خاتمة

مما تقدم نستطيع أن نعرف كيف تطورت الحياة الفكرية والأدبية في مصر منذ جاءها العرب لتحريرها من الرومان، إلى أن انقرضت دولة الشيعة الإسماعيلية (الفاطميين). وكيف كانت مصر قبل أن يدخلها العرب قبطية اللسان ولغتها الرسمية هي اليونانية، مسيحية الدين، فجاء العرب واستقر عدد كبير من القبائل المختلفة في بلدان مصر ونشروا فيها الدين الإسلامي واللغة العربية، وقامت بمصر الدراسات الدينية الإسلامية والعربية، وسرعان ما انتشرت اللغة العربية حتى أصبحت في القرن الرابع للهجرة لغة لجميع أفراد الشعب المصري. واتسعت دائرة الثقافة الإسلامية والعربية في مصر حتى عُدت من المراكز الهامة في العالم الإسلامي، وكان العلماء يقصدونها للاستزادة وللأخذ عن علمائها، وبفضل ما في مصر من قوة هاضمة استطاعت أن تَبرز في ميدان الحياة الفكرية حتى أصبحت مصر هي حاملة لواء الثقافة العربية والإسلامية، وعن مصر أخذت البلاد العربية والإسلامية الأخرى.

وفي الحياة الأدبية شعرًا ونثرًا لم تستطع مصر أن تجاري البلاد العربية الأخرى إلا بعد النصف الثاني من القرن الثالث للهجرة؛ أي بعد أن أصبحت اللغة العربية هي لغة الشعب المصري كله، وأصبح المصري قادرًا على التعبير عن أهوائه ومشاعره باللغة العربية، فبدأ الشعر المصري مُعبِّرًا على الأحداث المصرية في صورة بسيطة ساذجة، ولكن سرعان ما ازدهر الشعر وكَثُرَ الشعراء وأخذوا يتحدثون عن كل ما يقع تحت حواسهم، وانتزعوا زعامة الشعر والكتابة في العصر الفاطمي واستمروا يحافظون على هذه الزعامة إلى الآن، وكان الشعر والنثر مُعبِّرين تعبيرًا صادقًا للحياة المصرية وللشخصية المصرية. ونحن إذا درسنا الآثار الفنية الأدبية التي حُفظت عن العصور الوسطى، نستطيع في سهولة ويُسر أن ندرك من ثناياها شخصية مصر في تلك العصور، وأن نلم بأخلاق المصريين وطباعهم واتجاههم في الحياة، كما نلمس في أسلوبهم الأدبي شعرًا ونثرًا تيارات تختلف باختلاف الشاعر والكاتب، وأن هذه التيارات استمرت طوال العصور الوسطى ووصل بعضها إلى عصرنا الحديث فنراها في مصر فقط دون غيرها من الأقطار العربية، مما يدل على أن قوة مصر الكامنة استطاعت أن تحافظ على كثير من تقاليدها القديمة، وأن مصر تُخضع كل جديد وافد عليها إلى مزاجها الذي عُرفت به منذ أقدم العصور وأن تحافظ على كل ما يتفق مع مزاجها وشخصيتها. وبفضل قوة مصر الكامنة وقوتها الهاضمة استطاعت مصر أن تقف أمام كل الويلات التي حلت بها، وأمام جميع الغزوات الخارجية، وأن تخرج منها كلها شامخة الرأس منيعة الجناب، وستظل مصر كذلك ما دامت حياة على وجه الأرض.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤