الفصل الأول

الدراسات الدينية الإسلامية

علوم القرآن والحديث

أصبحت مصر منذ دخلها العرب مركزًا هامًّا من مراكز الثقافة الإسلامية والعربية، وقامت بمهمتها الكبرى في النهوض بمختلف العلوم العربية والإسلامية وفي المحافظة عليها، حتى استطاعت مصر في العصور الوسطى أن تتولى حمل لواء الثقافة العربية والإسلامية، وكانت تشاركها في ذلك بلاد الشام التي كانت في وحدة مع مصر.

صحب جيش الفتح العربي عدد من الصحابة والتابعين، كانوا هم النواة الأولى للدراسات الإسلامية التي عُرفت في مصر، كان عليهم إقراء المسلمين القرآن الكريم وعليهم بيان أسباب التنزيل، وتفسير ما غَمُضَ على بعض الناس من آيات، وكانوا يُفتون الناس فيما أُشكِل عليهم من أمور دينهم بما شاهدوه أو سمعوه من الرسول ؛ فالصحابة الذين وفدوا على مصر هم المؤسسون للمدرسة المصرية الإسلامية، وعنهم أخذ المسلمون في مصر إلى أن ظهر عدد من المسلمين المصريين نبغوا في العلوم الدينية وصارت إليهم الرحلة في طلب العلم، وأصبح لهم رأي له مكانته في العالم الإسلامي، ولا سيما في بلاد المغرب والأندلس وصقلية. ولعل أول شخصية علَّمت القرآن بمصر هو أبو أمية عبيد بن مخمر المغافري وكان أحد الصحابة الذين شاهدوا فتح مصر، كما كان عبد الله بن عمرو بن العاص أكثر الصحابة في مصر رواية للحديث النبوي الشريف، فلأهل مصر عنه أكثر من مائة حديث، وكان يساعده على تذكُّر هذه الأحاديث أنه كان يُجيد القراءة والكتابة وكان يكتب كل ما سمعه من النبي . وبعد أن استقر العرب بمصر وأسلم عدد من المصريين، اتجهت أنظارهم في القرنين الأول والثاني من قرون الهجرة إلى الحجاز الذي كان أهم مركز ثقافي إسلامي، فأخذ المصريون يتطلعون إلى علماء الحجاز وخاصةً علماء المدينة المنورة التي كانت دار هجرة الرسول وأول عاصمة للخلافة الإسلامية، وبها استقر عدد كبير من الصحابة والتابعين الذين تُروى أكثر الأحاديث عنهم، وظهر فيها بعض الفقهاء الذين درسوا الأحاديث النبوية واستنبطوا منها آراءهم الفقهية، فكان ذلك كله سببًا في أن يتجه إليهم علماء مصر لأخذ علوم الدين، وبجانب ذلك أن الحجاز قِبلة المسلمين، فكان المسلمون في مصر ينتهزون فرصة الحج ويتصلون بعلماء الحجاز. وفي القرنين الثاني والثالث للهجرة تفوقت العراق في العلوم العربية، وكانت الكوفة والبصرة وبغداد أشهر مراكز الثقافة بالعراق، فتطلع المصريون للأخذ عن العراقيين العلوم النحوية واللغوية، وسرعان ما أتقنت مصر هذه العلوم كلها وحافظت على ما تلقته من الحجازيين والعراقيين، ثم صارت مصر هي المركز الذي تؤخذ عنه هذه العلوم والثقافات.

أخذ المصريون قراءة القرآن الكريم رواية نافع، نقلها إلى مصر عدد من القراء منهم عثمان بن سعيد المعروف ﺑ «ورش» الذي رحل إلى المدينة المنورة في طلب العلم فأخذ عن نافع وعاد إلى مصر يُعلِّم الناس قراءة نافع، وعن ورش أخذ أيضًا علماء المغرب والأندلس، واشتهر أمره بحيث نُسبت إليه هذه القراءة في مصر وبلاد المغرب والأندلس. ومن علماء مصر في قراءة نافع: سقلاب بن شنينة المصري، وأبو ميسرة عبد الرحمن بن ميسرة، وأبو يعقوب الأزرق بن عمرو وغيرهم، فهؤلاء هم الذين أسسوا مدرسة الإقراء بمصر على حرف نافع وتبعهم عدد كبير من القراء. وكان للإقراء شأن في مصر ولا سيما في العصر الفاطمي؛ فقد جُعِلَ للإقراء شيوخ وللحضرة قراء لهم رواتبهم من الدولة بجانب ما كان يُغدَق عليهم من أموال في المناسبات المختلفة. والملاحظ أن بعض قراء مصر ربما خالفوا قراءة نافع فرققوا الراء وغلظوا اللام. وانتشرت بعد القرن الأول القراءات الأخرى، وألَّف المصريون كُتبًا كثيرة في القراءات نذكر منها على سبيل المثال كتاب اختلاف القراءات السبعة لأحمد بن أسامة التميمي المتوفى سنة ٣٤٢ﻫ، وكتاب التذكرة في القراءات لأبي الحسن بن طاهر المتوفى سنة ٣٩٩ﻫ، وكتاب المجتبى في القراءات لعبد الجبار أحمد المتوفى سنة ٤٢٠ﻫ، وهذا كله يدل على اهتمام المصريين بقراءات القرآن الكريم.

وكان للمصريين نصيب في تفسير القرآن الكريم، وارتُحل إليها في طلب التفسير. ويكفي أن أذكر هنا أن البخاري نقل في تفسيره وتاريخه كثيرًا من الصحيفة المصرية في التفسير، وأن ابن جرير الطبري نقل الشطر الأكبر منها في تفسيره. أما الصحيفة المصرية فقد شاد بها عدد من العلماء من ذلك ما قاله أحمد بن حنبل في مسنده: «بمصر صحيفة في التفسير لو رحل رجل فيها إلى مصر قاصدًا ما كان كثيرًا.» وهذه الصحيفة هي من أقدم الروايات التي رويت عن ابن عباس، ومن أصح الطرق عنه؛ فهي رواية علي بن أبي طلحة عن مجاهد أحيانًا وعن عكرمة أحيانًا أخرى عن ابن عباس، ولهذا عُرفت هذه الصحيفة بصحيفة عليِّ بن أبي طلحة ونقلها عنه معاوية بن صالح قاضي قرطبة، وفي سنة ١٥٤ﻫ مر معاوية بمصر في طريقه إلى الحج فروي بمصر هذا التفسير، فنقله عنه عبد الله بن صالح المعروف بكاتب الليث بن سعد واحتفظ بها، وعن النسخة المصرية عُرفت الصحيفة في سائر الأقطار الإسلامية.

استمرت علوم القرآن في مصر على النحو الذي عُرِفَ عند جمهور المسلمين في العالم من تفسير، ومعرفة أسباب النزول والناسخ والمنسوخ، وما في القرآن الكريم من أحكام وما في أسلوبه من إعجاز إلى غير ذلك. وكثرت المؤلفات في ذلك كله ونذكر منها على سبيل المثال كتاب «تفسير القرآن»، وكتاب «الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحَّاس المصري»، وكتاب «إعراب القرآن» لأبي الحسن علي بن إبراهيم الحوفي المتوفى سنة ٤٣٠ﻫ وغير ذلك من التصانيف التي وضعها المصريون. ثم جاء الفاطميون إلى مصر يحملون معهم التأويل الباطن للقرآن والحديث، فَوُجِدَ لون آخر من التفسير غير ما كان يعهده المسلمون، وحاول الفاطميون أن ينشروا تأويلهم الباطن في مصر، فاستجاب لهم بعض المصريين، وامتنع أكثرهم عن قبوله لما ظهر في تأويلهم من مخالفات صريحة لما كان عليه المسلمون في مصر وفي غير مصر من الأقطار، وبالرغم من الجهود التي بذلها الفاطميون في نشر تفسيرهم الباطني فإن تفسير أهل الجماعة والسُّنة ظل في مصر طوال العصر الفاطمي إلى أن زال التأويل الباطن بزوال «دولة الفواطم». وكان الفاطميون يسمون التفسير الذي عليه جميع المسلمين بتفسير العوام، وأن الفاطميين وحدهم هم الذين كانوا يعرفون حقيقة الدين وتأويل القرآن، وذهبوا إلى أن الله تعالى استودع التأويل علي بن أبي طالب وورثه الأئمة من بعده، فهم وحدهم من دون الخلق حمَلة هذا العلم ومستودع أسرار الدين، وفي ذلك يقول شاعرهم المؤيد في الدين هبة الله بن موسى:

وإنما باب المعاني مُقفل
وأكثر الأنام عنها غفل
مفتاحه أضحى بأيدي خزنه
بهم إلهي علمه قد خزنه
أولئك الأبرار آل المصطفى
ومن بهم مروة عزَّت والصفا
وأرشدونا سُبل الصواب
وعلَّمونا علم ذا الكتاب

وقوله أيضًا:

وتأويله مستودع عند واحد
وإن لم تسائله فزورًا تأولتا
وأحمد بيت النور لا شك بابه
أبو حسن والبيت من بابه يؤتى

وبالرغم من أنهم ذهبوا هذا المذهب في تأويلهم فإنَّا نرى اختلافًا كبيرًا في تأويلهم للقرآن الكريم؛ لأن تأويلهم شخصي يختلف باختلاف الداعي الذي إليه التأويل؛ فمثلًا في تأويلهم قوله تعالى: وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ يذهب صاحب كتاب الكشف: «الفجر محمد، وليالٍ عشرٍ علي بن أبي طالب، والشفع والوتر هما الحسن والحسين.» بينما نجد الداعي المؤيد في الدين يقول إن الفجر هو قائم القيامة (المهدي المنتظر وهو عندهم خاتم الأنبياء والمرسلين)، والشفع عنده هو حجة المهدي المنتظر، والوتر مثل على إظهاره أنه فرد متفرد برتبة القيامة لا يحتاج فيها إلى من يقوم مقام الأوصياء من الأنبياء، وعلى هذا النحو يَجري تأويلهم الباطن في تفسير القرآن.

ولمصر دور هام في علوم الحديث، ونحن نعلم أن دراسة الحديث في العالم الإسلامي كله كانت تقوم أولًا على روايته عن الصحابة والتابعين، ثم لما كثر الوضع في الحديث بدأ العلماء يعنون بنقد الرجال، فوُضعت أصول نقد السند، كما وُضعت أصول نقد المتن واستخلاص السُّنن من الأحاديث التي صحَّت، كان ذلك في جميع الأقطار الإسلامية ومنها مصر. ولكن المصريين عنوا عناية خاصة برواية الحديث، وصار فيها عدد كبير من المحدِّثين الثقات رحل إليهم أصحاب مجاميع الحديث أمثال البخاري ومسلم والنسائي والدارقطني وغيرهم، ونقلوا روايات المصريين أمثال خالد بن حميد الإسكندراني المتوفى سنة ١٦٩ﻫ، وخلاد بن سليمان الحضرمي المتوفى سنة ١٧٨ﻫ، وابن زكريا الآدم، وليث بن عاصم الخولاني وغيرهم من الذين وثقهم المصريون المتأخرون أمثال سعيد بن عفير ويحيى بن بكير والليث بن سعد وشيوخ أصحاب المجاميع؛ فقد أخذ الدارقطني عن رجال مصر أمثال أبي بكر محمد بن علي التنيسي، وفي مصر وضع الدارقطني مسنده باسم الوزير ابن حنزابة. وفي العصر الفاطمي وفد المحدِّث عبد الغني بن سعيد وروى عن أبي بكر محمد العسكري المصري وأبي القاسم الكناني المصري وغيرهما. وجاء المحدِّث ابن مسرور البلخي وروى عن ابن سعيد بن يونس المصري. ولعل أشهر المحدِّثين الذين شاهدتهم مصر في أواخر العصر الفاطمي هو الحافظ السلفي الذي انتهى إليه علوم الإسناد، وكان أوحد زمانه في علوم الحديث وأعلمهم بقوانين الرواية، وطاف أكثر بلاد العالم الإسلامي لسماع الحديث عن المحدِّثين المعروفين، ثم استقر به الأمر بالإسكندرية؛ إذ بنى له الوزير المصري ابن السلار مدرسة للحديث سنة ٥٤٦ﻫ، وفوض أمرها إليه فصارت مدرسته كعبة يحج إليها طلاب الحديث.

هذه لمحة عن كبار رجال الحديث الذين وفدوا على مصر؛ للأخذ عن محدِّثيها والاستعانة بهم في تدوين مجاميعهم، وقد ظهر في مصر عدد من المصريين الذين جمعوا الحديث ودونوه أُسوة بغيرهم من العلماء. وأقدم كتاب مصري وصلنا في الحديث هو كتاب «الجامع في الحديث» لعالِم مصري يُعد من أوائل مدوني الحديث في العالم الإسلامي وهو عبد الله بن وهب، وقد عُثِرَ على جزء مخطوط من هذا الكتاب في مدينة إدفو منذ ثلاثين سنة فقط، ويُعد هذا المخطوط من أقدم المخطوطات العربية في جميع مكتبات ومتاحف العالم إذ يرجع تاريخ كتابته إلى القرن الثالث للهجرة. وعبد الله بن وهب صاحب هذا الكتاب مصري قرشي بالولاء، وُلِدَ بمصر سنة ١٢٥ﻫ وفيها تلقى علومه الدينية، ثم رحل إلى الحجاز في طلب العلم سنة ١٤٨ﻫ وفي المدينة المنورة اتصل بالإمام مالك بن أنس، وأخذ عنه العلم وروى الحديث، وكان الإمام مالك يعترف بفضل ابن وهب ويُقدِّره حق التقدير؛ فكان إذا غاب عنه ابن وهب يكتب إليه: «إلى عبد الله بن وهب المفتي»، ولم يكن يفعل هذا مع أحد غير ابن وهب، بل كثيرًا ما كان مالك يفتي بآراء سمعها من ابن وهب. فإذا رأينا قول مالك: «حدَّثني من أرضى» فهو يقصد ابن وهب. ويقال إن ابن وهب أخذ عن أربعمائة شيخ وأكثَر من رواية الحديث، ولم يجد العلماء في الأحاديث التي رواها حديثًا منكرًا، وطلب منه الخليفة العباسي أن يكون قاضي مصر فاعتذر واختبأ في منزله ورفض أن يقابل أحدًا إلا خاصة تلاميذه، وظل ملازمًا داره خوفًا من أن يُحمل للقضاء إلى أن توفي سنة ١٩٧ﻫ. وترجع شهرة عبد الله بن وهب من ناحية أخرى إلى أنه أحد رواة «الموطأ» وروايته للموطأ لا تزال إحدى نسخها مخطوطة بإحدى مكاتب الآستانة.

من ذلك نستطيع أن ندرك كيف كانت مصر عُشًّا للحديث النبوي الشريف، وكيف اهتم المصريون بروايته، وكثر فيها المحدِّثون الثقات، واستمر تيار روايته ودراسته قويًّا جارفًا طوال العصور الوسطى ولا سيما في العصر المملوكي.

فقهاء المالكية

أخذ المسلمون تشريعهم من القرآن الكريم والحديث الشريف، ومما استنبطوه برأيهم حيث لا يوجد نص في القرآن أو الحديث. وفي باب الاجتهاد هذا أُفسح المجال أمام المجتهدين لإثبات شخصية كل منهم وإظهار شخصية بيئتهم؛ فكان المصريون ممن كان لهم رأي خاص في الفقه بحكم البيئة المصرية التي تختلف عن البيئة الحجازية أو العراقية على نحو ما سنذكر بعد.

وُجِدَ الفقه في مصر منذ دخلها المسلمون، وعُرِفَ بين العرب في مصر عدد من المجتهدين الذين أفتوا الناس بما في القرآن والحديث الشريف أو بما رأوه. نذكر من هؤلاء الفقهاء عبد الرحمن بن حجيرة الخولاني الذي عُرِفَ في العالم الإسلامي بزهده وعلمه حتى قيل إن رجلًا من أهل مصر قابل ابن عباس وسأله عن مسألة فقال له ابن عباس: «تسألني وفيكم ابن حجيرة!» ونذكر أبا الخير مرشد بن عبد الله الحميري الذي كان مفتي مصر في عصره، وكان والي مصر عبد العزيز بن مروان يحضره ليسمع ما يفتي به بين الناس، وتوفي سنة ٩٠ﻫ. وكان يزيد بن أبي حبيب النوبي الأصل أحد ثلاثة جعل لهم الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز الفتيا في مصر، وكان عالِم مصر وفقيهها الأكبر الليث بن سعد يقول عن يزيد بن أبي حبيب: «هو سيدنا وعالِمنا.»

أما الليث بن سعد بن عبد الرحمن المولود بقرية قلقشندة سنة ٩٤ﻫ، فكان أكبر عالِم فقيه شاهدته مصر في القرن الثاني للهجرة، أخذ العلم عن فقهاء مصر ومحدِّثيها أمثال يزيد بن أبي حبيب وجعفر بن ربيعة وخير بن نعيم وغيرهم، ثم رحل إلى الحجاز والمقدس وبغداد في طلب العلم ورواية الحديث، ونبغ الليث في الناحية الفقهية وعُرِفَ بها حتى إن الإمام الشافعي كان يقول: «الليث بن سعد أفقه من مالك بن أنس إلا أن أصحابه لم يقوموا به.» ويروى أن عبد الله بن وهب قرئت عليه مسائل الليث بن سعد فمرت به مسألة، فقال فقيه من الأغراب وفد على مصر للعلم: «أحسن والله الليث كأنه كان يسمع مالكًا يجيب فيجيب هو.» فقال ابن وهب للرجل: «بل كان مالكًا يسمع الليث يجيب فيجيب هو، والله الذي لا إله إلا هو ما رأينا أحدًا قط أفقه من الليث.» وقال أحد العلماء: «لو أن مالكًا والليث اجتمعا كان مالك عند الليث شبه أبكم، ولباع الليث مالكًا فيمن يريد.» هذا كله إن دل على شيء فإنما يدل على أن الليث بن سعد كان فقيهًا مبرزًا عرف معاصروه حق علمه فقدَّروه كل التقدير، وكانت آراؤه في الفقه تُعد مذهبًا من المذاهب الفقهية عند أهل السُّنة والجماعة، ولكن المصريين لم يحافظوا على مذهبه وآرائه واهتموا بمذهب مالك، فانتشر بينهم فقه مالك وفُقِدَ فقه الليث. وربما كان السبب في انتشار مذهب مالك في مصر أن مالكًا كان فقيه المدينة المنورة، والمصريون كانوا يفضلون علماء أهل المدينة أكثر من تفضيلهم علماء الأمصار الإسلامية الأخرى، وفي ذلك يقول الليث بن سعد نفسه في رسالة من رسائله إلى مالك بن أنس:

وإني يحق عليَّ الخوف على نفسي؛ لاعتماد مَن قبلي على ما أفتيتهم به، وإن الناس هنا تبع لأهل المدينة التي إليها كانت الهجرة وبها نزل القرآن، وما أجد أحدًا يُنسب إليه العلم أكره لشواذ الفتيا، ولا أشد تفضيلًا لعلماء أهل المدينة الذين مضوا، ولا آخذ لفتياهم فيما اتفقوا عليه مني.

هذا هو سبب انتشار مذهب مالك بن أنس بين المصريين أكثر من انتشار المذاهب الأخرى. ونحن نعلم أن أساس دراسة فقه مالك بن أنس هو رواية «الموطأ» وشرحه واستخراج آراء مالك منه. ونحن نعرف أيضًا أن للموطأ أربع عشرة رواية منها خمس روايات للمصريين، والسادسة — وهي الرواية المنتشرة الآن — هي رواية يحيى بن يحيى الأندلسي أخذ الشطر الأكبر منها عن مالك نفسه، ولكن الرواية كلها تكاد تكون عن رواية عبد الله بن وهب المصري. وهذا يدل على شدة إقبال علماء مصر على فقه مالك الذي حواه الموطأ، والذين درَّسوا تلاميذ مالك بن أنس، ورُواة الموطأ يعجبون من أن أكبر أصحاب مالك كانوا من مصر أمثال عبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن القاسم الذي صارت إليه رياسة المذهب المالكي وهو صاحب المدونة التي رواها عنه سحنون المغربي فنُسبت إليه المدونة، والحقيقة أن المدونة هي لابن القاسم المصري رواها عنه سحنون، كما رواها ابن الفرات فاتح صقلية، وكان ابن القاسم يُفرِّع على المسائل التي رواها عن مالك فهو أحد الذين رووا عن مالك كل مسائله. وتولى أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي رياسة المالكية في مصر بعد ابن القاسم، وكان من أكثر الناس علمًا، تلقى عن مالك والليث بن سعد والفضيل بن عياض وغيرهم، ويقول ابن وهب عنه: «كان أشهب فقيهًا في علوم شتى، ما سُئِلَ عن شيء إلا أجاب.» ووصفه الإمام الشافعي بقوله: «ما رأيت أفقه من أشهب لولا طيش فيه.» ثم تولى المالكية بعده عبد الله بن عبد الحكم مؤسس أسرة بني عبد الحكم، وسنتحدث عن أفرادها بعد ذلك. واستمرت تعاليم مالك في مصر تقوى ويكثر دارسوها إلى أن وفد الشافعي على مصر، وبدأ ينشر آراءه وفقهه، فتبعه عدد من المصريين حتى إذا كان عهد الإخشيد رأينا أربع عشرة حلقة في المسجد الجامع للمالكية ومثلها للشافعية وثلاث حلقات فقط للحنفية، وبالرغم من أن الفاطميين كانت لهم سياسة خاصة نحو مذاهب أهل السُّنة والجماعة، فقد وُجِدَ عدد كبير من فقهاء المالكية في مصر في العصر الفاطمي أمثال محمد بن سليمان المعروف بأبي بكر النَّعال الذي كانت إليه رياسة المالكية في عصره وإليه كانت الرحلة بمصر، وكانت حلقته في الجامع تدور على سبعة عشر عمودًا؛ لكثرة الطلاب الذين قصدوه للأخذ عنه، وتوفي سنة ٣٨٠ﻫ. ومنهم أبو القاسم الجوهري عبد الرحمن بن عبد الله الغافقي المصري صاحب مسند الموطأ المتوفى سنة ٣٨٠ﻫ، وعلي بن الحسن بن محمد بن العباس الفهري صاحب كتاب فضائل مالك وشارح الموطأ. ونحن نعرف قصة الفقيه المالكي عبد الوهاب بن علي أحد الأئمة المجتهدين في فقه مالك، والذي وصفه صاحب تاريخ بغداد بأنه لم يَرَ في المالكية أفقه منه، ونعلم كيف وفد على مصر لضيق حاله في بغداد، وكيف أكرمه المصريون حتى تمول وحسُنت حاله، ولما أدركه مرض الموت بمصر سنة ٤٢٢ﻫ كان يقول: «لا إله إلا الله عندما عشنا متنا.» وهذا يدل على ما تمتع به في مصر. وفي العصر الفاطمي وفد عبد الجليل بن مخلوف الصقلي الذي أفتى بمصر بفقه مالك أربعين سنة وتوفي سنة ٤٥٩ﻫ. كما وفد أبو بكر الطرطوشي محمد بن الوليد الأندلسي ونزل الإسكندرية بعد أن طوف في العالم الإسلامي، ثم استقر بالإسكندرية واتصل بالوزير المأمون البطائحي وصنف له الطرطوشي «كتاب سراج الملوك»، وكان الطرطوشي يشرح في حلقته المدونة الكبرى، وتوفي سنة ٥٢٥ﻫ فخلفه على حلقته تلميذه سند بن عفان بن إبراهيم الأزدي المتوفى سنة ٥٤١ﻫ.

هكذا كانت دراسة فقه مالك في مصر في هذا العصر الذي نؤرخه، فقد كانت المالكية أكثر مذاهب أهل السُّنة والجماعة انتشارًا في مصر، وكان أكثر علماء مصر من فقهاء المالكية.

فقهاء الشافعية

رأينا كيف كاد يُجمع المصريون على مذهب واحد هو مذهب مالك بن أنس، إلى أن جاء محمد بن إدريس الشافعي إلى مصر، ونزل ضيفًا على عبد الله بن عبد الحكم رئيس المالكية الذي أكرم الشافعي ووهبه أموالًا من عنده، كما جمع له بعض المال من وجوه المصريين؛ ليستعين به في حياته، وبدأ الشافعي يُلقي بتعاليمه وفقهه في المسجد الجامع بالفسطاط، وأقبل عليه بعض علماء المصريين يأخذون عنه، وكان أكثرهم إقبالًا عليه وأخذًا منه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم الذي رأينا أباه رئيسًا لمذهب مالك في مصر. وكان أبوه يشجعه على الأخذ عن الشافعي، وكان علماء المالكية يلومونه على ذلك فكان يجيبهم: إننا يجب أن نعرف مختلف الآراء، فكان هذا القول حافزًا على الاستماع لفقه الشافعي حتى كثر تلاميذ الشافعي. وانقسم المصريون بين فقه الشافعي وفقه مالك انقسامًا أدى إلى أن قاضي مصر عيسى بن المنكدر الذي تولى القضاء من سنة ٢١٢ﻫ حتى سنة ٢١٤ﻫ كان يصيح بالشافعي ويقول له: «يا كذا دخلت هذه البلدة وأمرنا واحد، ورَأْينَا واحد ففرَّقت بيننا، وألقيت الشر، فرَّق الله بين روحك وجسدك.» قال القاضي هذا للشافعي للخلاف الشديد الذي كان بين آراء الشافعي وآراء مالك. وتعصب المالكية لآرائهم وتعصب الشافعية لتعاليمهم؛ فقد كثرت المناظرات بين علماء المذهبين وكثيرًا ما كادت تؤدي هذه المناظرات إلى فتن بين المسلمين، وإلى قتال أحيانًا كذلك الذي حدث في سنة ٣٢٦ﻫ فقد عاد أصحاب مالك والشافعي إلى القتال في المسجد الجامع، فلما زاد قتالهم أرسل الإخشيد ونزع حُصرهم ومساندهم، وأغلق الجامع وكان يُفتح في أوقات الصلاة فقط.

كان لظهور فقه الشافعي أثر في الحياة العلمية بمصر إذ هيأ جوًّا جديدًا لم تعهده مصر من قبل؛ إذ أخذ علماؤها في مناقشة المذاهب وفي مناظرة المخالفين، وابتدأت أذهان المصريين تتنبه إلى المناظرات العلمية وإلى المجادلات المختلفة، وكان الشافعي يناظر ابن علية في مصر، وكان أبو بكر بن الحدَّاد يناظر بكر بن محمد القاضي المالكي في المسائل الفقهية، وكان الشافعي يناظر سرج الغول وهو رجل من أهل مصر عالِم باللغة، ولا يقول أحد شيئًا من الشعر إلا عرضه على سرج الغول، وكان الشافعي يقول بعد مناظرة سرج: «نحتاج إلى أن نستأنف طلب العلم.» وكان من أثر هذه المناظرات المختلفة أن وضع ابن عُلية وعيسى بن أبان كُتبًا عن الشافعي والرد عليه وكتب داود علي الأصبهاني يرد عليهما.

وقد تأثر الشافعي بمصر؛ إذ كانت للشافعي آراء قبل أن يَفِد على مصر دوَّنها في رسالته التي كتبها وهو بالعراق، ولكنه بعد أن استقر به الأمر بمصر اضطر إلى أن يُغيِّر هذه الآراء وأن يكتب رسالته من جديد؛ متأثرًا فيها بالبيئة المصرية وبالتقاليد المصرية، فالرسالة الجديدة للشافعي تختلف عن الرسالة القديمة، ويستطيع الباحث في الفقه أن يميز بين الرسالتين وأن يعرف ما بينهما من الخلاف الذي اضطر إليه الشافعي بسبب تأثير مصر عليه. وفي مصر ترك الشافعي أجلَّ تلاميذه وحوارييه الذين نشروا مذهبه في العالم الإسلامي، نذكر منهم أبا إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني الذي يعتبر إمام الشافعيين وأعرفهم بطرق الشافعي وفتاويه، وألَّف كُتبًا كثيرة في مذهب الشافعي منها الجامع الكبير، والجامع الصغير، والمختصر، ومختصر المختصر، والمسائل المعتبرة وغيرها. ويُعد كتابه المختصر أصل أكثر الكُتب التي أُلِّفت في مذهب الشافعي. وتوفي المزني سنة ٢٦٤ﻫ، وأبا يعقوب يوسف بن يحيى البويطي الذي أخذ عن عبد الله بن وهب وعن الشافعي، وأخذ عنه الترمذي وابن إسحق الحربي وغيرهما خلق كثير. ويقال إن الشافعي لما مرض مرضه الذي مات فيه أراد محمد بن عبد الله بن عبد الحكم أن يجلس مجلس الشافعي ويتولى رياسة المذهب فنازعه البويطي، فاحتكما إلى أبي بكر الحميدي الذي قال لهما إنه سمع الشافعي يقول: ليس أحد أحق بمجلسي من يوسف بن يحيى (يعني البويطي) فليس أحد من أصحابي أعلم منه. وقد ألَّف البويطي كُتبًا كثيرة في فقه الشافعي منها المختصر الكبير والمختصر الصغير وكتاب الفرائض وغيرها، وتوفي البويطي سنة ٢٣١ﻫ معذَّبًا في سجن بغداد بسبب محنة خلق القرآن فإنه لم يُقر بخلقه.

ويعتبر أبو محمد الربيع بن سليمان المرادي المؤذن بجامع مصر راوية كُتب الشافعي، وهو من أقدم أصحاب الشافعي صحبةً وأشهرهم محبةً له، وقد روى عنه أصحاب السُّنن الأربعة، وكان الربيع أول من أملى الحديث بمسجد ابن طولون وتوفي سنة ٢٧٠ﻫ. وأما سميه أبو محمد الربيع بن سليمان الأزدي الجيزي فكان أيضًا من أصحاب الشافعي، وهو الذي جمع كتاب الأُم للشافعي ورتبه بعد البويطي، وهو الذي يَرِد ذكره كثيرًا في كتاب الأُم، وتوفي الجيزي سنة ٢٥٦ﻫ. وأول قاضٍ شافعي ولي قضاء مصر هو أبو زرعة محمد بن عثمان بن إبراهيم الثقفي الذي ولي القضاء سنة ٢٨٤ﻫ، وبعد أن عُزِلَ عاد إلى دمشق ونشر بالشام مذهب الشافعي بعد أن كان أهل الشام يتبعون فقه الأوزاعي.

وظهر في العصر الفاطمي عدد من علماء الشافعية مثل أبي القاسم نصر بن بشر بن علي المتوفى سنة ٤٧٧ﻫ، وكان من الفقهاء المحققين والمناظرين المبرزين. والقاضي أبي الحسن علي بن الحسين الخلعي المولود بمصر سنة ٤٠٥ﻫ، فكان من الفقهاء المشهورين، له تصانيف وروايات، وكان أعلى أهل مصر إسنادًا في عصره، وجمع له أبو نصر أحمد بن الحسن عشرين جزءًا من أقواله وسماها «الخلعيات»، وبالرغم من أنه كان شافعي المذهب فقد ولاه الفاطميون القضاء سنة ٤٥٠ﻫ، ولكنه استقال بعد يوم واحد، ومات سنة ٤٩٢ﻫ. ومنهم أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي، وكان شافعي المذهب، ووضع كتابًا في مناقب الشافعي وأخباره، وكتاب الشهاب في فقه الشافعية، ومع ذلك ولي القضاء ثم عُيِّنَ كاتبًا لعلامة الوزير الجرجرائي، فكاتبًا في ديوان الإنشاء. وهناك عدد آخر كبير من علماء الشافعية ظهروا في العصر الفاطمي، وعاد للشافعية قوتهم بعد العصر الفاطمي فكان القاضي لا يُختار إلا من الشوافع.

فقهاء الحنفية

ذكرنا من قبل أن المصريين كانوا يُقبلون على آراء فقهاء مكة والمدينة، وأن مذهب مالك كان هو المذهب السائد في مصر إلى أن نافسه المذهب الشافعي، أما فقه علماء العراق فلم يأبه به المصريون؛ اكتفاءً بما عندهم، ولكن القضاة الذين وُلوا على مصر حملوا معهم فقه أبي حنيفة، وكان أول القضاة الذين وُلوا مصر ممن دانوا بالمذهب الحنفي هو إسماعيل بن اليسع الكندي الذي ولي سنة ١٦٤ﻫ، وكان مكروهًا من المصريين بسبب مذهبه. ولم يكن أهل مصر يعرفون هذا المذهب حتى إن فقيه مصر الليث بن سعد اضطر إلى أن يكتب إلى الخليفة العباسي يطلب عزل هذا القاضي ويقول في خطابه: «إنك وليتنا رجلًا يكيد سُنة رسول الله بين أظهرنا مع أنَّا ما علمناه في الدينار والدرهم إلا خيرًا.» فاضطر الخليفة إلى عزل هذا القاضي الحنفي المذهب. وفي القرن الثالث للهجرة ولي القاضي بكار بن قتيبة بن عبيد الله على قضاء مصر سنة ٢٤٦ﻫ، وكان يُحدِّث في المسجد الجامع بالفسطاط في فقه أبي حنيفة، وكان لبكار اتساع في العلم والمناظرة، وقد قرأ مختصر المزني وفيه رد على أبي حنيفة فشرع هو في الرد على الشافعي، وتوفي بمصر سنة ٢٧٠ﻫ.

ويُعد أبو جعفر الطحاوي إمام المصريين في مذهب أبي حنيفة لخصب نتاجه وكثرة تلاميذه، للتَّفَقه أولًا على يد المزني تلميذ الشافعي وصحبه، ثم ترك الطحاوي مذهب الشافعي وتحول إلى مذهب أبي حنيفة، وكان كاتبًا للقاضي بكار وسمع منه ومن غيره من الغرباء، وتوفي سنة ٣٢١ﻫ بعد أن ترك عدة كُتب في الفقه منه؛ المختصر الذي كتب عليه فقهاء الحنفية شروحًا عديدة، ولكن كان عدد أصحاب هذا المذهب قليلين ولم ينتشر المذهب في مصر انتشارًا ذا خطر.

فقه الشيعة الإسماعيلية

بجانب دراسة مذاهب أهل السُّنة والجماعة، جاء الفاطميون بمذهبهم الشيعي الإسماعيلي وأصبح هو المذهب الرسمي للدولة، فكان القضاة يحكمون بين الناس حسب الأحكام الشيعية الإسماعيلية، وكان المرجع الأول في أحكامهم هو كتاب «دعائم الإسلام» الذي وضعه أشهر فقهاء المذهب الإسماعيلي إلى الآن وهو النعمان بن محمد بن حيون المغربي الذي يُعرف في تاريخ الإسماعيلية باسم القاضي النعمان، وقد قام بنو النعمان بدور خطير في مصر إبان العصر الفاطمي الأول؛ إذ كانوا أساتذة الفقه الإسماعيلي في البلاد، كما كان منهم رؤساء القضاة؛ ولذلك رأينا أن نتحدث عن هذه الأسرة لما لها من أثر في الحياة الفكرية في مصر.

وُلِدَ النعمان بن محمد مؤسس هذه الأُسرة في أواخر القرن الثالث للهجرة في بلاد المغرب، وكان مالكي المذهب في أول الأمر، ولكنه اعتنق المذهب الإسماعيلي بعد قيام الدولة الفاطمية، واستطاع النعمان سنة ٣١٣ﻫ أن يتصل بخدمة عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية؛ إذ كان يطالعه بأخبار الناس، وتولى قضاء طرابلس المغرب في عهد القائم بأمر الله، ثم صار قاضي قضاة المغرب في عهد المنصور بالله، ولما تولى المعز لدين الله الخلافة الفاطمية قرَّب إليه القاضي النعمان فكان يجالسه ويسايره، وصنف كتابه «المجالس والمسايرات» جمع فيه ما شاهده أو سمعه من المعز لدين الله. ولما انتقل المعز لدين الله إلى مصر سنة ٣٦٢ﻫ كان بنو النعمان في صحبته، وأمر المعز أن يستمر قاضي مصر أبو طاهر الذهلي في الحكم على أن يحكم بفقه الشيعة الإسماعيلية، وأن يسترشد في أحكامه بالنعمان بن محمد، وظل الأمر كذلك إلى أن توفي النعمان سنة ٣٦٣ﻫ.

كان النعمان مكثرًا من التأليف والتصنيف في فنون مختلفة، ولكن أهم كتاب خالد له هو كتاب «دعائم الإسلام»، وهو أول كتاب في فقه الإسماعيلية وعليه اعتماد الطائفة إلى الآن. ودعائم الإسلام عند الفاطميين هي الفرائض الظاهرة؛ وهي الولاية والطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج والجهاد، وكل فريضة منها لها أصولها وفروعها وآدابها، والنعمان يتحدَّث عن ذلك كله في شيء من الإطناب، ويروي ما ورد عن كل فريضة في القرآن الكريم والأحاديث النبوية وما جاء عن أئمة المذهب الشيعي ولا سيما ما روي عن طريق جعفر الصادق. ومن يقرأ هذا الكتاب ويقارن بين ما جاء به من أحكام فقهية وبين فقه مالك بن أنس لا يكاد يجد اختلافًا إلا في بعض أمور، منها ولاية الأئمة ووجوب طاعتهم وهي أهم فريضة في عقيدة الشيعة بالرغم من أنها لا تُعرف في كُتب أهل السُّنة، ومثل توريث البنت كل الميراث بالرغم من ظاهر نص القرآن الكريم، إلى غير ذلك من آراء جديدة لم تعرفها مصر قبل العصر الفاطمي. على أن القاضي النعمان الذي وضع فقه الشيعة الإسماعيلية للعبادة الظاهرة، وضع أيضًا كتابًا في تأويل العبادة الظاهرة تأويلًا باطنيًّا في كتابه «تأويل دعائم الإسلام» فكأنه وضع فقه المذهب وأسهم في التأويل الباطني. وجميع كُتب الفقه الإسماعيلي أخذت مادتها من كتابات القاضي النعمان هذا. وبالرغم مما يتمتع به النعمان من شهرة واسعة في وسط طائفة الإسماعيلية، فإن الباحث المدقق في كُتبه يستطيع أن يتبين أن النعمان على سعة اطلاعه وغزارة علمه كان مضطرًا إلى أن يأتي بالأخبار والأحاديث التي تخدم سادته الفاطميين.

وظل أبناؤه وأحفاده من بعده مقربين من خلفاء الفاطميين فتولوا رياسة القضاء في مصر، كما تولى بعضهم منصب داعي الدعاة وقاضي القضاة، إلى أن ضَعُفَ أمر هذه الأسرة في النصف الثاني من القرن الخامس للهجرة ولم نعُد نسمع عنهم شيئًا، ولكن كان كتاب دعائم الإسلام ومختصره وهو كتاب الاقتصار من كُتب أصولهم التي عليها معولهم إلى الآن.

وكتاب «الرسالة الوزيرية» من كُتب الفقه الإسماعيلي التي كان لها شأن في مصر بجانب كُتب القاضي النعمان، ومؤلف هذا الكتاب الوزير يعقوب بن كلس الذي كان يهوديًّا من بغداد ووفد على مصر في العصر الإخشيدي بقصد التجارة، ثم استطاع بذكائه وكياسته أن يتصل بكافور الإخشيدي وأن يُسلِّم على يديه في شعبان سنة ٣٥٦ﻫ، وأخذ يدرس الدين الإسلامي ويحفظ القرآن وعلومه والفقه وأصوله، وهرب من مصر بعد وفاة كافور خوفًا من ابن حنزابة الوزير المصري، فرحل إلى المعز لدين الله الفاطمي بالمغرب وزين له غزو مصر وأطلعه على أسرارها، فقربه المعز وصحبه معه إلى مصر بعد أن فتحها الفاطميون، وولاه المعز لدين الله على الخراج والحسبة فأظهر مهارة في إدارته فجعله ناظرًا على جميع أموره في القصر، وبعد وفاة المعز جعله الخليفة العزيز وزيرًا له، فكان أول وزير في مصر الفاطمية. كان هذا الوزير محبًّا للعلم والعلماء، مشجعًا لكل من يطلب العلم، وجعل في داره قومًا من العلماء يكتبون له كُتب الحديث والفقه والأدب. وكان خاصة جلسائه العلماء أمثال الزلازلي مصنف كتاب الأسجاع، والتميمي المقدسي الطبيب الذي صنف للوزير كتابًا ضخمًا في الطب سماه «مادة البقاء بإصلاح فساد الهواء». وبلغ الوزير في فقه الإسماعيلية درجة أهَّلته لأن يؤلف كتابه «الرسالة الوزيرية»، وأن يعقد مجالس للتأويل ففي ليلة الجمعة من كل أسبوع كان يجلس للناس ويقرأ عليهم مصنفاته، وكان يحضر هذا المجلس القضاة والفقهاء والقراء ووجوه الدولة، وكل يوم ثلاثاء كان يجتمع في داره الفقهاء والمتكلمون للمناظرة، وطلب من الخليفة أن يُجري الأرزاق على العلماء الذين كانوا يحضرون مجالسه العلمية، كما أن هذا الوزير هو أول من اتخذ من الجامع الأزهر جامعة علمية ورتب للعلماء فيه الأرزاق، فهذا كله يدل على أن الوزير يعقوب بن كلس رعى العلم والعلماء، فاتسعت بفضله وتشجيعه الثقافة وازداد الإقبال على العلم. أما كُتبه الكثيرة التي ألَّفها فلا نعرف عنها سوى أسمائها؛ لأنها فُقدت ولم يبقَ منها إلا «الرسالة الوزيرية» في فقه المذهب الإسماعيلي، وكان الفقهاء يُفتون بما جاء في هذا الكتاب كما كان يُدرَّس بالجامع الأزهر. وبلغ اهتمام خلفاء الفاطميين بهذا الكتاب إلى درجة أن الخليفة الظاهر بن الحاكم طلب من الناس أن يحفظوه ووهب لكل من يحفظه المال.

استمرت دراسة الفقه الإسماعيلي في مصر طوال عصر الفاطميين، وكان المذهب الإسماعيلي هو السائد في البلاد، وضعفت مذاهب أهل السُّنة والجماعة، ولكن زالت دراسة هذا المذهب بزوال الدولة الفاطمية وعادت دراسة فقه أهل السُّنة إلى الازدهار في العصور التي تلت العصر الفاطمي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤