الفصل الخامس
كان البروفيسور قد انعطف في شارع يسارًا، وسار فيه، رافعًا رأسه بصرامة، وسط حشد من الناس كان كل واحد منهم يفوق قامته القصيرة طولًا. لم يكن مُجديًا أن يتظاهر أمام نفسه بأنه لم يكن محبَطًا. ولكن ذلك كان مجرَّد شعور؛ إذ لم يكن من الممكن أن تَضطرِب رزانة تفكيره من فشل كهذا أو من أيِّ فشل آخر. في المرة القادمة، أو التي تليها، ستُوجَّه ضربة قوية، شيء مذهل حقًّا، ضربة مدوية لدرجة أن تحدث أول تصدع في الواجهة المهيبة للصرح العظيم للمفاهيم القانونية التي تحمي الظلم السافر للمجتمع. وإذ كان ينحدر من أصلٍ مُتواضِع، ويتَّسم بمظهر رذيل وقف عقبةً أمام قدراته الطبيعية الكبيرة، اتَّقدت مخيلته مبكرًا بحكايات رجال ارتقوا من أعماق الفقر إلى مواقع السلطة والثراء. كانت نقاوة فكره الشديدة والتي كادَت تصل إلى درجة الزهد، مُمتزجةً بجهل مذهل بما يجري في العالم، قد وضعت أمامه هدفًا، هو الوصول إلى السلطة والمكانة، أراد تحقيقه من دون حيلة أو حظوة أو لباقة أو ثروة؛ وإنما بجدارته وحدها. ومن ذلك المنظور، اعتبر نفسه مستحقًّا لنجاح مفروغ منه. كان والده — الذي كان رجلًا متحمِّسًا رقيقًا أسمر اللون ذا جبهة فيها ميل — مبشرًا متجولًا ومؤثرًا بإحدى الطوائف المسيحية الغامضة والمتزمتة؛ كان رجلًا واثقًا تمام الثقة في فضائل صلاحه. ما إن حلت في الابن، الذي كان ذا نزعة فردية بطبعه، علوم الجامعات حلولًا تامًّا محل الإيمان الكنسي، تُرجِم هذا الموقِف الأخلاقي من تلقاء نفسه إلى نزعة تعصُّب محموم تجاه طموحه. ورعا هذه النزعة وكأنها شيء مُقدَّس بطريقة علمانية. فتحت رؤيته محبطًا عينَيه على طبيعة العالم الحقيقية، الذي كانت أخلاقياته مُصطَنعة وفاسِدة وتقود إلى الكفر. إن طريق حتى أكثر الثورات قابلية للتبرير تُمهده الدوافع الشخصية المُخفاة تحت غطاء العقائد. وجد سخط البروفيسور في ذاته علَّة غائية أحلَّته من خطيئة الركون إلى التدمير واتخاذه عاملًا للوصول إلى طموحه. كان تدمير إيمان العامة بالشرعية هو التركيبة غير الكاملة لتعصُّبه المُتحذلق؛ ولكن الاقتناع اللاواعي بأن إطار نظام اجتماعي قائم لا يُمكن تحطيمه فعليًّا إلا ببعض أشكال العنف الجماعي أو الفردي كان اقتناعًا دقيقًا وصحيحًا. استقر في عقله أنه شخص لديه القدرة على تمييز الصواب من الخطأ وتحمل المسئولية عن أفعاله. بممارسة تلك القدرة بتحدٍّ مُستميت، تحصل لنفسه على مظاهر القوة والهيبة الشخصية. كان لا يمكن إنكار أن ذلك كان راجعًا إلى ما كان يشعر به من مرارة ونزعة إلى الانتقام. هدأ هذا من اضطرابها؛ وربما لا يسعى أكثر الثوريين تحمُّسًا، بطريقتهم الخاصة، إلا إلى تحقيق سلام مشترك مع باقي البشر، السلام الذي يكتنفه سكون الغرور، أو إشباع النزعات الغريزية، أو ربما استرضاء الضمير.
ضائعًا وسط الزحام، بائسًا وضئيل الحجم، تأمل واثقًا في قدرته، مبقيًا يده في الجيب الأيسر لسرواله، وقابضًا برفق على الكرة المصنوعة من المطاط الهندي، الضمان الأمثل لحريته المُهدِّدة لمن سواه؛ ولكن بعد فترة، انتابه شعور بالاستياء من مشهد الطريق الذي يعج بالسيارات والرصيف المزدحم بالرجال والنساء. كان في شارع طويل مُستقيم لا يشغله سوى قلة من البشر؛ ولكن كلما نظر من حوله وجال ببصره إلى الأفق الذي تحجبُه المباني العملاقة، أحس أن قوة الكتلة البشرية تكمن في أعدادها. كانوا مثل الجراد في انتشارهم، ومثل النمل في كدِّهم، ومثل قوى الطبيعة في طيشهم، يواصلون اندفاعهم دون تروٍّ وبنظام وانهماك، لا يتأثرون بعاطفة، ولا منطق، ولا حتى بإرهاب.
كان ذلك هو مظهر الشك الذي كان يخشاه أكثر من غيره. عدم التأثر بالخوف! في كثير من الأحيان عندما كان يتجول خارجًا، حينما يَتصادف أيضًا أن يخرج من قوقعته، كانت تَنتابه تلك اللحظات من انعدام الثقة المخيف والمعقول في البشر. ماذا لو لم يتمكَّن أي شيء من أن يؤثر فيهم؟ تنتاب لحظات كتلك جميع الرجال الذين يَطمحون إلى فهمٍ مُباشر للطبيعة البشرية؛ للفنانين، أو السياسيين، أو المفكرين، أو المصلحين أو القدِّيسين. إن هذه حالة عاطفية دنيئة، تُحَصِّن منها العزلةُ شخصيةً ساميةً؛ وبابتهاج شديد، فكَّر البروفيسور في الملاذ المُتمثِّل في غرفته، وخزانتها المقفولة بقفل، الضائعة في قفر من المنازل الفقيرة، صومعة اللاسُلطوي المثالي. من أجل الوصول إلى أقرب مكانٍ يُمكنه أن يستقلَّ منه حافلة المواصَلات العامة، انعطف بسرعة وخرج من الشارع المُكتظ بالناس إلى زقاق ضيق ومُظلِم مرصوف بالحجارة. على أحد الجانبَين، كانت المنازل المُنخفِضة المبنية من الآجُرِّ بنوافِذِها المُغبرة تحمل المظهر الخفي والفاتر لاضمحلال لا يُمكن إصلاحه، هياكل خاوية تنتظر هدمها. أما الجانب الآخر فلمَّا يكن خاويًا تمامًا من مظاهر الحياة بعد. في مواجهة مصباح الغاز الوحيد، كانت توجد فتحة مغارة تاجِر أثاث مُستعمَل، وفي أعماق ظلمة درب ضيق ومُتعرِّج وسط غابة عجيبة من خِزانات تتشابك فيها أرجل طاولات، كانت تتلألأ مرآة مستطيلة عمودية طويلة مثل بركة ماء في غابة صغيرة. وفي العراء، كانت تقبع أريكة بائسة منبوذة، وبجوارها كرسيان من طرازين مختلفين. أما الإنسان الوحيد الذي سلك الزقاق، بالإضافة إلى البروفيسور، والذي كان رجلًا قويَّ البنية يمشي منتصبًا آتيًا من الاتجاه المعاكس، فتوقَّفَ فجأةً ولم يُكمل خطواته المتمايلة.
وقف قليلًا على أحد الجانبين مترقبًا وقال: «مرحبًا!»
كان البروفيسور قد توقف بالفعل، واستدار نصف استدارة جعلت كتفَيه على مقربة شديدة من الجدار الآخر. سقطت يدُه اليُمنى برفق على ظهر الأريكة المنبوذة، وتعمد ترك اليسرى في جيب سرواله، وأضفت العدسات المستديرة ذات الإطار السميك طابعًا مُتجهمًا على وجهه ذي المزاج المتقلب والبارد.
كان الأمر مثل لقاء في رواق جانبي لقصر ينبض بالحياة. كان الرجل قوي البنية يَرتدي معطفًا داكن اللون مُزرَّرًا، ويحمل مظلة. كشفت قبعته، المائلة إلى الوراء، جزءًا كبيرًا من جبهته، التي بدت بيضاء جدًّا في العتمة. وفي البقعتَين الداكنتين وسط المحجرين، التمعَت عينان ثاقبتان. شكَّل طرَفا شارب طويل مُتدلٍّ، بلون الذُّرة الناضجة، إطارًا للمساحة المربعة لذقنِه الحليق.
قال باقتضاب: «أنا لا أبحث عنك.»
لم يتحرك البروفيسور قيد أنملة. انخفضت الضوضاء المختلطة للمدينة الكبيرة فصارت همهمة خفيضة غير مفهومة. غيَّر كبير المفتشين هيت من إدارة الجرائم الخاصة من نبرته.
سأله ببساطة ساخرة: «ألستَ في عجلة للذهاب إلى منزلك؟»
بصمت ابتهج الوكيل الأخلاقي للتدمير القصير ذو المظهر البغيض لامتلاكه لمكانةٍ شخصية، وظل يراقب هذا الرجل المسلح بتفويض الدفاع عن مجتمع مهدَّد. كان أسعد حظًّا من كاليجولا، الذي تمنَّى لو كان لمجلس الشيوخ الروماني زعيم واحد فقط من أجل إشباع شهوته الوحشية إشباعًا أفضل؛ فقد ارتأى في ذلك الرجل جميع القوى التي وضعها موضع التحدي؛ قوة القانون وقوة المِلكية وقوة القمع وقوة الظلم. رأى أمامه جميع أعدائه ودون خوف واجههم جميعًا في إرضاء فائق لغروره. وقفوا جميعًا أمامه في حيرة من أمرهم وكأنهم أمام نذير شؤم مُرَوِّع. سُرَّ في نفسه بشماتة لأنه سَنحت له فرصة هذا اللقاء الذي يثبت تفوقه على كل البشر.
كان في الحقيقة لقاءً بالصدفة. كان هيت كبير المُفتِّشين قد مر بيوم مزعج حافل بالعمل منذ أن تلقَّت إدارته البرقية الأولى من جرينتش قبل الساعة الحادية عشرة صباحًا بقليل. بادئ ذي بدء، كانت حقيقة أن الاعتداء جرى بعد أقل من أسبوع من تأكيده لمسئول رفيع المستوى أنه لم يكن ثمَّة اندلاع لنشاط لا سُلطوي يُخشى منه، مُزعجةً بما فيه الكفاية. كان مُطمئنًّا لإدلائه لهذا التصريح مثلما لم يكن في أيِّ وقتٍ مضى. كان قد أدلى بهذا التصريح برضا متناهٍ عن نفسه؛ لأنه كان من الواضح أن المسئول رفيع المستوى كان يرغب بشدة في سماع خبر كهذا. كان قد أكَّد له أنه لا يُمكن حتى التفكير في شيء من هذا القبيل من دون أن تكون الإدارة على علم به في غضون أربع وعشرين ساعة؛ وكان قد تفوَّه بتلك الكلمات مدركًا أنه الخبير الكبير في إدارته. كان قد تمادى إلى حدِّ أنه تفوَّه بكلمات ينأى الحكيم الحق عن التفوه بها. ولكن هيت كبير المفتِّشين لم يكن حكيمًا جدًّا، على الأقل لم يكن كذلك في الحقيقة. إن الحكمة الحقَّة — التي تدعو إلى عدم التيقُّن من أي شيء في هذا العالم المليء بالتناقُضات — كانت ستمنعُه من الوصول إلى مكانته الحالية. كانت ستُثير قلق رؤسائه، وتقضي على فرصِه في الترقِّي. فقد كانت ترقيته سريعة جدًّا.
كان قد صرح قائلًا: «يا سيدي، إذا أردنا العثور على أيِّ واحد منهم، لوجدناه في أي وقت من الليل أو النهار. إننا نَعرف ما يفعله كل واحد منهم ساعة بساعة.» وتلطَّف المسئول رفيع المستوى بابتسامة. كان من الواضح للغاية أن هذا هو القول الصواب إذا كان صادرًا من ضابط بسمعة كبير المفتِّشين هيت التي كانت مُرضيةً تمامًا. صدَّق المسئول الكبير التصريح، الذي توافَقَ مع فكرته عما تقتضيه صحة الأمور. كانت حكمته تنبع من مُنطلَق خلفيته الرسمية، وإلا لما فكَّر في مسألة ما من منطلق التنظير بل من منطلق الخبرة، بأنه في النسيج المتداخل للعلاقات بين المُتآمر والشرطة تظهر حلول غير متوقَّعة في الثغرات المُستمرة والمفاجئة في المكان والزمان. يمكن مراقبة لا سلطوي معين شِبرًا بشبر ودقيقة بدقيقة، ولكن دائمًا ما تأتي لحظة يُفقَد فيها أثره بطريقة ما ويَختفي عن الأنظار بضع ساعات، وفي تلك الساعات يحدث شيء (عادةً انفجار) تقلُّ أو تزيد نتائجه الكارثية. لكن المسئول الكبير، منقادًا بإحساسه بما تقتضيه صحة الأمور، ابتسم، والآن كان تذكر تلك الابتسامة مزعجًا جدًّا لكبير المفتِّشين هيت، الخبير الأول في نهج اللاسُلطويِّين.
لم يكن هذا هو الظرف الوحيد الذي كدرت ذكراه الصفو المعتاد للاختِصاصي البارز. كان يوجد ظرف آخر يرجع توقيتُه إلى صباح ذلك اليوم. كانت فكرة أنه عندما استُدعي إلى المكتب الخاص للمفوض المساعد، لم يتمكَّن من إخفاء ذهوله، مُثيرةً للحنق من غير ريب. علَّمته غريزة الرجل الناجح منذ وقت طويل قاعدةً عامةً مفادها أن السمعة تُبنى على الأسلوب بقدر ما تُبنى على الإنجاز. وشعر أنَّ أسلوبه لما أُخبر بأمر البرقية لم يكن محلَّ إعجاب. كان قد فتح عينَيه على اتساعهما وصاح: «مُستحيل!» مُعرِّضًا نفسه بذلك إلى الرد الذي لا إجابة عليه المُتمثِّل في طرف إصبع وُضِع بقوة على البرقية التي كان المفوَّض المساعد قد طرحها على المكتب بعد أن قرأها بصوتٍ عالٍ. لم تكن تجربة سارة أن يُسحَق، إن جاز التعبير، تحت طرف سَبَّابة. يا له من أمر مُدمِّر أيضًا! إضافة إلى ذلك، أدرك كبير المفتشين هيت أنه لم يصلح الأمور عندما سمح لنفسه بالإعراب عن قناعة لديه.
«شيء واحد يُمكنني أن أخبرك به على الفور؛ لم يكن لأيِّ أحد في مجموعتنا أي علاقة بهذا الأمر.»
كان قويًّا في نزاهته باعتباره مُحقِّقًا كفئًا، ولكنه رأى الآن أن لو كان قد احتاط وانتبه انتباهًا شديدًا بشأن هذا الحادث، كان ذلك سيُفيد سمعته إفادة أفضل. من ناحية أخرى، اعترف أمام نفسه أنه كان من الصعب أن يُحافظ المرء على سمعته إذا كان دخلاء سيُشاركون في المسألة. الدخلاء لعنة على الشرطة كما هو الحال في المِهَن الأخرى. كانت نبرة المفوَّض المُساعد لاذعة لدرجة توغر صدر المرء.
منذ الإفطار، لم يدخل في جوف كبير المفتِّشين هيت أي طعام.
شرع على الفور في فحص مكان الحادث، مُتلقيًا قدرًا كبيرًا من الضباب البارد الكريه في الحديقة العامة. ثم ذهب إلى المستشفى؛ وعندما توصَّلوا إلى نتائج التحقيقات في جرينتش في النهاية، فقد شهيته للطعام. لم يكن معتادًا على فحص الأشلاء البشرية عن كثب مثل الأطباء، لذا صُدم من المشهد الذي انكشَفَ له عندما رُفِع غطاء مقاوم للماء عن طاولة في جناح معيَّن داخل المُستشفى.
كان منشورًا على الطاولة غطاءٌ آخر مقاوم للماء كأنه مفرش مرفوع من الأركان فوق شيء كأنه كوم رماد، كومة من الخِرَق، مُحترِقة وملطَّخة بالدماء، تُخفي بعضًا من لحم بشري وكأنه وليمة لحم نيِّئ. تطلب الأمر قدرًا كبيرًا من الثبات كي لا يتراجَع أمام ذلك المشهد. كان كبير المفتِّشين هيت وضابط كفء في إدارته، فلم يَتقهقَر، إنما ظلَّ في مكانه لمدة دقيقة كاملة. ألقى شرطي محلِّي في زيٍّ رسمي نظرةً جانبيةً، وقال ببساطة متبلِّدة الحس:
«هذه كل أشلائه. كل قطعة منه. كانت مهمَّة شاقة.»
كان أول الحاضِرين إلى المكان بعد الانفجار. ذكر الواقعة مرَّة أخرى. كان قد رأى شيئًا يُشبه ومضة برق كثيفة وسط الضباب. في ذلك الوقت، كان يقف عند باب فندق كينج ويليام ستريت يتحدَّث إلى الحارس. جعله الارتجاج يَرتجِف بكل كيانه. جرى من بين الأشجار باتجاه المرصد. كرر مرتين: «بأقصى سرعة تتحمَّلها قدماي.»
انحنى كبير المفتشين هيت فوق الطاولة بحذر ورعب شديدين، وتركه يستمر في الكلام. أزال الحمال ورجل آخر في المستشفى أطراف القماش وتنحَّيا جانبًا. بحثت عينا كبير المفتشين في التفاصيل المروِّعة لكومة الأشياء المختلطة، التي بدَت وكأنها جُمعت في محل خردة وخرق بالية.
لما لاحظ القطع المتناثِرة من الحصى الصغير والأجزاء البُنية الصغيرة من اللحاء وجزيئات الخشب المشقوقة مثل الإبر، علَّق قائلًا: «لقد استخدمت مجرفة.»
قال الشرطي مُتبلِّد المشاعر: «اضطررتُ إلى استخدامها في مكان واحد. أرسلتُ حارسًا لجلب مجرفة. لما سمعني وأنا أحفر الأرض بها، أسند جبهته على شجرة، وأصابه إعياء شديد.»
انحنى كبير المفتشين بحذر فوق الطاولة، وقاوم الإحساس المزعج الذي غصَّ به حلقُه. دفعه العنف المُمَزِّق الذي أحدثه هذا التدمير، والذي حوَّل ذلك الجسم إلى أشلاء لا يُعرف صاحبها، إلى الإحساس بنوع من القسوة الوحشية، على الرغم من أن عقلَه حدَّثه بأنه لا بدَّ أن التأثير كان سريعًا كومضة برق. أيًّا كان هذا الرجل، فقد لقي حتفَه على الفور؛ ومع ذلك كان يبدو من المستحيل تصديق أن جسدًا بشريًّا سيَصل إلى هذه الحالة من التمزيق من دون أن يمرَّ بألوان من عذاب لا يُمكن تصوره. وإذا لم يكن كبير المفتِّشين هيت اختصاصيًّا في الفسيولوجيا، ولا حتى عالم ميتافيزيقا، ارتقى بقوة التعاطف، وهو أحد أشكال الخوف، فوق المفهوم المبتذل للوقت. على الفور! تذكر كل ما قرأه في الكتب الشهيرة عن الأحلام الطويلة والمرعبة التي يَحلُم بها الشخص لحظة استيقاظه؛ عن شريط الحياة المرعب الذي يعيشه غريق ورأسه تظهر من تحت الماء للمرة الأخيرة ثم تَغطس مرةً أخرى. حاصرت الألغاز غير المفهومة عن الوجود الواعي كبير المفتشين هيت حتى امتلأ عقله بفكرة مرعبة؛ وهي أن عصورًا من الألم البشع والعذاب العقلي يمكن اختزالها بين رمشتَي عين. وفي تلك الأثناء، تابع كبير المفتشين النظر إلى الطاولة بوجه هادئ وانتباه قَلِق بعض الشيء كانتباه زبون مُعوِز يَنحني فوق ما يمكن أن يُطلَق عليه بقايا عظام ولحم من متجر جزَّار من أجل عشاء غير مُكلِّف في أحد أيام الأحد. طوال الوقت، كان يتتبع، بقدراته المدربة التي كان يمتلكها بصفته مُحققًا مُمتازًا، لا يستخفُّ بأيِّ فرصة للحصول على المعلومات؛ ثرثرةَ الشرطيِّ الواثقة في موضوعات غير مترابطة.
قال الأخير ملاحظةً بنبرة هادئة: «شخص ذو شعر أشقر»، ثمَّ توقف. «المرأة العجوز التي تحدَّثت إلى الرقيب لاحظت شخصًا ذا شعر أشقر يَخرُج من محطة ميز هيل.» ثم توقَّف. ثم أردف ببطء: «وكان شخصًا ذا شعر أشقر. لاحظت المرأة رجلين يخرجان من المحطة بعد أن غادر القطار الذي أقلَّهما.» «لم تَستطِع أن تتبيَّن إن كانا بعضهما مع بعض أم لا. لم تلقِ بالًا للشخص الضخم منهما، ولكن الآخر كان رجلًا نحيلًا ذا بشرة شاحبة، يحمل عبوة ورنيش من القصدير في إحدى يدَيه.» توقف الشرطي عن الكلام.
«هل تعرف المرأة؟» تمتم كبير المُفتِّشين، وعيناه مُثبتتان على الطاولة، وفي عقله فكرة غير واضحة بشأن تحقيق سيُجرى عمَّا قريب عن رجل ربما يظلُّ مجهولًا إلى الأبد.
قال الشرطي بجدية: «نعم. إنها خادِمة لدى صاحب حانة مُتقاعِد، وتذهب إلى الكنيسة في بارك بليس أحيانًا.» ثم توقَّف وألقى نظرة غير مباشرة أخرى على الطاولة.
ثم فجأة: «حسنًا، إنه … كل ما أستطيع أن أراه منه. بشرة شاحبة. نحيل … نحيل جدًّا. انظر إلى تلك القدم هناك. التقطت الساقين أولًا، واحدة تلو الأخرى. كان مُمزَّقًا إلى أشلاء لدرجة أنني لم أعرف من أين أبدأ.»
توقف الشرطي؛ وارتسمت على وجهه المستدير ابتسامة طفولية تنمُّ عن ومضة بريئة من الإشادة بالنفس.
قال بثبات: «تعثر. تعثَّرتُ أنا نفسي مرة، ووقعت على رأسي أيضًا وأنا أركض. جذور الأشجار هذه تَبرُز في المكان كله. تعثر في جذر شجرة وسقط، ولا بد أن ذلك الشيء الذي كان يَحمله قد سقط تحت صدره مباشرةً، حسبما أتوقع.»
انزعج كبير المفتِّشين انزعاجًا شديدًا من تردُّد كلمة «شخص مجهول» التي أخذت تتكرَّر في وعيه الداخلي. ود لو تتبع هذه القضية إلى منبعها الغامض حتى يصل إلى المعلومات التي يُريدها. كان فضوليًّا باحتراف. وأمام العامة، رغب في أن يدافع عن كفاءة إدارته بالكشف عن هُوية ذلك الرجل. كان يَمتاز بالإخلاص في عمله. لكن تلك المهمَّة بدت مُستحيلة. بداية القضية كانت لغزًا يَصعُب حلُّه؛ إذ لم تكن تُوجَد أيُّ احتمالات باستثناء تلك التي تتَّسم بالقسوة الشنيعة.
متغلبًا على نفوره مما يَراه، مدَّ كبير المفتِّشين هيت يده دون اقتناع بأنَّ هذا سيُريح ضميره، ورفع أقل قطعة متَّسخة من الخِرَق. كانت شريطًا مخمليًّا صغيرًا مع قطعة أكبر مثلَّثة الشكل من قماش أزرق داكن تتدلى منه. رفَعَها حتى مُستوى عينَيه، وتحدَّث الشرطي.
«ياقة مخملية. المضحك أن المرأة العجوز لاحظت الياقة المخملية. معطف أزرق داكن له ياقة مخملية، هي أخبرتنا بذلك. إنه الرجل الذي رأته، بلا شك. وها هو كل ما تبقَّى منه، الياقة المخملية وكل شيء. لا أظنُّ أنني أغفلت قطعةً واحدةً حتى لو كانت بحجم طابع بريد.»
في هذه اللحظة، توقف كبير المفتِّشين صاحب القُدرات المُتمرِّس عن الاستماع إلى صوت الشرطي. تحرك تجاه إحدى النوافذ من أجل إضاءة أفضل. أشاح بوجهِه عن الغرفة، وارتسم عليه تعبير ينمُّ عن اهتمام مذهول بالغ وهو يتفحَّص عن كثب قطعة القماش الكبيرة ذات الشكل المثلث. بحركة مُفاجئة جذبها وفصلها، وبعد أن وضعها في جيبه استدار إلى الغرفة، ورمى الياقة المخملية على الطاولة مرة أخرى …
أمر الحاضرين باقتضاب قائلًا: «غطوه.» دون أن ينظر مرة أخرى، وبعدما ألقى الشرطي عليه التحية، حمل ما أخذه وانطلق على عجل.
أقلَّه قطار قريب إلى المدينة؛ إذ سافر بمفرده مُستغرقًا في التفكير، في مقصورة في الدرجة الثالثة. كانت قطعة القماش المحترقة تلك ذات قيمة كبيرة للغاية، ومِن ثَمَّ لم يَستطِع أن يَمنع نفسه من أن يندهش من الطريقة العرضية التي أصبحت بها في حوزته. بدا وكأن القدر قد رمى هذا الدليل بين يديه. وبطريقة الرجل العادي، الذي يطمح إلى الإمساك بدفَّة الأحداث، بدأ يَفقد الثقة في هذا النجاح غير المبرَّر والعرضي، لمجرد أنه بدا مفروضًا عليه. تَعتمِد القيمة الفعلية للنجاح، بقدر ليس بالقليل، على منظور الفرد. ولكن القدر ليس له منظور. إنه لا يَمتلك قُدرة على التمييز. لم يَعُد يَعتبِر أنه من المرغوب فيه بقدر كبير من كل النواحي إعلان هوية الرجل الذي كان قد فجَّر نفسه في ذلك الصباح بتلك الطريقة المروعة. ولكنه لم يكن واثقًا من وجهة النظر التي ستَتبنَّاها إدارته. تُمثِّل الإدارة لأولئك الذين تُوظِّفُهم شخصيةً معقَّدةً تتمتع بأفكارها وحتى نزعاتها الخاصة. إنها تَعتمد على التفاني المخلص من موظفيها، والإخلاص المتفاني من الموظفين الموثوق فيهم مرتبط بقدر معيَّن من الاحتقار الودود، مما يُبقي الأمر محبَّبًا، إن جاز التعبير. وبناءً على بندٍ خَيِّر في الطبيعة، لا يوجد رجل يراه خادمه بطلًا، وإلا لاضطر الأبطال إلى غسل ملابسهم بأنفسهم. وبالمثل، لا توجد إدارة حكومية تبدو حكيمة تمامًا في العلاقة مع العاملين بها. لا تعرف الإدارة الحكومية بقدر ما يعرف بعض الموظفين لديها. ولكونها كيان نزيه، فلا يمكن أبدًا أن تكون على إلمام كامل بكل شيء. فالإلمام بمعلومات أكثر من اللازم لن يكون جيدًا لكفاءتها. نزل كبير المفتشين هيت من القطار وهو في حالة تأمُّل لا تشوبها الخيانة على الإطلاق، ولكنها لم تخلُ من انعدام الثقة النابع من الغيرة الذي غالبًا ما يَنبع من التفاني التام، سواء تجاه النساء أو تجاه المؤسسات.
كان في هذه الحالة العقلية، التي فصلتْه عن الواقع، ولكنه كان لا يزال يشعر بالغثيان ممَّا رآه، عندما لاقى البروفيسور. في ظلِّ هذه الظروف التي تُدخِل الغضبَ إلى قلب أيِّ رجلٍ سليم وطبيعي، لم يكن هذا اللقاء مرحَّبًا به من جانب كبير المفتِّشين هيت على وجه الخصوص. لم يكن يفكر في البروفيسور؛ بل إنه لم يُفكِّر في أيِّ فرد من جماعة اللاسلطويين على الإطلاق. كانت طبيعة تلك القضية قد فرضت عليه بطريقة ما فكرةً عامَّة عن عبثية الكائنات البشرية، التي هي من الناحية المجرَّدة مُزعِجة كثيرًا لمزاج غير فلسفي، وفي حالات محدَّدة تُصبح مُثيرة للسخط بدرجة تفُوق تحمُّله. لما خطا كبير المفتِّشين هيت أولى خطواته في مسيرته المهنية، اهتم بالقضايا المعنية بأشكال السرقة الرائجة في ذلك الوقت. وأثبت مهارته في هذا المجال، وبطبيعة الحال لازَمَه نحوه، بعد ترقيته إلى إدارة أخرى، إحساسٌ ليس بعيدًا كل البعد عن المودة. السرقة ليست عبثًا محضًا. السرقة شكلٌ من العمل البشري، عمل مُنحرِف بلا ريب، لكنه يظلُّ عملًا يُمارَس في عالم كادح؛ فالسارق يَسرق من أجل الأسباب نفسها التي يَستند إليها عامل الفخار، والعامل في المناجم، وفي الحقول، وفي ورش الحِدادة. إنها عمل يختلف عن أشكال الأعمال الأخرى في طبيعة المخاطَرة فيه، التي لا تكمن في الإصابة بتصلُّب المفاصِل، أو بتسمُّم الرصاص، أو بغاز المناجم، أو بالغبار الرملي، ولكن فيما يُمكن تعريفه بإيجاز بلغته الخاصة في عبارة «سبع شداد». بالطبع، لم يكن يخفى على كبير المفتشين هيت خطورة الاختلافات الأخلاقية. ولكنها لم تكن تَخفى أيضًا على اللصوص الذين كان يُلاحقهم فيما مضى. فقد خضعوا لعقوبات صارمة جرَّاء أخلاقيات كان كبير المفتِّشين هيت يألفها بقدر من التنازُل.
كان كبير المفتِّشين هيت يعتبر هؤلاء مواطنين سلكوا مسلكًا خاطئًا بسبب تعليم معيب؛ ولكن مع مراعاة هذا الاختلاف، أمكنه فهم عقلية السارق؛ لأنَّ عقلية السارق وغرائزه، في حقيقة الأمر، مُماثلة لعقلية رجل الشرطة وغرائزه. كلاهما يَعرف الأعراف نفسها، ولديهما معرفة عملية بأساليب الآخر وطريقة العمل التي دأب عليها. إنهما يَفهمان بعضهما بعضًا، وتلك ميزة لكل منهما، وتُنشئ نوعًا من الارتياح في العلاقات بينهما. إنهما يَنطلِقان من منبع واحد، ولكن أحدهما يُصَنَّف على أنه مُفيد والآخر يُصَنَّف على أنه ضار، ويأخُذان المنبع الذي يَنبعان منه باعتباره أمرًا مُسَلَّمًا به بطريقتَين مختلفتَين، ولكن بالجدية نفسها بالأساس. تعذر على عقل كبير المفتِّشين هيت أن يستوعب الأفكار الثورية. ولكن اللصوص لم يكونوا ثوارًا. ضمنت له قوته الجسدية، وطريقته الباردة الحازمة، وشجاعته، وإنصافه، احترامًا كبيرًا وقدرًا من التملُّق في المجال الذي حقق فيه بعض النجاحات في البداية. شعر بأنه يَحظى بالتقدير والإعجاب. وبينما كان كبير المفتشين هيت واقفًا على بُعدِ ست خطوات من اللاسلطوي الملقَّب بالبروفيسور، راوده إحساس بالأسف على عالم اللصوص؛ عالم مُتعقِّل، بلا مُثُلٍ سقيمة، يعمل وفق روتين محدَّد، ويَحترم السلطات القائمة، ولا يحمل في قلبه كراهية أو يأسًا من أيِّ شكل.
بعد هذه الإشادة بما هو طبيعي في دستور المجتمع (لأن فكرة السرقة بدت لغريزته طبيعية مثل فكرة التملك)، شعر كبير المفتشين هيت بغضب شديد من نفسه لأنه توقف وتحدث وسلك هذا الطريق على أساس أنه طريق مختصر من محطة القطار إلى المقر الرئيسي للشرطة. وتحدث مرة أخرى بصوته الآمر الجهير، الذي، عندما أخفضه، اتَّسم بنبرة تهديد.
كرر: «قلتُ لك إنك لست مطلوبًا.»
لم يُحرِّك اللاسُلطوي ساكنًا. ضحك ضحكة ساخرة مكتومةً لم تُبدِ نواجذَه فحسب، بل لثتَه أيضًا، وجعلت جسده كله يَهتز، ولكن من دون أن يَصدُر منه أي صوت. دفع ذلك كبير المفتِّشين هيت إلى أن يُضيف، مُخالفًا ما تمليه عليه نفسه:
«ليس بعد. عندما أريدك، سأَعرف أين أجدك.»
كانت تلك كلمات مناسبة تمامًا؛ إذ كانت في إطار التقاليد وملائمة لشخصيته بصفته ضابط شرطة يخاطب فردًا من قطيعه. ولكن التلقِّي الذي حظيت به خرج عن التقاليد واللياقة. كان تلقيًا مُهينًا. وأخيرًا، تحدث الرجل الضعيف الجسم الواقف أمامه.
«ليس لديَّ شك في أن الصحف ستمنحك عندئذٍ خبر نعي. وأنت أدرى بقيمة ذلك لك حينها. أظنُّ أنه لن يصعب عليك تخيُّل العبارات التي ستُكتب. ولكن قد يُحالفك سوء الحظ وتُدفن معي، على الرغم من أنني أظن أن أصدقاءك سيُحاولُون قدر استطاعتهم ألَّا نُدفَن معًا في مكان واحد.»
مع كل ازدرائه المستحَق للشخص الذي يُدلي بهذه العبارات، كان للتلميحات المرعبة التي تنطوي عليها أثرها على كبير المفتشين هيت. كان لديه نفاذ بصيرة وإلمام بمعلومات كثيرة أيضًا، مما منعه من أن يتجاهلها ويعتبرها هراءً. استمد الغسق في ذلك الزقاق الضيق مسحةً شريرةً من هيئة الرجل اللئيم الضعيف الضئيل، الذي كان يقف مُولِّيًا ظهره للحائط، ويتحدَّث بصوت منخفض واثق. أحسَّ كبيرُ المفتِّشين، القوي والمُفعَم بالحيوية، بأن الحالة الجسَدية الوضيعة التي يُرثى لها لذلك الكائن، الذي كان من الواضِح أنه لم يكن جديرًا بأن يَحيا، كانت نذير سوء؛ إذ بدا له أنه إن كان سوء طالع هذا الكائن قد جعله بهذه الحالة التي يُرثى لها، فإنه ما كان سيأبه بتوقيت موتِه. كانت الحياة تُسيطِر عليه بشدة لدرجة أن موجةً جديدةً من الغثيان ظهرت على هيئة عرق طفيف على جبينِه. تَناهى إلى سمعِه عبر مُنعطَف الزقاق القذر هَمسُ حياة المدينة، وقعقعةُ العجلات الخافتة في الشارعَين غير المرئيَّين على اليمين والشمال، بأُلفة غالية وعذوبة جذابة. كان إنسانًا. ولكن كبير المفتِّشين هيت كان هو الآخر إنسانًا، ولم يكن بوسعه أن يترك كلمات كهذه تمر.
قال: «كلماتك هذه كلها مُفيدة لتخويف الأطفال. سأنال منك حينها.»
قيلت تلك الكلمات بنبرة جيدة جدًّا، دون ازدراء، وبهدوء كاد أن يكون صارمًا.
كان رده: «لا شك عندي في ذلك؛ ولكن لا وقت أفضل من الآن، صدِّقني. بالنسبة لرجل ذي قناعات حقيقية، هذه فرصة رائعة للتضحية بالنفس. قد لا تجد فرصة أخرى سانحة ولا إنسانية كتلك الفرصة. لا توجد حتى هرة بالقُرب منَّا، وهذه البيوت القديمة البغيضة ستتحوَّل إلى كومة عالية من الطوب حيث تقف. لن تنال منِّي مُجدَّدًا بهذه التكلفة القليلة جدًّا من الأرواح والمُمتَلَكات، التي تتقاضى راتبك مقابل حمايتها.»
قال كبير المفتشين هيت بنبرة حازمة: «أنتَ لا تَعرف مع مَن تتكلَّم. لو أمسكت بك الآن، فلن أكون أفضل منك.»
«آه! إنها اللعبة!»
«كن متأكدًا من أن النصر سيكون حليفنا في النهاية. ومع ذلك قد يكون من الضروري أن نقنع الناس بأنه يجب إطلاق النار على بعضكم مثل الكلاب المسعورة. عندئذٍ، ستكون تلك هي اللعبة. ولكن لتحلَّ عليَّ اللعنة لو كنت أعرف ما لعبتكم. لا أعتقد أنكم أنفسكم تَعرفون. لن تظفروا بأي شيء منها.»
«في الوقت الحالي أنتم من يظفر بشيء منها، حتى الآن. وتظفرون به بسهولة، أيضًا. لن أتحدث عن راتبك، ولكن ألم تصنع اسمك بمجرد عدم فهم ما نسعى نحن إليه؟»
سأله كبير المفتشين هيت، بسرعة تتَّسم بالتهكُّم، مثل رجل في عجلة من أمره يدرك أنه يهدر وقته: «وما الذي تسعون إليه إذن؟»
كان جواب اللاسلطوي المثالي ابتسامةً لم تُفارِق شفتَيه الرفيعتَين الشاحبتين؛ وشعر كبير المفتشين بتفوقه مما دفَعَه إلى أن يرفع إصبعه محذرًا.
قال بنَبرة محذِّرة، لكن لم تتَّسم باللطف كما لو كان يتنازل بإعطاء نصيحة جيدة للص ذائع الصيت: «توقفوا عما تفعلونه؛ أيًّا كان. توقفوا عما تفعلونه. ستجدون أننا كثيرون جدًّا ولا يُمكنكم أن تتغلَّبوا علينا.»
اضطربت الابتسامة التي لم تفارق شفتَي البروفيسور، وكأن الروح الساخرة بداخله قد فقدت الثقة في نفسها. تابع كبير المفتشين هيت قائلًا:
«ألا تُصدقني؟ حسنًا، ليس عليك سوى أن تنظر حولك. إننا كثر. وعلى أيِّ حال، أنت لا تجيد ما تفعل. إنك دائمًا ما تُفسد الأمر. عجبًا، لو كان اللصوص لا يُحسنون عملهم، كانوا سيتضوَّرون جوعًا.»
التلميح إلى الكثرة التي لا تُقهَر وتقف في ظهر ذلك الرجل أوغر صدر البروفيسور بسخط نكد. اختفت الابتسامة الغامضة والساخرة عن شفتَيه. كانت قوة الأعداد المُقاوِمة، والصلابة المنيعة لكثرة عظيمة، هما منبع الخوف الذي يُطاردُه في وحدته المشئومة. ارتجفت شفتاه قليلًا قبل أن يتمكَّن من الحديث بصوت مُختنق:
«إنني أؤدِّي عملي أفضل من أدائك لعملك.»
قاطعه كبير المفتِّشين هيت بتعجل: «هذا يكفي في الوقت الحالي.» وضحك البروفيسور بصوت عالٍ هذه المرة. بينما كان لا يَزال يَضحك، انطلق في طريقه، ولكنه لم يَضحك لفترة طويلة. كان من خرج من الممر الضيق إلى صخب الطريق الواسع رجلٌ ضئيل الحجم حزينُ الوجه وبائس. انطلق في طريقه مقتصدًا ومن دون انفعال يَمشي مشيةَ مُتشرِّد متابعًا سيره، ولا يزال يتابع سيره، غير مُبالٍ بمطر أو شمس، شارد الذهن عن ظواهر السماء والأرض. وعلى الجانب الآخر، بعد أن ظلَّ كبير المفتِّشين هيت يُراقبه لفترة من الوقت، وخرج يَمشي بنشاط رجل لا يبالي حقًّا بقسوة الطقس، ولكن نصب عينَيه مُهمة رسمية أوكلت إليه على هذه الأرض والدعم المعنوي ممَّن هم على شاكلته. كل قاطني تلك المدينة الضخمة، وسكان البلد كله، وحتى الملايين الحاشدة من الناس الذين يكافحون على هذا الكوكب كانوا معه؛ وصولًا إلى اللصوص والمتسوِّلين أنفسهم. نعم، لا ريب في أن اللصوص أنفسهم كانوا بالتأكيد معه في عمله الحالي. شجَّعه وعيُه بأن العالم يسانده على أن يتصدى لتلك المعضلة الخاصة.
كانت المُعضِلة التي واجهها كبير المفتِّشين تتمثَّل في إقناع المفوض المساعد في إدارته، أي رئيسه المباشر. هذه هي المعضلة التي دائمًا ما يُواجُهها الموظفون الموثوق فيهم والمُخلِصون؛ وأضفت عليها اللاسلطوية طابعًا خاصًّا، لا أكثر. وحقيقة القول، لم يُفكِّر كبير المفتِّشين هيت كثيرًا في حركة اللاسُلطوية. لم يُولِها أهمية لا داعي لها، ولم يَستطع أن يحمل نفسه على التفكير فيها بجدية. كان الطابع الغالب عليها هو السلوك غير المُنضبِط؛ غير مُنضبِط دون وجود عذرٍ بشَريٍّ مثل السُّكر، الذي يَنطوي على أيِّ حالٍ على شعور جيد وميل محبَّب إلى اللهو الصاخب. ومثلما هو الحال مع المجرمين، كان من الواضح أن اللاسُلطويين لم يُمثِّلوا طبقة اجتماعية معيَّنة؛ لم ينتموا إلى أيِّ طبقة على الإطلاق. لما تذكر كبيرُ المفتشين هيت البروفيسور، دون أن يُدقِّق في خطواته المتمايلة، تمتمَ عبر أسنانه المُطبَقة:
«معتوه.»
كان القبض على اللصوص مسألةً مختلفةً تمامًا. كانت له تلك النوعية من الجدِّية التي تَندرِج ضمن كل شكل من أشكال الرياضة المفتوحة حيث يفوز الأفضل وَفق قواعد مفهومة تمامًا. لم تكن تُوجَد قواعد للتعامُل مع اللاسُلطويِّين. وكان كبير المفتشين يعتبر هذا أمرًا مقيتًا. كانت كلها حماقة، ولكن تلك الحماقة هيَّجت الرأي العام، وأثَّرت على أفراد في مناصب مرموقة، ومست العلاقات الدولية. ارتسم على وجه كبير المفتِّشين ازدراء شديد وصارم بينما كان يتابع سيره. راجع في عقله كل اللاسُلطويين الذين يعرفهم. لم يكن أي أحد يمتلك نصف الشجاعة التي لمسها في هذا أو ذاك من اللصوص الذين عرفهم. لا نصفها ولا حتى عُشرها.
في المقر الرئيسي للشرطة أُدْخِل كبير المفتشين على الفور إلى المكتب الخاص للمفوض المساعد. وجده مُمسكًا قلمًا بيده ومُنحنيًا فوق مكتب كبير تتناثر عليه الأوراق، وكأنه يتعبَّد لمحبرة مزدوجة كبيرة من البرونز والكريستال. كانت أنابيب التواصُل بين الغرف التي تُشبه الثعابين مثبتة من رءوسها خلف الكرسي الخشبي ذي الذراعين الذي يجلس عليه المفوض المساعِد، وبدت أفواهها الفاغرة وكأنها مُستعدَّة للدغ مرفقَيه. وفي هذا الوضع، لم يرفع سوى عينَيه، اللذين كان جَفناهما أغمق من وجهِه ومُجعدين جدًّا. كانت التقارير قد ورَدَت إليه؛ كان قد تلقَّى حصرًا بكل لا سُلطوي.
بعدما تلفَّظ بتلك الكلمات، أخفض عينَيه، ووقَّع بسرعة ورقتين، وعندئذٍ فقط وضع قلمه، واعتدل في جلسته، مُوجِّهًا نظرةً متسائلةً باتجاه مرءوسه ذائع الصيت. تفهم كبير المفتِّشين جيدًا تلك النظرة، وأظهر الاحترام، إلا أنه ظلَّ غامضًا.
قال المفوض المساعد: «أظنُّ أنك كنتَ مُصيبًا لما قلت لي منذ البداية إنَّ اللاسُلطويين في لندن لم يكن لهم صلة بهذا الأمر. إنني أقدر كثيرًا مراقبة رجالك اليقظة لهم. وعلى الجانب الآخر، هذا لا يرقى، لدى العامة، إلى أكثر من اعتراف بالجهل.»
كان المفوض المساعد مُتروِّيًا في حديثه، وحريصًا في الوقت نفسه. بدا وكأنَّه يُفكِّر في الكلمة قبل أن يَلفظها وينتقل إلى أخرى، وكأن الكلمات كانت هي الأحجار التي يخطو عليها عقله في طريقه لعبور نهر الزلات. ثم أردف: «إلا إذا كنت قد جلبت شيئًا مُفيدًا من جرينتش.»
بدأ كبير المفتِّشين على الفور في عرض تحقيقه بطريقة واضِحة وعملية. استدار رئيسه بكرسيِّه قليلًا، ووضع إحدى رجليه الرفيعتَين فوق الأخرى، واتَّكأ جانبًا على مرفقِه، وظلَّل عينيه بإحدى يديه. اتخذت جِلسته وهو يَستمع شكلًا مائلًا وحزينًا. تحرَّكت خصلات تبدو وكأنها من فضة مصقولة ولامعة على جانبَي رأسه المكسو بشعر شديد السواد حينما أماله ببطء في نهاية الأمر.
انتظر كبير المفتِّشين هيت وكأنه يُقَلِّب في عقله كل ما قاله، ولكنه كان في الحقيقة يُفكِّر في مدى ملاءمة أن يُضيف شيئًا آخر. اختصر المفوِّض المساعد تردَّده.
سأله من دون أن يكشف عينَيه: «هل تَعتقد أنه كان يوجد رجلين؟»
اعتقدَ كبيرُ المفتِّشين أن الأمر مُرجح. حسب رأيه، افترق الرجلان عن بعضهما على بعد مائة ياردة من أسوار المرصَد. وشرح أيضًا الكيفية التي ربما يكون الرجل الآخر قد تمكَّن بها من الخروج من الحديقة بسرعة من دون أن يُلاحظه أحد. فمع أن الضباب لم يكن كثيفًا جدًّا، إلا أنه كان في صالحه. يبدو أنه أرشد الرجل الآخر إلى موقع الحادث، ثم تركه هناك كي يُنفذ المهمة بمفردِه. آخذًا في الاعتبار الوقت الذي رأت فيه المرأة العجوز هذَين الرجلين يَخرُجان من محطة ميز هيل، والوقت الذي سُمع فيه الانفجار، ارتأى كبير المفتِّشين أن الرجل الآخر ربما كان في محطة جرينتش بارك بالفعل، مستعدًّا لركوب القطار التالي، في اللحظة التي كان فيها رفيقه يدمر نفسه تدميرًا.
تمتم المفوض المساعد ويده فوق فمِه: «دمَّر نفسه تدميرًا؛ أليس كذلك؟»
وصف كبير المفتِّشين ببضع كلمات قوية، شكل الرفات. وأردف بوجه عابس: «ستتلقى هيئة الطب الشرعي شيئًا مميزًا.»
رفع المفوض المساعد يده من فوق عينَيه.
قال بفتور: «لن يكون لدينا ما نُخبرهم به.»
رفع ناظرَيه، ولبعض الوقت راقب سلوك كبير مفتِّشيه الذي كان واضحًا أنه لا يُعبِّر عن رأي صريح. كان من طبيعته عدم الانقياد بسهولة إلى الأوهام. كان يَعرف أن الإدارة تحت رحمة الضبَّاط الذين يرأسُهم، الذين كانت لديهم مفاهيمهم الخاصة عن الولاء. كانت حياته المهنية قد بدأت في مُستعمَرة استوائية. وكان قد أحب عمله هناك. كان عملًا شُرَطيًّا. كان ناجحًا للغاية في تعقُّب بعض الجماعات السرية الشنيعة وسط السكان الأصليِّين وتفكيكها. ثم أخذ إجازة طويلة، وتزوَّج باندفاعٍ نوعًا ما. كانا يُشكِّلان ثنائيًّا جيدًا من وجهة نظر دنيوية، لكن زوجته كوَّنت رأيًا سلبيًّا عن المناخ الاستعماري استنادًا إلى أدلة قائمة على أقوال مرسلة. ومن ناحية أخرى، كانت لديها علاقات مع أطراف من ذوي النفوذ. كانا يُشكِّلان ثنائيًّا ممتازًا. ولكنه لم يكن يُحب العمل الذي كان عليه القيام به الآن. شعر بأنه كان معتمدًا على عدد أكثر من اللازم من المرءوسين والرؤساء. أثقل كاهل روحه وجوده عن قرب من تلك الظاهرة العاطفية الغريبة المسمَّاة بالرأي العام، كما أقلقتْه طبيعتها غير العقلانية. لا شكَّ في أنه عن جهل منه بالغ في قوتها في الخير والشر، خاصَّةً في الشر؛ وزادت الرياح الشرقية العاصفة للربيع الإنجليزي (مُتوافقًا مع زوجته في ذلك) من فقدان ثقته عمومًا في دوافع الرجال وفي كفاءة تنظيمهم. أفزعه عدم جدوى العمل المكتبي بخاصَّة في تلك الأيام المرهقة جدًّا لكبده الحساس.
نهض، ووقَف مُنتصبًا، وبخُطًى مُتثاقِلة يُمكن ملاحظتها في رجل بمثل نُحولِه، مشى عبر الغرفة إلى النافذة. انهمرت زخات المطر على الألواح الزجاجية، وكان الشارع القصير الذي نظر إليه مبتلًّا وخاليًا من المارة، وكأن فيضانًا عظيمًا اجتاحه فجأة. كان يومًا عصيبًا جدًّا؛ إذ بدأ بضباب خانق وانتهى الآن بمطرٍ باردٍ غامر. بدت ألسنة اللهب الوامضة والخافتة التي تُشعُّها مصابيح الغاز وكأنها تذوب في هذا الجو المطير. وظهرت الحجج المتغطرسة للبشر الذين قمعهم إذلال سوء الطقس وكأنها غرور هائل وعديم الجدوى يستحقُّ السخرية والعجب والشفقة.
فكَّر المفوض المساعد بينه وبين نفسه، ووجهه قريب من زجاج النافذة: «رهيب، يا له من أمر رهيب! إننا نُكابد هذه الحال منذ عشرة أيام؛ كلا، بل منذ أسبوعين، نعم أسبوعين.» توقف عن التفكير تمامًا لبعض الوقت. استمرَّ هذا السكون التام لدماغه قرابة ثلاث ثوانٍ. ثم قال بملل: «هل أجريت تحقيقات سيرًا على الأقدام لتتبُّع آثار ذلك الرجل الآخر من بداية الأحداث وحتى نهايتها من أجل تعقبه؟»
لم يكن لديه شكٌّ في أن جميع الإجراءات اللازمة قد اتُّخذت. بالطبع، كان كبير المفتِّشين هيت يعرف جيدًا كيفية مطاردة رجل. وكانت هذه أيضًا هي الخطوات الروتينية التي يتبعها حتى المبتدئون في سياق عملهم. يُمكن لبضع تحقيقات مع صرافي التذاكر والحمَّالين في محطتي القطار الصغيرتين أن تُعطيَ تفاصيل إضافية عن مظهر الرجلين؛ وسيُظْهِر على الفور فحص التذاكر التي جُمعت من أين جاءا صباح ذلك اليوم. كانت هذه إجراءات بديهية، ولا يُمكن تجاهلها. وبناءً على ذلك، أجاب كبير المفتِّشين بأن كل هذه الإجراءات قد تمَّت مباشرةً بعد أن تقدمت المرأة العجوز وأدلَت بشهادتها. كذلك ذكر اسم المحطة. وأردف: «تلك هي المحطة التي جاءوا منها، يا سيدي. الحمَّال الذي أخذ التذاكر في محطة ميز هيل تذكَّر شابَّين تَتطابق أوصافُهما مع ما ذُكر ورآهما وهما يجتازان الحاجز. أوحى له مظهرهما بأنهما عاملان مُحترمان يعملان عملًا راقيًا، رساما لافتات أو مُصمِّما ديكورات منازل. خرج الرجل الضخم من مقصورة الدرجة الثالثة من الباب الخلفي، وفي يده عبوة من القصدير اللامع. وعلى الرصيف، أعطاها للشاب ذي الشعر الأشقر والبشرة الشاحبة الذي حملها وتبعه. كل هذه الأوصاف تتفق اتفاقًا تامًّا مع ما ذكرته السيدة العجوز لرقيب الشرطة في جرينتش.»
أعربَ المُفوَّض المساعد، الذي كان لا يزال موليًا وجهه تجاه النافذة، عن شكِّه في أن لهذين الشابَّين علاقة بالاعتداء. كانت هذه النظرية كلها تَستند إلى أقوال امرأة عجوز كادَت أن تسقط لما اصطدم بها رجل في عجلة من أمره. بالتأكيد لم تكن تلك حُجةً قوية، إلا إذا استندت إلى إلهامٍ مُفاجئ، وهو ما كان يَصعُب الأخذ به.
تساءل بسخرية لاذعة: «والآن بصراحة، هل يُمكن أن يكون قد نزل عليها إلهام حقًّا؟» وظل موليًا ظهره للغرفة، كما لو كان مفتونًا بصُروح المدينة الهائلة التي اختفى نصفُها في عتمة الليل. لم ينظر حوله حتى عندما سمع تمتمة تتلفَّظ بكلمة «العناية الإلهية» من أكبر الموظفين لديه في إدارته، الذي كان اسمه يُكتَب في بعض الأحيان في الصحف، ويَعرفه الناس باعتباره واحدًا من حماة الوطن الغيورين والكادحين. رفع كبير المفتِّشين هيت صوته قليلًا.
قال: «رأيت رأي العين قطعًا وأجزاء من القصدير اللامع. ذلك دليل جيد للغاية.»
فكَّر المُفوَّض المساعِد مُتسائلًا بصوتٍ عالٍ: «وهذان الرجلان أتيا من محطة ريفية صغيرة.» كان قد قيل له بأن هذا هو الاسم الذي كان على تذكرتَين من ثلاث تذاكر قدَّمها أصحابها الذين نزلوا من ذلك القطار في محطة ميز هيل. الشخص الثالث الذي نزل من القطار كان بائعًا متجولًا من جريفسيند معروف للحمَّالين. نقل كبير المفتشين تلك المعلومات بنبرة حاسمة يتخللها بعض الجفاء، كما يفعل الموظَّفُون المخلصون المدركون لإخلاصهم مع الإحساس بقيمة جهودهم المتفانية. وكان المفوض المساعد لا يزال لم يحوِّل نظره عن النافذة المطلَّة على الظلام بالخارج، الذي كان يُشبه البحر في اتساعه.
قال وهو لا يزال ينظر إلى زجاج النافذة: «اثنان من اللاسلطويين الغُرَباء أتيا من ذلك المكان.» «هذا أمر غير قابل للتفسير نوعًا ما.»
«نعم يا سيدي. وسيظلُّ غير قابل للتفسير لو لم يكن المدعو ميكايليس يقطن في بيت صغير في الجوار.»
عندما سمع المفوض المساعِد ذلك الاسم، يأتي ذكره على نحو غير متوقَّع في هذه القضية المُزعجة، صرف بعنف عن ذهنِه الذِّكرى الضبابية عن تجمُّعه اليومي الذي يُقام في ناديه للعب الويست (إحدى ألعاب ورق اللعب). كانَت أكثر عادة تُريحه في حياته؛ إذ كانت في المقام الأول عرضًا ناجحًا لمهارته دون مُساعَدة من أيٍّ من مرءوسيه. كان يدخل إلى ناديه ليلعب من الساعة الخامسة إلى السابعة، قبل أن يذهب إلى المنزل لتناول العشاء، مُتناسيًا في هاتَين الساعتَين أي هموم في حياته، وكأن اللعبة كانت مخدرًا مُفيدًا لتخفيف آلام الاستياء الأخلاقي. كان شركاؤه كاتب فكاهة ساخرًا في مجلة مشهورة؛ ومُحاميًا مُسنًّا كتُومًا ذا عينين صغيرتَين تشيان بخبث؛ ورجلًا عسكريًّا رفيع المستوى، كولونيل عجوزًا بسيطًا ذا يدَين بُنِّيتَين مُتوترتَين. كانوا مجرد معارف له من النادي. لم يُقابلهم في أيِّ مكانٍ إلا على طاولة اللعب. ولكن على ما يبدو أن جميعهم كانوا يتعامَلُون مع اللعبة بروح من يتقاسمون المعاناة، وكأنها مخدر حقيقي لتخفيف أسقام الوجود الخفية؛ وفي كل يوم بينَما تَنحسِر الشمس عن أسطح أبنية المدينة التي لا تُعَد ولا تحصى، كان تلهُّفه عذب ممتع، يشبه الاندفاع نحو صداقة أكيدة وعميقة، يُخفِّف من أعباء عمله. والآن، خرج منه هذا الإحساس المُمتع بشيء يُشبه الصدمة الجسدية، وحل محله نوع خاصٌّ من الاهتمام بعمله في حماية المجتمع؛ نوع غير مُناسِب من الاهتمام، الذي يُمكن تعريفه على أفضل نحوٍ بأنه انعدام ثقة مُفاجِئ وحذر في السلاح الذي في يده.