خاتمة القول في الشعر المصري

رأينا صورًا مختلفة من الشعر المصري منذ حرر العرب مصر من الرومان إلى آخر عهد الفاطميين، ورأينا هذا الشعر يمر بأدوار ثلاثة، ففي دوره الأول الذي ينتهي بالقرن الثاني للهجرة لم يكن بمصر سوى شعر بعض أفراد من القبائل العربية التي نزحت إلى مصر واستقرت فيها، وشعرهم يتحدث عن بعض الحوادث التي جرت في مصر، وإن شئت فقُل إنه شعر في تسجيل الحوادث أو هو شعر تقريري لا غناء فيه من الناحية الفنية، وكان أرقى ألوان الشعر في هذا الدور هو الشعر الذي أنشده الشعراء الوافدون على الأمراء.

أما في الدور الثاني الذي يضم القرنين الثاني والثالث للهجرة ففيه ظهرت بواكير الشعر المصري، ففيه عدد من الشعراء المصريين أمثال المعلى الطائي ويحيى الخولاني وسعيد بن عفير بن كثير ويوسف بن السرَّاج ثم غيرهم من شعراء الطولونيين، وهؤلاء جميعًا أنشدوا في الحوادث المصرية بطريقة تختلف عما رأيناه في شعر القبائل؛ لأنهم تحدثوا عنها بعواطفهم قبل كل شيء. كما ظهر في شعرهم ألوان فنية فيها شيء من الخيال والعاطفة مما أضاف إلى شعرهم سمة الفن الصحيح بالرغم من أن شعرهم لم يرقَ إلى مستوى الشعر العربي في الأقطار الأخرى. ولعل السبب في ذلك هو أن تعبير المصريين عن عواطفهم ومشاعرهم بالشعر الجيد احتاج إلى وقت طويل؛ لأن اللغة العربية لم تكن منتشرة في مصر انتشارًا كافيًا حتى يتمكن المصري من الإنشاد بها، كما كان المصريون مهتمين اهتمامًا خاصًّا بالعلوم الدينية الإسلامية أكثر من اهتمامهم بدراسة الشعر وروايته. ومع ذلك فقد استطاع بعض المصريين من أن يُنشدوا شعرًا رقيقًا عذبًا في هذه المرحلة من مراحل تطور حياتهم، وكان ذلك إيذانًا بظهور دور جديد من أدوار الشعر بدأ في القرن الرابع الهجري واستمر تياره جارفًا قويًّا، بل استطاع شعراء مصر أن ينتزعوا زعامة الشعر وأن يحتفظوا بها حتى عصرنا الحديث.

وهنا نتساءل: إلى أي حد وُفِّقَ شعراء مصر في التعبير عن الشخصية المصرية؟ وكيف نميز بين الشعر المصري من غيره من شعر الأقطار العربية؟ للإجابة عن هذين السؤالين يجب أن نعرف أولًا أن الشعر العربي في جميع الأقطار العربية وحدة يشبه بعضها بعضًا مهما اختلفت بيئات الشعر وأقاليمه ومهما تطورت الحياة في هذه البيئات والأقاليم؛ وذلك لأن شعراء العربية اتخذوا لأنفسهم مُثلًا عُليا لفنهم ساروا على نهجها وحافظوا عليها وأَبَوا أن يصيبها تطور أو تغيير، فجميع الشعراء حافظوا على ما سماه النقاد بعمود الشعر بما فيه من أوزان وقافية وألفاظ وأساليب، ورفض النقاد وعلماء البلاغة أن يستمعوا إلى أي شعر يخرج عن هذه المُثل، ومعنى ذلك كله أن الشعر العربي في كل عصوره وبيئاته اشترك في هذه الخصائص المثالية ولم يبعد عنها. ولذلك لا أستطيع أن أقبل الرأي القائل أن المصريين قلدوا الشعر العباسي؛ لأن شعراء مصر تبعوا المُثل الفنية التي اتبعها شعراء العباسيين، فإن شعراء العباسيين أنفسهم كانوا ينهجون نهج هذه المُثل التي عُرفت منذ العصر الجاهلي، وخضعوا لتقاليد الشعر العربي وخصائصه، شأنهم في ذلك شأن جميع شعراء العربية في كل العصور وجميع البيئات. وإذا كان شعراء العربية اشتركوا جميعًا في هذه الخصائص، فإنهم اختلفوا في المعاني التي تحدثوا عنها باختلاف عصورهم وبيئاتهم، وإذا كانوا متفقين في المعاني فهم يختلفون في رسم الصور التي تحمل هذه المعاني، وهنا فقط تظهر إقليمية الشعر، فإذا أردنا أن نبحث عن شخصية مصر في الشعر فنحن لا نجدها في الأوزان ولا في القوافي ولا في الأسلوب بل نجدها في الأخيلة الشعرية وفي المعاني. وهنا نستطيع أن نقول إن الشعر المصري صوَّر الحياة المصرية أصدق تمثيل؛ بحيث إنك إذا قرأت هذا الشعر المصري لا تستطيع أن تنسبه إلى قُطر عربي آخر غير مصر؛ فمن ناحية الشعر السياسي يُعتبر الشعر المصري سجلًّا للأحداث التي جرت في هذه القرون بالرغم من أن أكثر هذا الشعر فُقِدَ، ولكننا نستطيع أن نحكم على ذلك بما بقي لنا في آثار هذا الشعر، ومن البديهي أن ما كان يُنشد من الشعر السياسي هو صورة لحياة مصر دون غيرها من الأقطار الأخرى.

وكان بمصر شعر يحض على الزهد والدين بجانب الشعر المصري الذي قيل في المجون والإباحة، وهذان اللونان من الشعر المصري يدلان دلالة صريحة على ناحية هامة من نواحي الحياة في الشعب المصري؛ فالشعب المصري منذ أقدم عصوره يميل إلى التمسك بأهداب الدين ويتظاهر تظاهرًا شديدًا جدًّا بالتدين، وكأنه شعب يعمل لآخرته فقط، ولكننا في الوقت نفسه نراه شعبًا يميل إلى المجون في حياته ويأخذ بأوفى نصيب من متاع الدنيا، ولو كان في ذلك ضد الدين، فمصر متناقضة بين متاع الروح ومتاع الجسد، وإذا بالشعر المصري يضطرب أيضًا فيمثل الناحيتين من حياة هذا الشعب. والذين درسوا الشعب المصري عجبوا للفُكاهة والدُّعابة المصرية، وكيف يُرسل المصريون الفُكاهة تلو الفُكاهة والنادرة بعد النادرة وهم يضحكون على مسمع هذه الفُكاهات والنوادر بأصوات عالية. وذكر الكُتاب أن الفُكاهة المصرية تدل على ذوق المصريين وسرعة بديهتهم وعلى وعي شديد في تذوقها، بل غالى بعض الكُتاب أن المصريين أكثر الشعوب حُبًّا للفُكاهة وكلفًا بإطلاقها وسماعها فكأنها تَجري في دمائهم، ولكن الذي يدرس الفُكاهة المصرية سيجد أن أكثرها يدور حول الناحية الجنسية وتناول العورات مما يؤيد ما ذهبنا إليه من كلف المصريين بالمجون والإباحة.

والمصري عُرِفَ منذ أقدم العصور بأنه مادي عملي أو بمعنى آخر هو واقعي في كل أعماله وتفكيره، ولا تتدخل العاطفة الملتهبة في تفكير أو عمل المصري، ولا يعرف المشاعر العنيفة التي تهزه هزًّا؛ وذلك كله بتأثير بيئته المنتظمة في سطوع شمسها يوميًّا وفيضان نيلها بانتظام، وعدم الكد في سبيل العيش لاكتفائهم بما تنتجه تربة مصر الخصبة. كل ذلك أثَّر في تفكير المصري فإذا به تفكير هادئ جدًّا لا محل فيه للثورات النفسية أو المشاعر العميقة. وكذلك كان الشعر المصري في جميع عصوره وفي جميع أغراضه؛ حتى إننا لا نجد في مصر شعرًا في الحب العذري، بل لا تبعد العلاقة بين الرجل والمرأة عن أن تكون عملًا فسيولوجيًّا قبل كل شيء، وإنما نرى الشاعر المصري ماديًّا في صوره هادئًا في تفكيره يستمد صوره من الحياة المصرية حوله، ومما عُرِفَ به المصريون من حب للمبالغة والغلو في كل شيء.

إذن نستطيع أن نطمئن إلى أن الشعر المصري كان خاضعًا للبيئة المصرية وللحياة المصرية، وظهرت شخصية مصر بارزة واضحة في الشعر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤