الفصل السادس
كانت السيدة الراعية لميكايليس — صاحب الإفراج المشروط، ونصير الآمال الإنسانية — واحدة من أكثر المعارف تأثيرًا وتميزًا لدى زوجة المفوَّض المساعِد، التي كانت تدعوها آني، وكانت لا تزال نوعًا ما تُعاملها على أنها فتاة غير حكيمة وعديمة الخبرة تمامًا. ولكنها كانت قد وافقت على أن تقبل المفوض المساعد صديقًا، وهو ما لم يكن عليه الحال على الإطلاق مع جميع معارف زوجته النافذين. وإذ تزوجت في سنٍّ صغيرة وفي ريعان شبابها في حقبة بعيدة من الماضي، كانت قد أمضت فترة من الزمن كانت فيها على مقربة من شئون عظيمة، وحتى من بعض الرجال العظماء. كانت هي نفسها سيدة عظيمة. والآن مع تقدمها في العمر، كانت محتفظة بذلك المزاج الاستثنائي الذي يتحدى الزمن بازدراء واستخفاف، كما لو كان بالأحرى عُرفًا مبتذلًا يخضع له من هم دونها منزلةً. للأسف، لم تحظَ أعراف كثيرة أخرى، كانت أيسر في تنحيتِها جانبًا، باهتمامها، أيضًا بناءً على أسباب مزاجية، إما لأنها سئمَت منها، أو لأنها وقفت عائقًا أمام استخفافها وتعاطفها. كان الإعجاب شعورًا لم تُجرِّبه (كان هذا واحدًا من دواعي حزن زوجها شديد النُّبل منها، والتي كان يُخفيها عنها)؛ أولًا، لكونه دومًا مشوبًا بصورة أو بأخرى بالضعف، ثم لكونِه بطريقة ما اعتراف بالنقص. وكلا الأمرَين كانا في الحقيقة، مُستبعدين من طبيعتها. كان سهلًا عليها أن تكون صريحة بلا خوف في التعبير عن رأيها؛ لأنها لم تكن تحكم على الأمور إلا من منظور وضعها الاجتماعي. كانت بنفس القدر غير مُقيَّدة في تصرفاتها؛ ولما كانت لباقتها نابعة من إنسانية متأصِّلة فيها، وحيويتها لا تزال مدهشة، وتفوُّقها لا يزال صافيًا ومتَّقدًا، ظلت محط إعجاب بلا حدود على مدى ثلاثة أجيال، وفي آخر جيل كان من المُحتمَل أن تُعاصره كان يقال عنها إنها امرأة رائعة. كانت في الوقت الحالي امرأة ذكية، تتمتَّع بقدر من البساطة النبيلة، وفضول متأصل فيها، ولكن على خلاف كثير من النساء اللواتي لم يكن يَشغلهنَّ سوى النميمة الاجتماعية، كانت تتسلَّى في سنها هذه بأن تجتذب إلى نطاق معرفتها، بفضل قوة مكانتها الاجتماعية العظيمة، التي كادَت أن تكون تاريخية، كل شيء كان يسمو فوق مستوى البشر، بطريقة قانونية أو غير قانونية، من خلال المكانة، أو الذكاء، أو الجرأة، أو الحظ، أو سوء الحظ. كانت تَستقبِل في ذلك المنزل أصحاب السمو الملَكي، والفنَّانين، ورجال العلم، ورجال الدولة الشباب، والدجالين من جميع الأعمار والظروف، الذين كانوا يَظهرون على السطح من دون أن يكون لهم وزن، فيُظهرون على أحسن وجهٍ اتجاهَ التيارات السطحية، وكانت تَستمِع إليهم، وتسبر أغوارهم، وتفهمُهم، وتُقدِّرهم، من أجل تثقيف نفسها. على حدِّ تعبيرها، كانت تحب أن ترصد إلى أين يتجه العالم. وبما أنها كانت تمتلك عقلية عملية، فإن حكمها على الرجال والأمور، على الرغم من استناده إلى تحيزات خاصة، نادرًا ما كان خاطئًا تمامًا، ونادرًا ما كانت تتشبَّث بحكم خاطئ. ربما كانت غرفة الاستقبال لديها هي المكان الوحيد في العالم الذي يُمكن للمُفوض المساعد أن يقابل فيه مدانًا أُخليَ سبيلُه بمُوجب إفراج مشروط لأسباب غير مهنية أو رسمية. لم يكن المفوض المساعد يتذكر جيدًا من الذي كان قد أحضر ميكايليس إلى هناك بعد الظهيرة في أحد الأيام. كان يظن أن من أحضره لا بدَّ أنه كان عضوًا برلمانيًّا ينحدر من أسرة عريقة ولديه مشاعر تعاطف غير تقليدية، واعتادت الصحف الساخرة أن تتخذَه أضحوكة في مواضيعها. كان أصحاب الوجاهة وحتى ذوو الشهرة البسيطة في ذلك الوقت يجلبون رفاقهم بحرية إلى ذلك المزار الخاص بسيدة ذات فضول نَبيل. لا يُمكنك أبدًا تخمين من الذي من المحتمل أن تقابله عند استقباله ببعض الخصوصية بين ثنايا الحاجز الحريري الأزرق الباهت ذي الإطار المُذهَّب، الذي كان يُشَكِّل خلوة مريحة فيها أريكة وعدد من الكراسي ذات الذراعين في غرفة الاستقبال الكبيرة، التي تختلط فيها الأصوات ومجموعات من الأفراد الجالسين أو الواقفين في ضوء ست نوافذ طويلة.
كان ميكايليس محلَّ اشمئزاز من الشعور الشعبي، وهو نفس الشعور الذي كان قد استحسَنَ منذ سنوات ضراوة عقوبةٍ بالسجن المؤبَّد صدرت في حقه لتورطه في محاولة جنونية لإنقاذ بعض السجناء من إحدى عربات الشرطة. كان المُتآمِرون قد خططوا لإرداء الخيول صرعى وإخضاع الحرس. ولكن لسوء الحظ، أُرديَ أيضًا أحد أفراد الشرطة صريعًا بطلقٍ ناري. خلَّف الشرطي زوجة وثلاثة أطفال صغار، وأثار موت ذلك الرجل، في أرجاء مملكةٍ يموتُ رجالٌ كل يوم من أجل الدفاع عنها وعن رفاهيتها ومجدها بداعي الواجب، موجةَ غضب مُستعِرَة، وشفقة عارمة من أجل الضحية. أُعْدِم ثلاثةٌ من زعماء العصابة. لم يكن ميكايليس، الشاب النحيل، وصانع الأقفال المتمرس، وكثير التردد على المدارس المسائية، يعرف حتى أن أحدًا قد قُتِل؛ إذ كان دوره هو وحفنة آخرون فتح الباب الخلفي لوسيلة النقل الخاصة عنوة. عندما أُلقيَ القبض عليه، كان يحمل مجموعة من المفاتيح الهيكلية في جيب، وإزميلًا ثقيلًا في آخر، وعتلة قصيرة في يده؛ مما كان يَعني أنه كان لصًّا لا أكثر ولا أقل. ولكن لم يكن أيُّ لصٍّ قد حُكِم عليه بتلك العقوبة المغلَّظة من قبل. أصابه مقتلُ الشرطي بحزن شديد، ولكن فشل المؤامرة أحزنه أيضًا. لم يُخفِ أيًّا من هذه المشاعر عن مُواطنيه المحلفين، وكان صادمًا أن هذا الندم لم يظهر بصورة كاملة للحاضرين الذين عجَّت بهم قاعة المحكمة. وعند إصدار الحكم علَّق القاضي، مُعبِّرًا عن شعوره، على فسوق السجين الشاب وقسوته.
أدى ذلك إلى ذيوع الصيت غير المبرَّر لإدانته؛ وكان ذيوع الصيت، غير المبرَّر هو الآخر، للإفراج عنه، صنيعة أناس رغبوا في استغلال الجانب العاطفي لسجنه إما لأغراض خاصة بهم أو لغرض غير واضح. سمحَ لهم بذلك لبراءة قلبه وبساطة عقله. لم يكن يأبَه لأي شيء يحدث له على المستوى الفردي. كان مثل أولئك القديسين الذين تضيع شخصيتهم في التأمل في إيمانهم. لم تكن أفكاره تُمثِّل قناعات. كان يصعب الوقوف على منطقها. شكَّلت لديه، بكل تناقضاتها وغموضها، عقيدةً إنسانيةً صلبةً، اعترف بها ولم يبشر بها، بدماثة عنيدة، وابتسامة واثقة مسالمة على شفتَيه، وكان يُخفِض عينيه الزرقاوين الصادقتين لأن مرأى الوجوه كان يكدر صفو إلهامه الذي تشكَّل في عزلته. في هذا الموقف المميز، رأى المفوضُ المساعدُ صاحبَ الإفراج المشروط وهو يشغل كرسيًّا بذراعين من خلف الحاجز، بمظهره المثير للشفقة بسبب البدانة الفظيعة التي لا شفاء منها لجسدٍ كان عليه أن يُجرجره مثل ثقلٍ يُجرجره عبد كُتِب عليه العمل على مجداف سفينة حتى نهاية حياته. جلس هناك بالقُرب من رأس أريكة السيدة العجوز، معتدل الصوت وهادئًا، وبثقة في نفسه لم تكن تزيد عن ثقة طفل صغير جدًّا، وكان فيه بعضٌ من جاذبية الأطفال، السحر الجذاب للثقة في الآخرين. واثقًا من المستقبل الذي كانت أسراره قد تكشَّفَت له داخل الجدران الأربعة لسجن معروف، لم يكن لدَيه ما يدعو للنظر بعين الريبة إلى أيِّ شخص. إن لم يستطع أن يُعطيَ هذه السيدة العظيمة والفضولية فكرة محدَّدة للغاية عما سيئول إليه مصير العالم، فقد نجح دون جهد في أن يُثير إعجابها بإيمانه الذي لا يتزعزع وبتفاؤله الفائق.
يَشيع نوع من بساطة التفكير بين الأشخاص الذين يتمتَّعون بسكون الروح على طرفَي السلَّم الاجتماعي. كانت السيدة النبيلة بسيطة بطريقتها الخاصة. لم يكن في آرائه ومُعتقَداته ما يصدمها أو يدهشها؛ لأنها حكمت عليها من منطلق مكانتها الرفيعة. في الحقيقة، كان يسهل على رجل من ذلك النوع أن يَنال تعاطُفها. لم تكن هي نفسها رأسمالية مستغلَّة؛ بل كانت، إذا جاز التعبير، متسامية عن لعبة الظروف الاقتصادية. وكانت تتمتَّع بقدرة كبيرة على الشفقة تجاه الأشكال الأوضح للمآسي الشائعة بين البشر، والسبب في ذلك على وجه التحديد أنها لم تُجرِّبها قط حتى إنها اضطرَّت إلى ترجمة مفهومها عنها إلى مصطلحات عن المعاناة العقلية قبل أن تتمكَّن من فهم فكرة شناعتها. تذكر المفوض المساعد جيدًا الحديث الذي دار بين هذين الاثنين. كان قد أخذ يَستمِع في صمت. كان الحديث مُثيرًا بطريقة ما، بل إنه كان مؤثرًا في عبثيته القدرية، مثل الجهود التي تُبذل من أجل التواصُل الأخلاقي بين سكان كواكب بعيدة. لكن هذا التجسيد الغريب للعاطفة الإنسانية كان يَستهوي خيال المرء بطريقة ما. في النهاية، نهض ميكايليس، وأمسك يد السيدة النبيلة الممدودة، وصافحها، وظلَّ مُمسكًا فيها لبرهة في راحته الضخمة اللينة بودٍّ غير مُحرج، وأدار للركن الخاص الذي يتمتَّع ببعض الخصوصية في غرفة الاستقبال ظهره، الواسع والمربع، وكأنه مُنتفِخ تحت سترته القصيرة من قماش التويد. نظر حوله بلطفٍ هادئ، وتبختَرَ متَّجهًا إلى الباب البعيد بين مجموعات من زوار آخرين. توقَّفت همهمات المحادثات عند مروره. ابتسم ببراءة إلى فتاة طويلة وجميلة تلاقَت عيناها بعينَيه بالصدفة، وخرج غير مُنتبهٍ إلى النظرات التي كانت تُتابعه عبر الغرفة. كان الظهور الأول لميكايليس على الملأ ناجِحًا؛ نجاح تقدير لا تشُوبه همسةُ سُخرية واحدة. استُؤنفَت المُحادَثات التي كانت قد قُطِعَت بنبرتها السابقة، عالية كانت أو مُنخفِضة. لم يعلق بصوت مسموع سوى صوت رجل صحيح البِنية، طويل الأطراف، بادي النشاط في الأربعين من عمره، متَّحدثًا إلى سيدتَين بالقرب من النافذة، بتأثر شديد غير متوقَّع: «وزنه ثمانية عشر ستونًا، على ما أظن، وطوله لا يصل إلى خمس أقدام وست بوصات. يا له من بائس! هذا مريع؛ مريع.»
بدت سيدة المنزل، التي كانت تُحدِّق بشرود في المفوض المساعد، الذي بقيَ وحده معها في الجانب الخاص من الحاجز، وكأنها تُعيد ترتيب انطباعاتها الفكرية وراء جمود وجهها المُسِن الجميل، الدال على الاستغراق في التفكير. اقترب رجال بشوارب رمادية، ووجوه مُمتلئة، متمتعة بالصحة، تبتسم بغموض، متحلِّقين حول الحاجز؛ وانضمَّ إليهم امرأتان ناضجتان يعلوهما وقارُ حزمٍ لطيف؛ وشخص حليق الذقن غائر الوجنتَين، ويُعلِّق نظارة ذات إطار مُذهب في شريط أسود عريض مُعطيًا انطباعًا محافِظًا أنيقًا. للحظة ساد صمت ينطوي على مراعاة واحترام، لكنه مليء بتحفُّظات، ثم صاحت السيدة النبيلة، ليس باستياء، وإنما بنوع من السخط المحتج:
«ومن المفترض، وبشكل رسمي، أن يكون ذلك الشخص ثوريًّا! يا له من هراء.» بنظرة محتدَّة رمقت المفوض المساعد، الذي تمتم مبررًا:
«ربما ليس خَطِرًا.»
قالت السيدة النبيلة بنبرة حازمة: «ليس خَطِرًا؛ لا أظن ذلك حقًّا. إنه مجرَّد مؤمن بتلك الأفكار. طباعه طباع قديس. وأبقوه محبوسًا مدة عشرين سنة. إن بدن المرء ليقشعر من الغباء الذي ينطوي عليه ذلك. والآن بعد أن أطلقوا سراحه، كل من له صلة به إما أنه رحَلَ بعيدًا إلى مكان ما أو مات. لقي والداه نحبَهما؛ والفتاة التي كان سيتزوَّجُها ماتَت وهو في السجن؛ وفقد المهارة اللازمة لحرفته اليدوية. أخبرني بهذا كله بنفسِه بصبر جميل؛ ولكنه بعد ذلك، كما قال، صار لديه متَّسع من الوقت للتفكير في أمور تخصُّه. يا له من تعويض جميل! إذا كانت تلك هي الطريقة التي يُصنَع بها الثوار، فربما سيَركع البعض منَّا أمامهم.» تابعت بنبرة مازحة بعض الشيء، بينما تحوَّلت نحوها ابتسامات المجتمع التافه المتصلِّبة على الوجوه، المتشبِّثة بالأمور الدنيوية، باحترام تقليدي. «من الواضح أن هذا المخلوق البائس لم يَعُد في وضع يسمح له بالاعتناء بنفسه. سيتعيَّن على شخصٍ ما أن يَرعاه قليلًا.»
سُمع الصوت العسكري للرجل بادي النشاط وهو يَنصح بجدية من مسافة بعيدة: «ينبغي أن يوصى باتباع نظامٍ علاجيٍّ ما.» كان في حالة صحية ممتازة مقارنةً بعمره، وحتى نسيج معطفه الطويل المشقوق الذيل كان يتَّسم بمتانة مَرِنة، وكأنه نسيج حي. أردف بتأثُّرٍ جلي: «الرجل عاجز فعليًّا.»
تَمتمَت أصوات أخرى بتعاطف سريع، وكأنها سعدت بذلك التمهيد. «مُفزع جدًّا»، «ضخم للغاية»، «من المؤلم رؤيتُه.» تلفظ الرجل النحيل الذي يرتدي نظارة معلقة في شريط عريض بكلمة «مشوه»، التي لاقت، كونها كانت منصفةً، تقديرًا ممَّن كانوا يقفون بالقرب منه. ابتسم كل منهم للآخر.
لم يبدِ المُفوَّض المساعد أي رأي لا في ذلك الوقت ولا بعد ذلك؛ إذ كان منصبه يمنعه من أن يجاهر بأي رأي مستقل عن سجين مدان خرج بإطلاق سراح مشروط. ولكنه، في الحقيقة، كان يشاطر صديقة زوجته والراعية الرأي القائل بأن ميكايليس كان عاطفيًّا محبًّا للخير، مجنونًا بعض الشيء، ولكنه بوجه عام لا يستطيع أن يؤذي ذبابة عن قصد. لذا عندما ظهر ذلك الاسم فجأةً في قضية التفجير المحيِّرة هذه، أدرك كل مخاطرها على صاحب الإفراج المشروط، وعلى الفور خطر على ذهنه افتتان السيدة العجوز الراسخ به. ما كان عطفُها غير المبرر سيصبر على احتمال أيِّ تعرُّض لحريَّة ميكايليس. كان افتتانًا عميقًا وهادئًا وواثقًا. لم تشعر بأنه مسالم فحسب، بل إنها قالت ذلك، وهو ما صار أخيرًا بفعل تشوُّش في عقلها المستبد ضربًا من البراهين التي لا جدال فيها. بدا وكأنها افتُتنت بضخامة الرجل، ذي العينَين الطفوليتَين البريئتَين والابتسامة الملائكية لوجهِه البدين. كان قد بلغ بها الحال أنها كادَت أن تُصدِّق نظريته عن المستقبل؛ إذ إنها لم تكن تتعارَض مع تحيُّزاتها. كرهت عنصر البلوتوقراطية الجديد في التركيبة الاجتماعية، وعلى نحوٍ شخصيٍّ بدا لها النظام الاقتصادي القائم على التصنيع، باعتبارِه سبيلًا لتطور البشر، مثيرًا للاشمئزاز بسبب طابعه الآلي والخالي من المشاعر. لم تكن الآمال الإنسانية لميكايليس المعتدل تميل إلى الدمار الكامل، وإنما إلى مجرد الخراب الاقتصادي الكامل للنظام. وهي في الحقيقة لم تتبين مكمن الضرر الأخلاقي في ذلك. كان من شأنه أن يَقضيَ على جميع الحشود من «محدثي النعمة» الذين كانت تكرههم ولا تثق فيهم، ليس بسبب وصولهم إلى مكانة مميَّزة (فقد أنكرت ذلك)، وإنما بسبب جهلهم الشديد بالعالم، الذي كان السبب الرئيسي لقَسوة قلوبهم وغلظتها. بزوال فكرة رأس المال سيختفون هم أيضًا؛ ولكن الخراب الشامل (شريطة أن يكون شاملًا، وفقًا لما تكشَّف لميكايليس) لن يمس القيم الاجتماعية. لن يؤثر اختفاء آخر حفنة من المال على أصحاب المناصب. لم تتصوَّر كيف يمكن أن يؤثر ذلك على وضعها، على سبيل المثال. كانت المرأة العجوز قد أوصلَت هذه التصورات إلى المفوض المساعد بكل الجرأة الهادئة التي تليق بامرأة كانت قد تحرَّرت من آفة اللامبالاة. كان قد وضع لنفسه قاعدة لتلقِّي كل شيء من ذلك القبيل بصمتٍ تعلَّمه من السياسة ومن ميله إلى عدم الإساءة. كانت لديه عاطفة تجاه راعية ميكايليس المسنَّة، عاطفة معقَّدة تَعتمِد قليلًا على هيبتها وعلى شخصيتها، ولكنها تَعتمِد في المقام الأول على غريزة الامتنان المُجامِلة لديها. شعر بأنه محبوب حقًّا في منزلها. كانت تجسيدًا للُّطف. وكانت أيضًا حكيمة من الناحية العملية، على غرار النساء ذوات الخبرة. جعلت حياته الزوجية أسهل بكثير مما كانت ستُصبح عليه لو غاب اعترافها السخي الكامل بحقوقه باعتباره زوج آني. كان تأثيرها رائعًا على زوجته، وهي امرأة كانت نهبًا لكل أنواع الحسد والحقد والغيرة مهما كانت صغيرة. مع الأسف، كان لكلٍّ من عطفها وحكمتها طابع غير معقول، طابع أُنثوي مُتأصِّل، ويصعب التعامل معه. ظلت امرأة مثالية طيلة سنوات عمرها، ولم تتغيَّر إلى حالٍ يتغيَّر إليه بعضهن؛ اللواتي يتحوَّلن إلى رجل عجوز مزعج يَرتدي تنُّورات نسائية. وكان يُفكِّر فيها كامرأة؛ باعتبارها التجسيد المُنتقَى للأنوثة، الذي يُجَنَّد حارسًا يجمع بين الرقة والبراعة والشراسة كي يَحرسه من كل أنواع الرجال الذين يتحدثون تحت تأثير العاطفة سواء كانت حقيقية أم مزيفة؛ من الواعظين والعرافين والقادة الملهمين والمصلحين.
تقديرًا للصديقة المُميزة والمقربة لزوجته، وله، بتلك الطريقة، أصبح المفوض المساعد قلقًا بشأن المصير المُحتمَل للمُجرم المدان ميكايليس. بمجرد إلقاء القبض عليه للاشتباه في كونِه بطريقة ما، مهما كانت مُستبعَدة، طرفًا في هذا الاعتداء، فربما لا يستطيع الرجل أن يهرب من أن يُزَج به إلى السجن مرةً أخرى لإنهاء مدَّة عقوبته على الأقل. وذلك قد يُودي بحياتِه؛ فلن يخرج حيًّا أبدًا. فكَّر المفوَّض المساعد بأسلوب لا يليق بمنصبِه الرسمي وإن كان أسلوبًا مشرفًا حقًّا لإنسانيته.
فكر في نفسه: «لو أُلقيَ القبض على الرجل مرةً أخرى، فلن تُسامحني أبدًا.»
لم يكن من المُمكن أن تمر صراحة هذه الفكرة التي كانت تجول سرًّا في رأسه من دون بعض الانتقاد الساخر للذات. لا يُمكن لرجل يمارس عملًا لا يُحبه أن يحتفظ بالعديد من الأوهام التي يتصور فيها نفسه في شخصية المنقذ. يمتد النفور وغياب الرونق من المهنة إلى الشخصية. لا نتذوق طعم الراحة النابعة من خداع النفس التام إلا عندما تتوافَق الأنشطة المنوطة بنا بالصدفة مع جدية مزاجنا. لم يحبَّ المفوض المساعد عمله داخل وطنه. كان العمل الشُّرَطي الذي كان منخرطًا فيه في بقعة بعيدة من العالم قد تَضمن شخصية المنقذ في أعمال غير مُنتظمة أو على الأقل كان ينطوي في بعض الأحيان على المخاطرة والإثارة التي تنطوي عليها بعض الأنشطة. امتزجت قدراته الحقيقية، التي كانت في المقام الأول من نوع إداري، مع ميل للمغامرة. مقيدًا إلى مكتب يَرتبِط نشاطه ارتباطًا كبيرًا بأربعة ملايين رجل، اعتبر نفسه ضحية مصير مُثير للسخرية؛ هو المصير نفسه، بلا شك، الذي أدَّى به إلى الزواج من امرأة حساسة للغاية تجاه مسألة المناخ الاستعماري، إلى جانب أوجه قصور أخرى تدلُّ على رقة طبيعتها؛ وعلى رقة حسها. ومع أنه حكم على قلقه بطريقة ساخرة، لكنه لم يطرد الفكرة غير اللائقة من عقله. كانت غريزة الحفاظ على الذات قوية بداخله. وعلى النقيض من ذلك، ظلَّ يُكرِّرها في ذهنه بتأكيد مقيت ودقة كاملة: «اللعنة! إن مضى هيت اللعين في فعل ما يُريده، فسيموت الرجل في السجن مُختنقًا ببدانته، ولن تغفر لي هي ذلك أبدًا.»
ظل من دون حراك، في بدلته السوداء التي تستر جسمًا نحيلًا، وشريط الياقة البيضاء تحت بريق الشعر الفضِّي القصير المقصوص في مؤخِّرة رأسه. كان الصمت قد ساد لمدة طويلة لدرجة أن كبير المفتِّشين هيت تجرَّأ وتنحنح. أتى هذا الصوت الذي أصدره بأثره. تلقى الضابط الغيور والذكي سؤالًا من رئيسه الذي ظلَّ مُوليًا ظهره له من دون أن يتحرك:
«هل تقول إن ميكايليس له صلة بهذه القضية؟»
كان كبير المفتِّشين هيت متأكدًا جدًّا، لكنه كان حذرًا.
قال: «في الواقع، يا سيدي، لدينا ما يَكفي لنعتمد عليه في المضي قُدُمًا. وعلى أيِّ حال، المصلحة تقتضي عدم ترك رجل كهذا طليقًا.»
أتاه التعليق بهمهمة: «ستَحتاج إلى بعض الأدلَّة الدامغة.»
رفع كبير المفتِّشين هيت حاجبَيه ناظرًا إلى الظهر النَّحيل ذي السترة السوداء الذي ظلَّ صاحبه يُعاند ذكاءه وحماسه.
قال بثقة تامة: «لن تكون ثمة صعوبة في الحصول على أدلَّة كافية ضده.» ثم أضاف من ملء قلبه إضافةً لا حاجة إليها: «يُمكنك أن تثقَ بي في ذلك الأمر يا سيدي»؛ إذ بدا له أنه أمر طيب للغاية أن يكون ذلك الرجل في قبضتهم لتقديمه إلى الشعب في حالة إذا ما أبدى أي سخطٍ بشأن تلك القضية. كان من المُستحيل في ذلك الوقت معرفة ما إذا كان سيُبدي سخطًا أم لا. كان ذلك، بالطبع، يَعتمِد في نهاية الأمر، على الصحافة. ولكن على أيِّ حال، كان كبير المفتِّشين هيت، الذي كان بحكم وظيفته رجلًا يقدم إلى السجون احتياجاتها من السُّجناء، ورجلًا ذا مواهب قانونية، بحكم المنطق يعتقد أن السَّجن هو المصير المناسب لكل شخص يُعتَبَر عدوًّا للقانون. متأثرًا بتلك القناعة، ارتكب خطأً يدل على عدم لباقة. سمح لنفسه بضحكة خفيفة تنطوي على بعض الغرور، وكرَّر قائلًا:
«ثق بي في ذلك الأمر يا سيدي.»
كان هذا يفُوق طاقة المفوض المساعد على الهدوء القَسري الذي ظلَّ لمدة تصل إلى ثمانية عشر شهرًا يُخفي تحته غضبه من النظام ومن مرءوسيه. لم يكن يصلح على الإطلاق للعمل المسند إليه ولا كان ذلك المكان يَتناسَب مع طبيعته بأي حال من الأحوال، فكان يشعر بما يُشبه غضبًا يوميًّا لمحاولة إجبار نفسه على التأقلُم على ذلك المكان الذي كان يُمكن لرجل آخر ذي طبيعة أنسب أن يتأقلَمَ عليه، برضوخ مبهجٍ للنفس، بعد مُحاولة أو اثنتين. أكثر ما كان يستاء منه هو ضرورة أن يعتمد بقدر كبير على الثقة. عندما ضحك كبير المفتشين هيت تلك الضحكة الخفيفة، استدار بسرعة على عقبيه، وكأن صدمة كهربية أبعدته عن زجاج النافذة. لم يَلمح على وجه الأخير الشعور بالرضا عن النفس المُناسِب للموقف يَتوارى على شفتَيه فحسب، بل لمس آثار تيقظ فاحص في عينَيه المُستديرتَين، اللتَين كانتا، بلا شك، محدقتين في ظهره، والآن التقتا بنظرتِه للحظة قبل أن يأخذ الطابع المقصود من تحديقهما الوقت ليتبدل إلى مجرد مظهر دالٍّ على الدهشة.
في واقع الأمر، كان المفوَّض المُساعد يتحلَّى ببعض المؤهِّلات التي كانت تناسب منصبه. فجأة، انتابه الشك. ومن الإنصاف القول إن شكوكه في أساليب الشرطة (ما لم تُصبح الشرطة مؤسسة شبه عسكرية يُنظِّمها هو بنفسه) لم يكن من الصعب إيقاظها. ولو هجعت يومًا بداعي السأم الشديد، فإن ذلك كان قليلًا ما يَحدث؛ وجعله إدراكه المعقول لحماس وقدرة كبير المفتِّشين هيت يَستبعد فكرة الثقة الأخلاقية تمامًا. قال مُحدِّثًا نفسه: «إنه يَنوي فعل شيء ما»، وعلى الفور انتابَه الغضب. سار إلى مكتبه بخطوات مُسرعة، وارتمى على الكرسي بعنف. قال مُفكرًا باستياء غير معقول: «ها أنا عالقٌ بين كومة من الورق، بينما من المفترض أن أُمسك كل الخيوط بيدي، ومع ذلك لا يسعُني إلا الإمساك بما يوضع في يدي، ولا شيء آخر. ويُمكنهم ربط الأطراف الأخرى للخيوط حيثما يَشاءون.»
رفع رأسه، والتفت إلى مرءوسه بوجه طويل هزيل ذي ملامح بارزة نشيطة مثل ملامح دون كيخوتي.
«الآن، ما الذي تُخفيه في جعبتك؟»
حدَّق الآخر في وجهه. ظلَّ يُحدِّق دون أن يرمش بثباتٍ تامٍّ بعينَيه المستديرتَين، مثلما اعتاد على التحديق في وجوه المُجرمين بأنواعهم عندما يُدلون بأقوالهم، بعد تحذيرهم على النحو الواجب، بنبرةٍ تنطوي على براءة مجروحة، أو سذاجة زائفة، أو استسلام مُتجهِّم. ولكن خلف هذا الثبات المِهَني والمتحجِّر كان يوجد أيضًا بعض الاندهاش، إذ لم يعتدْ كبير المُفتشين هيت، الذراع اليُمنى للإدارة، أن يُخاطَب بتلك النبرة التي تَجمَع على نحوٍ واضح بين الاحتقار ونفاد الصبر، لم يعتدْ كبير المفتِّشين هيت، الذراع اليمنى للإدارة في الإدارة، على مخاطبته بتلك النبرة. بدأ بطريقة تتَّسم بالمُماطلة، مثل رجل بوغت على حين غرة بتجربة جديدة وغير متوقَّعة.
«هل تقصد، يا سيدي، ما لديَّ ضد المدعو ميكايليس؟»
تأمل المفوض المساعد الرأس المستدير؛ طرَفا ذلك الشارب الذي يُشبه شوارب القراصنة الإسكندنافيِّين، اللذان يتدليان تحت خط الفك الكبير؛ كل ملامح الوجه الممتلئ والشاحب، الذي أفسد تراكم الجلد طابعه الحازم؛ واستقى من التجاعيد الماكرة التي تبرز من زوايتَي عينَيه الخارجيتَين، ومن ذلك التأمُّل المتأنِّي في الضابط القدير والموثوق فيه، استَقى قناعة كانت مُفاجئة جدًّا حتى إنها دفعته كما لو كانت إلهامًا.
قال بنبرة مدروسة: «لديَّ سبب يدعوني إلى أن أظن أن من كان في ذهنك عندما دخلت إلى هذه الغرفة لم يكن ميكايليس؛ لم يكن هو في المقام الأول، وربما لم يكن هو على الإطلاق.»
تمتم كبير المفتشين هيت، وقد اعترتْه كل مظاهر الذهول، الذي كان حقيقيًّا إلى حدٍّ ما: «لديك سبب يدعوك إلى أن تظن ذلك، يا سيدي؟» كان قد اكتشف في هذه القضية جانبًا حساسًا ومحيرًا، يفرض عليه قدرًا معينًا من المُراوَغة، ذلك النوع من المراوغة الذي يظهر في مرحلة معينة في معظم الشئون الإنسانية، مندرجًا تحت اسم المهارة أو الحصافة أو التحفُّظ. شعر في هذه اللحظة بما قد يَشعُر به بهلوان يَمشي على حبل مشدود لو خرج فجأةً مُدير قاعة الموسيقى، في وسط العرض، عن نطاق عمله الإداري المنوط به وبدأ في هز الحبل. من شأن السخط المبرَّر، الشعور بانعدام الأمان الأخلاقي الناجم عن مثل هذا التصرُّف الغادر المقترن بخوفٍ فوري من كسر في الرقبة، أن يُوقعه، حسب المصطلح العامي، في حيص بيص. وسينتابه كذلك بعض القلق المروع على الفن الذي يؤديه أيضًا؛ لأنه يتعيَّن على أيِّ رجل أن يميِّز نفسه بشيء ملموس يتجاوز شخصيته، وأن يثبت اعتداده بنفسه بطريقة ما، إما بوضعه الاجتماعي، أو بإتقانه لعمله الذي هو مُلزَم بأدائه، أو بمجرد ميزة التبطل الذي قد يُحالفه الحظ في أن يستمتع به.
قال المفوض المساعد: «نعم، لديَّ. لا أقصد القول بأنك لم تُفكِّر في ميكايليس على الإطلاق. ولكنك تمنح الحقيقة التي ذكرتها أهميةً كبيرة يُدهشني أنه ينقصها الصراحة، أيها المفتِّش هيت. إذا كان ذلك هو حقًّا مسار استنتاجك، فلماذا لم تتعقبه على الفور، إما بنفسك أو بإرسال أحد رجالك إلى تلك القرية؟»
سأل كبير المفتِّشين بنبرةٍ سعى إلى أن يجعلها تأمُّلية ببساطة: «هل تظن، يا سيدي، أنني أخفقتُ في واجبي في ذلك الأمر؟» مجبرًا على نحو غير متوقَّع على تركيز قدراته على مهمَّة الحفاظ على توازنه، استغلَّ تلك النقطة، وعرَّض نفسه للوم؛ إذ أدرك المفوَّض المُساعِد، مُقطِّبًا جبينه قليلًا، أن هذه الملاحظة التي أبداها كانت غير ملائمة جدًّا.
تابع ببرود: «ولكن بما أنك أثرت هذه النقطة، فدعْني أخبرك بأن هذا ليس المقصود من كلامي.»
توقف قليلًا عن الكلام، ونظر إليه نظرةً مباشِرةً من عينيه الغائرتَين كانت مُعادِلًا تامًّا للتتمَّة التي لم يَنطِق بها: «وأنت تعرف ذلك.» كان لدى رئيس ما يُسمَّى بإدارة الجرائم الخاصة، المَحروم بسبب منصبِه من الخروج بنفسه سعيًا وراء الأسرار الحبيسة في صدور المُذنِبين، ميل إلى مُمارسة مواهبه الكبيرة في اكتشاف الحقيقة التي تدين مرءوسيه. لا يُمكن أن نُطلِق على تلك الغريزة المميزة نقطة ضعف. بل كانت فِطرية فيه. فقد وُلد كي يكون مُحقِّقًا. كانت هذه الغريزة قد تحكَّمت في اختياره لحياته المهنية من دون أن يَعيَ ذلك، وإذا كانت قد خذلته في حياته يومًا ما، فربما حدث هذا في ظرف استثنائي وحيد هو زواجه؛ وهو وما كان طبيعيًّا أيضًا. لقد تغذت هذه الغريزة الفطرية لديه على المادية البشرية التي كانت تأتيه في عزلتِه الرسمية، بما أنه لم يكن بوسعه أن يَستخدمها خارجها. لا يُمكننا أبدًا أن نتوقَّف عن أن نُمارس طبيعتنا.
مسندًا كوعه على المكتب، ومُريحًا وجنتَه على راحة يده الهزيلة، أخذ المُفوض المساعِد المسئول عن إدارة الجرائم الخاصة يُمسك بزمام القضية باهتمام مُتزايد. إن لم يكن كبير مُفتِّشيه خصمًا جديرًا تمامًا بذكائه، فعلى أيِّ حالٍ كان الأجدر بين كل من كانوا تحت إمرتِه. كان انعدام الثقة في أصحاب السمعة الراسِخة يَتوافق توافقًا تامًّا مع قدرة المفوض المساعد على التحرِّي. استحضرت ذاكرته زعيمًا محليًّا مسنًّا سمينًا وثريًّا في المُستعمَرة البعيدة التي دَأب حُكامها الاستعماريون المتعاقبون على أن يثقُوا به ويستفيدوا منه باعتباره صديقًا حميمًا وداعمًا للنظام والشرعية التي أنشأها الرجال البِيض؛ ولكن استُقصيَ أمره بارتياب، اكتُشِف أنه في الأساس صديقٌ لنفسه فحسب، وليس لأيِّ أحد آخر. لم يكن خائنًا على وجه التحديد، ولكنه كان لا يزال رجلًا عليه تحفُّظات خطيرة حول إخلاصِه، مَرَدُّها مراعاة واجبه لمصلحتِه الخاصة وراحته وسلامته الشخصية. كان رجلًا يتَّصف ببعض البراءة في نفاقه الساذج، لكنَّه مع ذلك كان خطيرًا. استخلص من ذلك بعض النتائج. كان هو الآخر رجلًا ضخم البِنية و(باستثناء الفرق في اللون بالطبع)، كان مظهر كبير المفتِّشين هيت يُذكِّره بذلك الذي كان يفوقه. لم يكن ما يذكره به هو العينين ولا الشفتَين تحديدًا. كان ذلك غريبًا. ولكن ألم يَروِ ألفريد والاس في كتابه الشهير عن أرخبيل الملايو كيف اكتشَفَ في همجيٍّ مُسنٍّ وعارٍ وله بشرة قاتمة، من سكان جزيرة آرو، تشابهًا غريبًا مع صديقٍ عزيز له في وطنه؟
لأول مرة منذ أن تولى المفوض المساعِد منصبه، شعر وكأنه سيُؤدِّي عملًا حقيقيًّا نظير راتبه. وكان ذلك شعورًا سارًّا. فكر المفوض المساعد في نفسه، وعيناه تَنظُران بجدية إلى كبير المفتشين هيت: «سأجعله يُفصح عن كلِّ ما يُخفيه.»
عاد للحديث مجددًا: «لا، لم يكن ذلك ما أفكر فيه. لا شك في درايتك بعملك؛ لا شك على الإطلاق؛ وذلك بالتحديد السبب في أنني …» توقَّف لبرهة، ومُغيِّرًا نبرته قال: «ما الأدلة الحاسمة التي يُمكنُك تقديمها ضد ميكايليس؟ أعني بصرف النظر عن حقيقة أن الرجلَين المشتبه فيهما — أنت مُتأكِّد من أنهما كانا رجلين — أتيا من محطة سكك حديدية تَبعُد ثلاثة أميال من القرية التي يعيش فيها ميكايليس الآن.»
استعاد كبير المفتِّشين رباطة جأشه، وقال: «هذا في حدِّ ذاته كافٍ لنا، يا سيدي، كي نتحرَّى حول رجل كهذا.» نجحت حركة المُوافَقة الطفيفة التي أبداها المفوض المساعد برأسه بقدر كبير في تهدئة الدهشة المتَّسمة بالاستياء البادية على الضابط الشهير. وذلك لأن كبير المفتشين هيت كان رجلًا لطيفًا، وزوجًا وفيًّا، وأبًا مُخلِصًا؛ وكانت ثقة العامة وإدارته اللتَان كان ينعم بتعاملهما معه باستحسان بناءً على طبيعة ودية، قد جعلته يشعر بالود تجاه المفوضين المساعدين المتعاقبين الذين كان قد شاهدهم يمرون عبر تلك الغرفة تحديدًا. كان ثلاثة قد تعاقبوا عليه خلال فترة عمله. كان يُمكن تدبُّر الأمر مع الأول، الذي كان يتَّصف بأنه ذو طبيعة عسكرية، وطبع حاد، ووجه أحمر وحواجب بيضاء ومزاج سريع الانفعال، بالتعامل معه بحذر شديد لتجنُّب إثارته. غادَرَ منصبه عندما وصل إلى سن التقاعد. أما الثاني، الذي كان رجلًا محترمًا للغاية، يحفظ مقامه ومقام الآخرين بدقة، فعند استقالته لتولِّي منصب أعلى خارج إنجلترا، حصل (بالفعل) على وسام بناءً على خدمات المفتِّش هيت. كان العمل معه مدعاة للفخر والسرور. أما الثالث، الذي كان غامضًا إلى حدٍّ ما من البداية، فكان لا يزال بعد ثمانية عشر شهرًا غامضًا نوعًا ما للعاملين بالإدارة. إجمالًا اعتقد كبير المفتِّشين هيت أنه غير مؤذٍ بوجهٍ عامٍّ، غريب المظهر، لكنه غير مُؤذٍ. كان يتحدَّث الآن، وكان كبير المفتشين يستمع إليه بإجلال ظاهري (وهذا لا يَعني شيئًا، كونه أمرًا واجبًا) وبصبرٍ جميل في قرارة نفسه.
«هل أبلغَ ميكايليس الشرطة قبل أن يُغادِر لندن إلى الريف؟»
«نعم يا سيدي. فعل ذلك.»
تابع المفوض المساعد، الذي كان على علمٍ تامٍّ بتلك النقطة: «تُرى ماذا يفعل هناك؟» كان ميكايليس، الذي كان يَجلس على مقعدٍ خشبيٍّ قديم ذي ذراعَين ضيِّق لا يكاد يسعه، أمام طاولة من خشب البلوط نخرها السوس في غرفة علوية في كوخ من أربع غُرَف له سقفٌ من قرميد نَمَت عليه الطحالب، عاكفًا على الكتابة ليل نهار بيد مُرتعِشة مائلة «السيرة الذاتية لسجين» التي كان من المفترض أنها ستكون مثل سفر رؤيا في تاريخ البشرية. كانت ظروف المساحة الضيقة والعُزلة والوحدة في كوخ صغير من أربع غرف مُواتية لإلهامه. كان الأمر يشبه كونه في سجن، عدا أن المرء لم يكن يتعرَّض البتَّة للإزعاج من أجل الغرض البغيض المتمثل في أداء تمرينات وفقًا لما تمليه اللوائح التعسفية لمقرِّ إقامته القديم في السجن. لم يكن بوسعه أن يميز إن كانت الشمس لا تزال تُلقي بأشعتها على الأرض أم لا. كان جبينُه يتصبَّب بعرق جهد العمل الأدبي. وحثته حماسة مبهجة على المتابعة. كان بمثابة تحرير لنفسِه الداخلية، وإطلاق لعنان روحه نحو عالَم واسع. وبدا حماس الغرور البَريء (الذي اتَّقد بدايةً بعرض بقيمة خمسمائة جنيه إسترليني من ناشر) قدرًا مقدورًا وأمرًا مُقدسًا.
ألحَّ المفوض المساعد إلحاحًا غير صريح، قائلًا: «سيكون من المُستحسَن للغاية، بالطبع، أن أُطلَع على المُجرَيات بدقة.»
قال كبير المفتِّشين هيت، دون أن يَخفى عليه الغضب الذي تجدد مع هذه المطالبة بالدقة، إنَّ شرطة المقاطعة قد أُخطِرَت على الفور بوصول ميكايليس، وأنه يُمكن الحصول على تقرير كامل في غضون ساعات قليلة. برقية إلى رئيس الشرطة …
قال ذلك، ببطء نوعًا ما، بينما بدا أن عقلَه كان في الوقت نفسه يُقَدِّر العواقب. كان انعقاد خفيف لحاجبِه هو العلامة الظاهرية على ذلك. لكنَّه قُوطع بسؤال.
«هل أرسلت هذه البرقية بالفِعل؟»
أجاب، وكأنه فوجئ بالسؤال: «كلا يا سيدي.»
أنزل المفوض المساعد ساقه من فوق الأخرى فجأة. تناقَضَت خفَّة تلك الحركة مع الطريقة العرضية التي طرَح بها سؤاله.
«هل تظنُّ أن ميكايليس له أي علاقة بتحضير تلك القُنبلة، مثلًا؟»
تظاهر كبير المفتشين بالتفكير.
«ما كنتُ لأقول ذلك. لا حاجة لقول أي شيء في الوقت الحالي. إنه على صِلة برجالٍ مصنَّفين بأنهم خَطِرون. اختير مُمثلًا للجنة الحمراء بعد أقل من سنة من الإفراج المشروط الذي حصل عليه. نوعٌ من المجاملة، على ما أظن.»
وضحك كبير المفتِّشين بقليل من الغضب، وقليل من الازدراء. مع رجلٍ من ذلك النوع، كان التدقيق تصرفًا في غير موضعه، بل حتى شعورًا غير قانوني. كان صدره قد ضاق من الشهرة التي حظي بها ميكايليس عند خروجه من السجن منذ عامين بسبب بعض الصحفيِّين العاطفيِّين بداعي الحاجة إلى إصدار طبعات خاصة. كان القبض على ذلك الرجل استنادًا إلى أدنى شبهة قانونيًّا تمامًا. كان قانونيًّا ومُناسبًا في ظاهره. كان رئيساه السابقان سيَفهمان المَغزى على الفور؛ أما هذا فجلس في مكانه، دون أن يؤيد ذلك أو يُعارضه، وكأنه غارق في أحلامه. علاوةً على ذلك، بالإضافة إلى كون القبض على ميكايليس قانونيًّا ومناسبًا، فقد حلَّ مشكلة شخصية صغيرة أقلقت كبير المفتِّشين هيت بعض الشيء. أثَّرت هذه المشكلة على سُمعتِه وعلى راحته وحتى على كفاءته في أداء واجباته. وذلك لأنه إذا كان ميكايليس يَعلم دون شك شيئًا عن هذا الانفجار، كان كبير المفتشين متأكدًا تمامًا من أنه لا يعرف الكثير. كان هذا أمرًا جيدًا، حتى إن لم يكن ما توقَّعه. كان كبير المفتِّشين متيقِّنًا من أنه كان يعرف أقل بكثير من أفرادٍ مُعيَّنين آخرين كان يضعُهم في حُسبانه، ولكن القبض عليهم بدا غير مُناسِب من وجهة نظره، بالإضافة إلى كونِه مسألة أعقد، بناءً على قواعد اللعبة. لم تُوفِّر قواعد اللعبة الكثير من الحماية لميكايليس، الذي كان مُدانًا سابقًا. سيكون من الحَماقة عدم استغلال التسهيلات القانونية، والصحفيون الذين كانوا قد كتبُوا عنه بفيض من العاطفة سيكونون على استعداد للكتابة عنه بسخط نابع من العاطفة.
كان لهذا الاحتمال، الذي كان كبير المفتِّشين هيت واثقًا من حدوثه، جاذبية نصرٍ شخصي له. وفي أعماق صدره المنزَّه عن اللوم بصفته مواطنًا عاديًّا متزوِّجًا، كان للكراهة غير المُدركة تقريبًا، ولكنها قوية، لكونه مجبرًا بداعي الأحداث إلى التعامُل مع الضراوة اليائسة للبروفيسور، تأثيرها عليه. كانت هذه الكراهة قد تعزَّزت باللقاء العارض في الزقاق. لم يُخلِّف هذا اللقاء لدى كبير المفتِّشين هيت ذلك الشعور المُرضي بالاستعلاء الذي يَنالُه أفراد الشرطة من الجانب غير الرسمي والودي لتعامُلِهم مع فئات المجرمين، والذي به يهدأ غرور السلطة، وينال الحب المبتذل للهيمنة على إخوتنا من بني البشر التملُّق بالقدر الذي يستحقُّه.
لم يعترف كبير المفتشين هيت باللاسُلطوي المثالي باعتباره من بني البشر. كان لا يُطاق؛ كلب مسعور يجب أن يُترَك وشأنه. لم يكن ذلك ما كان يَخشاه كبير المفتِّشين؛ بل كان على النقيض ينوي الإمساك به يومًا ما. ولكن لم يَحِن ذلك اليوم بعد؛ كان يَنوي الإمساك به في الوقت الذي يُحدِّده هو، حسب إجراءات سليمة وفعَّالة وَفق قواعد اللعبة. لم يكن الوقت الحاضر هو الوقت المناسِب لمُحاوَلة إنجاز هذا العمل البطولي، لم يكن الوقت المناسِب لأسبابٍ كثيرة، شخصية، ومتعلِّقة بالعمل العام. كان هذا هو الشعور القوي الذي أحسَّ به المفتِّش هيت، فقد بدا له أن العدل والمصلحة يقتضيان تحويل القضية بعيدًا عن مسارها الغامض وغير المريح، الذي لا يعلم إلا الرب إلى أين سيؤدي، إلى مسارٍ فرعيٍّ هادئ (وقانوني) يُدعى ميكايليس. وكرر، وكأنه يُعيد التفكير في السؤال بوعي:
«القُنبلة. كلا، ما كنت لأقول هذا بالضبط. قد لا نتمكَّن من اكتشاف ذلك مطلقًا. ولكن من الواضح أن له علاقةً بهذا بطريقة أو بأخرى، وهو ما يُمكننا اكتشافه من دون عناء كبير.»
ارتسمت على ملامحه نظرة اللامُبالاة الجسيمة والخطيرة، التي كان أعتى اللصوص فيما مضى يعرفونها حق المعرفة ويَخشَونها كثيرًا. لم يكن كبير المفتِّشين هيت، كثير الابتسام. لكنه كان راضيًا في داخله عن السلوك السَّلبي المتقبَّل الذي أبداه المفوَّض المُساعِد، الذي همهم برفق:
«وهل تظن حقًّا أن التحقيق ينبغي أن يَمضيَ في ذلك الاتجاه؟»
«نعم يا سيدي.»
«هل أنت مُقتنِع تمامًا؟»
«نعم، مقتنع يا سيدي. هذا هو المسار الصحيح الذي يَنبغي أن نسلكَه.»
سحب المفوَّض المساعِد يده التي كان رأسه يتَّكئ عليها بحركة فجائية، لدرجة أنه، نظرًا لوضعيتِه الجسمانية الضعيفة، بدا أن جسدَه كله كان مهددًا بأن يخرَّ على الأرض. ولكنه، على النقيض، اعتدل في جلسته، مُنتبهًا تمامًا، خلف المكتب الكبير الذي سقطت يده عليه محدثةً صوت ضربة عنيفة.
«ما أريد معرفته هو ما تجبر نفسك على عدم التفكير فيه حتى الآن.»
كرر كبير المفتشين ببطء شديد: «ما أجبر نفسي على عدم التفكير فيه.»
«نعم. حتى استُدعيت إلى تلك الغرفة، كما تعلم.»
شعر كبير المفتشين وكأن الهواء الذي بين ملابسه وجلده قد صار ساخنًا على نحو مُزعِج. كان ذلك هو الإحساس بتجربة غير مسبوقة ولا يُمكن تصديقها.
قال، مُبالِغًا في التروِّي في نطقه للكلمات إلى أقصى حدٍّ مُمكن: «بالطبع، إذا كان ثمة سبب، لا أعرف عنه شيئًا، يدعو إلى عدم اعتراض طريق المُجرِم المدان ميكايليس، فلعله من الجيد أنني لم أجعل شرطة المقاطعة تُلاحقُه.»
استغرق هذا وقتًا طويلًا حتى إنه يُمكن القول إن الاهتمام الدءوب من جانب المفوض المساعد بدا عملًا بطوليًّا في القدرة على التحمل. جاء ردُّه سريعًا دون تأخير.
«لا يوجد أي سبب على الإطلاق على حدِّ عِلمي. هيا، يا كبير المفتشين، هذه المراوغة معي غير لائقة للغاية من جانبك؛ غير لائقة للغاية. كما أنها أيضًا غير عادلة، كما تعلم. لا ينبغي أن تتركني حائرًا أحاول التوصُّل إلى حلٍّ للأمور بنفسي هكذا. حقًّا، إنني مُندهِش.»
توقف قليلًا، ثم أردف بنعومة: «لستُ بحاجة إلى إخبارك بأن هذه المحادثة برمَّتها غير رسمية.»
لم تُهدِّئ هذه الكلمات كبير المفتشين على الإطلاق. كان الشعور بالسخط قويًّا بداخله كالذي يشعر به البهلوان الذي يمشي على الحبل المشدود عندما يتعرَّض للخيانة. بداعٍ من اعتزازه بنفسه كونه مُوظفًا موثوقًا فيه، تضرَّر نتيجة قناعته بأن الحبل لم يُهَزَّ بغرض كسر عنقِه، وإنما إبداءً لمزاحٍ وَقِح. وكأن هذا سيُخيفه! إنَّ المفوضين المساعدين يأتون ويَذهبون، ولكن كبير المفتشين المُهم ليس ظاهرة سريعة الزوال في المكتب. لم يكن يخشى من كسر عنقه. كان إفساد أدائه أكثر من كافٍ لتبرير احتدام سخطِه العميق. ولما كان التفكير لا يُلقي بالًا للأشخاص، اتخذ تفكير كبير المفتِّشين هيت شكلًا تهديديًّا وتنبؤيًّا. قال في سريرته، دون أن تتوقَّف عيناه المستديرتان والهائمتان كعادتهما عن التحديق في وجه المفوض المساعد: «أنت، أيها الفتى، أنت أيها الفتى، لا تَعرف مكانتَك، وأراهن على أن مكانتك لن تُبقيَك لفترة طويلة أيضًا.»
ارتسم ما يُشبه طيف ابتسامة ودودة، مرَّت سريعًا، على شفتَي المفوَّض المساعد، وكأنها إجابة مستفزَّة على تلك الخاطرة. كان أسلوبه بسيطًا وعمليًّا في مُثابرته على هز الحبل المشدود مرة أخرى.
قال: «لنتحدَّث الآن عما توصلت إليه على الفور، يا كبير المفتِّشين.»
ظلت سلسلة الأفكار التنبؤية تتوالى على رأس كبير المفتِّشين هيت: «أحمقُ سيَفقد عمله قريبًا.» لكن تبعها على الفور تأمُّل مفادُه أن أي مسئول أعلى، حتى عند «طرده من العمل» (كانت هذه هي الصورة الدقيقة) لا يَزال لديه الوقت وهو يَنطلِق من الباب ليركل مرءوسًا في ساقه ركلة سيئة. من دون أن يُخفِّف من تحديقه الذي كان يُشبه كثيرًا تحديق أفعى البازيليسق، قال بهدوء:
«سنأتي إلى ذلك الجزء من تحرياتي يا سيدي.»
«هذا صحيح. حسنًا، ما المعلومات التي توصلت إليها منها؟»
عاد كبير المفتشين، الذي كان قد عقد العزم على القفز من فوق الحبل، إلى أرض الواقع بصراحة كئيبة.
قال، وهو يخرج من جيبه دون تعجل خرقة محروقة باللون الأزرق الداكن: «توصلت إلى عنوان.» «هذه الخرقة من المعطف الذي كان يَرتديه الشخص الذي مزقه الانفجار إلى أشلاء. بالطبع، ربما لا يكون المعطف ملكًا له، وربما يكون قد سُرق. لكن ذلك سيكون غير محتمل على الإطلاق لو أنك نظرت إلى هذا.»
تقدم كبير المُفتِّشين نحو المكتب، وبسط بعناية الخرقة المصنوعة من قماش أزرق. كان قد أخذها من الكومة البغيضة في المشرحة؛ لأنه في بعض الأحيان يكون اسم الخياط موجودًا تحت الياقة. غالبًا ما لا يكون ذلك ذا أهمية كبيرة، ولكن مع ذلك، توقع على الأقل أن يجد أي شيء مفيد، لكنه بالتأكيد لم يتوقَّع أن يجد، ليس تحت الياقة على الإطلاق، ولكن مخيط بعناية على بطانة طية صدر السترة، قطعة مربعة من نسيج الكاليكو مكتوب عليها عنوان بحبرٍ أسود.
سحب كبير المفتِّشين يده المبسوطة.
قال: «حملتها معي من دون أن يلحظ أحد ذلك. ظننتُ أن هذا هو الأفضل. يُمكن دومًا إخراجها إذا لزم الأمر.»
ارتفع المفوَّض المساعد قليلًا من فوق كرسيِّه، وسحب قطعة القماش إلى جانبه من المكتب. جلس ينظر إليها صامتًا. لم يكن مكتوبًا على قطعة قماش من نسيج الكاليكو، أكبر قليلًا من ورقة سيجارة عادية، سوى العدد ٣٢ واسم «شارع بريت» بالحبر الأسود. لقد فُوجئ حقًّا.
قال وهو ينظر إلى كبير المفتِّشين هيت: «لا أستطيع أن أفهم السبب الذي دفعه إلى التجول مرتديًا ملابس عليها علامة هكذا. إنه أمر في غاية الغرابة.»
قال كبير المفتِّشين: «قابلت ذات مرة في غرفة المدخنين في فندقٍ رجلًا عجوزًا كل معاطفِه خِيطَ عليها اسمه وعنوانه تحسبًا للتعرُّض لحادث أو مرض مُفاجئ. زعم أن عمره أربعة وثمانون عامًا، ولكن مظهره لم يكن يدل على عمره. أخبرني إنه كان أيضًا يخشى من فقدان ذاكرته فجأة، مثل الأشخاص الذين كان يقرأ عنهم في الصحف.»
فجأةً قطع سؤال من المفوض المساعد، الذي أراد أن يعرف ما معنى ٣٢ شارع بريت، تلك الذكريات. اختار كبير المفتِّشين، مدفوعًا إلى أرض الواقع بحِيَل مُلتوية، أن يسلك طريق المصارحة من دون تحفظ. إن كان يعتقد اعتقادًا راسخًا بأن معرفة أكثر مما يلزم من المعلومات لم يكن في صالح الإدارة، فإنْ حجب ما يعرف بحكمة، بقدر ما يسمح به ولاؤه، كان في صالح العمل. وإذا أراد المفوض المساعد أن يُسيء إدارة هذه القضية، فلا يُمكن بالطبع لشيء أن يمنعه. لكنه، من جانبه، لم يكن يرى الآن أي سبب لإظهار الهمة. ومِن ثَمَّ أجاب بإيجاز:
«إنه متجرٌ يا سيدي.»
انتظر المفوض المساعد، ناظرًا إلى خرقة القماش الأزرق، مزيدًا من المعلومات. لما لم يَنل ما كان يرنو إليه، بدأ في الحصول على تلك المعلومات بطرح سلسلة من الأسئلة بصبر جميل. ومِن ثَمَّ سأل عن طبيعة تجارة السيد فيرلوك، وعن مظهره الشخصي، وفي النهاية سمع اسمه. في فترة تخلَّلها الصمت، رفع المفوض المساعد عينَيه، ولمح قدرًا من النشاط على وجه كبير المفتشين. نظر كلٌّ منهما إلى الآخر في صمت.
قال الأخير: «بالطبع، لا تملك الإدارة سجلًّا عن ذلك الرجل.»
سأله المفوض المساعد، واضعًا مرفقَيه على المكتب وهو يرفع يديه المضمومتَين أمام وجهه، وكأنه يتهيَّأ للصلاة، غير أن الخشوع لم يكن باديًا في عينيه، سأل: «هل كان لدى أيٍّ ممَّن سبقوني أي علم بما أخبرتني به الآن؟»
«كلا يا سيدي؛ بالتأكيد لا. ماذا كان يُمكن أن تكون الغاية؟ لا يمكن مطلقًا الإفصاح علنًا عن رجالٍ من نوعية ذلك الرجل لأيِّ غرض نافع. كان يكفيني أن أعرف هويته، وأن أستفيد منه بطريقة يُمكن استخدامها علنيًّا.»
«وهل تَعتقِد أن ذلك النوع من المعلومات الخاصة يتوافَق مع المنصب الرسمي الذي تشغله؟»
«توافقًا تامًّا يا سيدي. أظنُّ أنها مُناسبة تمامًا. لا أخفيك قولًا يا سيدي أنها تُشكِّل ما أنا عليه؛ وأنا يُنظَر إليَّ باعتباري رجلًا على دراية بعمله. إنها شأن خاص بي. لمَّح لي صديق شخصي في الشرطة الفرنسية بأن ذاك الرجل كان جاسوسًا لدى السفارة. صداقة خاصة، معلومات خاصة، استخدام خاص لتلك المعلومات؛ هكذا أنظر إلى المسألة.»
بعدما ذكر المفوض المساعد في نفسه ملاحظة مفادها أن الحالة الذهنية لكبير المفتِّشين الشهير بدت أنها تؤثر في شكل فكِّه السفلي، وكأن إحساسه القوي بتميُّزه المِهَني العالي استقر في ذلك الجزء من جسده، نبذ تلك الملاحظة في الوقت الراهن بأن قال بهدوء: «فهمت.» ثم، مُسنِدًا وجنته على يديه المضمومتين، قال:
«حسن إذن، لنتحدَّث بسرِّية إذا وددت؛ منذ متى وأنت على اتصالٍ خاصٍّ بذلك الجاسوس لدى السفارة؟»
ردًّا على هذا السؤال، أتت الإجابة السرية من كبير المفتشين، سرية لدرجة أنها لم تتألَّف من كلمات مسموعة:
«منذ فترة طويلة، قبل حتى التفكير في أن تشغل منصبك هنا.»
كان الكلام العلني، إن جاز التعبير، أدق بكثير.
«رأيته للمرة الأولى في حياتي منذ ما يَزيد على سبعة أعوام، عندما كان اثنان من أصحاب السمو الإمبراطوري ومستشار إمبراطوري في زيارة هنا. أوكلت إليَّ مهمة اتخاذ جميع الترتيبات من أجل الاعتناء بهم. كان البارون ستوت فارتنهايم هو السفير وقتها. كان رجلًا عجوزًا وشديد العصبية. وفي إحدى الأمسيات، وقبل ثلاثة أيام من مأدبة جيلدهول، أرسل لي مرسالًا بأنه يريد أن يقابلني للحظة. كنت في الطابق السفلي، وكانت العربات عند الباب كي تُقِل أصحاب السمو الإمبراطوري والمستشار إلى الأوبرا. صعدت على الفور. وجدت البارون يروح ويجيء في غرفة نومه في حالة يُرثى لها من التوتر، وأخذ يعتصر يديه. أكد لي أن لديه ثقة كاملة في شرطتنا وفي قدراتي، ولكن كان معه هناك رجل كان قد قَدِم للتو من باريس بمعلومات يمكن الوثوق في صحتها تمامًا. أراد مني أن أسمع ما يقوله ذلك الرجل. أخذني على الفور إلى غرفة تغيير ملابس مجاورة، ورأيت فيها رجلًا ضخم الجثة يرتدي معطفًا ثقيلًا ويجلس بمفرده على كرسي ويمسك قبعته وعصاه في يد واحدة. قال له البارون «تحدث يا صديقي» باللغة الفرنسية. لم تكن الإضاءة جيدة جدًّا في تلك الغرفة. تحدثت إليه لمدة خمس دقائق تقريبًا. بالتأكيد قدم لي بعض الأخبار المفزعة جدًّا. ثم أخذني البارون جانبًا بعصبية ليُثني لي عليه، وعندما استدرت مرةً أخرى اكتشفت أن الرجل كان قد اختفى وكأنه شبح. أظن أنه نهض وتسلَّل إلى الأسفل على سلَّم خلفي. لم يكن لديَّ وقت لأُلاحقه؛ إذ اضطررت إلى الإسراع خلف السفير على السلم الكبير، وأن أطمئنَّ على أن الحفل قد بدأ بأمان في الأوبرا. ومع ذلك، تصرفت في تلك الليلة بناءً على المعلومات التي بلغتْني. سواء كانت صحيحة تمام الصحة أم لا، لكنها بدت خطيرة بما يكفي. ومن المرجح جدًّا أنها أنقذتنا من مشكلة بشعة في يوم الزيارة الإمبراطورية إلى المدينة.»
وتابع: «في وقت لاحق، بعد شهر أو نحو ذلك من ترقيتي إلى منصب كبير المفتشين، استرعى انتباهي رجل ضخم قوي البنية، ظننتُ أنني رأيته في مكان ما من قبل، يخرج مُسرعًا من متجر مجوهرات في شارع ستراند. مضيت خلفه، حيث إنه كان في طريقي صوب تشيرينج كروس، وهناك رأيت أحد مُخبرينا السريِّين على الجانب الآخر من الطريق، وأومأت إليه بأن يأتي إليَّ، وأشرت له نحو الرجل، مع تعليمات بأن يُراقب تحرُّكاته لمدة يومين، وأن يُبلغني بعدها. لم يمرَّ عصر اليوم التالي إلا وقد أتاني رجلنا كي يُخبرني بأن الرجل قد تزوَّج من ابنة صاحبة المنزل الذي يَسكنه وعُقد الزواج في مكتب أمين السجل في ذلك اليوم في الساعة الحادية عشرة والنصف صباحًا، وأنه قد غادَرَ معها إلى مدينة مارجيت لمدة أسبوع. كان رجلنا قد رأى الأمتعة وهي تُوضَع في سيارة الأجرة. كانت تُوجد بعض ملصقات أمتعة قديمة من باريس على إحدى الحقائب. لسببٍ ما، لم أستطع أن أتوقف عن التفكير في هذا الشخص، وفي المرة التالية التي تعيَّن عليَّ فيها أن أذهب إلى باريس في مُهمة عمل، تحدثت عنه مع صديقي ذاك في شرطة باريس. قال صديقي: «بناءً على ما أخبرتني به، أظن أنه لا بد أنك تتحدَّث عن طفيلي معروف نوعًا ما ومبعوث للجنة الثورية الحمراء. يقول إنه إنجليزي المولد. نعرف أنه عميل سرِّي منذ بضع سنوات لإحدى السفارات الأجنبية في لندن.» أنعش هذا ذاكرتي تمامًا. إنه الشخص الذي رأيته يختفي والذي كان يجلس في غرفة تغيير الملابس عند البارون ستوت فارتنهايم. قلت لصديقي إنه مُحقٌّ تمامًا. تأكد لديَّ أن الشخص كان عميلًا سريًّا. بعد ذلك، تكبَّد صديقي عناء أن يحضر لي السجل الكامل لهذا الرجل. ارتأيت أنه من الأفضل أن أعرف كل ما يُمكنني معرفته؛ ولكنَّني لا أظن أنك تريد سماع قصته الآن يا سيدي، أليس كذلك؟»
هز المفوض المساعد رأسه موافقًا. أغلق عينَيه الغائرتين المرهقتين ببطء، ثم فتحهما بسرعة بنظرة منتعشة للغاية، وقال: «ما يُهمني الآن فحسب هو معرفة قصة علاقاتك بتلك الشخصية المفيدة.»
قال كبير المفتشين بمرارة: «لا يوجد شيء رسمي بشأنها.» «ذهبت إلى متجره ذات مساء، وعرَّفتُه بنفسي، وذَكَّرته بأول لقاء بيننا. لم يفعل شيئًا أكثر من رفع حاجبه. قال إنه مُتزوِّج وحياته مُستقرَّة الآن، وأن كل ما يريده ألا يعترض أحد مشروعه التجاري الصغير. تعهدت له بأنه ما دام لم يتورط في أي عمل شائن بوضوح، فإن الشرطة ستدعه وشأنه. قدَّر ذلك الصنيع، لأن كلمة منَّا إلى رجال الجمارك كانت كفيلة بأن تجعل بعض الطرود التي تأتيه من باريس وبروكسل تُفتَح في دوفر، ثم تُصادَر بالتأكيد، وربما ينتهي به الأمر أيضًا إلى رفع دعوى ضده.»
همهم المفوض المساعد: «تلك تجارة محفوفة بالمخاطر جدًّا. لماذا أقحم نفسه في ذلك؟»
رفع كبير المفتشين حاجبَيه ازدراءً بفتور.
«على الأرجح له علاقات بأشخاص يتعاملون في هذه السلع، أصدقاء في أوروبا. إنهم بالضبط من النوع الذي يُمكن أن ينسجم معه. إنه نذلٌ كسول أيضًا؛ مثل بقيتهم.»
«ما الذي تحصل عليه منه مقابل الحماية التي وفَّرتها له؟»
لم يكن كبير المفتِّشين يميل إلى الإسهاب في توضيح قيمة خدمات السيد فيرلوك.
«لن يكون له كثير نفع لأحد سواي. يجب أن يكون المرء على دراية بكثير من الأمور مسبقًا ليستفيد من رجل كهذا. أستطيع أن أفهم نوع التلميح الذي يُمكن أن يُقدِّمه. وعندما أريد منه تلميحًا، يُمكنه عمومًا أن يُزوِّدَني به.»
غرق كبير المفتِّشين فجأةً في حالة تأمُّل حذر؛ وكتم المفوض المساعد ابتسامة رسمتْها فكرة عابرة بأن الفضل في ذيوع صيت كبير المفتِّشين هيت ربما كان راجعًا بقدر كبير إلى العميل السري فيرلوك.
«ولتكون الفائدة منه أعم، لدى جميع رجالنا في إدارة الجرائم الخاصة في تشيرينج كروس وفيكتوريا تعليمات بأن يُولوا عناية حذرة بأيِّ شخص قد يَرونه معه. إنه يَلتقي وافدين جُدُدًا باستمرار، وبعد ذلك يقتفي أثرهم. يبدو أنه تلقَّى توبيخًا بسبب ذلك النوع من العمل. عندما أريد عنوانًا على عجل، يُمكنني دومًا أن أحصل عليه منه. بالطبع، أعرف كيف أدير علاقاتنا. لم أرَه كي أتحدث معه ثلاث مرات في آخر عامين. تركت له رسالة قصيرة، غير موقَّعة، وأجاب على رسالتي بالطريقة نفسها على عنواني الخاص.»
من حينٍ لآخَر، كان المفوض المساعد يُومئ برأسه إيماءةً لا تكاد تُلاحَظ. أضاف كبير المفتِّشين أنه لا يظن أن السيد فيرلوك محل ثقة كبيرة لدى الأعضاء البارزين في المجلس الثوري الدولي، ولكن لا شك في أنه كان محلَّ ثقة بوجهٍ عام. اختَتَم حديثه قائلًا: «كلَّما كان لديَّ سبب للاعتقاد في وجود شيء يفوح في الأجواء، فدائمًا ما أجد أنه يُمكنه أن يخبرني بشيء يستحق المعرفة.»
أبدى المفوض المساعد ملاحَظة مهمَّة.
«لقد خذلك هذه المرة.»
ردَّ كبير المفتِّشين هيت: «وكذلك لم أشتَم رائحة أي شيء في الأجواء بأيِّ طريقة أخرى. لم أسأله عن شيء؛ ومِن ثَمَّ لم يكن بوسعه أن يُخبرني بأيِّ شيء. إنه ليس أحد رجالنا. ليس الأمر وكأنه يَتقاضى راتبًا منَّا.»
همهم المفوض المساعد: «كلا. إنه جاسوس ويَتقاضى أجرًا من حكومة أجنبية. لا يُمكن أن نثق به أبدًا.»
قال كبير المفتِّشين: «يجب أن أنجز عملي بطريقتي الخاصة. وعندما يتعلَّق الأمر بذلك، فسأتعامل مع الشيطان نفسه، وأتحمَّل العواقب. ثمَّة أشياء ليس من المناسب أن يعرفها الجميع.»
«يبدو أن فكرتَك عن السرِّية تتلخَّص في إخفاء المعلومات عن رئيس إدارتك. ربما تكون تلك مُغالاة فيها أكثر مما يَنبغي، أليس كذلك؟ هل يَقطن فوق متجرِه؟»
«مَن، فيرلوك؟ أوه نعم. إنه يَقطن فوق متجره. أظن أن والدة زوجته تقطن معهما.»
«هل المنزل تحت المراقبة؟»
«أوه، يا إلهي، كلا. ما كنتُ لأفعل ذلك. بل نُراقب أشخاصًا بعينهم يتردَّدون على المكان. ورأيي أنه لا يعلم شيئًا عن تلك المسألة.»
«وما تفسيرك لهذه؟» أشار المفوض المساعِد برأسِه إلى خرقة القماش المرمية أمامه على المكتَب.
«ليس لديَّ تفسير لها على الإطلاق، يا سيدي. ببساطة لا يُمكن تفسيرها. لا يُمكن تفسيرها بناءً على ما أعرفه.» أبدى كبير المفتِّشين تلك الاعترافات بصراحة رجل بُنِيَت سمعته على أرض صلبة. «على أيِّ حال، لا يُمكن تفسيرها في الوقت الحاضر. أظن أنه سيثبت لاحقًا أن الرجل الذي كان له أكبر صلة بها هو ميكايليس.»
«أتظن ذلك؟»
«نعم يا سيدي؛ لأنه يُمكنُني أن أقدِّم أجوبة شافية عن الآخَرين كلهم.»
«ماذا عن الرجل الآخر الذي من المُفترَض أنه هرَب من الحديقة؟»
خمن كبير المفتِّشين قائلًا: «أظن أنه بعيد جدًّا الآن.»
رمَقه المفوض المساعد بنظرة حادَّة، ونهض فجأة، وكأنه رتَّب أفكاره تجاه مسار مُعيَّن من الإجراءات. في الحقيقة، كان قد خضع في تلك اللحظة تحديدًا إلى إغراء ساحر. تلقَّى كبير المفتِّشين الأمر بالانصراف مع تعليمات بمُقابلة رئيسه باكرًا في الصباح التالي لمزيد من التشاور حول القضية. استمع بوجهٍ لا يُبدي أيَّ تعبيرات، وخرج من الغرفة بخطوات مُعتدلة.
أيًّا كانت خطط المفوض المساعِد، فإنه لم يكن لها أيُّ صلة بالعمل في هذا المكتب، الذي كان لعنة عليه بسبب طبيعته المقيدة والافتقار الواضح للحقائق. ما كان يُمكن أن يكون لها أي صلة، وإلا لتعذر تفسير حالة النشاط العامة التي حلت على المفوض المساعد. بمجرد أن أصبح بمفرده، بحث عن قبَّعته مُندفعًا ووضعها على رأسه. بعد أن فعل ذلك، جلس مرةً أخرى ليُعيد التفكير في المسألة برمَّتها. ولكن بما أنه كان قد اتخذ قرارَه بالفِعل، لم يَستغرِق هذا طويلًا. وقبل أن يَمضي كبير المفتِّشين هيت بعيدًا في طريقه إلى المنزل، كان هو الآخر قد غادَرَ المبنى.