الفصل الثالث

التاريخ

ظهر في مصر عقب الفتح لون من الدراسات التي تتعلق بتفسير القرآن وسيرة الرسول ، ذلك هو ما عُرِفَ بالقصَص. وكان القصَص على ثلاثة ألوان؛ قصَص قُصِدَ به الحديث عما جاء في القرآن الكريم من ذِكر الأمم القديمة، وقصَص قُصِدَ به ترغيب المؤمنين وترهيب المترددين، وقصَص قُصِدَ به ذكر الفتن والملاحم. هذه هي ألوان القصَص التي وُجِدت في مصر عقب الفتح، وأول من قص بمصر هو سليم بن عتر التجيبي الذي تولى قضاء مصر مدة طويلة. وقد وجد هذا الفن قبولًا من المصريين؛ لأنه يوافق طبيعتهم ومزاجهم منذ أقدم العصور؛ فالمصريون يحبون التاريخ ويهتمون بتسجيله منذ حضارتهم القديمة؛ نرى ذلك واضحًا فيما نقشوه من سيَر ملوكهم وأبطالهم على جدران المعابد والقبور، أو ما سطروه من ذلك على أوراق البردي، ففن السيَر فن مصري عرفته مصر منذ عهد الفراعنة، ونراه في مصر في العهد القبطي، فيما تركه الآباء البطاركة مِنْ سيَر مَنْ سبقوهم من الآباء والقديسين، وظهر هذا الفن واضحًا في العصر الإسلامي في حلقات متتابعة من المؤلفات في سيَر أعلام نبغوا في مصر وفي غير مصر.

ولعل أول من نراه في ذلك أن ابن إسحق صاحب السيرة النبوية وفد على مصر وفيها روى سيرته، وجاء ابن هشام مصر فوجد المصريين يروون سيرة ابن إسحق فأخذ عنهم جزءًا كبيرًا في تلخيصه لهذه السيرة التي عُرفت به، وقد وصل إلينا بعض كُتب السيَر التي كتبها المصريون مثل «سيرة عمر بن عبد العزيز» لعبد الله بن عبد الحكم رئيس المدرسة المالكية في مصر في القرن الثاني للهجرة، وكتب ابن الداية «سيرة أحمد بن طولون» و«سيرة ابنه أبي الجيش»، وكتب ابن زولاق «سيرة الإخشيد» و«سيرة كافور» و«سيرة المعز لدين الله» و«سيرة العزيز بالله» و«سيرة سيبويه المصري» و«سيرة المادرائيين»، وكتب القاضي النعمان «سيرة المعز لدين الله»، وصنف أبو علي منصور «سيرة الأستاذ جوذر»، وكتب محمد بن اليماني «سيرة جعفر الحاجب»، ووضع المؤيد في الدين هبة الله الشيرازي «السيرة المؤيدية».

ويطول بنا الأمر لو أحصينا كل ما وصل إلينا في فن السيَر مما كتبه المصريون، مما يدل على أن تيار هذا الفن استمر في مصر منذ العصر الفرعوني إلى العصر الإسلامي الوسيط، بل لا نزال نجده في عصرنا الحديث. وبلغت عناية المصريين بالسيَر وكَلِفهم بهذا الفن أن الأدب الشعبي المصري مليء بفن السيَر؛ إذ وضع المصريون في العصر الفاطمي «سيرة عنترة بن شداد» و«سيرة البدوية» ثم «سيرة الهلالية»، وردد الشعب هذه السيَر في اجتماعاته ومغانيه، ولا يزال الشعب يردد هذه السيَر الشعبية إلى الآن.

يقوم فن السيَر على رواية حوادث حصلت لصاحب السيرة لإبراز شخصيته أو ناحية من نواحي شخصيته؛ فسيرة الشخص هنا ليست ترجمة تامة لحياته منذ ولادته إلى وفاته، بل هي رواية شيء من أفعاله أو أقواله أو عن علاقته بمعاصريه دون ترتيب زمني ولكنها كافية لأن تعطينا صورة صادقة عن هذا الشخص، فمثلًا إذا قرأنا كتاب «سيرة سيبويه المصري» نرى أنفسنا أمام شخص واسع الثقافة في مختلف العلوم العربية والإسلامية، اعتنق مذهب المعتزلة ودافع عنه في الوقت الذي لم يستطع معتزلي آخر أن يجهر برأيه، كان شاعرًا جيد الشعر، ناقدًا أدبيًّا له رأي صائب في النقد، وكان يرسل كلامه مسجوعًا دون تكلف أو تعمد، فيأتي كلامه مثل الحِكم، ومع ذلك كله كان به لوثة جعلت معاصريه يتحملون هجاءه وتهكماته، كل هذا نفهمه من القصص الطريفة التي رواها عنه مصنف سيرته.

وكما أن المصريين ضربوا بسهم وافر في «فن السير»، فإنهم ابتدعوا في التاريخ فنًّا جديدًا لم يسبقهم أحد إليه وهو «فن الخطط»، وقد ذكرنا أن عمرو بن العاص أمر بأن تكون مدينة الفسطاط مقسمة حسب القبائل العربية، وأن كل قبيلة كان لها خطتها بالفسطاط أو الجيزة، فجاء المؤرخون في القرن الثالث للهجرة يؤرخون لهذه الخطط، وكان أسبقهم إلى هذا الفن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم المتوفى سنة ٢٥٧ﻫ، وقد وضع كتابًا باسم «فتوح مصر» يُعد من أقدم الكُتب التاريخية التي وصلتنا عن مصر الإسلامية. كان عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم كَلِفًا برواية الأخبار من ثقات المصريين أمثال والده عبد الله بن عبد الحكم ويحيى بن بكير المحدِّث وعبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد وغيرهم، وعنه روى جماعة من المحدِّثين والإخباريين أمثال القاسم بن حبيش وأبي سلمة التجيبي وابن قديد وغيرهم. ولذلك كان ابن عبد الحكم ثقة فيما كتبه في كتابه هذا إلا في الجزء الخاص بأخبار مصر القديمة، فقد أثبت البحث العلمي الحديث في الدراسات المصرية القديمة عدم صحة كل ما رواه مؤرخو العرب ومنهم ابن عبد الحكم، فكل ما جاء في كُتبهم عن مصر القديمة هو من قبيل الخرافات الخيالية التي لا تعتمد على أُسس علمية صحيحة. إنما رغب بعض الرواة في تفسير ما ورد في القرآن الكريم عن مصر، أو الحديث عن تاريخها، بعد أن شاهدوا ما تركه قدماء المصريين من آثار، فشاء خيالهم أن يؤلِّف أخبارًا عن ذلك كله هي بعيدة كل البُعد عن الصواب، وتناقلها الرواة على أنها أخبار صحيحة وظلوا في هذا الوهم قرونًا عدة إلى أن كشف البحث الحديث عن الحقيقة. فابن عبد الحكم لم يكن بِدْعًا في هذه الروايات التي نقلها عن قدماء المصريين ولا يمكننا أن نؤاخذه عليها، أما أخباره عن الفتح العربي لمصر وعن خطط الفسطاط والجيزة، أو الفصل الذي عقده عن هذا الموضوع الفقهي الخطير: هل فُتحت مصر عنوة أم صلحًا؟ ثم في حديثه عن الإدارة في عهد عمرو بن العاص وابن أبي سرح، وأسماء القضاة الذين تولوا مصر حتى سنة ٢٤٦ﻫ (أي قبل وفاة ابن الحكم بعشر سنين)، والأحاديث النبوية التي رواها الصحابة في مصر … كل ذلك رواه ابن عبد الحكم في ثقة تامة؛ بحيث أصبح كتابه المرجع الأول لكل من تحدَّث عن هذه الموضوعات من بعده. وهنا يظهر فضل هذا المؤرخ الذي كان دقيقًا في اختيار رواياته، كما كان أول من كتب في فن الخطط، وأخذ فن الخطط بعده جماعة من مؤرخي مصر الإسلامية أمثال محمد بن يوسف الكندي، وابن زولاق، ومحمد بن سلامة القضاعي، وابن هلال السعدي، وابن دقماق، والمقريزي وغيرهم من أصحاب كُتب الخطط.

ويُعد محمد بن يوسف الكندي المتوفى سنة ٣٥٠ﻫ من أكبر مؤرخي مصر الإسلامية فيما قبل العصر الفاطمي، وعليه اعتمد أكثر المؤرخين من بعده، ويُعد كتابه «كتاب الولاة» من أقوم كُتبه؛ ففيه تحدث الكندي عن تاريخ مصر منذ فتحها العرب حتى سنة ٣٣٥ﻫ، وقد رتبه المؤلف حسب الولاة الذين تولوا مصر ذاكرًا الحوادث التي حدثت في عهد كل واحد من هؤلاء الولاة، ومتى ولي ومتى عُزِلَ. فكتابه سِجل حافل بالأحداث المصرية في تلك السنين. وكما كتب الكندي تاريخ الولاة، كتب كذلك في تاريخ قضاة مصر كتابه «تاريخ القضاة»، ويمتاز هذا الكتاب بأنه جمع عددًا كبيرًا من أهم القضايا التي نظرها القضاة وأحكام القضاة فيها، ثم بما فيه من أشعار أُنشدت في بعض هذه القضايا؛ مما جعل للكتاب قيمة أدبية بجانب قيمته التاريخية والفقهية. وللكندي كُتب أخرى منها؛ كتاب الخطط، وكتاب أخبار مسجد أهل الراية الأعظم، وكتاب الموالي، ولكن هذه الكُتب كلها فُقدت ولم يبقَ منها إلا كتاب الولاة، وكتاب القضاة، وبعض فقرات مبعثرة في كُتب التاريخ، ولعل الكندي أول من أرخ لمصر حسب الولاة فهو الذي وضع هذا الفن للمؤرخين من بعده.

ومن أشهر المؤرخين الذين نبغوا في هذا العصر الحسن بن إبراهيم المصري المعروف بابن زولاق المتوفى سنة ٣٨٧ﻫ، وقد عاصر ثلاثة من أشهر المؤرخين المصريين وهم ابن قديد وابن الداية والكندي، وروى عنهم كُتبهم ودرَّسها لتلاميذه. ووضع كُتبًا على نسق كُتب أساتذته؛ فهو يُحدِّثنا مثلًا: «كان أبو جعفر أحمد بن يوسف بن إبراهيم (أي ابن الداية) قد عمل سيرة أحمد بن طولون أمير مصر وسيرة ابنه أبي الجيش، وانتشرتا في الناس، وقرأتهما عليه، وحدَّثت بهما عنه مع غيرهما من مصنفاته، ثم عملت أنا ما فاته من سيرتهما.» كما أنه وضع ذيلًا على كتاب الولاة للكندي، وآخر على كتاب القضاة للكندي أيضًا، وكتاب خطط مصر. وقد ذكرنا أسماء كُتب السيَر التي وضعها ابن زولاق؛ فكُتب ابن زولاق مصدرًا هامًّا من المصادر التي اعتمد عليها المؤرخون الذين تحدَّثوا عن مصر بعده، وقد أطلق المؤرخون عليه «مؤرخ مصر» مما يدل على قيمة كُتبه وأخباره الصادقة.

ومن مؤرخي العصر الفاطمي الذين كَثُرَ نقل المتأخرين عنهم؛ المؤرخ الأمير المختار عز الملك محمد بن أبي القاسم عبيد الله بن أحمد المعروف بالمسبحي المصري المولد والنشأة، وُلِدَ في رجب سنة ٣٦٦ﻫ، واتصل في صباه بخدمة الحاكم بأمر الله في زمرة جُنده، وما زال يرقى في مراتب الجندية حتى صار أميرًا على إقليم البهنسا والقيس من أعمال صعيد مصر، ثم ولي ديوان الترتيب. ويُنقل عنه أنه كان له مع الحاكم بأمر الله مجالس ومذكرات أودعها كتابه «التاريخ الكبير»، ووصف كتابه بقوله: «التاريخ الجليل قدره الذي يُستغنى بمضمونه عن غيره من الكُتب الواردة في معانيه، وهو أخبار مصر ومن حلها من الولاة والأمراء والأئمة والخلفاء، وما بها من العجائب والأبنية واختلاف أصناف الأطعمة، وذكر نيلها وأحوال من حل بها، وأشعار الشعراء وأخبار المغنيين، ومجالس القضاء والحكام والمعدلين والأدباء.» فهذا يدل على أن المسبحي لم يهتم بتاريخ مصر السياسي فحسب بل جعل كتابه موسوعة عامة عن الحياة في مصر من جميع وجوهها سياسية واجتماعية وأدبية واقتصادية، ومن المؤلم أن يضيع مثل هذا الكتاب القيِّم، ولم يبقَ منه إلا هذه الفقرات القليلة المتفرقة في كُتب الأدب، وهذه الصفحات القليلة التي تحتفظ بها مكتبة الإسكوريال بإسبانيا، وللمسبحي كُتب أدبية كثيرة فُقدت كلها ولم يبقَ سوى أسمائها.

وفي القرن الخامس للهجرة عاش المؤرخ المصري أبو عبد الله بن سلامة بن جعفر القضاعي المتوفى سنة ٤٥٧ﻫ، الذي كان شافعي المذهب، ومع ذلك ولَّاه الفاطميون الإسماعيلية كاتبًا للإنشاء، كما أوفدوه سفيرًا لهم إلى القسطنطينية سنة ٤٤٧ﻫ. ألَّف القضاعي كُتبًا كثيرة في التاريخ نذكر منها كتابه عن الإمام الشافعي، وكتاب «الأنباء عن الأنبياء»، و«تواريخ الخلفاء» وكتاب «خطط مصر». وكان القضاعي أستاذ مدرسة في رواية التاريخ أخذ عنه عدد كبير من المؤرخين أمثال محمد بن بركات بن هلال السعدي صاحب كتاب «خطط مصر»، وأبو عبد الله الحميدي، والخطيب البغدادي صاحب «تاريخ بغداد» وغيرهم. هكذا اعتنى المصريون بفن التاريخ بفروعه المختلفة عناية خاصة؛ لأنه فن يوافق مزاج المصريين منذ أقدم العصور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤