الفصل التاسع

بعدما عاد السيد فيرلوك من أوروبا بعد عشرة أيام، رجع بعقل لا يظهر عليه أنه انتعش بعجائب السفر إلى خارج البلاد وبطلعة لا تَظهر عليها مسرات العودة إلى الديار. دخل مع صوت صلصلة جرس المتجر تعلوه كآبة وإرهاق متكدِّر. مشى مُنكِّسًا رأسه وحقيبته في يده إلى خلف منضدة البيع مُباشرةً، وخرَّ على الكرسي، وكأنه قطع الطريق من دوفر كله سيرًا على قدمَيه. كان ذلك في الصباح الباكر. استدار ستيفي نحوه، وهو ينفض الغبار عن البضائع المعروضة في النوافذ الأمامية، وحدق فيه بنظرة تنمُّ عن الوقار والرهبة.

قال السيد فيرلوك: «خذ!» وهو يركل حقيبة الجلادستون على الأرض ركلة خفيفة؛ ثم ألقى ستيفي نفسه عليها وأمسكها وحملها بتفانٍ وكأنه حصل على غنيمة مُنتصِر. كان سريعًا لدرجة أن المفاجأة ظهرت على ملامح السيد فيرلوك.

في الوقت نفسه الذي تعالى فيه صوت صلصلة جرس المتجر، نظرت السيدة نيال، التي كانت تُلَمِّع موقد المدفأة في غرفة المعيشة بشحم الجرافيت، عبر الباب، وبعدما رفعت ركبتَيها عن الأرض، ذهبت، وهي ترتدي مئزرها، ومتَّسخة من الكدح الملازم لحياتها، كي تُخبر السيدة فيرلوك في المطبخ بأن «السيد قد عاد».

جاءت ويني ولم تتخطَّ الباب الداخلي للمتجر.

قالت من مسافة: «لعلَّك بحاجة لتناول إفطار.»

حرك السيد فيرلوك رأسه قليلًا وكأنه فُرض عليه اقتراح مُستحيل. ولكن بمجرد أن ولج إلى غرفة المعيشة لم يَرفُض الطعام الذي وُضع أمامه. أكل وكأنه في مكان عام، بقبَّعته المدفوعة إلى الخلف بعيدًا عن جبهته، وطرفَي معطفه الثقيل المعلقَين على شكل مثلث على جانبي الكرسي. وعبر الطاولة المُغطَّاة بفرش مشمَّع بني اللون، تحدثت إليه زوجته ويني بحديث أزواج، يُماثل — في تأقلمها البارع، بلا شك، مع ظروف عودته — حديث بينيلوبي عند عودة زوجها أوديسيوس من ترحاله. ومع ذلك لم تكن السيدة فيرلوك تَنسج الغزل في فترة غياب زوجها. لكنها كانت قد نظفت جميع الغرف في الطابق العلوي جيدًا وباعت بعض السلع ورأت السيد ميكايليس عدة مرات. كان قد أخبرها في آخر مرة أنه سيَنتقل إلى العيش في كوخ في الريف، في مكانٍ ما بين لندن وتشاتام ودوفر. كان كارل يوندت قد أتى هو الآخر، مرةً واحدةً، متأبطًا ذراع «مدبرة شئون منزله الغريبة الأطوار تلك». كان «رجلًا مسنًّا مُقزِّزًا». أما عن الرفيق أوسيبون، الذي كانت قد استقبلته في زيارة مقتضبة، وهي متحصِّنة خلف منضدة البيع بوجه متحجِّر ونظرة شاردة، فلم تقل شيئًا، واتَّسم تذكُّرها لللاسلطوي القوي بصمت قصير وتورُّد خفيف للغاية لوجنتيها. ومقحمةً ذكر شقيقِها ستيفي فور استطاعتها إلى مجرى الحديث عن الأحداث المنزلية، أشارت إلى أن الصبي قد اكتَأَبَ كثيرًا.

«السبب في ذلك هو ترك أمي لنا بتلك الطريقة.»

لم يقل السيد فيرلوك «اللعنة!» ولا حتى «فليذهب ستيفي إلى الجحيم!» وإذ لم يدَع السيدة فيرلوك تطلع على سريرته، عجزت عن تقدير فضيلة الضبط للنفس هذا.

أردفت: «لا يَعني هذا أنه لا يعمل جيدًا مثلما هو شأنه دائمًا. إنه يُحاول دائمًا أن يكون مفيدًا جدًّا. يجعلك تظن أنه يشعر أنه لا يفعل ما يكفي من أجلنا.»

توجه السيد فيرلوك بنظرة عفوية وهادئة نحو ستيفي، الذي كان جالسًا على يمينه، بوجه رقيق شاحب وشفاهٍ وردية وفم فاغر كالأبله. لم تكن نظرة انتقاد. ولم يكن لها مقصد ما. وحتى إن ظن السيد فيرلوك للحظة أن شقيق أخته كان يبدو عديم النفع تمامًا، فما كان ذلك أكثر من ظن خفي وعابر، ويخلو من تلك القوة والدوام اللذين يجعلان فكرةً تغير العالم في بعض الأحيان. مال السيد فيرلوك بظهره إلى الخلف، وخلع قبعته. وقبل أن تضع ذراعه الممدودة القبعة، وثب ستيفي نحوها وحملها بتوقير إلى المطبخ. ومجددًا ظهرت المفاجأة على ملامح السيد فيرلوك.

قالت السيدة فيرلوك بأفضل نبرة تنم عن هدوء رصين: «يُمكنك فعل أي شيء مع ذلك الصبي يا أدولف.» «سيرمي نفسه في النار من أجلك. إنه …»

توقفت منصتةً، وأدارت أذنها تجاه باب المطبخ.

كانت السيدة نيال تحكُّ الأرضية هناك. لما ظهر ستيفي، تأوَّهت بحزن؛ إذ لاحظت أنه يَسهُل استثارة عاطفته وتأخُذ منه الشلن، الذي كانت أخته ويني تُعطيه له من وقتٍ إلى آخر، لمنفعة أطفالها الصغار. بينما كانت جاثية على أربع فوق البلاطات المبتلة والمتسخة، مثل حيوان برمائي أو مستأنَس يعيش في عشة ومياه متسخة، تلفظت باستهلالتها المعتادة: «كل أحوالك على ما يرام، ظللت لا تَفعل أي شيء وكأنك رجل نبيل.» واستتبعتها بالشكوى الأزلية من الفقر، بعبارات كاذبة تُثير الشفقة تؤكِّدها الرائحة الكريهة لشراب الرم الرخيص في أنفاسها والصابون مما يُبرهن على بؤسها. ظلت تجدُّ في الحك، وهي تُخنفِر من أنفها طيلة الوقت، وتثرثر بصوت عالٍ. وكانت مخلصةً. وعلى كلا جانبَي أنفها الرفيع الأحمر، تذرف عيناها المتعبتان الضبابيتان الدموع؛ لأنها كانت تشعر باحتياج حقيقي إلى بعض المنبهات في الصباح.

في غرفة المعيشة، علَّقت السيدة فيرلوك بدراية قائلة:

«ها هي السيدة نيال لا تَبرح مجددًا تسرد حكاياتها المروعة عن أطفالها الصغار. لا يُمكن أن يكونوا جميعًا صغارًا كما تَحكي عنهم. لا بدَّ أن بعضهم كبروا الآن بما يكفي لأن يُحاولوا فعل شيء لأنفسهم. إن هذا يغضب ستيفي.»

تأكدت تلك الكلمات بضربة وكأن قبضة تضرب طاولة المطبخ. وفي سياق التطور الطبيعي للعاطفة لدى ستيفي، كان قد صار غاضبًا عندما اكتشف أنه لم يكن يَمتلك شلنًا في جيبه. لما لم يستطع أن يُخفف عن السيدة نيال عوزها من أجل «أطفالها الصغار»، شعر بأن شخصًا آخر لا بدَّ أن يُعاني من أجل ذلك. نهضت السيدة فيرلوك وذهبت إلى المطبخ كي «توقف ذلك الهراء». وأوقفته بحزم، ولكن بلطف. كانت تدرك جيدًا أنه فور أن تتلقَّى السيدة نيال أجرتها، كانت تذهب إلى مكانٍ قريب لتناول مشروبات روحية في حانة عامة وضيعة وقذرة، المحطة التي لا مفرَّ منها على «طريق الآلام» الذي تقطعُه في حياتها. كان لتعليق السيدة فيرلوك على هذه الممارسة أثر عميق غير متوقَّع لأنه يأتي من شخص لا يرغب في النظر إلى ما تحت ظاهر الأمور. «بالطبع، ما الذي يمكنها أن تفعله كي تَصمُد؟ لو أنني كنت في مكان السيدة نيال، أتوقع أنني كنت سأتصرف بطريقة لا تختلف عنها.»

في عصر ذلك اليوم نفسه، بعد أن استيقظ السيد فيرلوك فزِعًا من آخر سلسلة طويلة من الإغفاءات أمام مدفأة غرفة المعيشة، أعلن عن نيته في التنزه سيرًا على الأقدام، قالت ويني من المتجر:

«أرجو أن تأخذ هذا الصبي معك يا أدولف.»

فوجئ السيد فيرلوك للمرة الثالثة في ذلك اليوم. حدَّق في زوجته غير مصدق. تابعت حديثها بطريقتها الثابتة. كان الاكتئاب يُصيب الصبي في المنزل عندما لا يكون مشغولًا بأي شيء. اعترفت بأنه أزعجها وأصابها بالتوتُّر. وبدا هذا الكلام مبالغةً من ويني الهادئة. ولكن، إحقاقًا للحق، كان ستيفي مكتئبًا بطريقة لافتة للنظر وكأنه حيوان أليف غير سعيد. كان يصعد على البسطة المُظلمة ويجلس على الأرض تحت الساعة الطويلة ضامًّا ركبتيه وواضعًا رأسه بين يديه. كان أمرًا مزعجًا أن يُرى وجهه الشاحب ذو العينَين الواسعتين اللتين تَلمعان في الظلام؛ ولم يكن التفكير في جلوسه بتلك الهيئة يدعو إلى الراحة.

تقبل السيد فيرلوك هذه الفكرة الجديدة المباغتة. كان مولعًا بزوجته كما ينبغي لرجل أن يكون؛ بعبارة أخرى، كان يُحبها كثيرًا. ولكن اعتراضًا مهمًّا بدر إلى ذهنه، وصاغه بالكلمات.

قال: «ربما يغيب عن ناظري، ويتوه في الشارع.»

هزت زوجته رأسها واثقةً.

«لن يفعل. أنت لا تَعرفه. ذلك الفتى يُوقِّرك كثيرًا. ولكن إذا فقدته …»

توقفت السيدة فيرلوك للحظة؛ ليس أكثر من لحظة.

«تابع سيرك فحسب، واستمتع بنزهتك. لا تقلق. سيكون بخير. لا شك أنه سيعود بأمانٍ قبل أن يمر وقت طويل.»

هذا التفاؤل جعل السيد فيرلوك يتفاجَأ للمرة الرابعة في ذلك اليوم.

تذمر مُتشكِّكًا: «حقًّا سيفعل؟» ولكن ربما لم يكن صهره بهذا الحمق الذي كان يبدو عليه. من شأن زوجته أن تعرف أفضل منه. أشاح عينَيه الناعستين بعيدًا وقال بصوت أجش: «حسنًا، دعيه يأتي معي إذن.» وعاد للوقوع في براثن القلق السوداوي، فربما كان صهره يُفضِّل الجلوس خلف فارس، لكنه يعرف أيضًا كيف يتعقَّب عن كثب أناسًا ليسوا أثرياء بما يكفي لامتلاك خيول؛ مثل السيد فيرلوك على سبيل المثال.

عند باب المتجر لم ترَ ويني هذا المُرافِق القاتل (القلق السوداوي) يمشي في أعقاب السيد فيرلوك. وإنما شاهدت السيد فيرلوك وستيفي يسيران في الشارع القذر، أحدهما طويل وضخم الجثة، والآخر نحيف وقصير وله رقبة نحيفة وترتفع كتفاه الهزيلتان قليلًا أسفل الأذنين الكبيرتين شبه الشفافتين. كان المِعطفان من الخامة نفسها، وقبعتاهما سوداوين وذاتَي شكل دائري. أطلقت السيدة فيرلوك العنان لخيالها من وحي التشابه في ملابسهما.

قالت لنفسها: «كأنهما أبٌ وابنه.» فكرت أيضًا في أن السيد فيرلوك كان أقرب تجسيد للأب في حياة ستيفي البائس. كانت تُدرك أيضًا أن هذا جهدها. وبفخر مُطمئن، هنَّأت نفسها على قرار معيَّن سبق أن اتخذته قبل بضع سنوات. كان القرار قد كلفها بعض الجهد، وأيضًا بعض الدموع.

هنأت نفسها أكثر لما لاحظت بمرور الأيام أن السيد فيرلوك بدا متقبلًا برحابة صدر لرفقة ستيفي. والآن عندما كان السيد فيرلوك يستعدُّ للخروج لنزهته، كان يُنادي على الفتى بصوت عالٍ، على الوجه الذي يُنادي به رجل على كلبه الأليف ليرافقه، على الرغم من اختلاف الأسلوب بالطبع. وفي المنزل، كان يُمكن ملاحظة السيد فيرلوك وهو يحملق باهتمام في ستيفي لفترة طويلة. كان سلوكه قد تغيَّر. كان لا يزال قليل الكلام، ولكنه لم يكن فاترًا جدًّا. اعتقدت السيدة فيرلوك أنه كان عصبيًّا نوعًا ما في بعض الأحيان. وربما كان ذلك يعتبر بمثابة تحسن. أما ستيفي، فلم يَعُد يَجلس مغتمًّا تحت الساعة، ولكنه بدلًا من ذلك كان يُتمتِم لنفسه في الأركان بنبرة تهديدية. عندما سئل: «ما الذي تقوله يا ستيفي؟» لم يفعل شيئًا سوى أنه فتح فمه وحدق في أخته بعينَين نصف مُغمضتَين. وفي أوقات نادرة، كان يضم قبضتي يديه من دون سبب واضح، وعندما يُكتَشَف في عزلة، فربما يُرى عابسًا بجانب الحائط ومعه ورقة وقلم رصاص أُعطيا له كي يرسم دوائر فارغة على طاولة المطبخ. كان هذا تغيُّرًا، ولكنه لم يكن تحسُّنًا. أدرجت السيدة فيرلوك كل هذه التقلُّبات ضمن التعريف العام للانفعال، وبدأت تخشى أن ستيفي كان يَسمع أكثر مما يُناسبه من محادثات زوجها مع أصدقائه. أثناء «نزهاته»، كان السيد فيرلوك، بالطبع، يُقابل العديد من الأشخاص ويتحدَّث معهم. لا يُمكن أن يكون الأمر خلاف ذلك. كانت نزهاته جزءًا لا يتجزأ من أنشطته خارج البيت، التي لم تكن زوجته قد تمعنت فيها بعُمق مُطلقًا. شعرت السيدة فيرلوك أن الموقف كان حسَّاسًا، لكنها واجهته بنفس الهدوء المُستغلَق الذي كان يثير إعجاب زبائن المتجر واندهاشهم أيضًا، وجعل الزوار الآخرين يتجنَّبونها قليلًا متعجبين. كلا! أخبرت زوجها أنها كانت تخشى من أن ستيفي يسمع أشياء لا ينبغي أن يسمعها. كانت هذه الأشياء تُثير انفعال الصبي البائس لأنه لم يكن يُمكن ألا يُثار منها. لا أحد يُمكنه ذلك.

دار هذا الحديث في المتجر. لم يُعلِّق السيد فيرلوك بشيء. لم يردَّ بشيء، ومع ذلك كان الرد واضحًا. ولكنه امتَنَع عن أن يُشير إلى زوجته بأن فكرة اصطحاب فيرلوك في نزهاته كانت فكرتها هي ولا أحد غيرها. في تلك اللحظة، ومن وجهة نظر مُحايدة، كانت ستتجلى شهامة السيد فيرلوك الفائقة. أنزل صندوقًا صغيرًا من الورق المقوى من فوق أحد الأرفف، ونظر بداخله نظرةً خاطفةً وتأكد من أن المحتويات كانت على ما يُرام، ثم وضعه برفق على منضدة البيع. حتى تلك اللحظة، لم يكسر حاجز الصمت إلا بعد أن فعل ذلك، قائلًا ما مفاده أن ستيفي على الأرجح سيَستفيد استفادةً كبيرةً بإرساله خارج المدينة لبعض الوقت؛ إلا أنه كان يتوقع أن زوجته لن تستطيع الاستغناء عنه.

كررت زوجته ببطء: «لا أستطيع الاستغناء عنه! لا أستطيع الاستغناء عنه إن كان ذلك لصالحه! عجبًا مما تقول! بالطبع أستطيع الاستغناء عنه. ولكن لا يوجد مكان يذهب إليه.»

أخرج السيد فيرلوك ورقة بنية اللون وبكرة خيط؛ وفي تلك اللحظة تمتم بأن ميكايليس كان يقطن في كوخ صغير في الريف. لن يمانع ميكايليس في أن يمنح ستيفي غرفة ينام فيها. لم يكن ثمة زائرون ولا أحاديث هناك. كان ميكايليس عاكفًا على كتابة كتاب.

صرَّحت السيدة فيرلوك بميلها إلى ميكايليس؛ وأعربت عن اشمئزازها من كارل يوندت بقولها «رجل مسنٌّ بغيض»؛ ولكنها لم تذكر شيئًا عن أوسيبون. أما ستيفي، فلا يُمكن إلا أن يكون سعيدًا جدًّا. كان السيد ميكايليس دومًا لطيفًا وعطوفًا جدًّا معه. بدا أنه يحب الصبي. وفي الحقيقة، كان الصبي مطيعًا.

بعدما توقفت قليلًا، أردفت بثِقة راسخة: «أرى أنك أنت أيضًا قد ازددت حبًّا له في الفترة الأخيرة.»

بينما كان السيد فيرلوك يربط الصندوق الورقي في طرد كي يُرسله عبر البريد، جذب الخيط عفويًّا وقطعه، ثم تمتم بعدة شتائم بينه وبين نفسه. بعد ذلك رفع صوته وتكلم بصوته الأجش المعتاد، وأعرب عن استعداده لأن يأخذ ستيفي بنفسه إلى الريف، وأن يتركه في أمان تام مع ميكايليس.

نفذ هذا المخطط في اليوم التالي مباشرةً. لم يُبدِ ستيفي اعتراضًا. بل بدا مُتحمِّسًا نوعًا ما بطريقة تُثير الحيرة. توجه بنظراته المحدقة المليئة بالفضول إلى السيد فيرلوك ذي الوجه الكبير على فترات متقطِّعة، خاصةً عندما كانت أخته تَحيد بنظرها عنه. عبرت ملامحه عن الفخر والتخوف والتركيز، مثل ملامح طفل صغير يُعْهَد إليه لأول مرة بعلبة ثقاب ويؤذن له بأن يقدحه. شعرت السيدة فيرلوك بالرضا عن سلاسة أخيها، وأوصته بألا يُوسِّخ ملابسه من دون داعٍ في الريف. عندئذٍ، رمق ستيفي أخته — راعيتَه وحاميته — بنظرة بدت للمرة الأولى في حياته أنها تَفتقِر إلى صفة الثقة الطفولية التامة. كانت نظرة متجهِّمة بغطرسة. فابتسمت السيدة فيرلوك.

«يا إلهي! لا داعي للاستياء. أنت تعرف أنك بالفعل تُوسِّخ نفسك كثيرًا عندما تتاح لك الفرصة لذلك، يا ستيفي.»

كان السيد فيرلوك قد قطع بعض المسافة في الشارع.

وهكذا نتيجةً لتصرُّفات والدتها البطولية ولغياب أخيها في الريف، وجدت السيدة فيرلوك نفسها وحيدةً أكثر من المعتاد، ليس في المتجر فقط، وإنما في المنزل أيضًا. وذلك لأن السيد فيرلوك كان لا بدَّ أن يَخرُج في نزهاته. كانت وحيدة لفترة أطول من المُعتاد في يوم التفجير المدبَّر في جرينتش بارك؛ لأن السيد فيرلوك خرج في وقت مبكر جدًّا من صباح ذلك اليوم ولم يرجع حتى وقت الغسق تقريبًا. لم تُمانع كونها وحيدة. فلم تكن لديها رغبة في الخروج. كان الطقس سيئًا للغاية، وكان المتجر أدفأ من الشوارع. جلست خلف منضدة البيع عاكفةً على بعض أعمال الخياطة، ولم ترفع عينَيها عن عملها عندما دخل السيد فيرلوك مع جلجلة الجرس المزعجة. كانت قد تعرَّفت على خطواته وهو على الرصيف بالخارج.

لم ترفع عينيها، ولكن بينما كان السيد فيرلوك يتوجه، صامتًا ومُنزلًا قبعته على جبهته، مباشرةً إلى غرفة المعيشة، قالت بنبرة هادئة:

«يا له من يوم سيئ جدًّا! لعلك ذهبت لرؤية ستيفي؟»

قال السيد فيرلوك بنعومة: «كلا! لم أفعل.» وأغلق باب غرفة المعيشة الزجاجي بقوة غير متوقعة.

لبعض الوقت ظلَّت السيدة فيرلوك ساكنة والأشغال التي تُخيطها في حجرها، ثم وضعتها جانبًا تحت منضدة البيع ونهضت كي تُشعل مصباح الغاز. بعدما فعلت، مرت بغرفة المعيشة في طريقها إلى المطبخ. سيرغب السيد فيرلوك في كوب شاي بعد قليل. مع ثقة ويني في جمالها، لم تتوقع من زوجها أن يُبديَ لها حفاوة في الخطاب أو لطفًا في الأسلوب في تعامُلهما اليومي في حياتهما الزوجية؛ كانت طرقًا عديمة الجدوى وقديمة في أفضل الحالات، وربما لم يعد أحد يحرص عليها حرصًا تامًّا، بل صارت مُهمَلة في هذه الأيام حتى في أرقى الطبقات الاجتماعية، ودائمًا ما كانت غريبة على أعراف طبقتها. لم تكن ترجو مُجاملات منه. ولكنه كان زوجًا صالحًا، وكانت تحترم حقوقه حق الاحترام.

كانت السيدة فيرلوك ستمر عبر غرفة المعيشة في طريقها لإنجاز واجباتها المنزلية في المطبخ بهدوء تامٍّ يَليق بامرأة واثقة من سحر جمالها. ولكن نما إلى سمعها صوتٌ رنانٌ ضعيفٌ، ضعيفٌ للغاية، وسريع. كان غريبًا وغير مفهوم، حتى إنه استحوذ على انتباه السيدة فيرلوك. ثم عندما أصبح طابعه واضحًا للأذن، توقَّفت فجأة، مُندهِشة وقلقة. بعدما أشعلت عود الثقاب من العلبة التي كانت تحملها في يدها، استدارت وأنارت أحد مصباحي الكيروسين على طاولة غرفة المعيشة؛ ولأن المصباح كان به عيب، صدر منه في البداية صفير كأنه صوت اندهاش، ثم مضى يصدر صوت قرقرة ناعمة كقطة.

كان السيد فيرلوك قد خلع معطفه وألقاه على غير عادته. كان مُلقًى على الأريكة. استقرت قبعته — التي لا بد أنه رماها هي الأخرى — مقلوبة تحت حافة الأريكة. كان قد سحب كرسيًّا أمام المدفأة ومدَّ قدميه داخل المصد ووضع رأسه بين يدَيه، شاردًا في أفكاره فوق موقد المدفأة المتوهج. كانت أسنانه تصطك بعنف لا يُمكن التحكم فيه، مما جعل ظهره العريض كله يرتعش بنفس الدرجة. تملك الذهول من السيدة فيرلوك.

قالت: «لقد أصابك البلل.»

«ليس كثيرًا»، استطاع السيد فيرلوك أن يتلفَّظ بتلك الكلمات مُتلعثِمًا، بارتعاشة شديدة. بجهد جهيد أخمد اصطكاك أسنانه.

قالت بقلقٍ حقيقي: «سأجعلك تَستلقي مُستريحًا على يدَيَّ.»

علق السيد فيرلوك وهو يتنشَّق بصوت مبحوح: «لا أظن ذلك.»

كان بالتأكيد قد أُصيب بنزلة بردٍ شديدة بين الساعة السابعة صباحًا والخامسة مساءً. نظرت السيدة فيرلوك إلى ظهره المقوس.

سألته: «أين كنت اليوم؟»

أجاب السيد فيرلوك بصوت مختنق ومنخفض أخنف: «لم أذهب إلى أيِّ مكان.» أوحى سلوكه هذا باستياء وامتعاض أو بصداع حاد. لم يَخفَ اقتضاب إجابته وغموضها في هذا الصمت الذي خيم على الغرفة. تنشق معتذرًا، ثم أردف: «ذهبت إلى البنك.»

تنبهت زوجته.

قالت بدون انفعال: «حقًّا! ما السبب؟»

تمتم السيد فيرلوك، وأنفُه فوق موقد المدفأة، برغبة واضحة في ألا يُجيب.

«كي أسحب المال!»

«ما الذي تقصده؟ كله؟»

«أجل. كله.»

فرشَت السيدة فيرلوك بعنايةٍ مفرش الطاولة الخفيف، وأخرجت سكينتين وشوكتين من درج الطاولة، وتوقفت فجأة عن أعمالها الرتيبة.

«لماذا فعلت ذلك؟»

بغموض، وهو يتنشَّق، أجاب السيد فيرلوك، الذي كان على وشك الوصول إلى نهاية تصرفاته الطائشة العديدة: «ربما أحتاجه عما قريب.»

علقت زوجته بنبرتها المعتادة، ولكنها كانت تقف من دون حراك بين الطاولة والخزانة: «لا أعرف ما ترمي إليه.»

علق السيد فيرلوك بصوت أجش وهو ينظر إلى موقد المدفأة: «كما تَعرفين، يمكنكِ أن تثقي فيَّ.»

توجهت السيدة فيرلوك بخُطًى متثاقلة نحو الخزانة وهي تقول بتأنٍّ:

«أوه نعم. يُمكنني أن أثق فيك.»

ثم تابعت أعمالها الرتيبة. وضعت طبقين وأتت بالخبز والزبد وظلَّت تغدو وتروح بهدوء بين الطاولة والخزانة في سلام وسكينة منزلها. عندما كانت تُخرج المُرَبَّى، فكَّرت بطريقة عملية: «سيشعر بالجوع لأنه ظل غائبًا طوال اليوم»، ثم عادَت إلى الخزانة مرةً أخرى كي تُحضِر لحم البقر البارد. وضعته تحت مصباح الكيروسين ذي صوت القَرقرة، وبنظرة عابرة إلى زوجها الساكن المُلتصِق بالمدفأة، نزلت (درجتين) إلى المطبخ. لم تتحدَّث مرةً أخرى إلا عندما عادت وفي يدها سكين لتقطيع اللحم وشوكة.

«لو لم أكن أثق فيك، ما كنتُ تزوجتك.»

انحنى تحت رف المدفأة، ممسكًا رأسه بين كلتا يدَيه، وبدا وكأنه قد غلبه النعاس. أعدَّت ويني الشاي، ونادَت عليه بصوت خافت:

«أدولف.»

نهض السيد فيرلوك في الحال، وترنَّح قليلًا قبل أن يجلس إلى الطاولة. تفحَّصت زوجته الحافة الحادة لسكين تقطيع اللحم، ووضعتها على الطبق، واسترعت انتباهه إلى لحم البقر البارد. ظل غير مُنتبه إلى إشارتها، وذقنه على صدره.

قالت زوجته بنبرة جازمة: «يجب أن تأكُل لتتخلَّص من البرد الذي أصابك.»

رفع بصره وهز رأسه. كانت عيناه محتقنتَين ووجهه أحمر. كانت أصابعه قد نكشت شعره وجعلته أشعث وغير مُهندم. كان مظهره سيئًا بوجه عام ويدلُّ على عدم الراحة والتهيُّج والاكتئاب الذي يعقب الانغماس في فسوق كبير. لكن السيد فيرلوك لم يكن فاسقًا. كان محترمًا في سلوكه. ربما كان مظهره قد تأثَّر بحُمى مصاحبة للبرد. احتسى ثلاثة أكواب من الشاي، ولكنَّه امتنع تمامًا عن تناول الطعام. نكص عنه بنفور مُتجهِّم عندما ألحَّت السيدة فيرلوك، التي قالت في النهاية:

«أليسَت قدماك مُبتلتَين؟ من الأفضل أن تَرتدي خُفَّك. لن تخرج مرةً أخرى هذا المساء.»

ألمح السيد فيرلوك بهمهمات وإشارات عابسة إلى أن قدمَيه ليستا مبتلتَين، وأنه غير مُهتم على أي حال. تجاهل اقتراح ارتداء خُفه وكأنه أمر لم يكن جدير باهتمامه. ولكن مسألة عدم الخروج في المساء قُوبلت بتطور غير متوقَّع. لم يكن الخروج في المساء هو ما كان يُفكر فيه السيد فيرلوك. تبنَّت أفكاره مخططًا أوسع. من العبارات المزاجية وغير المُكتملة، بات واضحًا أن السيد فيرلوك كان يُفكر في جدوى الهجرة. لم يكن واضحًا جدًّا إن كان يفكر في الهجرة إلى فرنسا أم إلى كاليفورنيا.

عدم التوقع التام لوقوع هذا الحدث، وعدم احتماليته وعدم تصوره سلب هذا التصريح الغامض كل تأثيره. قالت السيدة فيرلوك، بهدوء وكأن زوجها كان يُهددها بنهاية العالم:

«عجبًا!»

صرح السيد فيرلوك بأنه تعب وسئم من كل شيء، وعلاوة على ذلك … فقاطعته.

«أنت مُصاب بنزلة بردٍ حادة.»

كان واضحًا بالفعل أن السيد فيرلوك لم يكن في حالته الطبيعية، جسديًّا وحتى عقليًّا. تملكت منه حيرة كئيبة وأبقته صامتًا بعض الوقت. ثم همهم بكلام مُبهَم نكد عام حول موضوع الضرورة.

كررت ويني، وهي جالسة هادئة، عاقدةً ذراعيها، في مواجهة زوجها: «ستضطرُّ إلى ذلك.» «أود أن أعرف من الذي يُزعجك. أنت لست عبدًا. لا أحد بحاجة إلى أن يكون عبدًا في هذه البلاد، ولا تجعل من نفسك عبدًا.» توقفت قليلًا، ثم عادت للحديث بصدق كئود وراسخ. أردفت: «العمل ليس سيئًا جدًّا. ولديك بيت مريح.»

نظرت في أرجاء غرفة المعيشة، من الخزانة في الزاوية إلى النيران المُشتعلة في موقد المدفأة. هذا المنزل، الذي كان محتجبًا على نحو مريح خلف المتجر الذي يَبيع سلعًا تحوم حولها التساؤلات، بنافذته المُعتمة بغموض، وبابه الموارب بطريقة تُثير الريبة في الشارع المظلم والضيق، كان منزلًا لائقًا وفقًا لكل أساسيات الملاءمة والراحة المنزلية. افتقدت عاطفتها المخلصة أخاها ستيفي، الذي كان حينئذٍ يَستمتع بجوٍّ ريفي رطب في حارات كينتيش تحت رعاية السيد ميكايليس. افتقدته بشدة، بكل قوة عاطفة الحماية لديها. كان هذا بيت الصبي أيضًا، السطح، والخزانة، وموقد المدفأة المتأجِّج. نهضت السيدة فيرلوك، وعقلها مُنشغل بتلك الخاطِرة، وسارت إلى الجانب الآخر من الطاولة، قائلةً من أعماق قلبها:

«وأنت لم تَسأم منِّي.»

لم يَنبس السيد فيرلوك ببنت شفة. استندت ويني على كتفه من الخلف، وقَبَّلَته على جبهته. وأطالت هكذا. لم يصل إليهما أي همس من العالم بالخارج.

تلاشى صوت وقع الأقدام على الرصيف في ظلمة المتجر المُعتمة. لم يكن ثمة صوت سوى صوت قرقرة مصباح الكيروسين على الطاولة في الصمت الكئيب الذي خيَّم على غرفة المعيشة.

أثناء تلامُس تلك القُبلة الطويلة غير المتوقَّعة، ظلَّ السيد فيرلوك، مُتمسكًا بكلتا يدَيه بحافة كرسيِّه، في حالة جمود كهنوتي. عندما رفعت شفتَيها من فوق جبهته، تخلَّى عن تمسُّكه بالكرسي، ونهض ومشى حتى وقَف أمام المدفأة. لم يكن حينئذٍ مُوليًا ظهره للغرفة. بتورُّم ملامحه ومظهره الذي يُوحي بأنه مُخَدَّر، تابع بعينَيه حركات زوجته.

مضت السيدة فيرلوك بهدوء في تنظيف الطاولة. علقت بصوتها الهادئ على الفكرة المطروحة بنبرة عقلانية وأليفة. لم يكن ثمَّة ما يدعو للتمحيص فيها. استهجنت الفكرة من جميع النواحي. لكن همها الحقيقي الوحيد كان مصلحة ستيفي. بدا لها في تفكيرها في هذا الصدد أنه «غريب» بما يكفي ولا يصحُّ التسرع في السفر به إلى الخارج. وكان ذلك كل ما في الأمر. ولكن في حديثها الذي تجنَّبت فيه تلك النقطة الحيوية، وصلت في لهجتها إلى درجة الحدة الطاغية. وفي تلك الأثناء، بحركات حادَّة، ارتدَت مِئزرًا من أجل أن تغسل الأطباق. وكأنَّها مولعة بوقع صوتها الذي لم يُدحَض حديثه، تجرَّأت أن تقول بنبرة كادَت أن تكون لاذعة:

«إذا كنت ستُسافر إلى الخارج، فسيكون عليك أن تذهب بدوني.»

قال السيد فيرلوك بصوت مبحوح، وارتعش صوته المنخفض في حديثه مع زوجته بعاطفة مبهمة: «تَعرفين أنني لا يُمكن أن أفعل هذا.»

كانت السيدة فيرلوك قد ندمت على ما تفوَّهت به من كلمات. فقد بدَت أقسى مما كانت تقصد. كما أنها كانت كلمات طائشة عن أمور غير ضرورية. في الواقع، لم تكن تقصدها على الإطلاق. كانت من نوعية العبارات التي يُوحي بها شيطان الوحي المُنحرِف. ولكنها كانت تعرف طريقة تنسيه بها ما قالته.

استدارت برأسها من فوق كتفها ورمقت ذلك الرجل المُنزرع أمام المدفأة بنظرة تحوي بعضًا من المكر وبعضًا من القسوة من عينَيها الواسعتين، نظرة كانت ويني تعجز عنها أيام كانت تعيش في منزل بلجرافيا بسبب احترامها وجهلها. ولكن الرجل زوجها الآن، ولم تعد جاهلة. أبقت عينها عليه لثانية كاملة، بوجهها الجاد الجامد مثل قناع، بينما قالت بنبرة مرِحة:

«لا تستطيع. ستفتقدني كثيرًا.»

بدأ السيد فيرلوك يمشي إلى الأمام.

قال بصوت أعلى: «بالضبط.» وفرد ذراعيه ومشى خطوة نحوها. انطوى تعبير وجهِه على شيء من الجموح والريبة فبدا غير واضح إن كان يقصد خنقَ زوجته أم احتضانها. ولكن انتباه السيدة فيرلوك انصرَفَ عن استجلاء ذلك بسبب صلصلة جرس المتجر.

«المتجر يا أدولف. اذهب أنت.»

توقف وأنزل ذراعَيه ببطء.

كررت السيدة فيرلوك: «اذهب أنت. أنا مُرتدية مئزري.»

أطاع السيد فيرلوك أمرها بطريقة جامدة وعينَين متحجرتين مثل إنسان آلي طُلي وجهه باللون الأحمر. وكان هذا التشابه بينه وبين الإنسان الآلي غريبًا إلى حدِّ أنه كان مدركًا للطبيعة الميكانيكية بداخله.

أغلق باب غرفة المعيشة، وتحرَّكت السيدة فيرلوك بخفة وهي تَحمل الصينية إلى المطبخ. غسلت الأكواب وبعض الأشياء الأخرى قبل أن تتوقف عن العمل كي تَستمِع. لم يصل أي صوت إلى أذنيها. ظل الزبون في المتجر لفترة طويلة. كان زبونًا؛ لأنه لو لم يكن كذلك، كان السيد فيرلوك سيَصطحبه إلى الداخل. فكت خيوط مئزرها بشدة قوية، ورمتْه على كرسي، ورجعت إلى غرفة المعيشة بخُطًى بطيئة.

في تلك اللحظة بالتحديد، دخل السيد فيرلوك من المتجر.

كان قد ذهب ووجهُه أحمر. وعاد بشحوب غريب كبياض الورق. كانت ملامح وجهه — التي فقدت ذهولها المخدر المحموم — قد اكتسَت في ذلك الوقت القصير بتعبير ينم عن الارتباك والضيق. مشى إلى الأريكة مُباشرةً، ووقف وهو ينظر إلى معطفه الموضوع عليها، وكأنه يخشى أن يَلمسه.

سألت السيدة فيرلوك بصوت خافت: «ما الأمر؟» عبر الباب الذي كان مواربًا، استطاعت أن ترى أن الزبون لمَّا يذهب بعد.

قال السيد فيرلوك: «أجدني مُضطرًّا للخروج هذا المساء.» لم يُحاول أن يلتقط معطفه.

دون أن تَنطق بكلمة، مضَت ويني إلى المتجر وأغلقت الباب خلفها، ودخلت ووقفت خلف منضدة البيع. لم تنظر مباشرةً إلى الزبون حتى استقرَّت على الكرسي بجلسة مريحة. ولكن مع الوقت كانت قد لاحظت أنه كان طويلًا ورفيعًا وله شارب مبروم إلى أعلى. في الحقيقة، برم أطراف شاربه المدببة في تلك اللحظة. ظهر وجهه الطويل ذو العظام الناتئة فوق ياقة مرفوعة إلى أعلى. كان مُتناثرًا عليه قليل من قطرات الماء، ومُبتلًّا قليلًا. كان رجلًا ذا بشرة داكنة، ونتوء عظم وجنتِه محدَّد جدًّا تحت صدغ مجوف قليلًا. لم تكن قد رأتْه من قبل. لم يكن زبونًا أيضًا.

نظرت إليه السيدة فيرلوك في هدوء.

بعد مدة قالت: «هل أنت آتٍ من أوروبا؟»

لم يُجِب الغريب الطويل النَّحيف، الذي لم ينظر إلى السيدة فيرلوك مباشرةً، إلا بابتسامة باهتة وغريبة.

لم تنزل السيدة فيرلوك نظرتها الثابتة والفضولية عنه.

«أنت تفهم الإنجليزية، أليس كذلك؟»

«أوه نعم. أفهم الإنجليزية.»

لم تكن لكنتُه أجنبية، عدا أنه بدا أنه كان يبذل مجهودًا في نطقِه البطيء. وكانت السيدة فيرلوك، من خلال تجربتها الواسعة، قد توصَّلت إلى استنتاج مفادُه أن بعض الأجانب يمكنهم التحدث بالإنجليزية على نحو أفضل ممَّن كانت الإنجليزية هي لغتهم الأم. قالت، ناظرةً بثبات إلى باب غرفة المعيشة:

«ألا تُفكر في المكوث بإنجلترا بشكل دائم؟»

مجددًا لم يُجِبها الغريب إلا بابتسامة صامتة. كان له فم لطيف وعينان ثاقبتان. وهز رأسه بقليل من الأسف، أو هكذا بدا.

«سوف يعتني بك زوجي جيدًا. في غُضون ذلك، إن كانت إقامتك لأيام قليلة، لن تجد أفضل من أن تُقيم عند السيد جيوجلياني. الفندق اسمه كونتيننتال. يتَّسم بالخصوصية. إنه مكان هادئ. سيأخذك زوجي إلى هناك.»

قال الرجل الأسمر الرفيع، الذي كانت نظرته قد تصلَّبت فجأة: «فكرة جيدة.»

«أنت تعرف السيد فيرلوك من قبل، أليس كذلك؟ ربما في فرنسا؟»

أقر الزائر بنبرتِه البطيئة المُتثاقلة، التي كان لها قصد معين: «سمعت عنه.»

صمت قليلًا. ثم تحدَّث مُجددًا، بطريقة أقل بطئًا بكثير.

«رُبَّمَا يكون زوجك قد خرج كي ينتظرني في الشارع؟»

كررت السيدة فيرلوك مندهشةً: «في الشارع! لا يُمكنه ذلك. لا يوجد باب آخر للمنزل.»

للحظة جلست صامتةً، ثم غادرت مقعدها كي تذهب وتُلقي نظرة سريعة من الباب المزجج. فتحته فجأة واختفت في غرفة المعيشة.

لم يكن السيد فيرلوك قد فعل شيئًا سوى أنه ارتدى معطفه. لكنها لم تفهم لماذا بقيَ مستندًا على الطاولة بذراعَيه وكأنه يشعر بدُوار أو مرض. نادت عليه بصوت عالٍ بعض الشيء: «أدولف»؛ ولما اعتدل، قالت:

«هل تعرف ذلك الرجل؟» سألته بسرعة.

همس السيد فيرلوك منزعجًا، وهو ينظر إلى الباب بنظرة حادة: «سمعت عنه.»

لمعت عينا السيدة فيرلوك الجميلتان الهادئتان بوميضٍ من الاشمئزاز.

«أحد أصدقاء كارل يوندت؛ الرجل المُسن البغيض.»

اعترض السيد فيرلوك وهو مُنشغل بالبحث عن قبعته: «كلا! كلا!» ولكن عندما التقطها من تحت الأريكة، أمسكها وكأنه لا يَعرف نفع القبعة.

قالت السيدة فيرلوك في النهاية: «حسنًا؛ إنه ينتظرك. أدولف، أليس هذا أحد رجال السفارة الذين انزعجت بسببهم مؤخرًا؟»

كرر السيد فيرلوك باختلاجة قوية نابعة من المفاجأة والخوف: «انزعجت بسبب موظفي السفارة. من الذي أخبرك عن موظَّفي السفارة؟»

«أنت.»

«أنا! أنا! تحدثت معكِ عن السفارة!»

بدا السيد فيرلوك مُرتعبًا ومتحيرًا إلى حدِّ يفوق الوصف. أوضحت زوجته:

«كنت تتحدث قليلًا وأنت نائم في الفترة الأخيرة، يا أدولف.»

«ماذا … ماذا قلت؟ ما الذي تعرفينه؟»

«لا أعرف الكثير. بدا أغلب الكلام هراء. ولكنَّه يَكفي كي يجعلني أخمن أن أمرًا ما كان يقلقك.»

ضغط السيد فيرلوك قبَّعته على رأسه بقوة. اجتاح فيَضَان قرمزي من الغضب وجهه.

«هراء؛ أليس كذلك؟ رجال السفارة! سأقتلع قلوبهم واحدًا تلو الآخر. ولكن فليَحذرُوا. يمكنني أن أفصح عن أمور كثيرة.»

تملَّكه الغضب وظل يروح ويغدو بين الطاولة والأريكة، ومعطفه المفتوح يمسك في الزوايا. انحسر فيضان الغضب الأحمر من وجهِه، وتركه شاحبًا تمامًا، وفتحتا أنفه ترتعشان. وكي تحافظ السيدة فيرلوك على أسلوب الحياة العملي، أرجعت هذه الظواهر إلى إصابته بالبرد.

قالت: «حسنًا، تخلَّص من الرجل، أيًّا من كان، بأسرع ما تستطيع، وعد إليَّ. أنت بحاجة إلى الرعاية ليوم أو يومين.»

هدأ السيد فيرلوك، وكان قد فتح الباب بالفعل، والتصميم مُنطبِع على وجهه الشاحب، عندما دعته زوجته للعودة همسًا:

«أدولف! أدولف!» رجع إليها مندهشًا. فسألته: «ماذا عن ذلك المال الذي سحبته؟ هل هو معك في جيبك؟ ألم يكن من الأفضل أن …»

حملق السيد فيرلوك ببلاهة في راحة يد زوجته التي ظلَّت ممدودة لبعض الوقت قبل أن يصفع جبهته.

«المال! أجل! أجل! لم أعرف ماذا تقصدين.»

أخرج من جيب الصدر محفظةً جيب جديدة من جلد الخنزير. أخذته السيدة فيرلوك من دون أن تتكلَّم بكلمة أخرى، ووقفت دون حراك حتى هدأت صلصلة الجرس بعدما خرج السيد فيرلوك وزائره. عندئذٍ فقط، ألقَت نظرةً على مبلغ النقود، مخرجةً الأوراق النقدية لذلك الغرض. بعد هذا التفحُّص، نظرت حولها بتفكير، وبشيء من عدم الثقة في الصمت والعزلة اللذين كانا يُخيِّمان على المنزل. بدا لها منزل الزوجية منعزلًا وغير آمن وكأنه مُقامٌ وسط غابة. بدت لها كل حاوية، استطاعت أن تُفكِّر فيها وسط الأثاث الصلب الثقيل، سهلة الكسر وتمثل إغراءً خاصًّا للص المنازل حسب تصورها له. كان تصورها عنه مثاليًّا، تمتع فيه بقدرات عظيمة وبصيرة خارقة. لم يكن من الوارد البتَّة التفكير في درج النقود. كان الموضع الأول الذي سيَعمد إليه أي لص. فكَّت السيدة فيرلوك مشبكين على عجل، ودست المحفظة تحت صدرية ثوبها. بعد أن خبأت بذلك رأس مال زوجها، أسعدها إلى حدٍّ ما سماع صلصلة جرس الباب معلنةً وصول زائر ما. متصنِّعةً نظرتها الثابتة السافرة وتعبير الوجه المتحجِّر المخصَّص للزبائن العارضين، سارت ووقفت خلف منضدة البيع.

كان رجل واقف وسط المتجر يتفحَّص أرجاء المكان بنظرات سريعة وهادئة. ألقت عيناه نظرة سريعة على الجدران، ثم توجَّهت إلى السقف، ومنه إلى الأرضية؛ كل هذا في لحظة. تدلت حواف شارب طويل أشقر إلى تحت خط فكه. ابتسم ابتسامة شخص كان يعرفها منذ زمن بعيد، وتذكَّرت السيدة فيرلوك أنها رأته من قبل. لم يكن زبونًا. لطَّفت من «التحديقة الخاصة بالزبائن» وجعلتها مجرد نظرة لا مبالاة، وواجهته من خلف منضدة البيع.

أما هو فاقترب منها بحميمية، لكن ليس على نحو ملحوظ جدًّا.

سألها بنبرة هادئة وواثقة: «هل زوجك في المنزل يا سيدة فيرلوك؟»

«كلا. لقد خرج.»

«يؤسفني ذلك. جئت في زيارة قصيرة لكي أحصل منه على القليل من المعلومات الخاصة.»

كانت هذه الحقيقة بعينها. كان كبير المفتِّشين هيت قد وصل إلى المنزل، وكان حتى قد وصَلَ إلى حدِّ التفكير في ارتداء خُفه؛ لأنه كان عمليًّا، كما قال لنفسه، قد أُجْبِر على ترك تلك القضية. انغمس في بعض الأفكار الكريهة والقليل من الأفكار الغاضبة، ووجد الانهماك في التفكير غير مُناسِب لدرجة أنه عقد العزم على أن يَبتغيَ التفريج عن نفسِه خارج المنزل. لم يمنعه شيء من إجراء زيارة ودية إلى السيد فيرلوك، بشكل عرضي، إن جاز القول. استخدم وسائل انتقاله المعتادة بصفته مواطنًا عاديًّا خرج في نزهة خاصة. وقادته إلى بيت السيد فيرلوك. احترم كبير المفتِّشين هيت خصوصيته بصفته مواطنًا عاديًّا بشدة لدرجة أنه بذل جهدًا خاصًّا لتجنب جميع رجال الشرطة في النقاط والدوريات القريبة من شارع بريت. كان هذا الاحتياط ضروريًّا لرجل في مكانته أكثر بكثير من كونه ضروريًّا للمفوض المساعد غير المعروف. دخل المواطن العادي هيت إلى الشارع، مُناوِرًا بطريقة ربما لو فعلها أحد أفراد الطبقات الإجرامية لوُصِم بأنه يتسلَّل خلسة. كانت قطعة القماش التي التقطها في جرينتش في جيبِه. لم يكن ذلك يعني أنه كان لدَيه أدنى نية في إخراجها بصفته مواطنًا عاديًّا. وعلى النقيض، كان يريد أن يعرف بالضبط ما سيقوله السيد فيرلوك طواعية. كان يأمل أن يكون لحديث السيد فيرلوك طبيعة تدين ميكايليس. كان أملًا مهنيًّا بدقة ولكنه كان يخلو من قيمته الأخلاقية. وذلك لأن كبير المفتشين هيت كان خادمًا للعدالة. عندما وجد أن السيد فيرلوك لم يكن في المنزل، أحسَّ بخيبة أمل.

قال: «يُمكنني أن أنتظره قليلًا لو كنت متأكدًا من أن غيابه لن يطول.»

لم تتطوَّع السيدة فيرلوك بأي تأكيد من أي نوع.

كرر: «المعلومات التي أحتاجها خاصة للغاية. هل تفهمين ما أعنيه؟ يا ترى هل بإمكانك أن تُعطيني فكرة إلى أين ذهب؟»

هزت السيدة فيرلوك رأسها.

«ليس بوسعي أن أقول.»

أدارت ظهرها كي تُرتِّب بعض الصناديق على الرفوف خلف منضدة البيع. ظلَّ كبير المفتِّشين هيت ينظر إليها بتفكير بعض الوقت.

قال: «أظن أنك تَعرفينني، أليس كذلك؟»

نظرت السيدة فيرلوك من فوق كتفها. استغرب كبير المفتشين هيت من هدوئها.

قال بنبرة حادة: «هيا! تعرفين أنني أعمل في الشرطة.»

قال السيدة فيرلوك: «لا أشغل بالي كثيرًا بهذه الأمور»، ثم عادت إلى ترتيب الصناديق.

«اسمي هيت. كبير المفتِّشين هيت من إدارة الجرائم الخاصة.»

عدلت السيدة فيرلوك بإتقان صندوقًا صغيرًا من الورق المقوَّى في مكانه، واستدارت وواجهته مرة أخرى، بعينَين مُنهكتَين ويدَين خاملتين متدليتين. ساد صمت لبعض الوقت.

«إذن خرج زوجكِ منذ ربع ساعة! ولم يَقُل متى سيعود؟»

قالت السيدة فيرلوك سهوًا في غفلة منها: «لم يَخرُج بمفرده.»

«مع صديق؟»

تلمست السيدة فيرلوك الجزء الخلفي من شعرها. كان في هندامه الكامل.

«شخص غريب زاره.»

«فهمت. هل يُمكنكِ أن تصفي لي ذلك الرجل الغريب؟ هل لديكِ مانع من أن تُخبريني؟»

لم تمانع السيدة فيرلوك. وعندما سمع كبير المفتِّشين هيت أن الرجل أسمر ورفيع وله وجه طويل وشارب له حواف مَبرومة إلى الأعلى، ارتسمت على ملامحه علامات الاضطراب وصاح:

«اللعنة، لم أُفكر في ذلك! إنه لم يضيع أي وقت.»

شعر في قرارة نفسه باشمئزاز كبير من المسلك غير الرسمي من رئيسه المباشر. ولكنه لم يكن غير عملي. ومِن ثَمَّ فقَد أي رغبة في انتظار عودة السيد فيرلوك. لم يعرف السبب وراء خروجهما، ولكنه تصور أنهما من المُمكن أن يعودا معًا. فكَّر بمرارة، قائلًا في نفسه إنه لم تُتَّبَع الأصول المرعية في القضية، وثمة تلاعب يجري فيها.

قال: «يؤسفني القول إنه ليس لديَّ وقت كي أنتظر زوجك.»

استقبلت السيدة فيرلوك هذا التصريح بفتور. كان انعدام مبالاتها قد ترك انطباعًا لدى كبير المفتشين هيت منذ البداية. أثار فضوله في هذه اللحظة بالتحديد. كان كبير المفتشين هيت في مهبِّ الريح، تُهيمِن عليه عواطفه مثل معظم المواطنين العاديين.

قال، ناظرًا إليها بثبات: «أظن أنه يُمكنكِ أن تُعطيَني فكرة جيدة جدًّا عما يجري إذا أحببتِ.»

تمتمت السيدة فيرلوك، وهي تُرغم عينيها الجميلتين الخاملتين على مبادلته نظرته:

«ما يجري! ما الذي يجري؟»

«عجبًا، القضية التي جئت كي أتحدَّث فيها قليلًا مع زوجكِ.»

في ذلك اليوم، كانت السيدة فيرلوك قد ألقت نظرة سريعة على الجرائد الصباحية كالمعتاد. ولكنها لم تخرج خارج البيت. لم يكن مُوزِّعُو الصحف يدخلون إلى شارع بريت مطلقًا. لم يكن هذا الشارع ضمن نطاق عملهم. وكانت أصداء صيحاتهم التي تتردَّد في الشوارع المكتظة بالمارة تتلاشى بين الجدران القذرة دون أن تصل إلى عتبة المتجر. لم يكن زوجها قد أحضر الصحيفة المسائية معه إلى البيت. لم تكن قد رأتها على أيِّ حال. لم تكن السيدة فيرلوك تعرف أي شيء عن أي قضية. وقالت ذلك، بنبرة تعجُّب حقيقية بصوتها الهادئ.

لم يصدق كبير المفتشين هيت للحظة هذا الكم من الجهل. وذكر الحقيقة المجردة باقتضاب وفظاظة.

أشاحت السيدة فيرلوك بناظريها.

قالت متثاقلة: «إنني أعتبر هذا سخافة.» ثم توقفت قليلًا. «لسنا عبيدًا مُضطهدين هنا.»

انتظر كبير المفتشين بترقب. لم تضف شيئًا آخر.

«ألم يذكر زوجكِ لكِ أي شيء عندما عاد إلى البيت؟»

لم يكن من السيدة فيرلوك إلا أن أدارت وجهها من اليمين إلى اليسار علامةً على النفي. ساد صمت مُتراخٍ محيرٌ في المتجر. شعر كبير المفتشين هيت باستفزاز يفوق احتماله.

قال بنبرة خالية من التعبيرات: «ثمة مسألة صغيرة أخرى أردت أن أتحدث مع زوجكِ بشأنها. وصل إلى أيدينا شيء … شيء نعتقد أنه … معطف مسروق.»

برفق تلمَّست السيدة فيرلوك، التي كان عقلُها يقظًا للصوص ذلك المساء على وجه الخصوص، ثوبها عند منطقة الصدر.

قالت بهدوء: «لم نَفقِد معاطف.»

أردف المواطن العادي هيت: «ذلك غريب. أرى أنكم تَحتفظُون بالكثير من حبر الطباعة هنا …»

أخذ زجاجة صغيرة ونظر إليها أمام مصباح الغاز في وسط المتجر.

عَلَّق، وهو يضعها مرة أخرى: «أُرجواني، أليس كذلك؟ كما قلت، إنه غريب. لأن المعطف فيه علامة مخيطة من الداخل تحمل عنوانكم ومكتوبة بحبر الطباعة.»

اتَّكأت السيدة فيرلوك على منضدة البيع وعلى ملامح وجهها تعجب خافت.

«ذلك أخي، إذن.»

بسرعة سألها كبير المفتشين هيت: «أين أخوكِ؟ هل يُمكنني رؤيته؟» اتكأت السيدة فيرلوك على طاولة البيع أكثر قليلًا.

«كلا. إنه ليس هنا. أنا كتبت تلك العلامة بنفسي.»

«أين أخوكِ الآن؟»

«يسكن بعيدًا مع … صديق … في الريف.»

«أتى المعطف من الريف. وما اسم الصديق؟»

اعترفت السيدة فيرلوك بهمس ينم عن خوف: «ميكايليس.»

أطلق كبير المفتشين زفيرًا من شفتَيه المضمومتين. طرفت عيناه.

«هكذا إذن. ممتاز. والآن فيما يتعلق بأخيكِ، كيف يبدو … شابٌّ قوي البنية مائل إلى السمرة … هاه؟»

صاحت السيدة فيرلوك بحرارة: «أوه كلا. لا بد أنه اللص. ستيفي نحيف وأشقر.»

قال كبير المفتشين بنبرة موافقة: «جيد.» وبينما كانت مشاعر السيدة فيرلوك تتأرجَح بين القلق والتساؤل، محدقةً فيه، سعى إلى الحصول على معلومات. لماذا خيط العنوان بهذه الطريقة في المعطف من الداخل؟ وسمع أن البقايا المحترقة التي كان قد تفحصها في ذلك الصباح باشمئزاز كبير كانت لشابٍّ عصبيٍّ شارد الذهن وغريب الأطوار وأيضًا أنَّ المرأة التي كانت تتحدث إليه كانت ترعى ذلك الفتى منذ أن كان طفلًا.

اقترح قائلًا: «يُمكن استثارة عواطفه بسهولة؟»

«أوه نعم. هو كذلك. ولكن كيف فقد معطفه …»

فجأة أخرج كبير المفتشين هيت جريدة وردية اللون كان قد ابتاعها منذ أقل من نصف ساعة. كان مهتمًّا بالخيل. مدفوعًا بداعي مهنته إلى اتباع مسلك يتَّسم بالشك والريبة تجاه مواطنيه، تحرر كبير المفتشين هيت من غريزة السذاجة المتأصِّلة في صدور البشر بغرس إيمان غير محدود بالمتكهنين بنتائج مراهنات سباقات الخيل في تلك الجريدة المسائية على وجه الخصوص. بعدما وضع الإصدار الخاص الإضافي للجريدة على طاولة البيع، أدخل يده مرة أخرى في جيبه، وأخرج قطعة القماش التي كان القدر قد أهداها إليه من بين كومة من الأشياء التي بدت وكأنها كانت قد جُمِعَت في مجزر شامبلز ومتاجر الخردة، وأعطاها للسيدة فيرلوك كي تتفحصها.

«أظن أنكِ تعرفين هذه، أليس كذلك؟»

وضعتها من دون تفكير بين راحتَي يديها. بدت عيناها وكأنما تزدادان اتساعًا وهي تنظر إليها.

قالت هامسة: «بلى»، ثم رفعت رأسها وترنحت متراجعةً قليلًا.

«لأي سبب هي ممزقة هكذا؟»

مدَّ كبير المفتشين يده عبر منضدة البيع وانتزع قطعة القماش من يديها، وجلست على الكرسي بتثاقل. فكر في نفسه: تحديد الهوية مثالي. وفي تلك اللحظة، اتضحت له الحقيقة المذهلة بأكملها. كان فيرلوك هو «الرجل الآخر».

قال: «يا سيدة فيرلوك، يبدو لي أنكِ تعرفين عن مسألة التفجير هذه أكثر مما تُدركين أنتِ نفسكِ.»

جلست السيدة فيرلوك دون أن تتحرك مذهولة وتائهة في استغراب لا حد له. ما هي الصلة؟ وأصابها تصلُّب في سائر جسدها حتى إنها لم تكن قادرة على أن تلتفت برأسها إلى صلصلة الجرس، التي جعلت المحقق الخاص هيت يلتف على عقبيه. كان السيد فيرلوك قد أغلق الباب، ونظر كلٌّ من الرجلين إلى الآخر للحظة.

مشى السيد فيرلوك — من دون أن ينظر إلى زوجته — إلى كبير المفتِّشين، الذي ارتاح لرؤيته عائدًا بمفرده.

تمتم السيد فيرلوك متثاقلًا: «أنت هنا! عَمَّن تبحث؟»

قال كبير المفتِّشين هيت بنبرة خافتة: «لا أحد. اسمع، أود أن أتحدث معك قليلًا.»

كان السيد فيرلوك، دون أن يزول شحوب وجهه، قد عاد مع انطباع بالتصميم مرتسم على ملامحه. كان ما زال لم ينظر إلى زوجته. قال:

«ادخل هنا، إذن.» وتوجه به إلى غرفة المعيشة.

لم يكد الباب يُوصَد حتى هرعت إليه السيدة فيرلوك، وثبًا من على الكرسي، وكأنها تهمُّ بفتحه على مصراعيه، ولكن بدلًا من أن تفعل ذلك جثت على ركبتيها، ووضعت أذنها على ثقب المفتاح. لا بدَّ أن الرجلين توقفا بعد أن عبرا من الباب مباشرةً، لأنها سمعت صوت كبير المفتشين بوضوح، على الرغم من أنها لم تستطع أن ترى إصبعه وهو يضغط به على صدر زوجها جازمًا.

«أنت الرجل الآخر يا فيرلوك. شُوهِد رجلان يدخلان إلى الحديقة.»

وسُمِع صوت السيد فيرلوك يقول:

«حسنًا، اقبض عليَّ الآن. ما الذي يمنعك؟ لديك الحق في ذلك.»

«أوه كلا! أنا أعلم تمام العلم لمن سلَّمتَ نفسك. سيتعيَّن عليه أن يتولى هذه المسألة الصغيرة بنفسه. ولكن كن متأكدًا، أنا الذي اكتشفت أمرك.»

ثم لم تسمع إلا همهمة. لا بد أن المفتش هيت كان يُطْلِع السيد فيرلوك على قطعة القماش من معطف ستيفي لأن أخت ستيفي، الوصية عليه وحاميته، سمعت زوجها يتحدَّث بصوت أعلى قليلًا.

«لم ألاحظ قط أنها كانت قد اهتدت إلى تلك الحيلة.»

مرة أخرى، لبعض الوقت لم تَسمع السيدة فيرلوك شيئًا إلا همهمات، كان غموضها أقل كارثيةً على عقلها من الإيحاءات المروعة للكلمات المسموعة. ثم رفع كبير المفتشين هيت صوته على الجانب الآخر من الباب.

«لا بدَّ أنك كنتَ مجنونًا.»

أجاب صوت السيد فيرلوك وفي نبرته شيء من الغضب الحزين:

«كنت مجنونًا لشهر أو أكثر، ولكنَّني لست مجنونًا الآن. انتهى الأمر. سوف أكشف عن كل شيء، ولا تهمني العواقب.»

ساد صمت، ثم تمتم المواطن العادي هيت:

«ما الذي سوف تكشفه؟»

علا صوت السيد فيرلوك، ثم انخفض جدًّا، قائلا: «كل شيء.»

بعد قليل علا صوتُه مرةً أخرى.

«أنت تعرفُني منذ عدة سنوات، وقد وجدتَني مفيدًا، أيضًا. تعرف أنني كنت رجلًا شريفًا. نعم، شريفًا.»

لا بدَّ أن هذا الاستعطاف بالاستعانة بالمعرفة الشخصية القديمة كان مُستهجَنًا لدى كبير المفتشين إلى أقصى درجة.

انطوى صوته على نبرة تحذيرية.

«لا تَثق كثيرًا في الوعود التي تلقيتها. لو كنت مكانك، لغادرت فورًا. لا أظن أننا سنلاحقك.»

سُمِع السيد فيرلوك يضحك قليلًا.

«أوه نعم؛ تأمل أن يتخلَّص منِّي الآخرون نيابة عنك؛ أليس كذلك؟ لا، لا؛ لن تتخلَّص مني الآن. كنت رجلًا شريفًا مع هؤلاء الناس لمدة أطول من اللازم، والآن لا بدَّ أن ينكشف كل شيء.»

وافقه كبير المفتشين هيت بنبرة غير مبالية: «فلينكشف إذن. ولكن أخبرني الآن كيف هربت.»

سمعت السيدة فيرلوك صوت زوجها وهو يقول: «كنت في طريقي إلى ممشى تشيسترفيلد ووك عندما سمعت صوت الانفجار. عندئذٍ بدأت أجرى. ضباب. لم أرَ أحدًا حتى تجاوزت نهاية شارع جورج. لا أظن أنني صادفت أحدًا حتى ذلك الحين.»

سُمع صوت كبير المفتِّشين هيت متعجبًا: «بهذه السهولة! صوت الانفجار أفزعك، أليس كذلك؟»

اعترف صوت السيد فيرلوك المغتم الأجش: «بلى، جاء قبل الأوان.»

ضغطت السيدة فيرلوك أذنها في ثقب الباب؛ كانت شفتاها مُزرَقَّتين، ويداها باردتين كالثلج، وشعرت وكأن وجهها الشاحب، الذي بدَت فيه عيناها مثل ثقبَين أسودين، كان مطوقًا بألسنة اللهب.

وعلى الجانب الآخر من الباب، انخفضت الأصوات جدًّا. كانت تلتقط كلمات بين فينة وأخرى، أحيانًا بصوت زوجها وأحيانًا أخرى بنبرات كبير المفتشين الناعمة. سمعت هذا القول الأخير:

«نعتقد أنه تعثَّر في جذع شجرة، أتظن ذلك؟»

كانت ثمة تمتمة من صوت أجش، استمرَّت لبعض الوقت، ثم تحدث كبير المفتشين بطريقة جازمة، وكأنه كان يجيب على بعض الاستفسارات.

«بالطبع. تمزق إلى أشلاء: الأطراف، الحصى، الملابس، العظام، الشظايا؛ كلها مختلطة بعضها ببعض. لا أخفيك أنهم قد اضطرُّوا إلى استخدام مجرفة كي يجمعوا أشلاءه.»

انتفضت السيدة فيرلوك فجأة من وضعية القرفصاء التي كانت عليها، وسدت أذنيها، وظلت تروح وتجيء بين منضدة البيع والرفوف على الحائط خلف الكرسي. لاحظت عيناها المذعورتان الصحيفة التي تركها كبير المفتشين، وبينما كانت تصطدم بمنضدة البيع اختطفتها، وهوت على الكرسي، ومزقت الصحيفة الوردية التي تبعث على التفاؤل، وهي تُحاول فتحها، ثم ألقتها أرضًا. على الجانب الآخر من الباب، كان كبير المفتشين هيت يقول للسيد فيرلوك، العميل السري:

«إذن، سيتشكَّل دفاعُك عمليًّا من اعتراف كامل؟»

«سيكون كذلك. سأحكي القصة كلها.»

«لن يُصدقوك بالقدر الذي تتخيَّله.»

وأخذ كبير المفتشين يفكر. كان المنعطف الذي كانت تتَّخذه هذه القضية يعني الكشف عن أشياء كثيرة، إهدار حقول من المعرفة، زرعها رجل بارع، وكان لها قيمة مميزة لدى الفرد والمجتمع. كان تدخلًا مؤسفًا للغاية. لن يؤدي الأمر إلى أن يُمَس ميكايليس بأذًى؛ وسيُلقي الضوء على معمل البروفيسور المنزلي؛ ويفسد نظام المراقبة بالكامل؛ وسيؤدي إلى صخب لا ينتهي في الصحف التي، من وجهة النظر تلك، بدت له بفعل استنارة خاطفة أنها دائمًا ما تُكتَب بأقلام حمقى من أجل أن يقرأها بُلَهاء. اتفق عقله مع الكلمات التي أفصح بها السيد فيرلوك أخيرًا دون قصد ردًّا على تعليقه الأخير.

«ربما لن يفعلوا. ولكنَّها ستُزعزع أشياء كثيرة. كنت رجلًا شريفًا، وسأبقى شريفًا في هذه …»

قال كبير المفتشين ساخرًا: «إن سمحوا لك بذلك. لا شك في أنك ستتلقَّى نصحًا قبل أن يضعوك في قفص الاتهام. وفي النهاية، ربما تنال عقوبةً ستفاجئك. ما كنت لأفرط في الثقة في الرجل الذي كان يتحدث إليك.»

استمع السيد فيرلوك مُقطِّبًا جبينه.

«نصيحتي لك هي أن تُغادر بسرعة ما دام بإمكانك ذلك. ليس لديَّ أي تعليمات.» وأردف كبير المفتشين: «يوجد بعض من يظنون أنك قد فارقت الحياة بالفعل.» مشددًا تشديدًا خاصًّا على كلمة «بعض».

دفع ذلك السيد فيرلوك إلى أن يقول: «حقًّا!» على الرغم من أنه منذ عودته من جرينتش كان قد أمضى جُلَّ وقته جالسًا في غرفة المشروبات الكحولية في حانة صغيرة غير معروفة، لم يكن يأمل في مثل هذه الأخبار السارة.

«ذلك هو الانطباع عنك.» أومأ إليه كبير المفتشين. «اختفِ. غَادِر بسرعة.»

زمجر السيد فيرلوك: «إلى أين؟» رفع رأسه، ومُحملقًا في باب غرفة المعيشة المغلق، تمتم من أعماقه: «كل ما أتمناه أن تَصطحبني معك الليلة. سأذهب معك بهدوء.»

وافقه كبير المفتشين ساخرًا، ومُتتبعًا اتجاه نظرته: «أظن ذلك.»

ابتل جبين السيد فيرلوك بعرق خفيف. أخفض صوته الأجش وكأنه يقول سرًّا أمام كبير المفتشين غير المبالي.

«كان الفتى أبلهَ، أي إنه كان غير مسئول عن أفعاله. وأي محكمة سترى هذا الرأي من فورها. لم يصلح له إلا المكوث في مُستشفى الأمراض العقلية. وذلك كان أسوأ ما كان يُمكن أن يحدث له إذا …»

واضعًا يده على مقبض الباب، همس كبير المفتشين في وجه السيد فيرلوك:

«ربما كان أبله، ولكن لا بدَّ أنك جُننت. من الذي غَيَّب عقلك هكذا؟»

مفكرًا في السيد فلاديمير، لم يتردَّد السيد فيرلوك في اختيار كلماته.

همس بقوة: «حقير من الشمال. شخص يمكن أن تدعوه … سيدًا.»

بعينين ثابتتَين، عبر كبير المفتشين بإيماءة قصيرة عن فهمه، وفتح الباب. ربما سمعت السيدة فيرلوك، القابعة خلف منضدة البيع، ولكنها لم ترَ رحيله، الذي استتبعه صوت صلصلة الجرس الشرسة. جلست في مكان عملها خلف منضدة البيع. جلست منتصبة بجمود على الكرسي وقطعتين متَّسختين من ورق الصحف الوردي مفرودتين عند قدمَيها. ضغطت براحتي يديها على وجهها بتشنُّج وأطراف أصابعها متقلصة عند جبهتها، وكأن الجلد كان قناعًا تستعدُّ لتمزيقه بعنف. عبَّر الجمود التام في وضعيتها عن فورة الغضب واليأس، وكل العنف المرتقب النابع من عواطف مأساوية، تعبيرًا أفضل من الصراخ الحاد، وضرب الرأس المذهول في الحائط. لم يرمقها كبير المفتشين هيت إلا بنظرة خاطفة، وهو يَعبُر المتجر بخطواته المتسارعة المتمايلة. وعندما توقف الجرس المتصدِّع المعلَّق في الطوق المنحني المصنوع من الفولاذ عن الصلصلة، لم تتحرَّك السيدة فيرلوك، وكأن وضعيتها كانت قوة تعويذة مُحْكَمة. حتى شعلتا لهب الغاز، اللتان كانتا على هيئة فراشة على طرفي حامل مصباح معلق على شكل حرف T، احترقتا دون أن تهتزا. في متجر السلع المشبوهة هذا، المزوَّد برفوف توزيع مطلية بلون بُني باهت، بدا وكأنه يمتص لمعان الضوء، تلألأت الحلقة الذهبية لخاتم زواج السيدة فيرلوك، الذي ترتديه في يدها اليسرى، بشدة بالفخامة النقية لقطعة مجوهرات ثمينة، سقطت في صندوق قمامة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤