الفصل الثاني
هكذا كان حال المنزل والأسرة والأعمال التي خلَّفها السيد فيرلوك وراءه وهو في طريقه غربًا في الساعة العاشرة والنصف صباحًا. كان الوقت مُبكرًا على نحو غير مُعتاد له؛ وكانت تنبعث من جسده كله نضارة الندى الساحِرة؛ وارتدى مِعطفًا أزرقَ من دون أن يَربِط أزراره؛ وكان حذاؤه لامعًا؛ وحلق ذقنه في الصباح، وكانت لامعةً نوعًا ما؛ وحتى عيناه المثقلتان بالنوم انتعشتا بعد نوم هادئ وكانتا تَبعثان نظرات تنم عن يقظة غير معهودة. عبر سياج الحديقة، وقعت هذه النظرات على رجال ونساء يَركبون الخيول في طريق رو، وأزواج يتجوَّلون في انسجام، وآخرين يتنزهون في هدوء، ومجموعات مكوَّنة من ثلاثة أفراد أو أربعة يتسكَّعون، وفرسان منعزلين يبدون مُنطوين على أنفسهم، ونساء يَمشين بمُفردهن ويتبعهن على مسافة بعيدة رجلٌ يربط عقدة بشريط على قبعته ويرتدي حزامًا جلديًّا فوق معطفِه الضيق. مضت عربات بسرعة وسلاسة، مُعظمها عربات خفيفة يجرُّها حصانان، وهنا وهناك كانت تُرى عربة فيكتوريا مكشوفة مكسوَّة بجلد حيوان بري من الداخل ويظهر من فوق الغطاء المطوي وجه امرأة وقبَّعة. وشمس لندن المميزة — التي لا يمكن أن يقال فيها شيء سوى أنها بدت مُشرَّبة بالحمرة — تُمجِّد كل هذا بنظرتها. ارتفعت إلى كبد السماء فوق حديقة هايد بارك كورنر وسطعت بأشعتها في يقظة دقيقة وحميدة. وكان للرصيف نفسه تحت أقدام السيد فيرلوك مسحة ذهبية في ذلك الضوء المنتشِر، في وقت لم يكن فيه ظلٌّ لحائط أو شجر أو حيوان أو إنسان. كان السيد فيرلوك ماضيًا غربًا عبر مدينة لا ظلال فيها في جو تنشر فيه الشمس أشعتها الذهبية. انعكسَت الأشعة ذات اللون النحاسي الأحمر على أسقف المنازل وزوايا الجدران وألواح العربات وسروج الخيول وعلى ظهر المِعطَف العريض الذي كان يَرتديه السيد فيرلوك؛ حيث أعطت تأثيرًا باهتًا كالصدأ. ولكن السيد فيرلوك لم يُدرك بأيِّ حالٍ أنَّ ملابسَه تعكس ذلك اللون الصدئ. أخذ ينظر بعين الرضا من فوق سياج الحديقة إلى ترف المدينة ورفاهيتها. لا بد من توفير الحماية لكل هؤلاء الناس. الحماية هي الضرورة الأولى من أجل الترف والرفاهية. لا بدَّ من توفير الحماية لهم؛ ولا بد من توفير الحماية لخيولهم وعرباتهم ومنازلهم وخدمهم؛ ولا بدَّ من توفير الحماية لمصدر ثروتهم وينبغي أن يدرك المسئولون في المدينة والدولة ذلك؛ ولا بدَّ من توفير الحماية للنظام الاجتماعي بالكامل الملائم لبطالتهم ذات الآثار الصحية الإيجابية من الغيرة السطحية للعمالة غير الصحية. كان لا بدَّ من حمايتها؛ ولو لم يكن السيد فيرلوك ساخطًا من الناحية الدستورية على كل مجهود غير ضروري، لفرَكَ يدَه تعبيرًا عن الرضا. لم يكن خموله صحيًّا، ولكنَّه أتى على هواه. كرَّس حياته لتلك المعيشة بشيء من التعصب الخامل أو بالأحرى الخمول المتعصب. وُلِد من أبوين كادحين في الحياة، ولكنه آثر التراخي من دافعٍ في أعماقه لا يُمكن تفسيره ولا يُمكن نكرانه مثل نبض القلب الذي يُفضِّل امرأة معينة على باقي النساء. بلغ الكسل منه مبلغًا لا يبلغه حتى زعيم حركة لا سُلطوية أو خطيب عُمال أو قائد حركة عمالية. كانت هذه مشكلة كبيرة للغاية. سعى إلى حياة من الدَّعة الكاملة؛ أو ربما وقع ضحية عدم إيمان فلسفي بفاعلية كلِّ جهد بشري. هذا الشكل من التراخي يتطلَّب، بل يَنطوي على قدر من الذكاء. لم يكن السيد فيرلوك مُنعدِم الذكاء، وردًّا على فكرة وجود نظام اجتماعي مُهدَّد، ربما كان سيَغمِز بعينه لنفسه لو لم يكن ثمَّة جهد في إتيان تلك العلامة الدالة على التشكُّك. لم تكن عينه الكبيرة والبارزة متكيفة جيدًا على الغمز. كانت بالأحرى من النوع الذي يُغلَق بوقار وكأنه يهجع إلى النوم مع تأثير مهيب.
كان السيد فيرلوك يتَّصف بالغموض وضخامة البنية وكأنه حيوان ضخم؛ ومن دون أن يفرك يديه تعبيرًا عن الرضا أو يغمز تعبيرًا عن الشك في أفكاره، تقدم في طريقه. أخذ يدبُّ على الرصيف متثاقل الخطى بحذائه اللامع، ومظهره العام يُوحي بأنه ميكانيكي مُوسر ماضٍ في عمل خاص. ربما كان يمتهن أي مهنة بداية من صانع إطارات صور وحتى صانع أقفال؛ أو صاحب عمل في مشروع صغير. ومع ذلك، كان يكتنفُه أيضًا مظهر لا يوصف لم يكن من المُمكن أن يكتسبه أي ميكانيكي في مُمارسة مهنته مهما كان يمارسها بطرق غير سوية؛ المظهر المشترك بين الرجال الذين يعيشون على الرذائل، أو الحماقات، أو المَخاوف الأساسية لدى البشرية؛ مظهر العدمية الأخلاقية الشائع بين رعاة صالات القمار وبيوت الدعارة؛ الشائع بين أفراد البوليس السري ووكلاء التحقيقات؛ بين بائعي الخمور، ويُمكن القول، بين بائعي الأحزمة الكهربائية المنشِّطة ومُبتكِري الأدوية المسجَّلة ببراءات اختراع. ولكني لست متأكدًا من هذا الأخير؛ لأنَّني لم أتعمق في تحقيقاتي في ذلك الأمر حتى الآن. وعلى حدِّ علمي، قد تكون سحنة هؤلاء الأشخاص الأخيرين شرًّا مُستطيرًا. لا ينبغي أن أتفاجأ. ما أريد التأكيد عليه هو أن سحنة السيد فيرلوك كانت بلا جدال سحنة شيطانية.
قبل الوصول إلى نايتسبريدج، انعطف السيد فيرلوك إلى اليسار بعيدًا عن الطريق العام المزدحم وعن صخب سيارات النقل العام المترنِّحة وعربات النقل السريعة، ودخل بين عربات الخيول السريعة التي لا تكاد تسمع لها صخبًا. تحت قبَّعته، التي كان يرتديها مائلة قليلًا إلى الخلف، كان شعره ممشطًا بعناية حتَّى صار ناعمًا؛ لأن الشأن الذي كان ماضيًا إليه هو مع إحدى السفارات. وفي ذلك الوقت كان السيد فيرلوك يسير، راسخًا كصخرة — صخرة من نوع ناعم — في شارع من الملائم للغاية وصفه بأنه شارع خاص. تجلت فخامة الشارع في عرضه وعدم ازدحامه ومدى عظم طبيعته الجامدة المصنوعة من مادة لا تموت. كان التذكير الوحيد للموت هو عربة طبيب تجرُّها الخيول واقفة في عزلة مهيبة بالقرب من الرصيف. التمعت مقارع الأبواب المصقولة بقدر ما أمكن للعين أن تصل إليه، والتمعت النوافذ النظيفة ببريق مُعتم داكن. وكان كل شيء ساكنًا. لكن قطعت هذا الهدوء ضوضاء عربة حليب لاحت من مسافة بعيدة؛ وانطلق صبيُّ جزارٍ، يقود بالتهور النبيل لقائد عجلة حربية في ألعاب أولمبية، وانعطف عند ناصية الشارع وهو جالس مرتفعًا على عجلتين حمراوين. خرجت قطة، تبدو وكأنها ارتكبَت جرمًا، من تحت الصخور وركضت لبعض الوقت أمام السيد فيرلوك، ثم اختفت في قبو آخر؛ شرطي سمين بَدا أنه لا يتحرَّك البتة، كما لو كان هو الآخر جمادًا، لما خرج من خلف عمود الإنارة، لم يلحظ السيد فيرلوك البتَّة. تابع السيد فيرلوك طريقه مُنعطفًا إلى اليسار في شارع ضيق بجانب حائط أصفر، ولسبب غامض، كان يوجد على الجدار لوحة مكتوب عليها بحروف سوداء «رقم ١ ميدان تشيشام». كان ميدان تشيشام يَبعُد مسافة لا تقلُّ عن ستين ياردة، ولأنَّ السيد فيرلوك كان واسع الاطلاع بحيث لم يكن من الممكن أن ينخدع بألغاز لندن الطبوغرافية، فقد تابع سيره بثبات، دون أن تبدر منه إشارة على المفاجَأة أو السخط. وفي النهاية، وبإصرار جاد، وصل إلى الميدان وقطع الطريق إلى البناية رقم ١٠. تضمَّنت هذه البناية بوابة تحميل ضخمة مثبتة في جدار نظيف بين منزلين يحمل أحدهما الرقم ٩، وهو شيء منطقي، والآخر الرقم ٣٧؛ ولكن الحقيقة أن هذا المنزل الأخير كان يقع في شارع بورتهيل، وهو شارع معروف في الحي، عرفه من خلال نقش فوق نوافذ الطابق الأرضي كتبته سلطة ذات كفاءة عالية ومسئولة عن تتبع المنازل الشاردة في لندن. من الألغاز التي تحوم حول إدارة البلدية لماذا لا يُطلَب من البرلمان صلاحيات (قرار مقتضب سيفي بالغرض) لإجبار تلك الصروح على العودة إلى حيث تَنتمي. لم يشغل السيد فيرلوك رأسه بتلك الأمور، فمُهمته في الحياة هي حماية النظام الاجتماعي، وليس الوصول به إلى المثالية أو حتى انتقاده.
في وقتٍ مبكر، خرج الحارس من السفارة على عجل من مأواه وهو لا يزال يُحاول ارتداء كم معطفه الأيسر. كان يرتدي صدرية حمراء وسروالًا يصل إلى الركبة، لكنه بدا مُضطربًا. لما كان السيد فيرلوك مدركًا للمندفع الذي مرَّ من جانبه، لم يصعب عليه أن يدفعه بعيدًا لما أمسك مظروفًا عليه خاتم السفارة وناوله إياه. أخرج التعويذة نفسها إلى الخادم الذي فتح الباب وتراجع كي يسمح له بدخول القاعة.
اتَّقد لهب نظيف في مدفأة طويلة، ونظر رجل مسن، كان يقف مُوليًا ظهره للمدفأة، ويرتدي ملابس الليل والسلسلة في رقبته، من فوق الجريدة التي كان يُمسكها بيديه كلتيهما أمام وجهه الهادئ الذي لم تكن تظهر عليه أي انفعالات. لم يتحرَّك؛ ولكن خادمًا آخر يرتدي سروالًا بنيًّا ومعطفًا له ذيل مثبت في حافته حبل أصفر رفيع اقترب من السيد فيرلوك واستمع إليه وهو يُتمتم باسمه، واستدار في صمت وبدأ يمشي من دون أن ينظر خلفه. ومِن ثَمَّ اقتيد السيد فيرلوك في ممر في الطابق الأرضي إلى يسار السلَّم المفروش بالسجاد، وأُشير إليه فجأةً أن يدخل غرفة صغيرة جدًّا تحتوي على مكتب ثقيل وبعض المَقاعد. أغلق الخادم الباب، وبقيَ السيد فيرلوك بمفردِه. لم يجلس. أمسك قبَّعته وعصاه بإحدى يديه ونظر فيما حوله، وأخذ يُمرر يده المكتنزة فوق شعره الناعم المكشوف.
فُتِح بابٌ آخر من دون صوت، وتجمد نظر السيد فيرلوك في هذا الاتجاه ورأى للوهلة الأولى ملابس سوداء ورأسًا أصلع من الأعلى وسالفًا رماديًّا داكنًا يتدلى على كل جانب في يدين متجعدتَين. كان الرجل الذي دخل لتوِّه يمسك حزمة أوراق أمام عينَيه ومشى إلى المكتب بخُطًى هادئة وقلَّب الأوراق بين الحين والآخر. كان المُستشار الخاص وورمت، مستشار السفارة، مصابًا بقصر النظر. بعدما وضع هذا المسئول رفيع المستوى الأوراق على المكتب، كشف عن وجهٍ أبيض البشرة ويعلوه قبح الكآبة وتكسوه شعيرات رمادية ناعمة وطويلة وفوق عينَيه حواجب كثيفة الشعر. ارتدى نظارة أنفية ذات إطار أسود فوق أنف حاد وعديم الشكل، وبدا مصدومًا من مظهر السيد فيرلوك. ومن تحت الحواجب الكثيفة الشعر وعبر النظارة، رمشَت عيناه الضعيفتان بطريقة مُثيرة للشفقة.
لم يُبدِ أي علامة على التحية، وكذلك لم يفعل السيد فيرلوك، الذي كان يعرف مكانته بالتأكيد، ولكن تغييرًا طفيفًا في حوافِّ كتفي السيد فيرلوك وظهره أوحى بانحناء طفيف في عموده الفقري تحت معطفه الواسع. كان لهذا التأثير اعتبار غير بارز.
قال الموظف البيروقراطي بصوت ناعم ومتعب على نحو غير متوقَّع: «لديَّ هنا بعض من تقاريرك»، وأخذ يضغط بطرف إصبعه بقوة على الأوراق. توقف عن الكلام؛ وانتظر السيد فيرلوك، الذي كان قد تعرَّف على خط يده على نحو جيد للغاية، في صمت وكأن على رأسه الطير. أردف الآخر، وقد بدَت عليه جميع مظاهر الإرهاق العقلي: «لسنا راضين جدًّا عن موقف الشرطة هنا.»
بدا أن السيد فيرلوك هزَّ كتفَيه، ولكنه لم يفعل ذلك في الواقع. وفتَح شفتَيه للمرة الأولى منذ أن خرج من منزله في ذلك الصباح.
قال بطريقة مُتفلسفة: «كل بلد لدَيه شرطته.» ولكن موظَّف السفارة تابع النظر إليه بثبات وهو يرمش مما أشعره بأنه مُلزَم بأن يُضيف قائلًا: «اسمح لي أن أُنوِّه إلى أنه ليس لي سبيل على الشرطة هنا.»
قال الرجل حامل الأوراق: «المطلوب هو وقوع حدث محدَّد يَستثير يقظتهم. وذلك ضمن نطاق عملك، أليس كذلك؟»
لم يُجِب السيد فيرلوك بأكثر من تنهيدة، أفلتَت منه عن غير قصد، مما حمله على رسم تعبير مرح على وجهه على الفور. نظر الموظف إليه مُتشكِّكًا وهو يرمش، وكأنه تأثر بضوء الغرفة الخافت. ثم كرَّر عبارات غامضة.
«يقظة الشرطة؛ وصرامة القضاة. الهوادة العامة في الإجراءات القضائية هنا والغياب التام للتدابير القمعية، عار على أوروبا. ما نرغب فيه الآن هو التركيز على الفوضى، على حالة الهياج التي هي بلا شك موجودة.»
قاطعه السيد فيرلوك بنبرة جهورية تُراعي سمات الخطابة؛ ومِن ثَمَّ باتَت تُخالف تمامًا النبرة التي تحدث بها من قبل، حتى إن مخاطبه ظل مشدوهًا للغاية: «بلا شك، بلا شك. إنها موجودة ووصلت إلى درجة خطيرة. إنَّ تقاريري عن الاثنَي عشر شهرًا الماضية توضح الأمر بالقدر الكافي.»
شرع مستشار الدولة السيد وورمت في الحديث بنبرته اللطيفة والهادئة: «لقد قرأتُ تقاريرك عن الاثنَي عشر شهرًا الماضية. ولقد عجزت تمامًا عن اكتشاف السبب الذي دفعك لكتابتها.»
ساد صمت كئيب لفترة. بدا أن السيد فيرلوك ابتلع لسانه وما انفكَّ الآخر يُحملق في الأوراق على المكتب. في النهاية دفعها قليلًا.
«من المفترض أن يكون الوضع الراهن الذي تَعرضه في التقارير هو الحالة الأولى في توظيفك. ليست الكتابة هي المطلوبة في الوقت الحالي، وإنما إلقاء الضوء على واقعة محددة وضرورية، يمكنني القول إنها واقعة تنذر بخطر.»
قال السيد فيرلوك بعد تعديلات مقنعة في نبرة صوته الأجش: «لستُ بحاجة إلى أن أقول إنني سأوجِّه كامل جهدي إلى تلك الغاية.» لكنه انزعج من التحديق إليه من خلف عدسات النظارة اللامعة على الجانب الآخر من المكتب. توقَّف لفترة قصيرة وأبدى إشارة تدل على التفاني المطلق. بدا على موظف السفارة المفيد والجاد في العمل — غير أنه غامض — أنه قد تأثر ببعض الأفكار الوليدة.
قال: «إنك بدين للغاية.»
وخزت هذه الملاحظة، ذات الطبيعة الفلسفية التي تلفَّظ بها مسئول على دراية بالحبر والأوراق أكثر من مُتطلبات الحياة العمَلية، قلب السيد فيرلوك إذ قيلت بأسلوب فظ. فتراجع خطوة إلى الوراء.
صرخ بصوت أجش ومُستاء: «عذرًا، ما الذي أردتَ قوله؟»
بدا أن هذه المقابلة أرهقت كثيرًا مُستشار السفارة المنوط به إجراؤها.
قال: «أظنُّ أنه من الأفضل أن تُقابل السيد فلاديمير. نعم، بالتأكيد أظن أنه يجب أن تقابل السيد فلاديمير. من فضلك انتظر هنا.» وخرج بخطى هادئة.
على الفور مرَّر السيد فيرلوك يده على شعره. تناثرت حبات عرق خفيفة على جبهته. تأفف وأخرج هواءً من فمه وكأنه ينفخ في ملعقة ممتلئة بحساء ساخن. ولكن عندما ظهر الخادم الذي يرتدي سروالًا بُنيًّا عند الباب صامتًا، لم يكن السيد فيرلوك قد تحرك قيد أنملة من مكانه الذي كان واقفًا فيه طيلة المقابلة. ظل ساكنًا، وشعر وكأن شراكًا تحوطه من كل جانب.
مشى في الردهة المضاءة بمصباح غاز وحيد ثم صعد سلمًا دائريًّا ومر عبر رواق مزجج وفخم في الطابق الأول. فتح الخادم الباب، وتنحَّى جانبًا. وطئت قدما السيد فيرلوك سجادةً سميكةً. كانت الغرفة كبيرة وبها ثلاث نوافذ؛ وجلس شابٌّ له وجه كبير حليق الذقن في كرسي كبير بذراعين أمام مكتب عريض من خشب الماهوجني، وقال بالفرنسية لمستشار السفارة الذي كان يخرج والأوراق في يده:
«أنت محق تمامًا يا عزيزي. إنه بَدينٌ؛ ذلك الحيوان.»
كان السيد فلاديمير، الأمين العام الأول، معروفًا بعذوبة اللسان واللباقة. كان محبوبًا نوعًا ما في المجتمع. تمثَّل ذكاؤه في اكتشاف الروابط اللطيفة بين الأفكار المتناقضة؛ ولما تحدث في ذلك الموضوع، تقدم برأسه وهو جالس على كرسيه، ورفع يده اليسرى وكأنه يَعرض إثباتاته المضحكة على الورق بين إبهامه وسبابته، بينما اكتسى وجهه المُستدير الحليق بتعبير ارتباك مرح.
ولكنه لم يُظهر تعبير المرح أو الحيرة وهو ينظر إلى السيد فيرلوك. لما استلقى في الكرسي العميق ذي الذراعين وفرد مرفقَيه مُستقيمَين ووضع ساقًا على ركبته السمينة وعلت وجهه نعومة وبشرة مُتورِّدة مثل بشرة الأطفال التي تنبض بالحيوية، بدا أنه لن يحتمل أي هراء من أي شخص.
قال: «أنت تفهم الفرنسية، أليس كذلك؟»
أجاب السيد فيرلوك بصوت أجش بأنه يَفهمها. أمال جسمه الضخم إلى الأمام. وقف على السجادة في وسط الغرفة مُمسكًا قبَّعته وعَصاه في إحدى يدَيه؛ ووضع اليد الأخرى في جانبه بلا حراك. تمتم خُفية بكلام لم يكد يَخرج من حلقه بأنه أدى خدمته العسكرية في المدفعية الفرنسية. وفي لحظة وبمُشاكسة غير ملائمة، غيِّر السيد فلاديمير اللغة وبدأ يتحدث بالإنجليزية العامية من دون أدنى أثر للكنة أجنبية.
«آه! نعم. بالطبع. لنرَ. ما الوقت الذي حُبِستَه من أجل الحصول على تصميم مجموعة المِغلاق لمدفعهم الميداني الجديد؟»
أجاب السيد فيرلوك فجأةً ولكن من دون أن يظهر عليه أي انفعالات: «خمس سنوات من الحبس المشدَّد في قلعة.»
علَّق السيد فلاديمير: «لقد خرجت بسهولة. وعلى أيَّة حال، الإمساك بك أفادك. ما الذي دفعك إلى هذا العمل؟»
سُمع صوت السيد فيرلوك الأجش وهو يتحدَّث عن الشباب وعن الافتتان المميت بامرأة لا تستحق …
قاطعه السيد فلاديمير من غير أن يُغيِّر رأيه: «أها! فَتِّش عن المرأة.» ولكن دون تلطُّف، بل على العكس، كانت ثمة مسحة من التجهُّم في تنازله. سأله: «كم المدة التي عملَت فيها لدى السفارة هنا؟»
أجاب السيد فيرلوك: «منذ وقت تولِّي الراحل بارون ستوت فارتنهايم.» وقال ذلك بنبرات خافتة والحزن يَتطاير من بين شفتَيه إشارة إلى أسفِه على الدبلوماسي الراحل. بثبات لاحظ الأمين العام الأول لعبة الفراسة تلك.
«آه! منذ ذلك الوقت. حسنًا!» ثم سأل بنبرة حادة: «ما الذي جئت لتقوله؟»
أجاب السيد فيرلوك ببعض الدهشة بأنه لم يُدرك أن لديه شيئًا خاصًّا يقوله. وردت رسالة تَستدعيه؛ وأدخل يده يبحث في جيب معطفِه، ولكنَّه قرَّر ألا يخرجها من جيبه أمام السيد فلاديمير اليقظ والساخر.
قال السيد فلاديمير: «هراء. ما الذي تعنيه بالخروج من حالة كهذه؟ إنك لا تتمتع حتى بجسم يليق بمهنتك. أنت … واحد من طبقة العمال الجائعة … هذا يستحيل! أنت … لا سُلطوي أو اشتراكي قانط … أيهما أنت؟»
قال السيد فيرلوك بنبرة خافتة: «لا سلطوي.»
أردف السيد فلاديمير من دون أن يرفع صوته: «هراء! لقد أفزعت وورمت العجوز نفسه. ما كنتَ لتخدع أحمقَ. كل هذه الأمور وقعت عرَضًا، ولكن يبدو لي أن الأمر مُستحيل عليك. لذا بدأت علاقتك بنا بسرقة تصميمات البنادق الفرنسية. ومِن ثَمَّ قُبِض عليك. لا بد أن حكومتنا انزعجت من هذا الأمر كثيرًا. لا يبدو أنك تتمتَّع بذكاء كبير.»
بصوت أجش، حاول السيد فيرلوك أن يبرئ نفسه.
«بحسب ما ذكرت من قبل، افتتان مُميت بامرأة لا تستحق …»
رفع السيد فلاديمير يده الكبيرة المكتنزة البيضاء. «آه، نعم. الارتباط غير الموفق؛ في شبابك. وضعت يدها على المال ثم باعتك للشرطة؛ أليس كذلك؟»
أكَّد التغيير المأساوي الذي اعترى ملامح السيد فيرلوك وطأطأة رأسِه أن تلك كانت هي الحال المؤسفة. شبك السيد فلاديمير يدَيه على كاحلِه الموضوعِ فوق ركبتِه. كان جوربه من الحرير الأزرق الداكن.
«كما ترى، لم يكن هذا التصرف فِطنة منك. ربما أنت سريع التأثُّر.»
تحدث السيد فيرلوك وعبَّر بصوتٍ مبحوح وخفيٍّ عن أنه لم يَعُد صغيرًا.
أشار السيد فلاديمير بنبرة خبيثة معهودة: «أوه! ذلك فشل لا يداويه العمر. ولكن لا! أنت بدين للغاية لكي تكون كذلك. لم يكن مُمكنًا أن تبدو هكذا لو كنت سريع التأثر إلى هذه الدرجة. سأخبرك ما أظنه بشأن هذه المسألة؛ أنت شخص كسول. منذ متى وأنت تأخذ أجرًا من هذه السفارة؟»
بعد لحظات من التردُّد المتجهِّم، كانت الإجابة: «إحدى عشرة سنة. أوكلت إليَّ مهمات عديدة في لندن لما كان معالي السفير بارون ستوت فارتنهايم لا يزال السفير في باريس. ثم بناء على تعليمات معاليه، استقررتُ في لندن. أنا إنجليزي.»
«أنت إنجليزي! أليس كذلك؟ هل أنا محق؟»
قال السيد فيرلوك مُتشدِّدًا: «مُواطن بريطاني مولود في بريطانيا. ولكن أبي كان فرنسيًّا، وكذلك …»
قاطعه الآخر: «لا حاجة للشرح. يُمكنني القول إنه كان بإمكانك — من الناحية القانونية — أن تتولى منصب مشير في الجيش الفرنسي وعضو في البرلمان بإنجلترا؛ وعندئذٍ، ربما كان سيُصبح لك بالفعل بعض النفع لسفارتنا.»
استحثَّت هذه الصورة الذهنية شيئًا وكأنه شبح ابتسامة على وجه السيد فيرلوك. احتفظ السيد فلاديمير برزانته وهدوئه.
«ولكن كما قلت لك، أنت شخص كسول؛ أنت لا تستغلُّ الفرص التي تُسنَح لك. في عهد البارون ستوت فارتنهايم، عمل في هذه السفارة كثيرون ممن يَفتقرُون إلى الفطنة. ومِن ثَمَّ تسبَّبوا في أن يبني من هم على شاكلتك تصورًا خاطئًا عن طبيعة تمويل جهاز الخدمة السرية. ومن شأني تصحيح هذا الفهم الخاطئ بإخبارك عما لا يُمثِّله جهاز الخدمة السرية. إنه ليس مؤسسة للأعمال الخيرية. ولقد دعوتك إلى هنا بغرض أن أُخبرك بهذا.»
لاحظ السيد فلاديمير التعبير القسري للحيرة الذي ظهر على وجه السيد فيرلوك، فابتسم ابتسامة ساخرة.
«أرى أنك فهمتَني فهمًا تامًّا. يُمكنُني القول إنك تتمتَّع بالذكاء اللازم لعملك. ما نُريده الآن هو النشاط … النشاط.»
لما كرر السيد فلاديمير هذه الكلمة الأخيرة، وضع إصبع السبابة الكبيرة والطويلة على حافة المكتب. اختفى أثر الصوت الأجش لدى السيد فيرلوك تمامًا. صار قَفاه ذا لون قرمزي من فوق ياقة معطفِه المخملية. ارتجفت شفتاه قبل أن تَرتسِم عليهما ابتسامة عريضة.
انطلق بصوته الجهوري الخطابي الرائع والواضح: «لو أنك فقط اطلعت على تقريري، لرأيت أنني قدمت تحذيرًا منذ ثلاثة أشهر فقط بشأن مُناسبة زيارة الدوق الكبير روموالد إلى باريس، وأُرسل هذا التحذير تلغرافيًّا من هنا إلى الشرطة الفرنسية، كذلك …»
قاطعه السيد فلاديمير بتجهم عابس: «صه، صه! لم تَستفِد الشرطة الفرنسية من تَحذيرك. لا تُزمجر هكذا. ما الذي تعنيه بحق الشيطان؟»
بنبرة فيها تواضُع وفخر، اعتذر السيد فيرلوك عن نسيان نفسه. قال إن صوته — الذي اشتهر به لسنوات في الاجتماعات المفتوحة واجتماعات العُمال في القاعات الكبيرة — ساهم في سمعته باعتباره رفيقًا طيبًا وجديرًا بالثقة. ومِن ثَمَّ بات وجهًا من وجوه نفعه. وكان سببًا في الثقة في مبادئه. صرح السيد فيرلوك بنبرة تنطوي على رضا واضح: «لقد كنتُ دومًا مُستعدًّا لأن يُحدثني القادة في لحظة حرجة.» وأضاف أنه لم تحدث ضجة لم يُسمَع فيها صوته؛ وفجأة قدم بيانًا عمليًّا على قوله.
قال: «اسمح لي.» طأطأ رأسه ومن دون أن ينظر إلى أعلى، عبر الغرفة بسرعة وعلى نحو تعوزه الرشاقة إلى إحدى النوافذ ذات الطراز الفرنسي. فتح النافذة قليلًا وكأنه أفسح المجال لدافع لا يُمكِن التحكُّم فيه. قفز السيد فلاديمير مُنذهِلًا من فوق الكرسي ذي الذراعين ونظر وراءه؛ وفي الأسفل عبر فناء السفارة، بعد البوابة المفتوحة بمسافة، كان يُمكن رؤية شرطي عريض الظهر يراقب بتراخٍ عربة أطفال رائعة لطفل ثري تُجَر في فخامة عبر الميدان.
قال السيد فيرلوك بصوت لا يكاد يعلو عن الهمس: «شرطي!» وانطلق السيد فلاديمير ضاحكًا لما رأى الشرطي يدور وكأن أحدًا نخسه بآلة حادة. أغلق السيد فيرلوك النافذة بهدوء وعاد إلى وسط الغرفة.
اكتسى صوته بنبرة مبحوحة، قال: «بصوت مثل هذا، حظيت بالثقة بصورة طبيعية. وعرفت ما ينبغي قوله أيضًا.»
أخذ السيد فلاديمير يُعدِّل ربطة عنقه وراقبه في الزجاج فوق رف الموقد.
قال بازدراء: «يُمكنني القول إنك تحفظ مصطلحات الثورات الاجتماعية عن ظهر قلب.» «الأصوات و… لم تَدرُس اللاتينية قط، أليس كذلك؟»
قال السيد فيرلوك متذمرًا: «كلا. لم تتوقَّع أني أعرفها. أنا أنتمي إلى عامة الشعب. من يعرف اللاتينية؟ لا يعرفها سوى بضع مئات من المعاتيه ممن ليسوا قادرين على الاعتناء بأنفسهم.»
ظل السيد فلاديمير لمدة ثلاثين ثانية أخرى يدرس في المرآة شكل الرجل الضخم الجثة الذي يقف خلفه. وفي الوقت نفسه، كانت لديه ميزة رؤية وجهه هو، الحليق والمستدير، والمُشرب بالحمرة، ذا الشفتين الرفيعتين الرقيقتين اللتين خُلقتا من أجل التلفُّظ بتلك الدعابات الرقيقة التي جعلته مفضلًا في أوساط الطبقات الاجتماعية العليا. بعد ذلك استدار، وتقدم في الغرفة بتصميم بالغ لدرجة أن طرف ربطة عنقِه ذات الطراز القديم والغريب بدا مليئًا بتهديدات لا توصف. كانت الحركة سريعة وعنيفة لدرجة أن السيد فيرلوك تراجع قليلًا باستنكار.
بادره السد فلاديمير قائلًا: «أها! تجرَّأت وأصبحت وقحًا.» قال ذلك بنبرة تنم عن ذهول لا تصدر إلا من شخص غير إنجليزي، بل من غير أوروبي تمامًا، وكانت مُباغتة حتى لخبرة السيد فيرلوك في الأحياء الفقيرة خارج البلاد. أضاف، بحزم شديد اللهجة في وجه السيد فيرلوك مباشرةً: «تجرأت على ذلك! حسنًا، سأتحدث بإنجليزية خالصة معك. الصوت لن يفيد، لن يُفيدنا صوتك. لا نريد صوتًا. نريد وقائع — وقائع غير عادية — عليك اللعنة.»
كان السيد فيرلوك ينظر إلى السجادة وهو يدافع عن نفسه بصوت أجش: «لا تُحاول التأثير فيَّ بالأساليب التي تتبعها شعوب الشمال.» في هذه اللحظة، حوَّل مُحاوره، وهو يبتسم بسخرية من فوق ربطة عنقه الجامدة البارزة، المحادثة إلى اللغة الفرنسية.
«أنت تمنح نفسك لقب «عميل محرض». العمل الملائم «للعميل المحرِّض» هو التحريض. وبقدر ما أستطيع أن أحكم من سجلك المحفوظ هنا، أنت لم تفعل شيئًا لتستحق الأموال التي حصلت عليها في السنوات الثلاث الأخيرة.»
قال فيرلوك مُتعجبًا: «لم أفعل شيئًا!» دون أن يحرك ساكنًا ودون أن يرفع عينَيه، ولكن بشعور صادق في نبرة صوته. وواصل كلامه: «لقد منعت عدة مرات ما كان يُمكن أن …»
قاطعه السيد فلاديمير وهو يَرتمي على الكرسي ذي الذراعَين: «يوجد مَثَل في هذا البلد يقول إن الوقاية خير من العلاج. هذا غباء بوجه عام. لا نهاية للوقاية. ولكنها سِمة قائمة. إنهم يكرهون الحسم في هذا البلد. لا تكن إنجليزيًّا أكثر من اللازم. وفي هذه الحالة بعينِها، لا تكن أحمقَ. الشر كائن هنا بالفعل. نحن لا نُريد الوقاية، بل نُريد العلاج.»
توقف برهة عن الكلام، واستدار إلى المكتب وأخذ يقلب في بعض الأوراق الموضوعة عليه، وتحدث بنبرة تُشبه نبرة رجال الأعمال من دون أن ينظر إلى السيد فيرلوك.
«تعرف، بالطبع، بأمر المؤتمر الدولي المُنعقِد في ميلان، أليس كذلك؟»
ألمح السيد فيرلوك بصوت خفيض إلى أنه مُعتاد على قراءة الصحف اليومية. وردًّا على سؤال آخر كانت إجابته أنه بالطبع يفهم ما يقرأ. عندئذٍ تمتم السيد فلاديمير، مبتسمًا ابتسامة خفيفة وهو ينظر إلى الوثائق التي كان لا يزال يتفحَّصها واحدة تلو الأخرى: «ما دامت غير مكتوبة باللاتينية، على ما أظن.»
أضاف السيد فيرلوك بتبلد: «أو الصينية.»
شرح، وهو يقف مُتململًا بجانب الكرسي ذي الذراعَين: «يعني مُستقبل طبقة العمال. إنها جماعة، ليست لا سُلطوية من ناحية مبادئها، ولكنها منفتحة على جميع أطياف الآراء الثورية.»
«هل أنت عُضو فيها؟»
أخرج السيد فيرلوك أنفاسًا متثاقلة وقال: «أحد نواب الرئيس.» ورفع الأمين العام الأول للسفارة رأسه ونظر إليه.
قال بنبرة حادة: «إذن يجب أن تخجل من نفسك. ألا تستطيع جماعتك فعل شيء آخر غير طباعة هذه الخطب الرنَّانة بنمط فظ على هذه الورقة القذرة؟ لماذا لا تفعلون شيئًا؟ انظر هنا. أنا أتولى هذه المسألة الآن، وأقول لك بوضوح إنَّك يجب أن تعمل مقابل المال الذي تَتقاضاه. انتهى زمن ستوت فارتنهايم العجوز الطيب. إن لم تعمل، فلن تَتقاضى أجرًا.»
أحسَّ السيد فيرلوك بضعف غريب في ساقيه القويتَين. تراجع إلى الوراء خطوة، وتمخَّط من أنفه بصوتٍ عال.
في الحقيقة، كان مذهولًا ومرعوبًا. أطلَّت الشمس بأشعتها الذهبية لينقشع الضباب عن مدينة لندن وسطع بريق فاتر داخل غرفة الأمين العام الأول الخاصة؛ ووسط الصمت، سمع السيد فيرلوك من خلف زجاج النافذة الأزيز الخافت لطائر — أول طائر يسمع صوته هذا العام — مُبشرًا باقتراب الربيع على نحو أفضل من أي عدد من طيور السنونو. تسبَّب الصخَب غير المُجدي الذي أحدثه هذا الكائن الحي الصغير المُفعَم بالحيوية في تأثير مُزعِج على الرجل الضخم المُهدَّد بسبب تراخيه.
في فترة الصمت تلك، صاغ السيد فلاديمير سلسلة من الملاحظات المهينة فيما يتعلَّق بوجه السيد فيرلوك وشكله. كان الرجل على نحو غير متوقع سوقيًّا، وثقيل الظل، وغبيًّا بوقاحة. بدا على نحو غير مألوف وكأنه رئيس عمال سباكة أتى كي يقدم فاتورته. كان الأمين العام الأول لدى السفارة قد شَكَّل، من شطحاته العَرَضية في مجال الفكاهة الأمريكية، فكرةً خاصةً عن تلك الفئة من الميكانيكيِّين بأنهم تجسيد للكسل المُعتمِد على الاحتيال ولعدم الكفاءة.
كان هذا إذن هو العميل السري المشهور والموثوق فيه، كان سرِّيًّا لدرجة أنه لم يُشَرْ إليه إلا بالرمز «دلتا» في المراسلات الأخيرة الرسمية، وشبه الرسمية، والسرِّية للبارون ستوت فارتنهايم؛ العميل المُحتفَى به «دلتا»، الذي كان لتحذيراته القدرة على تغيير مخططات وتواريخ رحلات الملوك، والأباطرة، والدوقات الكبار، وكانت أحيانًا تتسبَّب في إلغائها تمامًا! هذا الشخص! وانغمس عقل السيد فلاديمير في نَوبة ابتهاج هائلة ومثيرة للسخرية؛ لعل من أسبابها ذهوله، الذي اعتبره سذاجة منه، ولكنَّها كانت راجعة في أغلبها إلى سخرية من البارون ستوت فارتنهايم الذي اعتُبِرَت وفاته خسارة للعالم. كان صاحب الفَخامة الراحل، الذي كانت حظوته لدى صاحب الجلالة قد فرضته سفيرًا على العديد من وزراء الخارجية الرافضين له، قد اشتهر طوال حياته بسذاجة تشاؤمية، باعثة على التطير. كان صاحب الفخامة يُفكِّر في الثورة الاجتماعية طوال الوقت. تخيَّل نفسه دبلوماسيًّا منفصلًا لدَيه امتياز خاص يُتيح له مراقبة نهاية الدبلوماسية، وربما نهاية العالم، في ثورة ديمقراطية مروعة. كانت مُراسَلاته التنبؤية والكئيبة محط سُخرية في وزارات الخارجية لسنوات. قيل إنه صرخ وهو على فراش الموت (عندما زارَه صديقُه وسيِّدُه صاحب الجلالة): «يا لأوروبا التعيسة! ستموتين جراء الفساد الأخلاقي الذي دبَّ في أوصال أبنائك!» وحسب ظن السيد فلاديمير، فقد قُدر له أن يقع ضحية أول وغد خسيس أتى، كان يفكر في ذلك وهو يبتسم ابتسامة غامضة في وجه السيد فيرلوك.
هتف فجأة: «يجب عليك أن تُبجِّل ذكرى البارون ستوت فارتنهايم.»
عبرت ملامح وجه السيد فيرلوك المُكتئبة عن انزعاج كئيب ومجهِد.
قال: «اسمح لي أن أنوِّه لك بأنَّني أتيت إلى هنا لأنني استُدعيت بناءً على خطاب فيه أوامر قاطعة. لم آتِ إلى هنا سوى مرتَين في الإحدى عشرة سنة الأخيرة، وبالتأكيد لم آتِ مطلقًا في الساعة الحادية عشرة صباحًا. ليس من الحكمة أن تستدعوني بهذه الطريقة. ثمَّة احتمال أن يراني أحد ما. وذلك أمر يجب أن يؤخذ موضع الجد من جانبي.»
هز السيد فلاديمير كتفَيه.
أردف الآخر بحدة: «من شأن هذا ألا يَجعلني مفيدًا.»
تمتم السيد فلاديمير بشراسة ناعمة: «هذا شأنك. عندما لا تُصبح لك فائدة، ستتوقف عن العمل. نعم. على الفور. هذا هو المختصر المفيد. سوف …» عبس السيد فلاديمير، وأمسك عن الكلام لحظات وهو يبحث عن تعبير اصطلاحي كافٍ، وعلى الفور أشرق وجهه بابتسامة براقة وجميلة. وقال بنبرة فظة: «سوف تُخْنَق.»
اضطر السيد فيرلوك مرةً أخرى إلى أن يقاوم بكل ما أوتي من قوة إحساس الضعف الذي كان ينخر ساقَيه الذي ألهم يومًا ما شيطانًا بائسًا هذا التعبير المُوَفَّق: «سقط قَلبي في قدمي.» مدركًا لهذا الإحساس، رفع السيد فيرلوك رأسه بشجاعة.
لاحظ السيد فلاديمير تعبير التساؤل الثَّقيل ولكنَّه تقبله بهدوء تام.
قال بجدية: «ما نُريده هو بث روح التوتُّر في المؤتمر المنعقد في ميلان. يبدو أن المداولات الجارية في المؤتمر بشأن التحرك الدولي لقمع الجريمة السياسية لا تؤتي ثمارها. إنَّ إنجلترا متخلفة عن الركب. هذا البلد يُثير اشمئزازي بسبب مراعاته العاطفية للحرية الفردية. إنه أمر لا يطاق أن تَعتقِد أن كل أصدقائك لم يأتوا إلا من أجل …»
قاطعه السيد فيرلوك بصوت أجش: «بتلك الطريقة سأضعهم جميعًا تحت ناظري.»
«الأمر سيفوق كثيرًا مجرد وضعهم جميعًا تحت المراقبة. يجب جعل إنجلترا تذعن للأمر. إن البرجوازيين الحمقى في هذا البلد يجعلون من أنفسهم شركاء لنفس الأشخاص الذين يَهدفون إلى إخراجهم من منازلهم كي يموتوا جوعًا في الخنادق. كما أنه لا تزال لديهم القوة السياسية، وليتهم استطاعوا استغلالها من أجل الحفاظ على أنفسهم. أظن أن أفراد الطبقات الوسطى أغبياء، ألا تتَّفق معي؟»
أبدى السيد فيرلوك موافقته بصوت منخفض.
«نعم، هم كذلك.»
«ليس لديهم قدرة على التخيُّل. لقد أعماهم الغرور الأحمق. ما يحتاجونه الآن هو أن يدب بينهم ذعر يخدم مصالحنا. حانت اللحظة النفسية كي تُهيئ أصدقاءك للعمل. لقد استدعيتك إلى هنا كي أوصل إليك فكرتي.»
ولقد وَصَّل السيد فلاديمير فكرته من مُنطلَق التكبُّر، إذ تصرف بازدراء وسخرية وفي الوقت نفسه أظهر قدرًا من الجهل بالأهداف الحقيقية، والأفكار، والأساليب التي يتبعها عالم الثوار والتي ملأت عقل السيد فيرلوك الصامت بذعر دب في أوصاله. لقد خلط بين الأسباب والنتائج أكثر مما هو مطلوب؛ خلط بين أصحاب الدعوات البارزين ورماة القنابل المُندفِعين؛ افترض وجود تنظيم لا يمكن بطبيعة الأمور أن يكون موجودًا في الواقع؛ تحدث في لحظة عن حزب ثوري اجتماعي وكأنه جيش نظامي بامتياز، حيث كلمة القادة هي العليا، وفي لحظة أخرى كأنه رابطة ضعيفة للغاية تضم مجموعة من قطاع الطرق البائسين الذين اتخذوا من مضايق الجبال مأوًى لهم. في إحدى المرات فتح السيد فيرلوك فمه معترضًا، ولكن أوقفه رفع اليد البيضاء الكبيرة الحسنة المظهر. وسرعان ما أصيب بالذهول لدرجة أنه لم يُحاول الاحتجاج. كان يستمع في جمود نابع من فزع كان يشبه جمودًا نابعًا من انتباه شديد.
أردف السيد فلاديمير بهدوء: «سلسلة من الاعتداءات تنفذ هنا في هذا البلد؛ ليس فقط يخطط لها هنا — ذلك لن يجدي نفعًا — إنهم لا يجدون ضيرًا في ذلك. يُمكن لأصدقائك أن يضرموا النار في نصف القارة دون أن يؤثر ذلك في الرأي العام هنا لصالح تشريع قمعي عالَمي. لن يهتموا بما يحدث خارج باحتهم الخلفية.»
تنحنح السيد فيرلوك ولكن خذله قلبه ولم ينطق ببنت شفة.
تابع السيد فلاديمير وكأنه يُلقي محاضرة علمية: «ليس من الضروري أن تكون هذه الاعتداءات دموية، ولكن يجب أن تُثير الرعب في القلوب؛ أن تكون مؤثرة. دعها تكون موجهة نحو المباني على سبيل المثال. ما هو الصنم الذي يتبعه جميع البرجوازيون حاليًّا، يا سيد فيرلوك؟»
فتح السيد فيرلوك يديه وهز كتفيه قليلًا.
علق السيد فلاديمير على هزة الكتف تلك قائلًا: «أنت أكسل من أن تفكر. انتبه إلى ما أقوله. الصنم هذه الأيام ليس مَلِكًا ولا دينًا. لذا يجب عدم المساس بالقصر والكنيسة. هل تفهم ما أعنيه يا سيد فيرلوك؟»
وجد السيد فيرلوك مُتنفسًا لانزعاجه والازدراء منه في محاولة للهزل.
فبادر قائلًا: «فهمتُ تمامًا. ولكن ماذا عن السفارات؟ سلسلة هجمات على عدة سفارات.» ولكنه لم يستطع تحمل النظرات الباردة والمترقِّبة من الأمين العام الأول.
علق الآخر من دون اكتراث: «أرى أنك تتمتع بروح الدعابة. حسن إذن. هذه الروح قد تضفي الحيوية على مؤتمراتك الاشتراكية. ولكنها ليست مناسبة لتلك الغرفة. سيكون أكثر أمانًا لك أن تتبع ما أقوله بحذافيره. بما أنك استُدعيت لتقديم حقائق وليس قصصًا لا أصل لها، فالأفضل لك أن تجنيَ أموالك مما أتكبد عناء أن أشرحه لك. الصنم المقدس في هذه الأيام هو العلم. لماذا لا تجعل بعض أصدقائك يوجهون جهودهم نحو هذا الكيان السلطوي ذي الوجه المتخشِّب؟ أليس جزءًا من هذه المؤسسات التي يجب إزالتها قبل أن يبزغ نجم حركة «مستقبل طبقة العمال»؟»
لم يتفوَّه السيد فيرلوك بكلمة. خشيَ أن يفتح فمه لئلا تفلت منه همهمة تذمر.
«هذا ما يَنبغي أن تُحاول فعله. إن محاولة اغتيال ملك أو رئيس مثيرة بما فيه الكفاية بطريقة ما، ولكن ليس بالقدر الذي كانت عليه من قبل. لقد أصبحت ضمن المفهوم العام لوجود رؤساء الدول. لقد باتت أمرًا شبه تقليدي، وبخاصة لكون العديد من الرؤساء قد اغتيلوا. والآن ماذا إذا نفذنا هجمة على، ولنقل، كنيسة مثلًا؟ إنه حدث مروِّع للوهلة الأولى، بلا شك، ولكنه ليس مؤثرًا كما قد يتبادر إلى ذهن شخص من العوام حسب ظني. بصرف النظر عن مدى التغيير الجذري والفوضوية في البداية، فسيُضفي العديد من الحمقى الصبغة الدينية على هذا الاعتداء. وذلك من شأنه أن يَنتقِص من الأهمية المقلقة الخاصة التي نرغب في إضفائها على هذا الفعل. ربما تلقى أي محاولة قتل في مطعم أو مسرح بنفس الطريقة تفسيرًا نابعًا من عاطفة غير سياسية؛ كأن تُعتَبر سخطًا من رجل جائع، أو عملًا من أعمال الانتقام المجتمعي. كل هذه الأساليب استُهلكت؛ ولم تَعُد تجدي نفعًا مثل درسٍ عملي في اللاسلطوية الثورية. كل صحيفة لديها عبارات جاهزة تقدم تفسيرات تنأى بتلك التعبيرات عن جوهرها. إنني على وشك أن أشرح لك فلسفة إلقاء القنابل من وجهة نظري؛ من وجهة النظر التي تتظاهر بأنك كنت تخدمها طيلة الإحدى عشرة سنة الماضية. سأحاول ألا أتحدث عن أشياء يستعصي عليك فهمها. سرعان ما تخمد مشاعر الطبقة التي تهاجمها. تبدو الممتلكات لهم أشياء غير قابلة للتدمير. لا يُمكنك الاعتماد على مشاعرهم لفترة طويلة سواء كانت مشاعر شفقة أو خوف. من أجل أن يكون لتفجير أي تأثير في الرأي العام اليوم، لا بد أن يَتجاوز نية الانتقام أو الإرهاب. لا بد أن يكون بدافع التدمير الخالص. لا بد ألا يكون لذلك، ولذلك وحده، دون أدنى شك في وجود أي مأرب آخر. أنتم أيها اللاسلطويُّون يجب أن تُوضِّحوا أنكم عازمون تمامًا على نسف النظام الاجتماعي بالكامل. لكن كيف نُدْخِل تلك الفكرة السخيفة المروعة في رءوس الطبقات الوسطى حتى لا يكون ثمَّة شك؟ هذا هو السؤال. والإجابة هي بتوجيه ضرباتكم إلى شيء بعيد عن المشاعر العادية التي ألفتْها الإنسانية. بالطبع، يمكن توجيهها إلى الفن. ربما يُحْدِث انفجارٌ في المعرض الوطني بعض الضجيج. ولكنه لن يكون خطيرًا بالقدر الكافي. لم يكن الفن صنمهم قط. إن هذا أشبه بتكسير بضع نوافذ خلفية في منزل رجلٍ ما؛ ولكن إذا أردت أن تجعله يَرتعِب حقًّا، فلا بد أن تُحاول رفع السقف على الأقل. سيُسمَع بعض الصراخ بالطبع، ولكن من سيَصرُخ؟ الفنانون … نُقَّاد الفن ومن على شاكلتهم … أفراد عديمو القيمة. لن يهتم أحد بما يقولونه. ولكن يُوجد التعليم … العلوم. أي معتوه له دخل يؤمن بذلك. إنه لا يَعرف السبب، ولكنه يؤمن أن الأمر مُهم بطريقة ما. إنه الصنم المقدس. كل الأساتذة البغيضين راديكاليُّون في صميم قلوبهم. دعهم يعرفون أنه لا بدَّ من التخلص من كيانهم السلطوي العظيم أيضًا، لإفساح المجال لجماعة مُستقبل طبقة العمال. لا بدَّ أن العواء الذي سيصدر من كل هؤلاء الأغبياء المفكرين سيساعد في تعزيز جهود مؤتمر ميلان. سيكتبون إلى الصحف. سيكون سخطهم فوق مستوى الشبهات، ولن تكون ثمة مصالح مادية على المحك بشكلٍ علني، وسيوقظ غريزة الأنانية في الطبقة التي ستتأثَّر. إنهم يعتقدون أن العلم بطريقة ما هو مصدر ازدهارهم المادي. إنهم يَعتقدون ذلك. وستُؤثِّر الوحشية العبثية لذلك البيان العمَلي عليهم بشكل أعمق من تدمير شارع بأكمله … أو مسرح … يعج بأمثالهم. بشأن ذلك الحدث المذكور آنفًا، يُمكن دائمًا أن يقولوا: «أوه! إن هذا محض كراهية طبقية.» ولكن ما الذي يُمكن أن يقوله المرء بشأن عمل وحشيٍّ مُدمِّر يبلغ درجة من السخف بحيث لا يمكن فهمه أو تفسيره أو تصوره؛ في الحقيقة، إنه في الحقيقة فعل جنوني؟ إن الجنون وحده مرعب حقًّا، فلا أحد يستطيع تهدئته سواء بالتهديد أو الإقناع أو الرشاوى. علاوة على ذلك، فأنا رجل مُتحضِّر. لا أتصور أبدًا أن أوجهك إلى تنظيم مجزرة محضة، حتى لو توقَّعت أن تُؤتي أفضل النتائج. ولكني لا أتوقع من مجزرة النتيجة التي أريدها. القتل دائمًا عامل مشترك معنا. يكاد أن يكون حدثًا مؤسِّسًا. يجب أن يناهض البيان العملي التعليم … والعلم. ولكن ليس كل علمٍ سيَفِي بالغرض. يجب أن تجتمع في تلك الهجمة كل معاني الرعونة الصادمة للاستخفاف بالمقدسات الذي لا مبرر له. وبما أن التفجيرات هي وسيلتك للتعبير، فسيتضح حقًّا هل يُمكن نسف علم الرياضيات أم لا. ولكن هذا مُستحيل. أنا أحاول أن أُعلِّمك؛ لقد شرحت لك الفلسفة العُليا للمَنفعة المرجوة منك، واقترحت عليك بعض الأطروحات التي تخدم أهدافنا. أما التطبيق العملي لما أمليته عليك فهو شأنك «أنت» أكثر من أي شخص آخر. ولكن منذ اللحظة التي تعهَّدتُ فيها بإجراء مقابلة معك، أوليت أيضًا بعض الاهتمام للجانب العملي من السؤال. ما رأيك في أن توجِّه جهودك إلى علم الفلك؟»
لبعض الوقت، كان وقوف السيد فيرلوك بجانب الكرسي ذي الذراعَين من دون حراك يشبه رجلًا في حالة انهيار غيبوبة؛ نوع من عدم الإحساس السلبي الذي تقطعه نوبات تشنُّج طفيفة، تشنجات مثل التي تُلاحَظ على كلبٍ أليف يَحلُم بكابوس وهو نائم فوق السجادة أمام المدفأة. وكرَّر الكلمة في زمجرة غير مُستقرٍّ مثل زمجرة الكلب:
«علم الفلك.»
لم يكن قد تعافَى بعد بالكامل من حالة الحيرة التي نجمت عن الجهد الذي بذله لمتابعة كلام السيد فلاديمير القاطع السريع. لقد فاق قدرته على الاستيعاب. ولقد أثار غضبه. وزاد عدم التيقن من هذا الغضب. وفجأةً اتَّضح له أن كل هذا كان مزحة مُتقنة. بدت نواجذ السيد فلاديمير وهو يبتسم، وظهرت الغمَّازتان في وجنتَي وجهه المستدير المُكتنز من فوق ربطة عنقه الجامدة البارزة. كانت المرأة المفضلة بين نساء سلك الاستخبارات قد حذت حذوَه في مسلكه الذي أبداه في غرفة الاستقبال فيما يتعلَّق بإلقاء بعض النكات الطريفة. جلس متجهًا بجذعه إلى الأمام، ويداه البيضاوان مرفوعتان، وبدا وكأنه يمسك اقتراحه بلطف بين إصبعيه الإبهام والسبابة.
«لا يمكن أن يوجد ما هو أفضل من ذلك. يجمع هذا الاعتداء بين أكبر قدر مُمكن من الاحترام للإنسانية والعرض الأكثر مدعاة للقلق للحماقة الوحشية. وأنا أتحدى براعة الصحفيِّين في إقناع جمهورهم بأنَّ أي عضو في طبقة العمال يُمكن أن يكون لديه مظلمة شخصية ضد علم الفلك. لا يُمكن الزج بالمجاعة نفسها إلى تلك الدائرة، ألا تتَّفق معي في الرأي؟ كما أن للأمر مزايا أخرى. لقد سمع العالم المُتحضِّر أجمع عن بلدة جرينتش. إن ماسحي الأحذية في الطابق السُّفلي لمحطة تشيرينج كروس أنفسهم يعرفون شيئًا عنها. أترى؟»
كانت ملامح السيد فلاديمير، المعروفة جيدًا في أفضل المجتمعات بالدماثة الفكاهية، تنبض بالرضا الذاتي الساخر، الأمر الذي كان من شأنه أن يذهل النساء الأذكياء اللاتي استمتعن بذكائه بشكل رائع. أردف بابتسامة ازدراء: «نعم، لا بدَّ أن يثير تفجير خط الطول الرئيسي أصوات عويل ناجمة عن الكراهية لذلك الفعل.»
تمتم السيد فيرلوك: «عمل صعب.» شاعرًا أن هذا هو القول الوحيد المأمون.
تابع السيد فلاديمير بنبرة تهديد: «ما الأمر؟ أليست العصابة كلها في قبضتك؟ ألا يُمكنك اختيار أفضل مَن في المجموعة نفسها؟ ذلك الإرهابي العجوز يوندت موجود بينهم. أراه يَسير في بيكاديللي مُرتديًا قبعته الخضراء الواقية لرقبته من أشعة الشمس كل يوم تقريبًا. وميكايليس — صاحب الإفراج المشروط — لا تقصد أن تقول إنك لا تَعرف أين هو، أليس كذلك؟ لأنك إن لم تكن تعرف، فسأُخبرك بمكانه. إذا كنت تتخيل أنك الوحيد المدرج ضمن قائمة تمويل العملاء السريين، فأنت مخطئ.»
كان هذا الافتراض من دون أي مسوغات مما دفع السيد فيرلوك إلى أن يُحرك قدميه قليلًا بدافع السأم.
«وماذا عن عصابة منطقة لوزان بكاملها؟ ألم يندفعوا إلى هنا مع أول تلميح عن مؤتمر ميلان؟ هذا البلد غير معقول.»
قال السيد فيرلوك بطريقة غريزية: «هذا سيُكلِّف الكثير من المال.»
رد السيد فلاديمير بلكنة إنجليزية أصيلة لدرجة تُثير الدهشة: «هذا الادِّعاء لا أساس له.» «ستَتقاضى راتبك كل شهر، ولن تحصل على أيِّ أموال أخرى إلى أن يحدث شيء ما. وإذا لم يحدث شيء في القريب العاجل، فلن تحصل حتى على راتبك. ما هي وظيفتك الصورية؟ كيف تكسب عيشك في الظاهر؟»
أجاب السيد فيرلوك: «لديَّ متجر.»
«متجر! أي نوع من المتاجر؟»
«أدوات مكتبية، صحف. زوجتي …»
قاطعه السيد فلاديمير بنبرة يتسم بها سكان آسيا الوسطى: «من؟»
رفع السيد فيرلوك صوته الأجش قليلًا: «زوجتي. أنا متزوج.»
صاح الآخر بدهشة غير مفتعلة: «تلك حكاية بغيضة. متزوج! وتدعي أيضًا أنك لا سُلطوي! ما هذا الهراء المقيت؟ ولكني أفترض أنه مجرد أسلوب في الحديث. اللاسلطويون لا يتزوجون. إنه أمر معروف. لا يمكنهم ذلك. وإلا تعتبر رِدة.»
تمتم السيد فيرلوك بصوته الأجش: «زوجتي ليست لا سلطوية. إضافة إلى ذلك، هذا ليس شأنك.»
قال السيد فلاديمير غاضبًا: «بل هو كذلك. بدأت أقتنع بأنك لستَ أهلًا مطلقًا للعمل الذي أُوكِل إليك. عجبًا، لا بدَّ أنك فقدت مصداقيتك بالكامل في عالَمك بسبب زواجك. ألم يكن بوسعك أن تتدبَّر أمرك من دون زواج؟ هذا رباطك العفيف، أليس كذلك؟ بوجود ارتباطات من هذا القبيل، لا يرجى منك نفع.»
نفخ السيد فيرلوك خديه، ونفث الهواء بقوة، ولم يفعل أكثر من هذا. تحلَّى بالصبر. لم يتبقَّ الكثير في هذه المحاكمة. فجأة، صار الأمين العام الأول فظًّا وموضوعيًّا وقاطعًا جدًّا.
قال: «يُمكنك الذهاب الآن. لا بدَّ من تنفيذ اعتداء بالديناميت. أُمهلُك شهرًا من أجل هذه المهمة. إنَّ تجهيزات المؤتمر معلقة الآن. لا بدَّ من حدوث شيء ما قبل استئنافه مرةً أخرى، وإلا فستنقطع صلتك بنا.»
غيَّر نبرة صوته مرةً أخرى إلى نبرة تُوحي بتجرده من المبادئ.
قال بنبرة تعالٍ وهو يشير بيده نحو الباب: «فكِّر في فلسفتي، يا سيد … يا سيد … فيرلوك. نفذ مهمَّة خط الطول الرئيسي. أنت لا تَعرف الطبقات الوسطى كما أعرفها. لقد تلاشت أحاسيسهم. خط الطول الرئيسي. لا شيء أفضل، ولا شيء أسهل من ذلك، حسب ظنِّي.»
كان قد نهض، وبينما كانت عبارات الدعابة والفكاهة تخرج من شفتيه الرفيعتين؛ راقب في الزجاج فوق رفِّ الموقد السيد فيرلوك وهو يخرج من الغرفة مُتثاقل الخطى، مُمسكًا بقبعته وعصاه في يده. ثم أُغلِق الباب.
ظهر الخادم ذي السروال فجأةً في الردهة، وأوصل السيد فيرلوك إلى مخرج مختلف وأخرجه من باب صغير في زاوية الفناء. تجاهل الحارس الذي يقف على البوابة خروجه تجاهُلًا تامًّا؛ ثم عاد السيد فيرلوك أدراجه من الطريق الذي قصده في الصباح وكأنَّه في حلم، حلم مُزعِج. كان هذا الانفصال عن العالم المادي كاملًا لدرجة أنه مع أن السيد فيرلوك لم يُسرِع بإفراط في مشيتِه ببدنه الفاني في الشوارع، بدنه الذي سيكون من الوقاحة على نحو غير مُبرَّر أن يرفض الخلود، وجد نفسه في الحال على أعتاب المتجر، وكأن ريحًا عظيمةً حملته على أجنحتها ونقلته من الغرب إلى الشرق. مشى إلى خلف منضدة البيع مباشرةً وجلس على الكرسي الخشبي القابع خلفها. لم يظهر أحد كي يقطع عليه خلوته. حينئذٍ كان ستيفي، مُرتديًا مِئزرًا أخضرَ، عاكفًا على كنس الطابق العلوي ونفض الغبار عنه، بعزم وإخلاص، وكأنه كان يلعب؛ وانتبهت السيدة فيرلوك وهي في المطبخ لما دق الجرس؛ ومِن ثَمَّ أتت إلى الباب المزجَّج لغرفة المعيشة الخلفية وأزاحت الستارة قليلًا ونظرت في المتجر ذي الإضاءة الخافتة. لما رأت زوجها جالسًا في المتجر شارد الذهن لا يتحرَّك، وقبعته مائلة إلى الخلف فوق رأسه، عادت على الفور إلى الفرن. بعد ساعة أو أكثر، أخذت المئزر الأخضر من أخيها ستيفي، وأمرته أن يغسل يدَيه ووجهه بنبرة آمرة اعتادت أن تستخدمها معه طيلة خمس عشرة سنة أو نحو ذلك، في الواقع، منذ أن توقَّفت عن الاعتناء بغسل يدَي الصبي ووجهه بنفسها. الآن، انشغلت قليلًا عن غَرْف الطعام كي تتفقَّد ذلك الوجه وهاتين اليدَين، إذ لما اقترب ستيفي من طاولة المطبخ، تقدم إليها كي ينال رضاها عن نظافة يديه ووجهه بمشية تنم عن ثقة تخفي بقايا قلق لم تنفكَّ عنه. في السابق، كان غضب الأب هو العقاب الفعَّال على عدم الالتزام بتلك الطقوس، ولكن هدوء السيد فيرلوك في المنزل كان من شأنه أن يجعل أي ذكر للغضب أمرًا لا يُتَصَوَّر حتى تجاه عصبية المسكين ستيفي. تكمن العلة من التأكيد على النظافة في أن السيد فيرلوك كان سيُصيبه ألم وصدمة لا تُوصَف لو لم تكن النظافة وقت الوجبات على الوجه الذي يريد. وجدت ويني بعد وفاة والدها عزاءً كبيرًا في شعورها بأنها لم تَعُد بحاجة إلى القلق بشأن المسكين ستيفي. لم تكن تَحتمِل أن ترى الفتى يتألم. كان هذا الأمر يُصيبها بالجنون. وعندما كانت طفلة صغيرة، كثيرًا ما كانت تواجه بعينين يتطاير منهما الشرر بائع الكحوليات المرخص دفاعًا عن أخيها. أما الآن، فلا شيء في مظهر السيدة فيرلوك يمكن أن يدفع المرء إلى افتراض أنها كانت قادرة على أن تُظهر عاطفتها يومًا.
انتهت من غَرْف الطعام. وُضِعَت الطاولة في غرفة المعيشة. مشت إلى أسفل درج السلم وصاحت تنادي «أمي!» ثم فتحت الباب المزجَّج المؤدي إلى المتجر، وقالت بهدوء «أدولف!» لم يَبرح السيد فيرلوك مكانه؛ وبدا أنه لم يُحرِّك أي طرف من أطرافه لمدة ساعة ونصف. صعد بتثاقل إلى الطابق العلوي وجلس لتناول العشاء مُرتديًا معطفه وقبعته، من دون أن ينبس ببنت شفة. لم يكن صمته في حد ذاته شيئًا غير عادي على نحو مذهل في هذا المنزل، الكامن في ظلال شارع قذر لا تسقط عليه أشعة الشمس إلا نادرًا، خلف المتجر خافت الضوء وبضاعته الرديئة سيئة السمعة. إلا أنه في ذلك اليوم كان صمت السيد فيرلوك عميقًا بوضوح لدرجة أثارت استغراب المرأتين. جلستا صامتتين، تراقبان المسكين ستيفي، خشية أن يدخل في واحدة من نوبات ثرثرته. جلس في مواجهة السيد فيرلوك على الطاولة، وظل ساكنًا وهادئًا جدًّا، محملقًا في الفراغ. لم تقلق المرأتان كثيرًا بشأن محاولة الحيلولة دون نبذ ستيفي بأيِّ شكل من الأشكال من طرف سيد المنزل. كان «ذلك الفتى»، كما كانتا تُشيران إليه بهدوء فيما بينهما، مصدرًا لذلك النوع من القلق منذ يوم ولادته تقريبًا. تجلَّى الخزْي الذي شعر به بائع الكحوليات المرخص لأنه وُلد له صبي غريب الأطوار في نزعة إلى معاملة وحشية؛ إذ كان رجلًا مُرهَف الأحاسيس، ومِن ثَمَّ باتت آلامه ومعاناته كرجل وأب أمرًا طبيعيًّا لا غرابة فيه. بعد ذلك، كان لا بد من منع ستيفي من أن يُصبح مصدر إزعاج للمُستأجرين غير المتزوِّجين، إذ كانوا هم أنفسهم قومًا غريبي الأطوار، ويسهل أن يتضرَّروا من تصرفاته. وكان عليهما دومًا أن تواجها القلق من مجرَّد وجوده. كانت رؤية دخول ابنها إلى إصلاحية الأحداث تطارد المرأةَ العجوزَ في غرفة الإفطار بالطابق الأرضي في المنزل المُتهالك في بلجرافيا. اعتادت أن تقول لابنتها: «لو لم تتزوَّجي بهذا الرجل الطيب يا بنيتي، فلا أعرف ما الذي كان سيحل بهذا الصبي البائس.»
منح السيد فيرلوك قدرًا كبيرًا من التقدير لستيفي مثل القدر الذي قد يَمنحه رجل غير مُولع بالحيوانات للقط الذي تحبُّه زوجته؛ وكان هذا التقدير نفسه نابعًا من طبيعة خيرة ودون تكلُّف. وباعتراف المرأتَين كلتيهما، كان العقل يقتضي عدم توقع ما هو أكثر من ذلك. كان ذلك كافيًا لأن يكتسب السيد فيرلوك امتنان المرأة العجوز وتوقيرها. في الأيام الأولى، بدافع من تشكُّكها بسبب تجارب الحياة الخالية من الأصدقاء، كانت أحيانًا تسأل بقلق: «ألا تظنين، يا عزيزتي، أن السيد فيرلوك قد سئم من رؤية ستيفي في المكان؟» اعتادت ويني أن ترد على هذا السؤال بهز رأسها نفيًا. ولكن في إحدى المرات، ردت بأسلوب سليط ومتجهِّم: «سيكون عليه أن يسأم منِّي أولًا.» ساد صمت طويل. أسندت الأم قدميها على كرسي، وبدا أنها تُحاول أن تفهم ما وراء هذه الإجابة، التي جعلها حسُّها الأنثوي تذهل منها تمامًا. لم تكن في الحقيقة قد فهمت السبب الذي دفع ويني للزواج من السيد فيرلوك. كان أمرًا منطقيًّا جدًّا بالنسبة إليها، ومن الواضح أنه تبين أنه كان خيرًا لها، ولكن ربما كانت ابنتها تأمُل في العثور على شخص سنُّه أكثر ملاءمة لها، وهذا طبيعي. كان ثمة شابٌّ يُعتمد عليه، وهو الابن الوحيد لجزار يقطن في الشارع المجاور، وكان هذا الشاب يُساعد والده في عمله، وتكرَّر أن خرجت ويني معه من دون أن تُخفيَ سرورها بذلك. لم يكن خافيًا اعتماده على أبيه في كسب عيشه؛ ولكن العمل كان يدرُّ دخلًا جيدًا، وكان مستقبله مبشرًا. اصطحب ابنتها إلى المسرح في عدة أمسيات. ثم ما إن بدأت تخشى أن تسمع بأمر خطبتهما (إذ ما الذي كان يُمكن أن تفعله في هذا المنزل الكبير بمفردها، وستيفي في رعايتها)، انتهت هذه العلاقة الرومانسية فجأةً، وبدأ الضجر يكسو وجه ويني. ولكن عندما أتت العناية الإلهية بالسيد فيرلوك وشغل غرفة النوم الأمامية في الطابق الأول، انقطع سيل الأسئلة بشأن الجزار الشاب. كان من الواضح أن الأمر من عمل العناية الإلهية.