الفصل الثاني

الدراسات النحوية واللغوية

وكما نشطت الدراسات الدينية في مصر، ازدهرت الدراسات النحوية واللغوية العربية لما لها من صلة وثيقة بعلوم القرآن والحديث. وقد وفد على مصر عبد الرحمن بن داود المدني الملقب بالأعرج التابعي، صاحب أبي هريرة الذي يقال عنه إنه أول من برز في علوم القرآن والسُّنن، وأنه أول من وضع العربية بالمدينة بعد أن أخذ هذا العلم عن أبي الأسود الدؤلي.

جاء الأعرج إلى مصر وتوفي بالإسكندرية سنة ١١٧ﻫ فلعله ألقى بمصر شيئًا من علوم العربية والقرآن والحديث.

كذلك وفد على مصر عبد الملك بن هشام صاحب السيرة النبوية، وكان إمامًا في اللغة والنحو والعربية ويروي كثيرًا من أشعار العرب، وكان يجلس في المسجد الجامع يناظر الشافعي في هذه العلوم العربية ويتطارحان الشعر، وتوفي بمصر سنة ٢١٨ﻫ. فوجود أمثال هؤلاء العلماء الوافدين في مصر خلق فيها هذا اللون من الدراسات التي كانت ضرورية لعلوم الدين الإسلامي، فنبغ عدد من علماء مصر في العلوم العربية وكثرت مؤلفاتهم التي أفادت المصريين، كما استفاد منها غير المصريين.

فمن النحاة الذين كان لهم أثر محمود في مصر بنو ولاد، وأشهرهم الوليد بن محمد التميمي الشهير بولاد، وفد على مصر من البصرة واستقر بها ثم رحل إلى العراق في طلب العلم ثم عاد إلى مصر ومعه كُتب أهل العراق في النحو واللغة، وكان تلميذًا للخليل بن أحمد، وتوفي بمصر سنة ٢٦٣ﻫ. وجاء ابنه محمد بن ولَّاد التميمي يتمم دراسات أبيه، فرحل إلى العراق وأخذ عن المبرد وثعلب، وعاد إلى مصر يُعلِّم الناس علوم العربية، ووضع كتابه «المنمق في النحو»، وتوفي سنة ٢٩٨ﻫ. ولكن أشهر بني ولَّاد هو أبو العباس أحمد بن محمد بن ولاد، فقد رحل إلى العراق أيضًا وأخذ عن الزَجَّاج الذي كان يُثني عليه عند كل من قَدِمَ إليه من مصر، ويقول لهم: «لي عندكم تلميذ من صفته كذا وكذا»، وألَّف في مصر كتابه «المقصور والممدود» وهو الكتاب الذي كان له مكانة رفيعة بين كُتب النحو، وأخذ علماء مصر في تدريسه أو في التعرض له بالنقد؛ حتى إن المتنبي الشاعر المعروف قُرِئَ عليه هذا الكتاب في مصر فنقده في بعض موضوعات. كما أن المهلبي اللغوي المتوفى في مصر سنة ٣٨٥ﻫ وضع كتابًا في الرد على ابن ولَّاد في المقصور والممدود.

بدأ ابن ولَّاد كتابه بحرف الألف مخالفًا في ذلك الخليل بن أحمد ومن تبعه من النحاة واللغويين، وفي ذلك يقول ابن ولَّاد: «لعل بعض من يقرأ كتابنا هذا يُنكر ابتداءنا فيه بالألف على سائر حروف المعجم؛ لأنها حرف معتل، ولأن الخليل ترك الابتداء بها في كتابه «كتاب العين»، وليس غرضنا في هذا الكتاب فيما التمسناه بهذا النوع من التأليف كغرض الخليل في كتاب العين؛ لأن كتاب العين لا يُمكِّن طالب الحرْف منه أن يعلم موضعه من الكتاب من غير أن يقرأه إلا أن يكون قد نظر في التصريف وعرف الزائد والأصلي من المعتل والصحيح والثلاثي والرباعي والخماسي، ومراتب الحروف من الحلق واللسان والشفة، وتصريف الكلمة على ما يمكن من وجوه تصريفها في اللفظ من وجوه الحركات وإلحاقها ما تحتمل من الزوائد بعد تصريفها بلا زيادة، ويحتاج مع هذا إلى أن يعلم الطريق التي وصل الخليل منها إلى خطر كلام العرب، فإذا علم هذه الأشياء عرف ما يطلب من كتاب العين. والذي نذهب إليه في هذا الكتاب غير هذا المذهب؛ لأنَّا نقصد إلى أن نُقرِّب على طالب الحرْف فيه ما يطلبه، وأن يستوي في العلم بموضعه منه العالِم والمتعلم، فلم نراعِ أن يكون في أول الكلمة حرف أصلي دون أن يكون زائدًا، أو زائد دون أن يكون أصليًّا، أو صحيح دون أن يكون معتلًّا، أو معتل دون أن يكون صحيحًا، فنكلف الطالب للحرف أن يعرف أولًا جميع ما ذكرناه؛ فلذلك بدأنا بالباب الذي يكون أول ما فيه من حروف المعجم الألف.» ثم أخذ ابن ولَّاد يفصل بين المقصور والممدود ويُعدِّد أنواعهما على مذهب الكوفيين والبصريين، فكان يأتي بالألفاظ المقصورة أو الممدودة مُرتبة حسب الحروف الأبجدية، وكان يأتي بالكلمة ويشرح غريبها مستشهدًا بالأشعار القديمة حينًا أو بآيات القرآن حينًا آخر، ويأتي باشتقاق اللفظ مما يدل على سعة علم ابن ولَّاد بالعربية، وختم كتابه ببحث طويل عن بعض القواعد الصرفية.

ومن علماء العربية في هذا العصر أحمد بن جعفر الدينوري الذي ألَّف كتاب «المهذب في النحو» وصدَّره بالكلام عن الخلاف بين البصريين والكوفيين، ونسب كل رأي لصاحبه، ولم يكن الدينوري من علماء النحو فحسب بل كان يُدرِّس الأدب، فقرأ على المصريين كُتب ابن قتيبة كلها، كما قرأ عليهم وعلى بعض علماء الأندلس والمغرب كتاب سيبويه.

أما أبو جعفر النحَّاس فقد نبغ في النحو واللغة وحذق علوم القرآن الكريم، وألَّف في ذلك كُتبًا كثيرة منها «معاني القرآن»، والمبتهج في اختلاف البصريين والكوفيين، و«أدب الكُتاب»، و«شرح المعلقات» و«طبقات الشعراء»، كما أملى على تلاميذه بمصر تفسير عشرة دواوين من الشعر القديم.

ومن علماء النحو واللغة محمد بن إسحق بن أسباط الكندي المعروف بأبي النضر المصري النحوي الذي أخذ عن الزَجَّاج، ووضع كتابًا في النحو سماه «العيون والنكت» وكتابًا آخر اسمه «المغني في النحو».

وهكذا أقبل المصريون على دراسة علوم اللغة العربية، واطرد نمو هذا اللون من الدراسة، وكَثُرَ العلماء الذين انقطعوا إلى هذا العلم وعُرفوا به. وجاء العصر الفاطمي وهو العصر الذهبي للعلوم المختلفة؛ بفضل تشجيع الفاطميين للعلماء وحرصهم على اقتناء الكُتب في مختلف العلوم، وإنشاء المكتبات العامة حتى يستطيع العلماء والمتعلمون الوصول إلى الكُتب التي ليست في متناول أيديهم، فلا غرو أن رأينا عددًا كبيرًا من العلماء ينبغون في علوم العربية ويُكثِرون من التصنيف فيها، وكان علماء النحو واللغة يتناظرون ويتجادلون في «دار العلم» وتقوم بينهم مباحثات ومذاكرات. وبلغ من اهتمام الفاطميين بعلوم اللغة والنحو أنهم جعلوا في كل ديوان من دواوينهم الكثيرة — وخاصةً في ديوان الإنشاء — علماء لغويين ونحويين، يراجعون ما كان يَصدر عن الدواوين من رسائل حتى لا يظهر في كتابات الكُتاب لحن في اللغة أو خطأ في النحو.

ومن أشهر العلماء الذين ظهروا في العصر الفاطمي أبو عبد الله محمد بن جعفر التميمي المعروف بالقزاز النحوي، كان في خدمة العزيز بالله الفاطمي، ويقال إن الخليفة الفاطمي تقدم إليه أن يؤلف كتابًا يجمع فيه سائر الحروف التي أشار إليها النحويون في قولهم: «الكلام اسم وفعل وحرف جاء لمعنى»، وأن يقصد في تأليفه إلى ذكر الحرف الذي جاء لمعنى، وأن يُجري ما ألَّفه من ذلك على حروف المعجم، فقام القزاز بجمع هذا الكتاب الذي لم يسبقه إليه أحد من العلماء حتى قال أحد العلماء في وصف هذا الجهد الذي بذله القزاز: «إن القزاز فضح المتقدمين وقطع ألسنة المتأخرين.» ولأبي عبد الله القزاز كتاب آخر اسمه «الجامع في اللغة» وهو من الكُتب المختارة المشهورة.

ومن العلماء الذين شاهدتهم مصر في العصر الفاطمي علي بن أحمد المهلبي، وكان إمامًا في النحو واللغة ورواية الأخبار وتفسير الأشعار، وكان من جلساء المعز والعزيز المقربين إليهما، وكان بينه وبين المتنبي بعض محاورات علمية في اللغة، والمهلبي هذا هو صاحب الرد على كتاب المقصور والممدود لابن ولَّاد.

ومن أشهر علماء هذا العصر أبو الحسن طاهر بن أحمد بن بابشاذ الذي كان أحد الذين عُهِدَ إليهم تصحيح رسائل الكُتاب الديوانية، ووضع عدة كُتب منها «المقدمة المحسنية في فن العربية» وله شرح على هذه المقدمة، وشرح الجمل للزجَّاجي، وشرح كتاب الأصول لابن السراج، وله في النحو كتاب بلغ خمس عشرة مجلدة سماها النحاة بعده «تعليق الغرفة»؛ ذلك أن تلاميذه من بعده احتفظوا بهذا الكتاب عند كل من تصدر موضع ابن بابشاذ في حلقته بجامع عمرو، فقد انتقلت إلى تلميذه عبد الله محمد بن بركات السعدي النحوي اللغوي، ثم من بعده إلى أبي محمد عبد الله بن بري النحوي، ثم إلى أبي الحسين النحوي المنبوز بثلط الفيل … إلخ، فكان كل واحد من هؤلاء العلماء يهبها إلى أخص تلاميذه ويعهد إليه بحفظها، وقد اجتهد جماعة من الطلاب في نسخها فلم يتمكنوا من ذلك، وهكذا انتفع الناس جيلًا بعد جيل بعلم ابن بابشاذ المتوفى سنة ٤٦٩ﻫ.

وممن لهم أثر يُذكر من علماء النحو واللغة علي بن جعفر السعدي المعروف بابن القطاع الصقلي، لم يكن مصريًّا ولكنه كان من صقلية فيها شب وقرأ على علمائها كابن البر الصقلي وأمثاله، ثم رحل عن صقلية لما أشرف النورمنديون على تملكها فاستقر بمصر واتخذها وطنًا له، وأكرمه المصريون واتخذه الوزير الأفضل بن بدر الجمالي مؤدبًا لولده في علوم العربية، وشهرة ابن القطاع إنما ترجع لروايته كتاب الصحاح للجوهري وعن طريقه اشتهرت رواية هذا الكتاب في العالم الإسلامي، وله حواشٍ على كتاب الصحاح اعتمد عليها محمد بن بري النحوي المصري فيما تكلم عليه من حواشي الصحاح. ولابن القطاع عدة تصانيف أخرى مثل كتاب الأسماء في اللغة جمع فيه أبنية الأسماء كلها، و«كتاب الأفعال» هذب فيه أفعال ابن القوطية وأفعال ابن طريف وغيرهما، كما جمع شعر شعراء جزيرة صقلية في كتابه «الدُّرَة الخطيرة في شعراء الجزيرة» اشتمل على شعر مائة وسبعين شاعرًا من شعراء العرب في صقلية.

ولا يتسع المجال هنا للحديث عن جميع النحاة واللغويين الذين نبغوا في مصر، أمثال العميدي ومحمد بن الحسين بن عمير صاحب كتاب أخبار النحويين والذي وضع كتابًا يضاهي به أمثال كليلة ودمنة، وأمثال أبي سهل الهروي وأحمد بن مطرف وغيرهم. أو للحديث عن العلماء الذين وفدوا على مصر من الأقطار المختلفة؛ ليأخذوا عن المصريين أو للتدريس بمصر فقد كَثُرَ عددهم وكَثُرَ إنتاجهم العلمي. من هذا كله نستطيع أن نلمس هذا النشاط في درس علوم اللغة والنحو بمصر، وقد تعددت أماكن هذا الدرس؛ ففي جامع عمرو بالفسطاط كانت حلقات العلماء منذ بدأت الدراسات العربية في مصر، ثم جاء الفاطميون وأسسوا الجامع الأزهر فأصبح مركزًا من مراكز الحياة العلمية، كما أسسوا دار العلم وفيها كان يجتمع العلماء والطلاب.

والإسكندرية كانت من مراكز الحياة الفكرية وفيها نبغ عدد من العلماء ذكرهم الحافظ السلفي في معجمه، وكانت أسوان وقوص من مراكز العلم في مصر، ومعنى هذا أن الدراسات الدينية الإسلامية وعلوم العربية كانت تغمر البلاد من شمالها إلى جنوبها فلا غرو أن يَكثُر العلماء ويَكثُر إنتاجهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤