أن كان
مُبصِرًا بالقوة. وأعظم الحكمة كلام الله تعالى، ومن جملة كلامه القرآن خاصَّةً، فتكون
منزلة آيات
القرآن عند عين العقل منزلة نور الشمس عند العين الظاهرة؛ إذ به يتم الإبصار. فبالحري
أن يُسمَّى
القرآن نورًا كما يُسمَّى الشمس نورًا، فمثالُ القرآن نورُ الشمس، ومثال العقل نورُ العين.
وبهذا
نفهم معنى قوله:
فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي
أَنْزَلْنَا (سورة التغابن، آية ٨) وقوله:
قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ
مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (سورة النساء، آية ١٧٤).»
٥٧
ولعلنا لاحظنا أن الغزالي لا يحرك الدلالة فقط في اتجاه عالَم الملكوت، بل يجعل من
هذا العالَم
كما سبقت لنا الإشارة «عالَم المُثُل»، ويجعل من عالَمنا عالَم «المحاكاة»، فنُور الشمس
مُجرَّد
«مثال» لنور القرآن، ونور العين مُجرَّد مثال لنور العقل. وكما تحركت الدلالة في مستوى
الوضع الأول
— مستوى الدلالة عند العوام — من الأثر إلى المصدر، من الشعاع إلى الشمس مثلًا، تتحرك
الدلالة هنا
في مستوى الوضع الثاني — مستوى الدلالة عند الخاصة — القرآن/النور إلى النبي المَصْدَر
المباشر لهذا
النور. يقول الغزالي تحت عنوان «دقيقة ترجع إلى حقيقة النور»: «إن كان ما يُبْصِر نَفْسَه
وغيره
أَولى باسم النور، فإن كان من جملة ما يُبْصَرُ به غَيرُه أيضًا مع أنه يُبْصِر نَفْسَه
وغَيرَه،
فهو أَوْلى باسم النور مِن الذي لا يُؤثِّر في غيره أصلًا، بل بالحري أن يُسمَّي سراجًا
منيرًا
لفيضان أنواره على غيره. وهذه الخاصية تُوجَد للروح القدسي النبوي إذ تفيض بواسطته أنواع
المعارف
على الخلائق. وبهذا نفهم معنى تسمية الله محمدًا عليه السلام سراجًا منيرًا. والأنبياء
كلهم سُرُج.
وكذلك العلماء لكن التفاوت بينهم لا يحصى.»
٥٨
لكن إذا كان محمد والأنبياء كلهم مَصادر غير مباشرة، فإن المَصدر المباشر الذي يَسْتَمِد
منه
الأنبياء نُورهم هو «الأَوْلى» و«الأحق» باسم النور من الأنبياء: «إذا كان اللائق بالذي
يُسْتفاد
منه نُور الإبصار أن يُسمَّى سراجًا منيرًا، فالذي يقتبس منه السراج في نَفْسِه جدير
بأن يُكَنَّى
عنه بالنار. وهذه السُّرُج الأرضية إنما تقتبس في أصلها من أنوار علوية، فالروح القدس
النبوي يكاد
زَيْتُه يضيء ولو لم تمسسه نار. ولكن إنما يصير نورًا على نور إذا مَسَّتْه النار. وبالحَرِي
أن
يكون مقتبس الأرواح الأرضية هي الروح الإلهية العلوية التي وَصَفَها علي وابن عباس رضي
الله عنهما
فقالا: إن لله مَلَكًا له سبعون ألف وجه، في كل وجه سبعون ألف لسان يسبح الله بجميعها،
وهو الذي
قوبل بالملائكة كلهم فقيل يوم القيامة:
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ
وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا (سورة النبأ، آية ٣٨)، فهي إذا اعْتُبِرَت من حيث يَقْتَبِس منها
السُّرُج الأرضية لم يكن لها مثال إلا النار.»
٥٩
هذا المَلَك الذي تُمَثِّله النار في عالمنا الأرضي هو الأحق والأَولى باسم النور
الأنبياء؛
لأنهم يستمدون نُورهم منه، وهو الذي يُعِيرُهم النور. لكن هذا المَلَك يستعير نوره بدوره
من «حضرة
الربوبية التي هي منبع الأنوار كلها.»
٦٠ وهذا هو النور الأول الذي لا نور فوقه، وهو المُستحِق لاسم النور على الحقيقة، وكل ما
سواه ممَّا سَبَق لا يُطْلَق عليه اسم النور إلا مَجازًا: «بل أقول ولا أبالي إن اسم
النور على غير
النور الأول مَجاز مَحْض؛ إذ كل ما سواه إذا اعتبر ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته لا نور
له، بل
نورانيته مُستعارة من غيره ولا قوام لنورانيته المستعارة بنفسها، بل بغيرها. ونسبة المستعار
إلى
المستعير مَجاز مَحْض … فإذن النور الحق هو الذي بيده الخلق والأمر، ومنه الإنارة أولًا
والإدامة
ثانيًا. فلا شركة لأحد معه في حقيقة هذا الاسم ولا في استحقاقه إلا من حيث يُسَمِّيه
به ويتفضل عليه
بتسميته تفضل المالك على عبده إذا أعطاه مالًا ثُمَّ سَمَّاه مالكًا. وإذا انكشف للعبد
الحقيقة
عَلِم أنه وماله لمالكه على التَّفرُّد لا شريك له فيه أصلًا.»
٦١
هكذا يتداخل المَجاز والاستعارة، وتصبح الأسماء كلها لله بالأصالة، وهو الذي يمنحها
للبشر على
سبيل الإعارة. ومعنى ذلك أن اللغة لا تنتمي من حيث الدلالة لهذا العالَم الذي نعيش فيه،
وإن كانت
تنتمي إليه من حيث هي أصوات ومخارج حروف. تنتمي دلالة اللغة — لِبَابها الحقيقي — إلى
عالَم الملكوت
وتدل عليه. في إطار هذا التصور تتحرك دلالة كلمة «النور» حركةً أخيرةً لتدلَّ على مَحْض
الوجود في
مقابل ظُلمة «العدم»، وهكذا يَسْقُط العالَمُ والإنسان في ظُلمة العدم، أو الوجود المَجازي
المستعار، ليخلص الوجود الحقيقي، والنور المَحض، الله وحده: «مهما عرفت أن النور يرجع
إلى الظهور
والإظهار ومراتبه، فاعلم أنه لا ظلمة أشد من كَتْم العدم؛ لأن المُظْلِم سُمِّي مظلمًا
لأنه ليس
للإبصار إليه وصول، إذ ليس يصير موجودًا للبصير (= الأعمى) مع أنه موجود في نفسه. فالذي
ليس موجودًا
لا لغيره ولا لنفسه كيف لا يستحق أن يكون هو الغاية في الظلمة؟ وفي مقابلته الوجود فهو
النور؛ فإن
الشيء ما لم يظهر في ذاته لا يظهر في غيره. والوجود ينقسم إلى ما للشيء مِن ذاته، وإلى
ما لَه من
غيره. وما له الوجودُ من غيره فوجودُه مستعار لا قوام له بنفسه، بل إذا اعتبر ذاته من
حيث ذاته فهو
عدم مَحْض. وإنما هو موجود من حيث نِسبته إلى غيره، وذلك ليس بوجود حقيقي … فالموجود
الحق هو الله
تعالى، كما أن النور الحق هو الله تعالى … من هنا تَرقَّى العارفون من حَضيض المَجاز
إلى يَفَاع
الحقيقة، واستكملوا مِعْراجهم فرَأَوا بالمُشاهدة العيانية أن ليس في الوجود إلا الله
تعالى.»
٦٢
هكذا انتهى الغزالي من تأويلاته المُعتمِدة على «التحريك الدلالي» لألفاظ اللغة —
والذي يستند
بدوره على آلية المخادَعة الدلالية بالتوسيع والتضيق — لا إلى نَفْي الإنسان فقط، بل
إلى نَفْي
العالَم كله في منطقة الظل والظلمة. وإذا كان مَفهوم «وحدة الوجود» يبدو خافتًا عند الغزالي
— رغم
وضوحه — فلا شك أنه قد وضع لابن عربي الأساس الفلسفي الذي أقام عليه بناءه الفكري. وليست
وحدة
الوجود فقط هي التي أفادها ابن عربي من الغزالي؛ فقد اكتشَفْنا من خلال تحليلنا السابق
بذورًا كثيرة
من الأفكار والمفاهيم الخاصة باللغة والدلالة. من هنا يجب علينا أن نُبَرِّئ ابن عربي
من تهمة
التناقض — سعيًا للتقية — التي سبق أن اتهمناه بها لأنه يتمسك بالعقائد الأشعرية جنبًا
إلى جنب
عقيدة وحدة الوجود.
٦٣ علينا في الوقت نفسه أن ننفي عن الغزالي الاتهام بالتناقض لجَمْعِه بين النَّسَقَين
الأشعري والصوفي في نظامه الفكري، فالحقيقة أن النَّسَقين غير مُتعارِضَيْن. إن إنكار
علاقات
العِلِّيَّة بين الظواهر الطبيعية وحَبْسَها داخل دائرة العلاقات الشرطية من شأنه أن
يؤدي إلى إلغاء
فعالية القوانين الطبيعية إلغاء تامًّا. وإذا أضيف إلى ذلك نفي فعالية الإنسان وسلبه
قدراته
فالنتيجة الطبيعية لذلك كله إلغاء الوجود الظاهري لحساب وجود باطني هو «الأَولى» بأن
يكون الوجودَ
الحقَّ، ويدخل الوجود الظاهر المُدْرَك دائرة «المَجاز». وتكتسب اللغة في هذا السياق
ازدواجًا
دلاليًّا يُؤَصِّله الغزالي ويترك لابن عربي مهمة صياغته بشكل متكامل ونهائي. وإذ تنكشف
هذه العلاقة
الوثيقة بين الغزالي وابن عربي — أو لنقل بين النَّسَق الفكري الأشعري ونسق منظومة وحدة
الوجود —
يَتبيَّن لنا شكلية تقسيم «التصوف» إلى: تَصوُّف سُنِّي مقبول ومشروع يمثله الغزالي وتَصوُّف
فلسفي
مرفوض ومُدان — إلى حدِّ التكفير — وهو التقسيم الذي تَمَّت صياغته في عصور التأخُّر
والانحطاط، ثم
أخذه المستشرقون مأخذ التسليم وأشاعه دون فحص أو اختبار دارسو التصوف رغم اختلاف اتجاهاتهم
وتَعدُّد
مناهجهم.
خاتمة
أليس من حقنا بعد ذلك كله أن نتحدث عن «مركبة المَجاز» وعن إمكانية قيادتها في واحد
من طَرفَي
الحقيقة الدينية المزدوجة؛ أي في واحد من الطريقين اللذين أشار إليهما ابن عربي في نَصِّنَا
الافتتاحي؟ لقد حاوَل المعتزلة والفلاسفة العقليون أن يقودوها في اتجاه تثبيت حَقِيقة
العالَم
والإنسان، لكن الذين حاوَلوا قيادتها في الاتجاه الآخر كُتِبَت لهم الغلبة لأسباب تاريخية
بالمعنى
السوسيولوجي للتاريخ. وليس لهذه الغَلَبة علاقة بالسلامة الفكرية الاعتقادية كما يحاول
الأتباع
المعاصرون — أتباع الأشاعرة عامَّة والغزالي خاصة — أن يؤكدوا؛ فللطريقين سَنَدُهما الاعتقادي
في
الطبيعة المزدوجة للحقيقة الدينية كما سبقت الإشارة. وإذا كان ابن عربي قد حاوَل جاهدًا
في مشروعه
الفكري أن يجمع الطريقين ويستوعب الحقيقة الدينية كلها، فإنه اضطر أن يحتفظ بالازدواجية
على جميع
المستويات، خاصَّةً على مستوى الدلالة اللغوية التي تعنينا هنا. وما يزال الخطاب الديني
المعاصر
يَتعثَّر في محاولاته لتَجاوُز الازدواجية الدينية تلك، وهي ازدواجية تبدو أصيلة وجوهرية
في بِنْيَة
العقل الديني بشكل عام، أي إنها ليست صفة خاصَّةً بالعقل الديني الإسلامي. ومن الصعب
أن تتوقع
إمكانية أن يفلح الخطاب الديني في تجاوُز تلك الازدواجية. وفيما يتعلق بقضية «المجاز»
نرى الخطاب
الديني السائد والميهمن إعلاميًّا — سواء في أجهزة الإعلام الرسمية كالإذاعة والتلفزيون،
أو في
المساجد ومنابر الخطاب الديني في المؤسَّسات التعليمية — ينفي عن عالم ما وراء الطبيعة
«المَجاز»
نفيًا تامًّا وكاملًا. وإنما يتم هذا النفي لحساب ترسيخ «الأسطورة» لا على مستوى المُعتَقد
الديني
فقط، بل على مستوى الوعي الاجتماعي كذلك.
إن الإيمان بحَرْفِيَّة الدلالات التي وَردَت في النصوص الدينية عن الله، خاصَّةً
ما وَرد عن
العرش والكرسي والملائكة الذين يحملونه، وما وَرد كذلك عن الحياة الأخروية كالصراط والحوض
وعذاب
القبر وناكر ونكير، ناهيك بما ورد عن المسيخ الدجال والمعركة النهائية الفاصلة بين الكفر
والإيمان،
لا يمارس تأثيره على مستوى العقيدة وحدها. الأخطر من ذلك تأثير هذا الفهم الحرفي على
بِنْيَة الوعي
الاجتماعي والسياسي، وهو تأثير واضح ومَلْمُوس في جميع مستويات واقعنا العربي الإسلامي.
تَتعدَّد
أشكال النُّظُم السياسية في عالمنا بين الملكي والجمهوري، نظام الحزب الواحد والتعددية
الحزبية،
نُظُم مَدَنِيَّة وأخرى عسكرية، لكنها تتفق جميعًا في طابعها الديكتاتوري التسلطي القاهر.
في
عالَمِنا يَتوحَّد شخص الحاكم بالوطن ويستوعبه داخله، بحيث يُضْحِي نقْد الحاكم خيانةً
للوطن، ويصبح
الخلاف معه مُروقًا على الدِّين وهرطقة وإلحادًا. هذا على المستوى السياسي المباشر، أما
على مستوى
الفكر والثقافة فالمأساة لا تَقِلُّ فداحةً، فالخِطاب العربي في مُجْمَله يتعامل مع المَجاز
بوصفه
حقيقةً، ويستبدل الكلمات بالأفعال، فيغرق في الخطابية الإنشائية، على حين يغرق العقل
في مثالية
مُفرِطة متعالية، تنتفي معها إمكانيات فَهْم الواقع وتحليله، ناهيك بالتغيير والتطوير.
إن ربط «مركبة» اللغة والمجاز بقاطرة الدين والعقيدة هو المسئول دون شك — كما اتضح
من دراستنا
تلك — عن حالة الارتباك والتشوش في فَهْم الظاهرة. لكن علينا أن نُقَرِّر أيضًا أن تلك
المسئولية
مُجرَّد مسئولية جزئية، وإنما تقع المسئولية الكلية على عاتِق ربط مركبة الحياة كلها
— بكل
مستوياتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، والثقافية والفكرية والأخلاقية — بعجلة
الدين
والعقيدة. ومن الضروري الإشارة إلى أن هذا الربط ليس جزءًا من العقيدة ذاتها، بل هو ربط
حدث في لحظة
تاريخية مُحدَّدة من جانبِ قُوًى اجتماعيةٍ بعَيْنِها في معركة الصراع الاجتماعي والفكري
في
تاريخنا. لقد كانت الأجيال الأُولى من المسلمين تُدرِك أن مَجال الوحي والعقيدة مُستقِل
عن مجال
الخِبْرة والفعالية الإنسانية والطبيعية، ولم يتداخل المجالان إلا في سياق الصراع الذي
أصَّل الإمام
الشافعي من خلاله «هيمنة» مجال الدِّين والعقيدة على مجالات الحياة كلها. وكان هذا التأصيل
بمثابة
المِهاد الذي أقام عليه الأشاعرة نسَقَهم الفكري، بكل التداعيات التي تَمَّتْ مناقشتها
هنا.
٦٤ وإذا لم يكن الارتباط المشار إليه جزءًا من بِنْية العقيدة، فليست الدعوة إلى فَكِّ
ذلك
الارتباط، بما نَتَج عنه من «هيمنة» النصوص الدينية، خروجًا عن الدِّين أو مروقًا من
العقيدة،
فللدين مجالات فعالية لا يستطيع أن ينكرها أحد. وممَّا لا يستطيع أحد أن ينكره أن مجال
الدراسات
اللغوية والأدبية تقع خارج مجال تلك الفعالية. إننا نفهم ما وقع فيه القدماء ونفسره،
ولكن من الخطر
الفادح أن نكرره.