الفصل العاشر
بعدما استقلَّ المفوض المساعد عربة تجرها خيول مضت به بسرعة من حي سوهو في اتجاه وستمينستر، ترجَّل منها في قلب الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. حياه بعض رجال الشرطة الأقوياء البِنية، الذين لم يبدُ عليهم أنهم منبهرون على نحو مميز بحراستهم لهذا الموضع المهيب. بعدما مر عبر بوابة غير فخمة على الإطلاق إلى حرم دار المجلس التشريعي التي تُعتَبَر «المكان» الأهم «بلا منازع» في عقول الملايين من الرجال، التقى أخيرًا بتودلز السريع الانفعال والثوري.
أخفى ذلك الشاب الأنيق والمهندم اندهاشه من الحضور المبكر للمُفوض المساعد، الذي كان قد قيل له أن يتوقَّع حضوره في حوالي مُنتصَف الليل. استنتج أن حضوره المبكر جدًّا كان علامةً على أن الأمور، مهما كانت، قد اتخذت منعطفًا خاطئًا. بتعاطف حاضر دائمًا، يتماشى مع روح المرح المتأصِّلة غالبًا في الشباب اللطفاء، شعر بالأسى تجاه تلك الشخصية المهيبة التي كان يطلق عليها اسم «الرئيس» وأيضًا تجاه المفوض المساعد، الذي بدا له وجهه أكثر تبلدًا وتشاؤمًا من أي وقت مضى، وكئيبًا على نحو عجيب. قال في نفسه: «يا له من رجل غريب أجنبي المظهر.» مبتسمًا من بعيد بمرح ودِّي. وما إن التقوا حتى بدأ يتحدث بنية طيبة تهدف إلى دفن الحرج من الفشل تحت كومة من الكلمات. بدا وكأن الهجوم الكبير الذي كان منذرًا بالحدوث في تلك الليلة سوف يفشل. كان أحد أتباع «تشيزمان الغاشم ذاك» منصَبًّا على إضجار أعضاء المجلس التشريعي، قليلي العدد جدًّا، بلا رحمة ببعض الإحصائيات المغلوطة. كان تودلز يأمل أن يُضجرهم وصولًا إلى أخذ تصويت بالرفض كل دقيقة. ولكنه ربما كان يضيع الوقت فحسب حتى يَسمح لتشيزمان الشره بأن يتناول عشاءه على مهل. على أيِّ حال، لم يكن من المُمكن إقناع الرئيس بالذهاب إلى المنزل.
قال تودلز مُستنتجًا بجدية: «أظن أنه سيقابلك على الفور. إنه يجلس وحده تمامًا في غرفته يفكر في جميع أنواع الأسماك التي في البحر. تعالَ معي.»
وعلى الرغم من لطف تصرُّفات السكرتير الخاص (المتطوع)، كان عرضة للأخطاء التي يرتكبها عامة الناس. لم يرغب في إيذاء مشاعر المفوض المساعد، الذي بدا له على نحو غير اعتيادي مثل رجل أفسد عمله. لكن فضوله كان أقوى للغاية من أن يكتمه مجرد التعاطف. وأثناء سيرهما، لم يستطع أن يَمنع نفسه من أن يطرح بلطف سؤالًا، وهو يُدير رقبته نحوه:
«وماذا عن سمكتك؟»
أجاب المفوض المساعد بإيجاز لم يكن يُقصَد منه أي نفور من الحديث: «أمسكت بها.»
«جيد. لا تتصوَّر كم يكره هؤلاء الرجال العِظام خيبة الأمل في الأمور الصغيرة.»
بعد هذه الملاحظة العميقة، بدا أن تودلز المحنك يفكر. على أيِّ حال، لم يقل شيئًا لثانيتَين كاملتين. ثم قال:
«أنا سعيد. ولكن … أقول … هل هي مسألة تافهة جدًّا حقًّا كما تصفها؟»
سأله المفوض المساعد بدوره: «هل تعرف ما الذي يُمكن فعله بسمكة صغيرة؟»
بضحكة مكتومة قال تودلز، الذي كانت معرفته بصناعة صيد الأسماك حديثة العهد، وهائلة مقارنةً بجهله بجميع المجالات الصناعية الأخرى: «أحيانًا توضع في علبة سردين. توجد مصانع تعليب سردين على الساحل الإسباني وهي …»
قاطع المفوض المساعد رجل الدولة المبتدئ.
«نعم. نعم. ولكن أحيانًا أيضًا نرمي السمكة الصغيرة من أجل اصطياد حوت.»
صاح تودلز، حابسًا أنفاسه: «حوت. أوف! أنت تسعى إلى اصطياد حوت إذن؟»
«ليس بالضبط. ما أسعى إلى اصطياده أشبه بكلب البحر. ربما لا تعرف شكل كلب البحر.»
«بلى؛ أعرفه. إننا غارقون حتى أعناقنا في كتب متخصصة — تعج بها رفوف كاملة — وألواح … إنه حيوان مقيت وبغيض المنظر تمامًا ومقرف للغاية، وله وجه ناعم الملمس نوعًا ما وشوارب.»
علق المفوض المساعد: «وصف دقيق. عدا أن ما أسعى وراءه حليق الوجه تمامًا. لقد رأيتَه. إنه سمكة ذكية.»
قال تودلز وهو لا يكاد يصدق: «أنا رأيته! لا أستطيع أن أتصور أين يُمكن أن أكون قد رأيته.»
أخفض المفوض المساعد صوته وقال بهدوء: «أظن في نادي «المستكشفين».» لما سمع تودلز اسم هذا النادي الحصري للغاية، بدا عليه الخوف وتوقف عن الحديث فجأة.
احتجَّ، ولكن بنبرة تملؤها الرهبة: «غير معقول. ماذا تقصد؟ هل هو عضو في النادي؟»
تمتم المفوض المساعد وكأنه يتحدث إلى نفسه: «عضو فخري.»
«يا إلهي!»
بدا تودلز مذهولًا لدرجة أن المفوض المساعد ابتسم ابتسامةً خفيفة.
وقال: «ذلك الحديث فيما بيننا فقط.»
قال تودلز بضعف وكأن المفاجأة سلبتْه قوة المرح التي لديه في لحظة: «هذا أشنع خبر سمعته في حياتي.»
رمقه المفوض المساعد بنظرة متجهمة. حتى وصلا إلى باب غرفة الرجل صاحب المقام الرفيع، لزم تودلز صمتًا نابعًا من صدمة وهيبة، وكأن المفوض المساعد أهانه لما كشف له تلك الحقيقة البغيضة والمُقلِقة. أحدثت تلك الحقيقة ثورة في أفكاره عن الإجراءات الصارمة التي يتخذها نادي «المستكشفين» في اختيار أعضائه وعن طهارته الاجتماعية. لم يكن تودلز ثوريًّا إلا في السياسة؛ وتمنَّى أن يحافظ على معتقداته الاجتماعية ومشاعره الشخصية دون تغيير طوال سنوات حياته المقسومة له على هذه الأرض، التي كان يعتقد أنها، في مجملها، مكان جميل للعيش فيه.
تنحَّى جانبًا.
قال: «ادخل من دون أن تطرق الباب.»
أضفَتْ أغطية من حرير أخضر وُضِعَت على جميع المصابيح على الغرفة شيئًا من كآبة غابة عميقة. عينا الرجل صاحب المقام الرفيع المتغطرستان كانتا نقطة الضعف في جسده. غُلِّفت هذه النقطة بالسرية. وعندما كانت تسنح الفرصة، كان يُريحهما بأن يُغمضهما مستيقظًا.
عند دخول المفوض المساعد، لم يرَ في البداية سوى يدين كبيرتَين شاحبتين تسندان رأسًا كبيرًا، وتخفيان الجزء العلوي من وجه شاحب كبير. قبع صندوق مُراسَلات مفتوح على المكتب بالقرب من بضعة أوراق مُستطيلة وحفنة متناثرة من ريش الكتابة. لم يكن يوجد أيُّ شيء آخر على الإطلاق على سطح المكتب باستثناء تمثال صغير من البرونز ملفوف بشملة، يراقب بغموض في جموده المريب. جلس المفوض المساعد بعدما دُعيَ للجلوس. في الضوء الخافت، جعلته الملامح البارزة في شخصيته — الوجه الطويل، والشعر الأسود، وطوله مع نحافته — يبدو أجنبيًّا أكثر من أي وقت مضى.
لم يُظهِر الرجل صاحب المقام الرفيع أي مُفاجأة أو شغف أو أي نوع من المشاعر على الإطلاق. كانت الوضعية التي أراح بها عينَيه المنهكتين تنمُّ عن التأمل العميق. لم يغيرها ولو قليلًا. ولكن نبرة صوته لم تكن حالِمة.
«حسنًا! ما الذي اكتشفته حتى اليوم؟ لقد صادفت شيئًا غير متوقَّع في الخطوة الأولى.»
«ليس غير متوقع بالضبط يا سير إثيلريد. ما صادفته في المقام الأول كان حالة نفسية.»
تململ صاحب الشخصية العظيمة قليلًا. «يجب أن تكون واضحًا من فضلك.»
«نعم يا سيد إثيلريد. لا يخفى عليك أن معظم المجرمين يشعرون في بعض الأحيان بحاجة لا تُقاوَم في الاعتراف — بأن يُفصحوا عن مكنونات صدرهم لشخص ما — لأي شخص. وغالبًا ما يفعلون هذا مع الشرطة. وقد وجدت ذلك المدعو فيرلوك الذي تمنَّى هيت كثيرًا إخفاءه في تلك الحالة النفسية تحديدًا. ألقى الرجل، مجازًا، بما في جعبته في صدري. كان يكفي من جانبي أن أهمس إليه بهويتي وأن أضيف «أعرف أنك مُتورِّط في صميم هذه القضية». لا بد أن معرفتنا بالأمر بالفعل بدَت له مُعجزة، لكنه تقبل كل شيء بهدوء. لم يُلجمه التعجب ولو للحظة. عندئذٍ لم يتبقَّ لي إلا أن أوجه إليه سؤالين هما: من الذي أوعز إليك بفعل هذا؟ ومن الذي نفذ التفجير؟ أجاب على السؤال الأول بتركيز ملحوظ. وفيما يتعلَّق بالسؤال الثاني، أستخلص أن الشخص الذي نفَّذ التفجير هو صهره؛ شاب صغير ضعيف العقل … إنها واقعة غريبة نوعًا ما؛ ولا يتسع المقام لذكرها كاملةً الآن.»
سأل الرجل صاحب المقام الرفيع: «ما الذي عرفته إذن؟»
«أولًا: عرفت أن المدان السابق ميكايليس لم يكن له أي علاقة بالقضية، على الرغم من أن الفتى كان بالفعل مُقيمًا معه في الريف مؤقتًا حتى الساعة الثامنة من صباح هذا اليوم. ومن المرجح جدًّا أن ميكايليس لا يعرف شيئًا عن الأمر حتى هذه اللحظة.»
سأل الرجل صاحب المقام الرفيع: «هل أنت متأكد من ذلك؟»
«متأكِّد تمامًا يا سير إثيلريد. ذهب المدعو فيرلوك إلى هناك هذا الصباح وأخذ الفتى بحجة الخروج في نزهة في الأزقة. بما أنها لم تكن المرة الأولى التي يفعل فيها ذلك، لم يكن لدى ميكايليس أدنى شكٍّ في أي شيء غير عادي. أما عن البقية، يا سير إثيلريد، فإنَّ غضب هذا المدعو فيرلوك لم يترك شيئًا للشك، لا شيء على الإطلاق. لقد فقد عقله تقريبًا جراء تمثيلية رائعة، قد يصعب عليَّ أو عليك أن نأخذها على محمل الجد، لكن من الواضح أنها تركت انطباعًا هائلًا عليه.»
بعد ذلك، نقل المفوض المساعد باختصار إلى صاحب المقام الرفيع، الذي جلس ساكنًا، يريح عينيه بين راحتي يديه، تقدير السيد فيرلوك لإجراءات السيد فلاديمير وشخصيته. لم يبدُ أن المفوض المساعد يستنكف أن يمنحها قدرًا معينًا من الجدارة. ولكن صاحب المقام الرفيع علق قائلًا:
«كل هذا يبدو غريبًا جدًّا.»
«أليس كذلك؟ ربما يظن المرء أنها مُزحة شريرة. ولكن رجلنا أخذ المسألة على محمل الجد، على ما يبدو. شعر بأنه مُهدَّد. في السابق، كما تعلم، كان على اتصال مباشر مع ستوت فارتنهايم العجوز نفسه، وكان قد أصبح يعتبر خدماته لا غنى عنها. كانت صدمة عنيفة للغاية. أتصور أنه فقد عقله. صار غاضبًا وخائفًا. وأقول بصدق، انطباعي أنه ظنَّ أن رجال السفارة هؤلاء ليسوا قادرين على طرده فحسب، بل أيضًا على التخلُّص منه بطريقة أو بأخرى …»
قاطعه صاحب المقام الرفيع من خلف يده الكبيرة: «كم بقيت معه؟»
«نحو أربعين دقيقة يا سير إثيلريد، في فندق سيئ السمعة يُسمَّى كونتيننتال، جلست معه في غرفة، بالمناسبة، استأجرتها لليلة. وجدته تحت تأثير ردة الفعل تلك التي تعقب الجهد المبذول في ارتكاب جريمة. لا يُمكن تصنيف الرجل على أنه مجرم عتيد. من الواضح أنه لم يُخطِّط لموت ذلك الفتى البائس؛ صهره. تلك كانت صدمة له؛ كان بوسعي أن أرى ذلك. ربما يكون رجلًا مُرهَف الأحاسيس. وربما حتى كان يحب الفتى؛ من يعلم؟ ربما كان يأمل في أن ينجو الشاب بطريقة ما؛ وفي هذه الحالة يكاد يكون من المستحيل على أيِّ أحد التوصُّل إلى جوهر الأمر. على أيِّ حال، لم يُخاطر بشكل واعٍ بشيء أكثر من إلقاء القبض على ذلك الفتى.»
توقف المفوض المساعد عن تكهُّناته من أجل التفكر مليًّا للحظة.
«على الرغم من ذلك، في تلك الحالة الأخيرة، ربما كان يأمل إخفاء دوره في الأمر، ولكن لا أستطيع الجزم بذلك» أردف، عن جهل منه بإخلاص ستيفي البائس للسيد فيرلوك (الذي كان «صالحًا»)، وصمته الغريب حقًّا، والذي، في مسألة الألعاب النارية القديمة على درجات السلم، كان قد ظل لسنوات كثيرة عصيًّا على التغيير رغم توسلات أخته الحبيبة، وملاطفتها وغضبها، ووسائل استنطاق أخرى استخدمتها. لأن ستيفي كان مخلصًا … «كلا، لا يمكنني أن أتصور ذلك. من المحتمل أنه لم يفكر في ذلك على الإطلاق. تبدو هذه فكرةً مبالغًا فيها، يا سير إثيلريد، ولكن حالة الفزع التي كان يُعانيها أوحت لي بأنه رجل مُندفع، بعدما حاول الانتحار متخيلًا أنه سوف يضع نهايةً لكل متاعبه، اكتشف أنه لم يؤدِّ إلى أي شيء من هذا القبيل.»
قدم المفوض المساعد هذا التوضيح بنبرة دفاعية. ولكن في الحقيقة، ثمة نوع من الوضوح يتلاءم مع لغة مُغالى فيها، ولم يَنزعِج صاحب المقام الرفيع. بدت حركة تشنجية بسيطة من الجسم الضخم المختفي جزئيًّا في ظلمة أغطية المصابيح الحريرية الخضراء، ومن الرأس الكبير الذي يتكئ على اليد الكبيرة، صاحبها صوت مخنوق مُتقطِّع، ولكنه قوي. كان صاحب المقام الرفيع قد ضحك.
«ماذا فعلت معه؟»
أجاب المفوض المساعد بسرعة شديدة:
«تركته يذهب، يا سير إثيلريد، لأنه بدا حريصًا جدًّا على العودة إلى زوجته في المتجر.»
«حقًّا فعلت؟ ولكن ذلك الرجل سيختفي.»
«عذرًا يا سيدي. لا أظن ذلك. أين يمكن أن يذهب؟ إضافة إلى ذلك، يجب ألا يغيب عن بالك أنه يتعين عليه أن يُفكر في الخطر الكامن في رفاقه أيضًا. إنه هناك، لم يبرح مكانه. كيف سيستطيع أن يبرر سبب تركه له؟ ولكن، حتى لو لم تكن ثمة عقبات تعوق حريته في التصرف، لن يفعل شيئًا. في الوقت الحالي، ليس لديه طاقة معنوية كافية لاتخاذ قرار من أي نوع. اسمح لي أن أوضح أيضًا أني لو كنت اعتقلته، كنا سنصبح ملزمين بمسلك معين وددت أن أعلم نواياك فيه أولًا.»
نهض صاحب المقام الرفيع متثاقلًا، بجسده المهيب غير واضح المعالم في عتمة الغرفة المائلة للخضرة.
«سأُقابل النائب العام الليلة، وسأرسل في طلبك في صباح الغد. هل لديك أي شيء آخر ترغب في أن تخبرني به الآن؟»
كان المفوض المساعد قد وقف هو الآخر، بجسمه النحيف والمرن.
«لا أظن يا سير إثيلريد، إلا إذا سمحت لي بأن أخوض في التفاصيل التي …»
«لا، لا تفاصيل، من فضلك.»
بدا أن صاحب الشخصية المهيبة والغامِضة يَنأى عن التفاصيل وكأن لدَيه خوفًا ماديًّا منها؛ ثم تقدم، بجسده المتضخِّم الهائل الجسيم، وهو يمدُّ يده. «أتقول إنَّ هذا الرجل له زوجة؟»
قال المفوض المساعد، وهو يضغط باحترام على اليد الممدودة: «نعم يا سير إثيلريد. زوجة حقيقية، وعلاقة زوجية حقيقية ومُحترَمة. أخبرني أنه بعد مُقابلته في السفارة، كان ينوي التخلي عن كل شيء ويُحاول بيع متجرِه، ومُغادرة البلاد، لولا أنه كان متأكدًا من أن زوجته ستأبى حتى أن تسمع فكرة السفر إلى الخارج.» بمسحة من التجهُّم، أردف المفوض المساعد، الذي كانت زوجته هي الأخرى قد رفضت أن تسمع فكرة السفر إلى الخارج: «لا شيء يمكن أن يميز الرابطة المحترمة أكثر من ذلك.» وتابع: «نعم، زوجة حقيقية. والضحية كان صهرًا حقيقيًّا. من وجهة نظر معينة، نحن هنا أمام مأساة منزلية.»
ضحك المفوض المساعد قليلًا؛ ولكن بدا أن أفكار صاحب المقام الرفيع قد شرَدَت بعيدًا، ربما مسائل السياسة الداخلية لبلادِه، وساحة معركته المقدسة الباسلة في مواجَهة الكافر تشيزمان. انسحب المفوض المساعد بهدوء، دون أن يُلاحظه، وكأنه نسيَه بالفعل.
كان لديه غرائز قتالية هو الآخر. بدَت له تلك القضية، التي أثارت، بطريقة أو بأخرى، اشمئزاز كبير المفتِّشين هيت، نقطة انطلاق، قدمتها له العناية الإلهية، لمسيرة جهاد. حظيت المسألة بقدر كبير في قلبه كي يَنطلِق منها. سار ببطء إلى المنزل، متأملًا تلك المغامَرة المُقبلة، وأخذ يفكر في الحالة النفسية للسيد فيرلوك بمزاج اختلط فيه الاشمئزاز والرضا. سار حتى وصَل إلى البيت. وجد غرفة الاستقبال مُظلمة، فصعد إلى الطابق العلوي، وأمضى بعض الوقت بين غرفة النوم وغرفة الملابس، يُغيِّر ملابسه، ويروح ويغدو وكأنه شخص يَمشي أثناء النوم مُتفكِّرًا. ولكنه تخلص من تلك الأفكار قبل أن يَخرُج مرةً أخرى كي ينضمَّ إلى زوجته في منزل السيدة العظيمة راعية ميكايليس.
علم أنه سيكون موضع ترحيب هناك. عندما دخل إلى الغرفة الصغرى من غرفتي الاستقبال، رأى زوجته وسط مجموعة صغيرة بالقُرب من البيانو. كان مُلحِّنًا حديث السن، في طريقه إلى أن يُصبح مشهورًا، يتحدَّث، وهو يجلس على كرسي البيانو، مخاطبًا رجلين بدينين بدا من ظهريهما أنهما مسنَّان، وثلاث سيدات نحيفات بدا من ظهورهن أنهنَّ شابات. خلف الحاجز كان بصُحبة السيدة العظيمة شخصان فقط؛ رجل وامرأة، جلسا جنبًا إلى جنب على كرسيَّين بذراعين عند طرف أريكتها. مدَّت يدها لتُصافح المفوض المساعد.
«لم أكن أتوقَّع مُطلقًا أن أراك هنا الليلة. أخبرتني آني …»
«نعم. لم أكن أعلم أن عملي سينتهي مبكرًا.»
أردف المفوض المساعد بنبرة صوت منخفضة: «يسعدني أن أخبركِ أن ميكايليس لا علاقة له على الإطلاق بهذه …»
تلقت راعية السجين السابق هذا التأكيد بسخط.
«لماذا؟ هل كان رجالك أغبياء لدرجة أن يَربطُوا بينه وبين …»
قاطعها المفوض المساعد مُبديًا اعتراضه بتوقير: «ليسوا أغبياء. أذكياء بما يَكفي؛ يتمتعون بالذكاء الكافي لذلك.»
ساد الصمت. توقَّف الرجل الجالس عند طرف الأريكة عن الحديث مع السيدة، ونظر إليهما بابتسامة باهتة.
قالت السيدة العظيمة: «لا أعلم إن كنتما قد تقابلتُما من قبل.»
بعد أن تعرَّف السيد فلاديمير والمفوض المساعِد أحدهما على الآخر، تبادلا التحية بأسلوب مجاملة حذر مُتمسِّك بالشكليات.
فجأة، صرَّحت السيدة الجالسة بجوار السيد فلاديمير، وهي تَميل برأسها تجاه ذلك السيد: «إنه يُخيفني.» كان المفوض المساعد يَعرف السيدة.
بعدما تفحَّصها بتمعُّن بنظرته المتعبة والجادة، قال: «لا يبدو عليكِ أنكِ خائفة.» في الوقت نفسه، كان يُفكِّر في أنه في هذا المنزل يَتقابل المرء مع الجميع عاجلًا أم آجلًا. كان وجه السيد فلاديمير الوردي تعلُوه الابتسامات؛ لأنه كان مرحًا، لكن عينَيه ظلَّتا جادتَين مثل عيون رجل واثق.
صححت السيدة: «حسنًا، لقد حاول على الأقل.»
قال المفوض المساعد، وقد انتابه إلهام لا يُقاوَم: «ربما بحُكم العادة.»
أردفت السيدة التي كانت تَنطِق الكلمات بتدلُّل وبطء: «إنه يرهب المجتمع بجميع أنواع الفظائع، ومنها هذا الانفجار الذي وقع في جرينتش بارك. يبدو أنه سيتعيَّن علينا جميعًا أن تَرتعِد فرائصنا مما هو آتٍ إذا لم يُقمَع هؤلاء الأشخاص في جميع أنحاء العالم. لم أكن أتصور أن هذه القضية خطيرة إلى هذه الدرجة.»
مال السيد فلاديمير، تجاه الأريكة، مُتظاهرًا بأنه لا ينصت، متحدثًا بطريقة ودية بنبرة خافتة، ولكنه سمع المفوض المساعد يقول:
«ليس لديَّ شك في أن السيد فلاديمير لديه فكرة دقيقة للغاية عن الأهمية الحقيقية لتلك القضية.»
سأل السيد فلاديمير نفسه عما يُلْمِح إليه ذلك الشرطي المقيت والمتطفِّل. كونه كان مُنحدرًا من أجيال وقعَت ضحية لأجهزة السلطة التعسُّفية، كان يخشى الشرطة من منظورٍ عُنصري وقومي وفردي. كان ضعفًا موروثًا، مُنفصلًا تمامًا عن تقديره للأمور ومنطقه وخبرتِه. كان فطريًّا لديه. لكن ذلك الشعور، الذي يُشبه الرعب غير العقلاني لدى بعض الناس من القطط، لم يَقِف عائقًا في طريق ازدرائه الشديد للشرطة الإنجليزية. أنهى العبارة التي كان وجَّهها إلى السيدة العظيمة، واستدار قليلًا في كرسيِّه.
«تقصد أن لدينا خبرة كبيرة مع هؤلاء الناس. نعم؛ بالفعل، فنحن نُعاني كثيرًا من نشاطهم، بينما أنتم …» تردَّد السيد فلاديمير للحظة، بابتسامة مُتحيِّرة، «بينما أنتم تتحملون وجودهم بينكم بسرور.» أنهى حديثه، وظهرت غمازة على كل خدٍّ من خديه الحليقين. ثم أردف بجدية أكبر: «يُمكنني حتى القول … لأنكم تفعلون ذلك.»
عندما توقف السيد فلاديمير عن الحديث، أخفض المفوض المساعد طرفه وتوقَّفَت المحادثة. بعد ذلك مباشرةً تقريبًا غادر السيد فلاديمير.
وبمجرد أن أولى ظهره للأريكة، نهض المفوض المساعد هو الآخر.
قالت السيدة راعية ميكايليس: «ظننت أنكَ ستَبقى وتأخُذ آني معك إلى المنزل.»
«اكتشفت أن لديَّ بعض العمل الذي عليَّ أن أنجزه الليلة.»
«على صلة ﺑ…؟»
«حسنًا، نعم … نوعًا ما.»
«أخبرني، ما الأمر حقًّا … هذا الرعب؟»
قال المفوض المساعد: «يَصعُب أن أخبرك بالأمر، ولكنها قضية «رأي عام».»
غادر غرفة الاستقبال على عجل ووجد السيد فلاديمير لا يَزال في الصالة، يلفُّ وشاحًا حريريًّا حول رقبته بعناية. انتظر خادم خلفه، مُمسكًا معطفه. ووقف آخر مُستعدًّا لفتح الباب. ساعد الخادم المُفوض المساعد في ارتدائه لمعطفه حسب الأصول المرعية، وفتح له الباب ليخرج على الفور. بعدما نزَل الدرجات الأولى توقَّف، وكأنه يُفكِّر في الطريق الذي يَنبغي أن يسلكه. عندما نظر من خلال الباب المفتوح، رأى السيد فلاديمير يتريَّث في الصالة ليخرج سيجارًا وطلب عود ثقاب. زوَّدَه به رجل مُسنٌّ من كبار الخدم بمسحة من اعتناء هادئ. ولكن عود الثقاب انطفأ؛ عندئذٍ أغلق الخادم الباب، وأشعل السيد فلاديمير سيجاره الهافانا الكبير باعتناء وتمهُّل.
عندما خرج أخيرًا من المنزل، رأى باشمئزاز «الشرطي المقيت» لا يزال واقفًا على الرصيف.
«تُرى هل يَنتظرني» فكَّر السيد فلاديمير، وهو ينظر يمنة ويسرة بحثًا عن عربة أجرة تجرها خيول. لم يرَ أي عربة. كانت عربتان تَنتظران بحذاء الرصيف، ومصابيحهما تتَّقد بثبات، والخيول تقف ساكنةً تمامًا، وكأنها منحوتة من حجارة، والسائقان جالسان من دون حراك تحت أغطية الفراء الكبيرة، دون حتى اختلاجة تُحَرِّك السيور البيضاء المُثبتة في سياطهما الكبيرة. تابع السيد فلاديمير سيره، وبدأ «الشرطي المقيت» السير بجوارِه بنفس سرعتِه. لم يَقُل شيئًا. بعد الخطوة الرابعة، شعر فلاديمير بالغضب وعدم الارتياح. لا يُمكِن لهذا أن يستمر.
زمجر غاضبًا: «طقس سيِّئ.»
قال المفوض المساعد دون انفعال: «إنه مُعتدِل.» ظلَّ صامتًا لبعض الوقت. قال بلا مبالاة: «أمسكْنا برجل يُدعى فيرلوك.»
لم يتعثر السيد فلاديمير ولم يترنَّح إلى الوراء ولم يُغيِّر خطوته. ولكنَّه لم يَستطع أن يمنع نفسه من الصياح قائلًا: «ماذا؟» لم يُكرِّر المفوض المساعد جملته. تابع بالنبرة ذاتها: «أنت تعرفه.»
توقف السيد فلاديمير وأصبح صوته أجش. «ما الذي يجعلك تقول ذلك؟»
«ليس أنا من قال. فيرلوك هو الذي يقول ذلك.»
قال السيد فلاديمير بطريقة تعبير شرقية نوعًا ما: «إنه كلب كاذب.» لكن من أعماقه، كاد يشعر بالرهبة من الذكاء الخارق للشرطة الإنجليزية. كان تغيير رأيه في الموضوع قويًّا لدرجة جعلته يشعر بقليل من الغثيان للحظة. رمى سيجاره وتابع سيره.
أردف المفوض المساعد، متحدثًا ببطء: «أكثر ما يَسرُّني في هذه القضية هو أنها تُمثِّل نقطة انطلاق ممتازة لعمل شعرت أنه لا بدَّ أن أتولاه؛ وأعني بذلك تنظيف هذا البلد من جميع الجواسيس السياسيين الأجانب، والشرطة، وذلك النوع من … من … الكلاب. وفي رأيي، إنهم مصدر إزعاج مُروِّع، كما أنهم يشكلون خطرًا. ولكن لا يُمكننا أن نلاحقهم واحدًا واحدًا. الطريقة الوحيدة هي أن نجعل عملهم غير سار لمُستخدميهم. أصبح الأمر غير لائق. وخطيرًا أيضًا، علينا، هنا.»
توقف السيد فلاديمير مرةً أخرى للحظة.
«ما الذي تقصده؟»
«ستُظهر محاكمة هذا المدعو فيرلوك للعامة مدى الخطر وكذلك الفُحش.»
قال السيد فلاديمير باستخفاف: «لن يُصدِّق أحد ما يقوله رجل من ذلك النوع.»
رد المفوض المساعد بلطف: «إن ثراء التفاصيل ودقتها سيقنعان غالبية العامة.»
«إذن ذلك جدِّيًّا ما تنوي فعله.»
«الرجل في قبضتنا؛ ليس لدينا خيار.»
احتج السيد فلاديمير: «لن تَنال من ذلك سوى تغذية روح الكذب لدى هؤلاء الثوريين الأوغاد. ما الغرض الذي من أجله تريد أن تُحْدِث فضيحة؟ بدافع أخلاقي … أم ماذا؟»
كان قلق السيد فلاديمير جليًّا. بعد أن تأكَّد المفوض المساعد بهذه الطريقة بأنه لا بد أن ثمة بعض الحقيقة في التصريحات الموجزة التي أدلى بها السيد فيرلوك، قال بلا مبالاة:
«يوجد جانب عملي أيضًا. لدينا حقًّا ما يكفي فعله للاعتناء بالقضية الأصلية. لا يُمكنك أن تقول إننا لا نعمل بكفاءة. لكنَّنا لا نَنوي أن ندع أي أباطيل تزعجنا بأي ذريعة من الذرائع.»
صارت نبرة السيد فلاديمير مُتعالية.
«من جهتي، لا يُمكنني أن أتَّفق معك في وجهة نظرك. هذه أنانية. إن حبِّي لبلدي أمر ليس محل شك؛ ولكنِّي، إلى جانب ذلك، أشعر دومًا بأنه يَنبغي أن يجمعنا حسن الجوار باعتبارنا أوروبيين، أعني الحكومات والشعوب.»
قال المفوض المساعد ببساطة: «نعم. أنت فقط تنظر إلى أوروبا من طرفها الآخر. ولكن …» وتابع بنبرة ودية: «الحكومات الأجنبية لا يُمكنها أن تشكو من كفاءة الشرطة لدينا. انظر إلى هذا الانفجار؛ قضية تتَّسم بصعوبة خاصة في تتبعها نظرًا لأنها كانت مُفتعلة. في أقل من اثنتي عشرة ساعة، حدَّدنا هوية الرجل الذي تمزق حرفيًّا إلى أشلاء، وعثرنا على مُدَبِّر الاعتداء، ولدينا لمحة عن المحرض الذي يقف وراءه. وكان بوسعنا المضي قدمًا إلى ما هو أبعد من ذلك؛ غاية ما هنالك أننا توقَّفنا عند حدود أراضينا.»
قال السيد فلاديمير بسرعة: «إذن، هذه الجريمة الموجهة خُطِّط لها في الخارج. أنت تقر بأنها خُطط لها بالخارج؟»
«من الناحية النظرية. من الناحية النظرية فقط، على أرض أجنبية؛ افتراضًا فقط، خُطط لها بالخارج.» قال المفوض المساعد، في تلميح إلى طبيعة السفارات، التي من المُفترض أنها جزء لا يتجزَّأ من البلد الذي تَنتمي إليه. «ولكن تلك مجرد تفصيلة. تحدَّثت إليك بشأن هذه المسألة لأن حكومتك هي أكثر حكومة تتذمَّر من شرطتنا. وها أنت ترى أننا لسنا بهذا السوء. أردت على وجه الخصوص أن أُطْلِعك على نجاحنا.»
تمتم السيد فلاديمير من بين أسنانه: «أنا بالتأكيد مُمتن لك جدًّا.»
أردف المفوض المساعد، وكأنه يَقتبس قول كبير المفتشين هيت: «يُمكننا أن نضع أيدينا على كل لا سُلطوي هنا. كل ما نُريده الآن هو التخلص من العميل المحرِّض كي يَستتبَّ الأمن.»
رفع السيد فلاديمير يده كي يُشير لعربة مارَّة.
قال المفوض المساعد: «لن تدخل إلى هنا» ناظرًا إلى مبنى له أبعاد كبيرة ومظهر محبب، وأنوار القاعة الكبيرة تَسطع عبر أبوابه الزجاجية على دَرَجات سُلَّمٍ رحبة.
ولكن السيد فلاديمير، بعدما جلس، بعينَين خاليتين من التعبير، داخل الحنطور، مضى به مُغادرًا دون أن يتفوه بكلمة.
أما المفوض المساعد نفسه فلم يتوجه إلى المبنى الفخم. كان هذا المبنى هو نادي «المُستكشِفين». كانت الفكرة التي تسلَّلت إلى عقله أن السيد فلاديمير، العضو الفخري، لن يُرى كثيرًا هناك في المستقبل. نظر إلى ساعته. كانت الساعة لم تتجاوَز العاشِرة والنصف. كان مساؤه حافلًا جدًّا.