الفصل الأول

شعر القبائل

من البديهي أن لا ننتظر ظهور الشعر العربي في مصر بمجرد دخول العرب فيها، فاللغة العربية لم تكن لغة المصريين قبل الفتح، وقد رأينا كيف كان الصراع عنيفًا بين اللغة القبطية وبين اللغة العربية إلى أن انتصرت اللغة العربية وأصبحت لغة الشعب في القرن الرابع للهجرة. والذين أسلموا من المصريين وعرفوا اللغة العربية كان من الصعب عليهم أن يُعبِّروا بهذه اللغة عن مشاعرهم وأهوائهم في قالب شعري عربي، بينما استطاعوا أن يُعبِّروا عن آرائهم العلمية بسهولة؛ فالتعبير عن العلوم أسهل من التعبير عن الشعور؛ ولذلك رأينا الحركة العلمية قوية جارفة بخلاف ما كانت عليه حياة الشعر في أول الأمر من ضعف شديد. وهناك سبب آخر لضعف الشعر هو أن المسلمين في مصر اتجهوا للدراسات الدينية الإسلامية، وكَلِفوا بها كلفًا شديدًا جدًّا صرفهم عن الشعر وفنونه وروايته فضعفت بذلك حياة الشعر في مصر.

وربما كان للقبائل العربية التي دخلت مصر بعض الأثر في ضعف الشعر؛ فقد رأينا أن أكثر هذه القبائل كانت يمنية والشعر — كما قيل — في مصر أقوى منه في اليمن؛ لذلك كله كان لا بد أن يمضي وقت طويل حتى يزدهر الشعر المصري وتتبلور خصائصه الفنية ويحتل المكانة اللائقة به بين شعر الأقطار العربية. هذا مع أن المقطوعات التي وصلتنا لا تكفي لأن نحكم حكمًا صادقًا على قيمة الشعر المصري في عهده الأول؛ إذ لم تُعدم القبائل العربية التي استقرت في مصر من إنشاد الشعر، وكان شعرهم الذي وصلنا شعرًا تقريريًّا لا غناء فيه من الناحية الفنية فهو شعر ليس فيه جزالة الشعر الجاهلي وقوته، وليس فيه الشعور المتدفق الذي نلمس فيه عواطف النفس البشرية واتجاهاتها، إنما هو شعر يتحدث عن بعض المآثر القبلية في مصر على شكل سرد للأحداث. فمثلًا نرى الشاعر أبا قبان بن نعيم التجيبي يمدح عبد الرحمن بن قيسية الذي تنازل عن داره لتكون مسجد الفسطاط فيقول:

وبابليون قد سعدنا بفتحها
وحُزنًا لعمر الله فيئًا ومغنما
وقيسية الخير بن كلثوم داره
أباح حِماها للصلاة وسلما

وقول أبي المصعب البلوي في نفس الموضوع:

وأبوك سلَّم داره وأباحها
لجباه قومٍ رُكَّعٍ وسجود

فالشاعران هنا يقرران حادثة تنازل ابن قيسية عن داره لتكون مسجدًا للمسلمين ولا شيء سوى ذلك. ومثل هذا قصيدة أبي مصعب البلوي في هجاء رؤساء قبائل مصر، ويقال إن هذه القصيدة أول قصيدة رويت في مصر ففيها يقول:

وظلت أنادي اللكعاء قيسًا
ليدخلني وقد حضر الغداء
وليس بماجد الجدات قيس
ولكن حضرميات قماء
وأعرَض نفحه اليربوع عني
يزيد بعد ما رفع اللواء
أشار بكفه اليمنى وكانت
شمالًا لا يجوز لها عطاء
أُكلم عائذًا ويصد عني
ويمنعه السلام الكبرياء
وجرف قد تهدم جانباه
كريب ذا كم البرم العياء
وأما القحزمي فذاك بغل
أضر به مع الدبر الحفاء
وهذا القصير من تجيب
ولو يسطيع ما نفض الخلاء

يريد في هذه المقطوعة هجاء يزيد بن شرجيل وقيس بن كليب الحاجب، وعائذ بن ثعلبة البلوي، وعمرو بن قحزم، وكريب بن أبرهة، وزياد بن حناطة التجيبي صاحب القصر المعروف باسمه، وكلهم من أشراف قبائل اليمن بمصر. ومن هذا الشعر التقريري ما قاله الشاعر عابد بن هشام الأزدي في مدح الوالي مسلمة بن مخلد الذي هدم ما كان بناه عمرو بن العاص من مسجد الفسطاط، وأشاد بناء آخر اتخذ له منارًا سنة ٥٣ﻫ، فقال الشاعر:

لقد مُدَّت لمسلمة الليالي
على رغم العداة مع الأمانِ
وساعده الزمان بكل سعد
وبلَّغه البعيد من الأماني
أمسلم فارتقِ، لا زلت تعلو
على الأيام — مسلم — والزمانِ
لقد أحكمت مسجدنا فأضحى
كأحسن ما يكون من المباني
فتاه به البلاد وساكنوها
كما تاهت بزينتها الغواني
كأن تجاوب الأصوات فيه
إذا ما الليل ألقى بالجرانِ
كصوت الرعد خالطه دوي
وأرعب كل مختطف الجنانِ

فلعلك تلاحظ معي ضعف هذه المقطوعات وعدم انبعاث العواطف والأحاسيس التي تجعل للشعر قيمة كبرى، ثم ما نراه في هذه الألفاظ المهلهلة التي ليس لها الجرس الموسيقي الذي نَطرب له في إنشاد الشعر.

ومثل ذلك هذه الأشعار التي قيلت في الحروب التي كانت في مصر بسبب النزاع على خلافة المسلمين، ففي ثورة ابن الزبير انضمت مصر إليه ضد الأمويين فأرسل إليها ابن جحدم واليًا، وكان من الخوارج، وجاء معه عدد كبير منهم، فلما بويع مروان بن الحكم سنة ٦٤ﻫ أراد أن ينتزع مصر من الزبيريين فسيَّر جيوشًا بقيادة ابنه عبد العزيز وسار هو نفسه مع جيوش أخرى، فحفر ابن جحدم خندقًا حول الفسطاط في شهر واحد فقال الشاعر ابن أبي زمزمة:

وما الجِد إلا مثل جِد ابن جحدمٍ
وما العزم إلا عزمه يوم خندق
ثلاثون ألفًا هم أثاروا تُرابه
وخدُّوه في شهرٍ، حديث مُصدَّق

ونزلت جيوش مروان عين شمس، فخرج إليهم ابن جحدم بجيوش مصر ولكنه اضطر إلى العودة إلى الخندق، وكان المصريون يقاتلون نُوبًا؛ ولذلك سميت أيام هذه الحرب بأيام الخندق أو أيام التراويح. وفي هذه الحروب العصيبة قال عبد الرحمن بن الحكم يصف بلاء المصريين وكثرة جيوشهم وكان الشاعر مروانيًّا:

ألا هل أتاها على نأيها
بناء التراويح والخندقِ
بلغنا (بفيلق) يَغشى الظراب
بعيد السمو لمن يرتقي
وجاشت لنا الأرض من نحوهم
بحيَي تجيب ومن غافقِ
وأحياء مذجح والأشعرين
وحمير كاللهب المُحرقِ
وسدَّت معافر أُفق البلاد
بمرعد جيشٍ لها مُبرقِ
ونادى الكُماة: ألا فابرزوا
فحتام حتى ولا نلتقي
فلو كُنتِ (رملة) شاهدته
تَمنَّيتِ أنكِ لم تُخلقِ

ولما انتصر مروان بن الحكم في هذه الحروب وبايع الناس له، رفضت قبيلة المعافر أن تبايعه، فأمعن فيهم القتل، وكان ممن قُتِلَ الأكدر بن حمام سيد قبيلة لخم وشيخها، فلما علمت القبائل بذلك لم يبقَ أحد حتى لبس سلاحه، واجتمع على باب قصر مروان أكثر من ثلاثين ألفًا، وكاد المصريون يفتكون به لو لم يُجِره كريب بن أبرهة. وفي رثاء الأكدر يقول الشاعر زيادة بن قائد اللخمي:

كما لقيت لخم ما ساءها
بأكدر لا يَبعدن أكدر
هو السيف جرد من غمده
فلاقى المنايا وما يَشعر
فلهفي عليك غداة الردى
وقد ضاق ورْدُك والمصدر
وأنت الأسير بلا منعةٍ
وما كان مثلك يُستأسر

ففي القرن الذي ظهر فيه فحول الشعر العربي بالعراق والحجاز والشام أمثال جرير والفرزدق وعمر بن أبي ربيعة وكثير وجميل والأخطل وغيرهم، لا نكاد نجد شاعرًا في مصر يقف في صف واحد مع أحد هؤلاء الشعراء أو في الصف الثاني لهم. وكل المقطوعات المصرية التي وصلتنا عن القرن الأول للهجرة هي مقطوعات في هجاء الوالي مثل هذه الأشعار التي قيلت في هجاء الوالي عبد الله بن عبد الملك بن مروان الذي ولي مصر سنة ٨٦ﻫ، ففي عصره حدثت أزمة اقتصادية في البلاد وارتفعت الأسعار فاضطرب الناس وتشاءموا، وخرج إلى أخيه الوليد بن عبد الملك سنة ٨٨ﻫ فهجاه ابن أبي زمزمة بقوله:

إذا سار عبد الله من مصر خارجًا
فلا رجعت تلك البغال الخوارج
أتى مِصْر والمكيال وافٍ مُغربَلٌ
فما سار حتى سار والمُد فالج

فأهدر الوالي دمه، فهرب الشاعر واختبأ في منزل القاضي عمران بن عبد الرحمن، وكان هذا القاضي قد هجا الوالي أيضًا وفخر عليه بقوله:

أنا ابن أبي بدرٍ بهجرة يثربٍ
وهجرة أرض النجاشي أفخرُ
أمثلي على سني وفضل أُبوتي
نَسيت، وهذا نجل مروان يُذكَرُ

فعزله الوالي وعيَّن بدله عبد الواحد بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، وكان حدث السن غير أنه كان فقيهًا عالِمًا، فقال عمران بن عبد الرحمن يهجو الوالي والقاضي الجديد:

لَحَى الله قومًا أمروك ألم يروا
بأعطافك التخنيث كيف يريب
أتصرفني جهلًا عن الحكم ظالمًا
ووليته عجزًا فتاة تجيب
ثكلتك من والٍ وأيضًا ثكلته
ألم يَكُ في الناس الكثير مصيب

فهجاء الولاة والقضاة كثير في هذا القرن بجانب ما نراه من فخر الشاعر بقبيلته، من ذلك ما قيل أن الخليفة هشام بن عبد الملك الأموي أراد أن يُوحِّد المكاييل في مملكته، فأرسل إلى مصر المُد ليكون مكيالًا بدلًا مما عرفه المصريون من عهد بعيد قبل الإسلام من ويبة وإردب، فلما جاءت مُدي الخليفة إلى مصر قَبِلَ بعض الناس أن يتعاملوا بها وأباها رجال قبيلة المعافر، وكسر المُدي واحد منهم وهو يقول: «إن لنا ويبة وإردبًا قد عرفناهما ولسنا نحتاج إلى هذا.» فعُرِفَ الرجل بكاسر المُدي وعُدَ ذلك من مناقبه، وقال الشاعر يمدحه:

قومي الذين تبادروا
مُدي الخليفة بالحجر
وتحزَّبوا وتعصَّبوا
وجثوا عليه فانكسر
من بعد ما ذُلَّت له
أعناق يَعرُب أو مُضر

هكذا لا نجد في مصر طوال العصر الأموي شعرًا له قيمته إلا أمثال هذه المقطوعات التي تسجل الحوادث التي كانت جارية في البلاد، إلا إذا استثنينا هذه القصائد التي أنشدها الشعراء الذي وفدوا على بلاط الوالي عبد العزيز بن مروان، فهؤلاء لم يكونوا مصريين، بل أقاموا في مصر مدة طالت أو قصرت، ثم عادوا إلى بلادهم وسنتحدث عنهم مع غيرهم من الشعراء الوافدين.

وفي العصر العباسي بدأت الحياة الأدبية المصرية تتطور؛ ففيه ظهر عدد كبير من الموالي ومن العرب نبغوا في العلوم المختلفة، وبدءوا يروون الشعر العربي ويحاولون محاكاته، واضطربت الحياة في مصر في هذا العصر اضطرابًا شديدًا نجده مسجلًا في شعر المصريين. وكان هذا العصر مرجلًا يغلي بالفتن والثورات، وكان الخلفاء العباسيون يعزلون ولاتهم في مصر بعد عام أو بعد بضع عام، فلم يتمكن الولاة من إصلاح البلاد الداخلية، وانتهز بعض الولاة فرصة ولايته فارتشى في أحكامه أو تشدد في حكمه على المصريين، فثار المصريون جميعًا سواء أكانوا من العرب أم من الأقباط. وإن لهذه الثورات أثر قوي في إيقاظ روح الشعر في مصر؛ فجرى الشعر على ألسن الشعراء متحدثين بما كان في البلاد من حوادث، وكان شعراء القبائل هم الذين أنشدوا هذا الشعر، ونستطيع أن نُقسِّم شعر القبائل في هذا العصر إلى:
  • أولًا: شعر في الثورة ضد الحاكمين: كانت القبائل العربية تثور ضد الولاة والأمراء؛ لجور أحكامهم وسوء سياستهم في البلاد، ولم يتورعوا أن يحاربوهم حربًا لا هوادة فيها، فكان الولاة يستعينون بجند الخليفة العباسي لإخماد هذه الثورات. من ذلك ما كان في ولاية موسى بن مصعب الخثعمي الذي ولي مصر في أواخر سنة سبع وستين ومائة من الهجرة؛ فقد تشدد هذا الوالي في جمع الخِراج وزاد على كل فدان ضِعف ما كان عليه أولًا، وجعل خراجًا على أهل الأسواق وعلى الدواب، وأخذ الرشوة في الأحكام، فأظهر الجند كراهية له ولم يستطع عماله أن يدخلوا إقليم الحوف (مديرية الشرقية حاليًّا)، وتحالف القيسية واليمنية على قتاله واتفق معهم جُند الفسطاط على الثورة، فلما خرج الوالي مع جُنده لقتال الثائرين انهزم جُند الفسطاط عنه وقُتِلَ الوالي سنة ١٦٨ﻫ. وكان هذا الحادث له أثر في الشعر؛ إذ أنشد الشعراء مترنمين بانتصار أهل الحوف، من ذلك ما قاله سعيد بن عفير الأنصاري:
    أَلَمْ تَرهم ألوت بموسى سيوفهم
    وكانت سيوفًا لا تدين لمُترف
    فما برحت فيه تعود وتبتدي
    إلى أن تَروى من حمام مذرف
    فأصبح من مِصْرٍ وما كان قد حوى
    بمِصْر من الدنيا سليبًا بنفنف
    ولكن أهل الحوف لله فيهم
    ذخائر إن لا يُنفد الدهر تُعرف

    وفي ولاية الحسين بن جميل امتنع أهل الحوف أيضًا من أداء الخراج سنة ١٩١ﻫ، وثار أبو الندى مولى قبيلة بلي في نحو ألف رجل وأخذوا يقطعون الطريق ويُغيرون على بعض قرى الشام، وكان يساعده في ذلك رجل من جذام يقال له المنذر بن عابس وآخر يُدعى سلام النوي، فكثر فسادهم وأوقعوا الرعب في نفوس المصريين جميعًا، فبعث هارون الرشيد بقائده يحيى بن معاذ للقضاء على جماعة أبي الندى وإخضاع أهل الحوف، ونجح القائد ابن معاذ في ذلك كله وقَدِمَ الفسطاط سنة ١٩٢ﻫ ومعه زعماء الثورة، فمدحه الشعراء مسجلين هذا الانتصار فمن ذلك قول أبي عثمان السكري:

    قد جبينا قيسًا ولم تَكُ تُجبى
    وقتلنا أبا الندى وابن عابس
    وتركنا لخمًا وحيَي جُذامٍ
    لا تطيق رفع كفٍ تُلامس
    آمن الله بالمبارك يحيى
    حوف مصر إلى دمشق فبالس
    وأباد الخُلَاع من كل أرضٍ
    بعد ما حاد عنهم كل فارس

    ومن قول هذا الشاعر أيضًا يحذر قبائل قيس، وينصح لهم أن لا يمتنعوا مرة أخرى عن دفع الخراج:

    يا قيس عيلان إني ناصحٌ لكم
    أدوا الخراج وخافوا القتل والحربا
    إني أُحذركم يحيى وصولته
    فما رأيت له تقيًا إذا غضبا

    ويطول بي الحديث عن هذه الثورات الكثيرة التي كانت تقوم بها قبائل عرب مصر ضد الولاة والحكام، ولكن أرى أن أُلِم بثورة شغلت ولاة مصر والخلافة العباسية مدة طويلة وهي الثورة التي عُرفت «بثورة الجروي»، كان عبد العزيز بن الوزير الجروي صاحب الشرطة بمصر في ولاية المطَّلب الخزاعي سنة ١٩٨ﻫ وعُزِلَ بعد قليل، ثم أُرسل على رأس جيش لمحاربة أهل الحوف وأُعيد إلى الشرطة سنة تسع وتسعين ومائة في ولاية العباس بن موسى، ولكن الجند ثاروا على هذا الوالي وأجمعوا على تولية المطَّلب مرة أخرى، فاضطر الجروي إلى الهروب إلى تنيس، وتم أمر الولاية للمطَّلب وأطاعه وجوه أهل الحوف، فأرسل إلى الجروي بعقده على تنيس وأمره بالحضور إلى الفسطاط، فامتنع الجروي عن الامتثال لهذا الأمر، فبعث المطَّلب بوالٍ آخر على تنيس ولكنه لم يستطع دخولها، وخرج الجروي لمحاربة الجيش الذي أرسله المطَّلب بقيادة السري بن الحكم، فهُزِمَ جيش الوالي وأُسِرَ القائد السري، وأخذ الوالي في إرسال الجيش تلو الآخر فكان يُهزم المرة بعد الأخرى، وأخرج الجروي القائد السري بن الحكم من سجنه بعد أن تعاهدا على خلع الوالي المطَّلب الخزاعي وأن يتولى السري بن الحكم، وأخيرًا أرسل المطَّلب جيشًا بقيادة هبيرة بن هاشم لمحاربة الجروي والسري، والتقى الجيشان ولكن الفرس تحير بالقائد هبيرة فسقط في حفرة وأدركه الجند فقتلوه، فحزن المصريون لموته ورثاه الشاعر سعيد بن عفير بقوله:

    لعمري لقد لاقى هُبيرة حتفه
    بأفضل ما تُلقى الحُتوف السوارع
    بأنفٍ حميٍّ لم تُخالطه ذِلةٌ
    وعرضٍ نقيٍّ لم تَشِنه المطامع
    عشية يَستكفيه مُطَّلِب الذي
    به ضاق ذرعًا والمنايا كوارع
    فما انفك يحميه ويجعل نفسه
    له جنةً حتى احتوته المصارع
    فلاقى المنايا فوق أجرد سابحٍ
    وفي الكف مأثورٌ من الهند قاطع
    فبينا يخوض الهول من غمراته
    وأعداؤه من حوله قد تجاشعوا
    تَقطَّر في أهويةٍ عن جواده
    فصادفه حينٌ من الموت واقع

    فأمام انتصارات الجروي اضطر الوالي المطَّلب إلى أن يسأل عدوه الأمان والخروج سالمًا بنفسه من مصر إلى مكة، وفي ذلك أشار الشاعر دعبل الخزاعي وكان في زيارة مصر في تلك الأيام:

    فكيف رأيت سيوف الجريش
    ووقعة مولى بني ضبة
    أحجَتك أسيافهم كارهًا
    وما لك في الحج من رغبة

    وولي السري بن الحكم بإجماع جُند مصر سنة ٢٠٠ﻫ وهو يُظهر مسالمة الجروي، ولكن حدث أن ثار عمر بن هلال المعافري بالإسكندرية ودعا للجروي، وكان بالإسكندرية إذ ذاك جماعة من عرب الأندلس بلغ عددهم خمسة عشر ألفًا خلا النساء والأطفال طردهم الحكم بن هشام من قرطبة، ومكث الأندلسيون في سفنهم إلى أن أُتيحت لهم فرصة هذه الثورة التي قام بها عمر بن هلال، فهجموا مع قبائل لخم على قصر ابن هلال، فخشي أن يقتحموا قصره وينتهكوا حرماته، فاغتسل وتكفن وأمر أهله أن يُدلوه إلى الأندلسيين فقتلوه، فقال الشاعر سعيد بن عفير يرثي ابن هلال ويذكر ما كان عليه من علم وفضل:

    لا يَبعدن ابن هلالٍ فقد ذهبت
    منه المنون بعلمٍ طيب النسم
    لا يَرأم الضيم من حُب الحياة، ولا
    يَقبل دون فِعال الخير بالقِسم
    ولا يزال له من مجده طرفٌ
    يَسند ما حاز عن آبائه القَدَم
    ما انفك يحمي ذمار إسكندرية في
    هدءٍ حميدٍ وعِزٍّ غير مُهتضم
    حتى إذا جاءه من كان يأمنه
    وصرح الموت جهرًا غير مكتتم
    خاض الأسنة والهندي مُحتسبًا
    حتى تجرَّع كأس الموت من أَمَم

    واضطرب سكان الإسكندرية بعد مقتل ابن هلال، فطلب السري من الجروي أن يسير إليها سنة ٢٠١ﻫ وكاد ينتزعها من الأندلسيين وحلفائهم اللخميين، لولا أن السري بعث إلى تنيس بوالٍ لينتزعها من الجروي، فلما سمع الجروي ذلك ترك الإسكندرية ورجع إلى تنيس وقد فسدت علاقته بالسري، وفي ذلك قال الشاعر سعيد بن عفير يخاطب الجروي:

    ألا من مُبلِّغ الجروي عني
    مُغلغلةً يُعاتب أو يَلوم
    أقمت تُنازِل الأبطال حتى
    تميَّز ذو الحفيظة والسئوم
    وصُلت بهم فما وهنت قُواهم
    وطير الموت دائرةٌ تحوم
    ولو هجمت جُموعك حين حلوا
    عليهم باد جَمعُهم المقيم
    وكيف رأيت دائرة التواني
    أتتك بصحو نحسٍ لا يُقيم
    أتاك وقد أَمِنت ونمت كيدًا
    لصلٍ لا ينام ولا يُنيم

    ثم جاء سليمان بن غالب واليًا على مصر في ربيع الأول سنة إحدى ومائتين من قِبل طاهر بن الحسين، فحاربه السري بن الحكم، ولكن السري هُزِمَ وقُبِضَ عليه هو وابنه ميمون وأُرسلا إلى سجن أخميم، واستقام الأمر لسليمان بن غالب فقال المعلى الطائي الشاعر المصري يمدحه:

    إذا شن في أرضٍ سليمان غارةً
    أثار بها نقعًا كثير المصائب
    حماها ولولا ما تَقلَّد أصبحت
    حبيسًا على حُكم القنا والمقانب

    ولكن القبائل ثارت ضد سليمان بن غالب فاضطر إلى أن يلحق بالجروي، ثم ولي السري مرة أخرى فانتقم من كل أعدائه الذين ناصروا سليمان أو الجروي، حتى قامت فتنة إبراهيم بن المهدي ببغداد بسبب بيعة المأمون لعلي الرضا، واتصل إبراهيم بجند مصر وطلب إليهم خلع المأمون والوثوب بالسري، فلبَّى دعوته جَمْع من المصريين منهم الحارث بن زرعة بالفسطاط، والجروي بالوجه البحري، وسلامة الطحاوي بالصعيد فحاربوا السري، واستطاع الجروي أن يمتلك الإسكندرية وأخرج الطحاوي وعمال السري من الصعيد، وسار الجروي مع النيل حتى التقى بجيش السري بالقرب من شطنوف، فهُزِمَ السري سنة ٢٠٣ وقُتِلَ ابنه، فقال الشاعر أبو نجاد الحارثي في ذكر هذه الحروب:

    جَمِّعْ رعاعك يا سري فإنها
    حربٌ تحس سعيرها قحطان
    قتلوا أبا حسن وجرُّوا شلوه
    كالكلب جر بشلوه الصبيان
    ولت تجيب وأسلمته جيادها
    عيلان يوم تواكلت عيلان
    فاستخرجوه مُلبيًا فأتى به
    يَجري ويَهرج حوله السودان
    أَبْشِر فإن أفول نجمك بعده
    عرض السماء ونجمك الدبران
    لا تَبْكِ فالعُقبى لإخوته غدًا
    أو بعده فكما تَدين تُدان

    وقال الشاعر المعلى الطائي في رثاء ميمون بن السري:

    لو رد غرب منيةٍ بشجاعةٍ
    أحدٌ لدافع رُكنها ميمون
    لو كان تجريد السيوف يردها
    لحماه منها مُنصلٌ وثمين
    ما زلت أطمع في رجوعك سالمًا
    ويروعني شفقًا عليك ظنون
    فليفجعن غدًا بقتلك طاهرٌ
    وليفجعن بقتلك المأمون

    وأشرف الجروي على الفسطاط وأراد أن يحرقها فخرج إليه الفقهاء وسألوه الكف عن ذلك، فانصرف عنها إلى الإسكندرية عندما بلغه أن أهلها أخرجوا عامله عليها ودعوا للسري، وثار القبط في سخا وساعدهم بنو مدلج فخرج إليهم الجروي وهزمهم، فمدحه المعلى الطائي بقوله يخاطب المأمون:

    فقُل لأمير المؤمنين نصيحةً
    وما حضر شيئًا كآخر غائب
    لقد حاطنا عبد العزيز بسيفه
    ولولاه كنا بين قِتلٍ وناهب

    وفشلت حركة إبراهيم بن المهدي واستقر الأمر للمأمون العباسي، فولي السري على مصر للمرة الثالثة، فنشط السري لحرب أتباع إبراهيم بن المهدي، فاستطاع أن يهزم جيش الطحاوي بالصعيد وأن يقبض عليه وعلى ابنه إبراهيم وأن يقتلهما بالفسطاط، فقال الشاعر المعلى الطائي يستنكر ما فعله الطحاوي من الثورة والانقسام:

    أراد الطحاوي التي لا شوى لها
    فأوقد نارًا كان بالنار صاليا
    ودب لأقطار البلاد بفتنةٍ
    فجاشت بسُقمٍ لا يُجيب المداويا
    وراسله من كان يحفى بفاقةٍ
    وأصبح ذا ميلٍ إليه مُماليا
    جنت ما استحق القتل يا صاح كفه
    وكل امرئٍ يُجزى بما كان جانيا

    وقُتِلَ الجروي في آخر صفر سنة ٢٠٥ﻫ كما مات السري بعده بقليل، وانتقل النزاع بينهما إلى ولديهما علي بن عبد العزيز الجروي وأبي نصر بن السري، والتقى جيشاهما في معركة بالقرب من شطنوف انتصر فيها ابن الجروي، ولكنه لم يتبع جيش ابن السري المنهزم، فقال سعيد بن عفير يلومه على ذلك:

    ألا من مُبلِّغٌ عني عليًّا
    رسالة من يلوم على الركوك
    علام حبست جَمْعك مستكفًّا
    بشط ينوف في ضنك ضنيك
    وقد سنحت لك الغفران ممن
    رماك بجيشه الوهن الركيك

    وتوفي أبو نصر بن السري في شعبان سنة ٢٠٦ﻫ فتولى أخوه عبيد الله بن السري مكانه، ولكن الخليفة المأمون أرسل خالد بن يزيد الشيباني لتخليص مصر من ابن السري، فانضم ابن الجروي إلى خالد، وانتصر عبيد الله عليهما في موقعة بالقرب من دمنهور سنة ٢٠٧ﻫ، ويظهر أنه جرت مفاوضات بين عبيد الله وخالد واحتج كل منهما بأن الخليفة المأمون ولَّاه على مصر، فقال الشاعر سعيد بن عفير ينصح للمتحاربين أن يرجعا إلى استشارة الخليفة في الأمر:

    يا أيها المتحاربان وإنما
    دعواهما المأمون في الصدقات
    هل ترجعان إلى التقية والتُّقى
    وتُتاركان تعاور الغارات
    حتى يجيء من الخليفة أمره
    فيميز بين الحق والشبهات

    وحدث أثناء هذه المفاوضات أن ارتفع النيل فسار خالد إلى الحوف، فأراد ابن الجروي أن يُخرجه منها فمكر به حتى أنزله «نهيا»، وتركه هناك محصورًا بين مياه النيل في جهد شديد، فقال المعلى الطائي يُحبذ ما فعله ابن الجروي:

    سَلا خالد لما انجلى عنه شكه
    وأسلمه في عُدوة البحر خاذله
    فزالت أمانيه غداة سما لنا
    بعارض جيشٍ يَمطر الموت وابله

    فلما انكشف النيل سار ابن السري إلى خالد وحاربه فأسره، فقال المعلى يذم الذين خذلوا خالدًا وأسلموه لعدوه:

    ألا لا أرى خيلًا أضر له الوغى
    وأجبن في الهيجاء من خيل خالد
    وقُوَّاده أشرار كل قبيلةٍ
    تمالوا على إسلامه في الشدائد
    فإن يقتلوه يقتلوا منه سيدًا
    شجاعًا جوادًا ماجدًا وابن ماجد
    وإن كفوا عن قتله فهي مِنَّةٌ
    لآل سريٍّ في مناط القلائد

    واستمع ابن السري إلى نصيحة المعلى الطائي الشاعر فأطلق سراح خالد وسيَّره إلى مكة.

    ولما طالت هذه الثورات رأى الخليفة المأمون العباسي أن يهدئ أمرها بأن قسَّم مصر بين ابن الجروي وابن السري بأن يتولى كل منهما ما في يده من أعمال، فأقبل ابن الجروي على جمع الخراج من إقليم الحوف، فقاومه أهله وكتبوا إلى ابن السري يستعدونه على ابن الجروي، فأسرع إليهم ابن السري بجيشه وتقابل الجيشان في بلقين، واستمر القتال طويلًا حتى اضطر ابن الجروي إلى أن يفر إلى دمياط، وفي ذلك قال المعلى الطائي:

    ألا هل أتى أهل العراقين وقعةٌ
    لنا بحِمى بُلقين شيَّبت الولدا
    وما كان منا قتلهم عن جهالةٍ
    خطأ ولكنا قتلناهم عمدا
    ولما تبينت المنية في القنا
    نكصت تنادي حين ضل الندا سعدا
    فوليت عن رَبْع المحلة هاربًا
    على أبلهٍ ما يركب الجور والقصدا
    فكيف رأيت الله أنزل نصره
    علينا وولاك المذلة والطردا
    سنُهدي إلى المأمون منا نصائحًا
    نضمها طي الصحائف والبُردا
    بفعل عليَّ والذي كان مُجمِعًا
    عليه بإظهار الخلاف الذي أبدا

    وسار ابن السري أثر ابن الجروي ففر هذا من دمياط إلى الفرما ثم هرب إلى العريش وغزة، فقال سعيد بن عفير:

    ألا يا عليُّ بن عبد العزيز
    إلى أين صِرت تريد الفرارا
    فلست بأول من كاده
    عدو، فَكَرَّ عليه اعتكارا
    وأجر مصيرك أن يسحبوا
    إليك فتوحًا عظامًا كبارا
    فتُدرك ثأرك من أهله
    وتلبس بعد الكُبو القسارا

    فاستمع الجروي إلى دعوة الشاعر، فأغار على الفرما واسترجع تنيس ودمياط بعد أن هرب منها أصحاب عبيد الله، وواصل زحفه حتى بلغ شطنوف فتقابل مع جيش عبيد الله بن السري، وكانت الدائرة على ابن الجروي الذي هرب مرة أخرى إلى العريش، فقال الشاعر المعلى الطائي:

    أَلَمْ تَرَ خيله صبحت عليًّا
    تُدف على مناسجها النساعا
    فولَّى عن عساكره وخلَّى
    الأسل المدائن والرباعا
    ولكن فات فوق أقب نهدٍ
    كرجع الطرف لا يخشى اضطلاعا
    فحسبُك أن قومك من جُذامٍ
    وسعدٍ لا ترى لهم اجتماعا
    دعتهم طاعةٌ لك فاستجابوا
    ومن عجبٍ لمثلك أن يُطاعا

    وعاد ابن الجروي سنة ٢١٠ﻫ إلى امتلاك تنيس ودمياط وهزم جيش ابن السري، ولكن المأمون العباسي ولى عبد الله بن طاهر مصر، فجاء إليها سنة ٢١١ﻫ وانضم إليه ابن الجروي، وأبى عبيد الله بن السري أن يُسلِّم له البلاد، فاضطر ابن طاهر إلى محاربته وهُزِمَ ابن السري وتفرقت جيوشه، وفي هذه الموقعة يقول الشاعر أبو تمام وكان يُقيم في مصر في تلك السنوات:

    لعمري لقد كانت بمِصر وقيعةٌ
    أقامت على قصد الهوى كل مائل
    على الخندق الأقصى وما كان حوله
    وما قد يليه من فضاءٍ وساحل
    رأى ابن السَّري النصر أول يومه
    وأودى بليثٍ من أبي السرو باسل
    لوين جُموع ابن السَّري وخيله
    شماطيط تترى كالنعام الحوافل
    فلما رأوا ألا محيص وأنه
    كفاح الردى في كل حقٍّ وباطل
    توخوا أمان الأريحي ابن طاهرٍ
    فمن فارسٍ يأتيه طوعًا وراجل

    وقال الشاعر أحمد الحمراوي يهجو ابن السري:

    أترجو مهاةٌ دفع ضرغام غابةٍ
    لشتان ما بين المها والهزابر
    وإن أحق الناس أن يَشهد الوغى
    ويَقصف أصلاب الملوك الجبابر
    لمن لم يكن في الروع في زي غادةٍ
    ولم يحتجب صُبحًا لمشط الضفائر

    وانتهت ثورة الجروي التي استمرت زهاء اثنتي عشرة سنة لعبت فيها قبائل العرب في مصر دورًا خطيرًا، وسجلها الشعر المصري الذي هو صورة لما رأيناه من الشعر الذي كان في العصر السابق؛ أي إنه شعر تقريري قبل كل شيء. ولكن يظهر في بعض الأبيات نفحات فنية لا تخفى على الناقد المتذوق لفن الشعر؛ فمثلًا مقطوعة أحمد الحمراوي السابقة أصيلة كل الأصالة من الناحية الفنية، فالصورة التي رسمها الشاعر في هجائه لابن السري صورة دقيقة تدل على ضعفه أمام ابن طاهر كضعف المهاة أمام الأسد، وأن ابن السري كان مترفًا مثل ترف النساء ويُمشط ضفائر شعره كل صباح كما تفعل النساء، فليس لمثله أن يشترك في الحروب. هذه الصورة قطعة فنية تدل على أن شعر القبائل قد تطور من شعر تقريري خالص يسجل الأحداث فقط إلى شعر تقريري به نفحة فنية.

    وتستمر ثورات قبائل العرب ضد الحكام طوال هذا العصر، وكانت أشد القبائل ثورة هي قيسية الحوف ويمانيته، فكثيرًا ما تحالفا ضد الولاة وكثيرًا ما حاربهم الولاة؛ فمن ذلك أن المأمون ولى أخاه المعتصم مصر، فاستخلف عليها عمير بن الوليد وهو من عرب اليمن في خراسان فاستعد لحرب أهل الحوف، وتحالف ضده القيسية بزعامة قيس بن عبد الله بن حليس الهلالي، واليمانية بزعامة عبد السلام بن أبي الماضي، فاشترك الطرفان في القتال وقُتِلَ عمير بن الوليد، فقال أبو تمام في رثائه:

    ألا رُزئت خُراسانٌ فتاها
    غداة ثوى عُمير بن الوليد
    فيا يوم الثلاثا كم كئيبٍ
    رماه الحزن فيك وكم عميد
    فكم سخَنت فينا من عيونٍ
    وكم أغبرت فينا من خُدود
    فما زُجرت طيورك عن سنيحٍ
    ولا طلعت نجومك بالسعود

    وقال سعيد بن عفير:

    ساقت عُمير إلى مصر منيته
    بإمرةٍ لم يكن فيها بمسعودِ
    حتى أتته المنايا وهو مُلتحفٌ
    ثوبين من حبرات البأس والجودِ
    فاذهب حميدًا فلا تبعد وكل فتًى
    يومًا وإن كرُمت أفعاله يُودي

    ثم اضطر المعتصم إلى أن يأتي بنفسه إلى مصر وحارب أهل الحوف وهزمهم، وقبض على زعيم القيسية وزعيم اليمانية وصلبهما على جسر الجيزة سنة ٢١٤ﻫ، فقال معلى الطائي يسخر بابن حليس المصلوب:

    إن الحُليسي غدا سابقًا
    في حلبة الجسرين قد قصبا
    على طمرٍ ما له أرجُلٌ
    من صنعة النَّجار قد شُذبا
    وليس يدري عند إلجامه
    مَنْ أثغر الطرف ومَنْ لببا
    مُسمَّر الخلق أمون الشوى
    يأنف أن يأكل أو يشربا
    ولو سرى ليلته كلها
    ما جاوز الجسر ولا قربا
    لو كان من بعض نخيل القُرى
    كان أبو القاسم قد أرطبا
    كسا أبو إسحق أوداجه
    أبيض لا يَعتب من أغضبا
    وقد سقى عبد السلام الردى
    فكيف بالله إذا جرَّبا

    فأظن أن هذه الصورة التهكمية الساخرة التي رسمها الشاعر للزعيمين المصلوبين تدل دلالة واضحة على تطور الشعر المصري، وانتقاله من حالة تقريرية مسجلة للحوادث إلى ناحية فيها جمال الصورة ودقة الخيال واختيار اللفظ.

  • ثانيًا: شعر العصبية القبلية: استمرت عصبية القبائل التي عُرفت عنهم في الجاهلية بالرغم من أنها خفت بعض الشيء في عهد الرسول وعهد الخلفاء الراشدين، ولكنها عادت إلى الظهور مرة أخرى في عصر الأمويين والعباسيين، وكان بعض خلفاء هاتين الدولتين يؤجج نيران هذه العصبية أحيانًا لتثبيت ملكهم. أما في مصر فلم تظهر العصبية بين القبائل في هذه الصورة اللافتة التي كانت عليها في البلاد الإسلامية الأخرى، ولا سيما في الخلاف الذي كان بين القبائل المضرية والقبائل اليمنية؛ فكثيرًا ما كان هذان الفرعان من العرب يتحالفان في الثورات التي قاموا بها ضد الحاكمين على نحو ما رأينا من قبل. وربما كان مصدر هذا الإخاء بين العرب في مصر أن أكثر العرب الذين استقروا بها كانوا من اليمنية، وأن في مصر من الخيرات ما كان يكفي لجميع الوافدين عليها، فلم يحتاجوا إلى التنازع من أجل الرزق. ثم إن القبائل تفرقت في مصر واختصت تقريبًا كل قبيلة بمنطقة خاصة عاشت فيها آمنة، غير أن بعض القبائل كانت تنازع بعضها بعضًا في سكنى منطقة واحدة أو مناطق متجاورة وهنا يحدث النزاع والثورات بين القبائل العربية لا فرق فيها بين مضرها ويمنها. ولم يصلنا شعر مصري في هذه المنازعات التي كانت بين القبائل إلا ذلك الشعر الذي قيل في القضية المعروفة بقضية جناح والزعفران؛ ذلك أن عشيرة مراد كان لهم فرس يفخرون بها تسمى «الزعفران»، وكان لقبيلة يحصب فرس تسمى الجناح، فأُخرج الفرسان يوم الرهان وجعل كل فريق لصاحبه الفرس المسبوق، وخرجت الطائفتان ومعهم عامة أهل مصر، فكان السابق فرس مراد في أول الأمر حتى كادت تدخل الغاية، فخرج كمين من يحصب وضرب وجه الزعفران فتحيرت الفرس وسبقتها الجناح إلى دخول غاية السباق، ساء مرادًا ذلك واستلوا سيوفهم واقتتل الطائفتان قتالًا عنيفًا حتى اضطر الأمير ليث بن فضل إلى أن يخرج إليهم ويُحجِّز بينهم، وأحال القضية إلى القاضي عبد الرحمن العمري الذي ولي القضاء سنة ١٨٥ﻫ، وكان هذا القاضي سيئ السيرة يحب المال ويأخذ الرشوة، فأتت يحصب إليه بأموال كثيرة فحكم لهم بالفرس ودفع إليهم الزعفران، ولكن استمر النزاع بين القبيلتين حتى ولي القاضي البكري قضاء مصر سنة ١٩٤ﻫ، فنظر في القضية مرة أخرى فحكم بردِّ الزعفران إلى قبيلة مراد. هذا الحادث الذي وقع بمصر في أواخر القرن الثاني للهجرة يُذكِّرنا بصورة أخرى لها في الجاهلية وهي قصة «داحس والغبراء»، وكما كَثُرَ الشعر الجاهلي في تصوير قصتهم كذلك أنشد العرب بمصر شعرًا في قضيتهم، وقد انتهز المصريون هذه الفرصة لإظهار كراهيتهم وبغضهم للقاضي العمري، فاتخذوا قضية جناح والزعفران وسيلة لهجاء هذا القاضي البغيض، فمن ذلك ما قاله الشاعر يحيى الخولاني:
    إن كان مُهر أخي زوفٍ أفات به
    ريب الزمان عليه جور زنديق
    فكم يدٍ لبني زوفٍ وإخوتهم
    في آل فهرٍ تُغص الشيخ بالريق
    إن حاكمٌ عُمريٌّ جار في فرس
    فسوف يُرجعه عدل ابن صديق

    ومن الطبيعي أن نجد شعراء دافعوا عن حكم القاضي، العمري فمنهم الشاعر عبد الله بن بحيرة التجيبي، فقد قال يرد على الشاعر يحيى الخولاني ويهدد قبيلة مراد بالصلب والقتل:

    طلبت فلم تألُ حُسن الطلب
    ورُمت عظيمًا ولمَّا تُصِب
    وعوَّلت موتًا على رميهم
    بقوس الضلال ونَبْل الكذب
    فإن كان في فرسٍ عَتبُكُم
    فعندي لكم فرسٌ من قصب
    وإلا فمُهر كريم النجار
    قليل العظام كثير العصب

    فرد عليه الشاعر يحيى الخولاني يدافع عن «مراد» ويهجو القاضي العمري:

    ألا أيها الشاعر المنتدب
    يُحامي عن العُمري العطب
    ورامي مُرادٍ وخولانها
    بنَبْلٍ من الجهل غير الصيب
    فما أنقص العُمري بامرئٍ
    من الناس إلا كريم الحسب
    ملا الأرض جورًا بأحكامه
    وأظهر فيها جميع الرَّيب

    ومن العصبية القبلية فخر الحضارمة إذا تقلد أحدهم منصبًا رفيعًا في البلاد، فمن ذلك قول أحدهم لما ولي لهيعة بن عيسى الحضرمي القضاء سنة ١٩٩:

    لقد ولي القضاء بكل أرضٍ
    من الغُر الحضارمة الكرام
    رجالٌ ليس مثلهم رجال
    من الصَّيد الجحاجحة الضخام

    وقال الشاعر يزيد بن مقسم الصدفي:

    يا حضرموت هنيئًا ما خُصصتِ به
    من الحكومة بين العجم والعرب
    في الجاهلية والإسلام يعرفه
    أهل الرواية والتفتيش والطلب

    وهناك لون آخر من العصبية القبلية سجلها الشعر المصري في أواخر القرن الثاني للهجرة، وكان سبب هذه العصبية أن العرب سمعوا بأنفسهم وكونوا في مصر طبقة أرستقراطية — إن صح هذا التعبير — كانوا ينظرون إلى الموالي وإلى أهل الذمة نظرة السيد إلى المَسُود، ولم يقبلوا أن يتساوى بهم المسلمون من غير العرب؛ لهذا كثُرت المنازعات بين العرب وغيرهم. ونلمح من الشعر المصري الذي وصلنا حالة الاضطراب الذي كان عليه المجتمع إذ ذاك، ولعل قضية أهل الحرس أصدق مثال على ذلك كله، فقد اضطر بعض الموالي المسلمين إلى أن يتخذوا لأنفسهم نسبًا عربيًّا حتى يتساوى بالعرب، ولكن القبائل العربية ثارت ورفضت أن ينتسب إلى العرب من لم يكن من أصل عربي، فأهل الحرس جماعة من غير العرب ولكنهم أسلموا، فتحرَّش العرب بهم وآذوهم، فجمع أهل الحرس من بينهم أموالًا دفعوها إلى القاضي العمري ليثبت لهم نسبًا عربيًّا، وخرج بعضهم إلى الخليفة العباسي هارون الرشيد ببغداد يدَّعون له أنهم من العرب، وأتوا بجمع من أعراب سينا ورشوهم بالمال فشهدوا أن أهل الحرس من العرب وأن نسبتهم إلى بطن حوتكة من قبيلة قضاعة، فقَبِلَ القاضي العمري شهادتهم إلا شهادة حوي بن حوي بن معاذ العذري، وسجل القاضي لهم نسبًا في الحواتك، فثار عرب مصر وزاد سخطهم على القاضي العمري، وسجل الشعراء هذه الثورة وذلك السخط فمن ذلك ما قاله الشاعر يحيى الخولاني:

    وجاءوا بأجلاف من الحوف فادعوا
    بأنهم منهم، سفاهًا وأجلبوا
    ألا لعن الرحمن من كان راضيًا
    بزعمهم ما دامت الشمس تَغربُ

    وقال الشاعر يحيى في هجاء حوي بن حوي الذي شهد لأهل الحرس ورفض القاضي شهادته:

    يا ليت أم حوي لم تلد ذكَرًا
    أو ليت أن حويًّا كان ذا خرس
    كسا قضاعة عارًا في شهادته
    لله در حوي شاهد الحرس
    شهادة رجعت، لو أنها قُبلت
    لألحق الزور منها العير بالفرس

    وقال الشاعر معلى بن المعلى الطائي في هجاء القاضي العمري بمناسبة حكمه في قضية أهل الحرس:

    كم كم تُطوِّل في قِرانك
    والجور يضحك من صلاتك
    تقضي نهارك بالهوى
    وتَبيت بين مُغنياتك
    فاشرب على صرف الزما
    ن بما ارتشيت من الحواتك
    إن كنت قد ألحقتهم
    عربًا فزوِّجهم بَناتك
    ولتكشفن بما أتيـ
    ـت صدور قومٍ عن مَسَاتِك
    وكأنني بمنيَّةٍ تسـ
    ـعى إليك بكف فاتِك
    لا تعجلن أبا الندى
    حتى تَصير إلى وفاتِك
    إن المقامع تُطلقـ
    ـن من الجحيم إلى مماتك
    بل لو ملكت لسان أكـ
    ـثم ما وصلت إلى صفاتك

    نلاحظ أن الشاعر هنا كنَّى القاضي بأبي الندى وهي كنية قاطع الطريق الذي ظهر سنة ١٩١ﻫ، ثم نرى هذه السخرية اللاذعة بدعوته القاضي أن يُزوِّج أهل الحرس من بناته، فإن الحكم الوضعي الذي سار عليه العرب حتى أصبح من الأحكام الفقهية أن المولى لا يتزوج عربية، ثم كيف هجا القاضي بالفسق والمجون وشرب الخمر وأخذ الرشوة، فماذا يكون بعد ذلك؟! حتى إن الشاعر ختم مقطوعته بأنه لو ملك لسان أكثم بن صيفي أشهر خُطباء العرب في الجاهلية لا يستطيع أن يصف سيئات هذا القاضي. والشاعر هنا قد ملك زمام الفن؛ فقد تحدثت مشاعره بل مشاعر العرب في عصره نحو قضية أهل الحرس، ونحو القاضي العمري في صور مختلفة دقيقة كل الدقة. وعُزِلَ القاضي العمري وولي بدله القاضي البكري سنة ١٩٤ﻫ، فخرج جماعة من عرب مصر إلى الخليفة الأمين العباسي يسألونه أن يطلب من البكري أن يُعيد الحكم في قضية أهل الحرس، وأن يأمر بأن لا يُمنح أحد من غير العرب اللحاق بالعرب؛ فأعاد البكري النظر في القضية وجمع عددًا من العلماء وأهل العدالة من مصر للشهادة في نسب أهل الحرس، فأجمعوا أنهم من أصل غير عربي، فحكم البكري بذلك ومزَّق السجل الذي يُلحقهم بالعرب، ففرح العرب بذلك وقال المعلى الطائي الشاعر:

    يا بني البظراء موتوا كمدًا
    واسخنوا عينًا بتخريق السجل
    لو أراد الله أن يجعلكم
    من بني العباس طُرًّا لفعل

    وقال طاهر القيسي:

    ولقد قمعت بني الخبائث عندما
    راموا العُلا وتحوتكوا وتَعرَّبوا
    وتركتهم مثلًا لكل مُلصقٍ
    نسبًا إذا التقت المحافل يُضربُ

    وقال يحيى الخولاني:

    اشكروا الله على إحسانه
    فله الحمد كثيرًا والرُّغب
    رجع القِبط إلى أصلهم
    بعد خزيٍ طوَّقوه وتعب
    ودنانير رشوها قاضيًا
    جائرًا قد كان فينا يغتصب
    أخذ الأموال منهم خُدعةً
    وتولى عنهم ثم هرب
    أَبلِغ البكري عني أنه
    عادلٌ في الحكم فرَّاج الكُرب
    قد أمات الجور فينا والرِّشا
    وأشاع العدل فينا فَرَتَّبْ
    إنه قد كان يقضي بالهوى
    ويبيع الحكم جورًا ويَهب
    وإذا يخلو حساها مُزةً
    مثل عين الديك من ماء العنب
    ما كفته رشوةٌ ظاهرةٌ
    وقضايا جوره فيها عجب
    أن أتى أعظم ما يأتي به
    أحدٌ أن صيَّر القِبط عرب

    فهذه القضية وما قيل فيها من شعر تدل على مدى العصبية القبلية عند عرب مصر، ومدى احتفاظ العرب بشخصيتهم؛ بحيث أنفوا أن يلتحق بهم أحد من الشعوب الأخرى حتى لو كانوا من المسلمين. والعرب في ذلك يخالفون الإسلام الذي ينص على أنه لا فرق بين مسلم ومسلم إلا في التقوى وأن المسلمين جميعًا سواء أمام الله، ولكن هكذا كانت الأمور تسير في مصر بل في جميع العالم الإسلامي. بل نرى في مصر قصة عجيبة؛ ذلك أن الموالي أصبحوا حمَلة العلوم فكان منهم القضاة والعدول والكُتاب، فتشبهوا بالعرب واتخذوا الألقاب والكُنى، فقال الشاعر المصري أنيس بن دارم يتهكم بهم ويُذكِّرهم بأصلهم القبطي:

    قَبَحَ الله زمانًا
    رَاسَ فيه ابن تليد
    بعد مِقراضٍ وخيطٍ
    وأُبيرات حديد
    وأبو الزنباع خنَّا
    ق غرامل العبيد
    بعد سيف خشبي
    وسهام من حديد
    وأبو الروس المريسي
    ابن دبَّاغ الجلود
    واللقيط ابن بُكير
    نطفة الفدم الطريد
    وابن سهمٍ حارس الجيز
    ة حُلوان البريد
    عُصبةٌ من طينة النيـ
    ـل مناسي الجدود
    لبسوا بعد التبابيـ
    ـن نفيسات البُرود
    لازموا المسجد ضُلَّا
    لًا من الأمر الرشيد
    لحوانيتٍ بنوها
    بِفِنا كل عمود
    وتسمُّوا وتكنُّوا
    بعد جُورج وشُنود
    وألاحوا بجباهٍ
    من نطاح الحُصر سُود
    تحت أميالٍ طوالٍ
    كبراطيل اليهود
    نصبوها كالمقاعيـ
    ـد على روس القرود
    وتراهم للوصايا
    وعدالات الشهود
    في مراءٍ وجدالٍ
    وقيامٍ وقعود
    وخشوعٍ وابتهال
    وركوعٍ وسجود
    وعلى القسمة أضرى
    من تماسيح الصعيد
    وأشاروا للهدايا
    بأبي عبد الحميد

    فلعلك تلاحظ في هذه القصيدة هذه الصور التهكمية الساخرة التي رسمها الشاعر لهؤلاء العلماء الأمجاد أمثال سعيد بن تليد ويحيى بن بكير وغيرهما، وكيف تشبَّه هؤلاء العلماء بالعرب، فكان ذلك سبب هجاء الشاعر لهم وسخريته بهم. ثم انظر إلى فن الشاعر في هذه القصيدة وكيف رقت ألفاظها وقصُر بحرها، ودقت معانيها وصورها وكأن الشاعر يتحدث فيها حديثًا عاديًّا لا تكلف فيه.

ظهور الشعر المصري

هذا كله إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الشعر المصري تطور من حالة الشعر التقريري الذي رأيناه عند قبائل العرب في العصر الأموي إلى شعر رقيق تظهر فيه بعض السمات المصرية؛ فالسخرية اللاذعة التي تُعرف بها مصر منذ أقدم عصورها واضحة تمام الوضوح في بعض القصائد التي رويناها، والميل إلى سهولة العبارة واختيار البحور القصيرة التفاعيل، كل هذه من تأثير البيئة المصرية التي تميل إلى البساطة في كل شيء، ومن ناحية أخرى نستدل من هذه المقطوعات على أن القبائل العربية بالرغم من احتفاظها ببعض عاداتها فإنها خضعت للبيئة المصرية وتأثرت بها وظهر هذا الأثر فيما أنشدوه من شعر. ومعنى هذا كله أننا نرى منذ النصف الثاني من القرن الثاني للهجرة شعرًا مصريًّا تظهر فيه بعض نواحي الشخصية المصرية، ولم يَعُد شعراء مصر يُنشدون في الحوادث التي وقعت بمصر أو يفخرون برجال قبائلهم أو هجاء أعدائهم، إنما تنوعت أغراض الشعر وتعددت مقاصده وأسهم شعراء مصر في كل الأغراض التي عرفها الشعر العربي، وظهرت العاطفة الجياشة في الشعر المصري فأضفت على الأشعار المصرية قوة ترتاح النفوس إليها، حتى إن الشاعر الفحل أبا تمام اضطر إلى أن يروي للشاعر المعلى الطائي في مختارات شعره المعروفة بالحماسة قوله في وصف عاطفته نحو أولاده، وهي الأبيات التي يتمثل بها كل أب، والتي تُتخذ مثلًا لاضطرار الآباء إلى الجبن بسبب عطفهم وشفقتهم على أبنائهم:

لولا بُنيات كزغب القطا
جُمعن من بعضٍ إلى بعض
لكان لي مُضطربٌ واسعٌ
في الأرض ذات الطول والعرض
وإنما أولادنا بيننا
أكبادنا تمشي على الأرض
إن هبَّت الريح على بعضهم
أشفقت العين من الغمض

فلا أكاد أعرف في الشعر العربي كله مثل هذه العاطفة المتدفقة التي انبعثت من هذه المقطوعة مع دقة الصور التي رسمها الشاعر؛ فهو يُصوِّر ضعف بُنياته حينًا بريش القطا الناعم الصغير الذي تحت إبطي الطير، ثم يُصوِّر الأولاد مرة أخرى بأنهم أكباد الآباء تمشي على الأرض وهي صورة جديدة كل الجِّدة، ثم هذه الصورة التي تجعل الآباء يضطربون كل الاضطراب ولا يغمض لهم جفن إذا هبَّت الريح على الأبناء، وهي صور تُعبِّر تعبيرًا دقيقًا جدًّا عن عاطفة الآباء نحو أبنائهم.

ولهذا الشاعر «المعلى الطائي» قصيدة عاطفية أخرى يرثي فيها جاريته «وصف»، ويقال إن هذه الجارية كانت أديبة شاعرة وكان المعلى يحبها؛ لأدبها وثقافتها، ولكنه اضطر إلى أن يبيعها لسبب أزمة مالية انتابته، فلما دخل عليها قالت له: بعتني يا معلى؟ قال: نعم، قالت: والله لو ملكت منك مثل ما تملك مني ما بعتك بالدنيا وما فيها، فخجل المعلى واضطر إلى أن يرد الدنانير وأن يستقيل صاحبه الذي اشتراها وأن يعتذر إلى صاحبته، ثم جاءت الفاجعة بأن توفيت هذه الجارية بعد ثمانية أيام، فرثاها المعلى بقصيدة فيها الحزن الدفين والحسرة الشديدة والعاطفة القوية، فهو يقول يخاطب الموت الذي اختطف هذه الجارية ولم يرحم شبابها وجمالها:

يا موت كيف سلبتني وصفا
قدمتها وتركتني خلفا
هلا ذهبت بنا معًا، فلقد
ظفرت يداك، فسُمتني خسفا
وأخذت شِق النفس من بدني
فقبرته، وتركت لي النصفا
فعليك بالباقي بلا أجل
فالموت بعد وفاتها أعفى
يا موت ما بقَيت لي أحدًا
لما رفعت إلى البِلى وصفا
هلا رحمت شباب غانيةٍ
ريا العظام وشعرها الوحفا
ورحمت عيني ظبية جعلت
بين الرياض تُناظر الخشفا
تُغضي إذا انتصفت مرابضه
وتظل ترعاه إذا أغفى
فإذا مشى اختلفت قوائمه
وقت الرضاع فينطوي ضعفا
متحيرًا في المشي مرتعشًا
يخطو فيضرب ظلفه الظلفا
فكأنها وصفٌ إذا جعلت
نحوي تُحير محاجر وطفا
يا موت أنت كذا لكل أخٍ
إلفٍ يصون ببِّره الإلفا
خليتني فردًا وبِنْت بها
ما كنت قبلك حاملًا وكفا
فتركتها بالرغم في جدث
للريح تَنسف تُربه نسفا
دون المقطم لا يلبسها
في زينةٍ قلبًا ولا شنفا
أسكنتها في قعر مُظلمة
بيتًا يصافح تُربه السقفا
بيتًا إذا ما زاره أحدٌ
عصفت به أيدي البِلى عصفا
لا نلتقي أبدًا معاينةً
حتى نقوم لربنا صفا
لبست ثياب الحتف جاريةٌ
قد كنت ألبس دونها الحتفا
فكأنها والنفس زاهقةٌ
غُصن من الريحان قد جفَا
يا قبر أبقِ على محاسنها
فلقد حويت البِر والظُّرفا

فعاطفة الحزن الشديدة واضحة كل الوضوح في هذا الرثاء، ولكنه حزن هادئ — إن صح هذا التعبير — ليس فيه النحيب والعويل على نحو ما تعوَّدنا من شعراء العرب، بل حزن دفين تتقطع له النفس؛ فالشاعر يلوم الموت؛ لأنه اقتنص جاريته التي هي بمثابة شق نفسه، وهو لا يستطيع أن يهنأ بالعيش بالنصف فقط، ويلوم الموت؛ لأنه لم يرحم شبابها، ثم أخذ الشاعر في وصف عظامها اللينة وشعرها وعينها ومشيتها وكأنها ابنة الظبية الصغيرة، ويعاتب الموت؛ لأنه ترك الحبيبة في قبر تلعب الريح بترابه وتمتد يد البلى إلى جسدها، ثم يناشد قبرها أن يحفظ عليها جمالها وظُرفها، كل ذلك دلالة على الحزن العميق والألم الذي ليس بعده ألم لفراق جاريته عبَّر عنها الشاعر في سهولة وفي مقدرة فنية تثير الحزن حقًّا.

ولنفس الشاعر مقطوعة أخرى في المدح والاعتذار وطلب العفو أنشدها للأمير عبد الله بن طاهر عندما ولي مصر، وكان غاضبًا على المعلى؛ بسبب موقفه في ثورة الجروي، وكان ابن طاهر يمنح الشعراء الذين مدحوه فطمع المعلى في نواله فقصده وهو يخطب الناس على المنبر فاعتذر إليه ومدحه بهذه القصيدة:

يا أعظم الناس عفوًا عند مقدرةٍ
وأظلم الناس عند الجود للمالِ
لو أصبح النيل يجري ماؤه ذهبًا
لما أشرت إلى خزنٍ بمثقالِ
تُغلى بما فيه رِق الحمد تملكه
وليس شيء أعاض الحمد بالغالي
تفك باليُسر كف العُسر من زمنٍ
إذا استطال على قوم بإقلالِ
لم تخلُ كفك من جودٍ لمختبطٍ
ومرهفٍ قاتلٍ في رأس قتَّالِ
وما بثثت رعيل الخيل في بلدٍ
إلا عصفن بأرزاقٍ وآجالِ
إن كنت منك على بالٍ مننت به
فإن شكرك من قلبي على بالِ
ما زلت مقتضبًا لولا مجاهرةٌ
من ألسُنٍ خُضن في صدري بأقوالي

فعفا الوالي عنه وأحسن عطاءه؛ لما تبين له من مقدرة الشاعر في حُسن السبك وقوة العبارة وجودة المعاني. ولهذا الشاعر بيتان في الدعوة إلى الصبوح في الربيع بين أزهار الرياض:

باكر صبوحك صبحة النيروز
واشرب بكأس مترع وبكوز
ضحك الربيع إليك عن نواره
آس ونسرين ومرماحوز

من هذا كله نتبين أن الشعر المصري بدأ في الظهور في أواخر القرن الثاني للهجرة، وأن المصريين بدءوا يُعبِّرون عن عواطفهم ومشاعرهم بالشعر، رأينا ذلك عند الشاعر المعلى الطائي. ونراه عند الشاعر الملقب بالجمل الأكبر الذي أخذ علوم الدين عن الشافعي ولكنه كان يتكسب بشعره، وقد رحل إلى دمشق لمدح أحمد بن المدبر، فسمع أن هذا الأمير يُجزل العطاء لمن يجيد مدحه، أما الذين يمدحونه بشعر ضعيف فهو يوجه بهم مع أحد خواصه إلى المسجد فلا يفارقونه حتى يُصلُّوا مائة ركعة، فدخل عليه الجمل وأنشده مقطوعة يظهر فيها ظُرف المصريين وفكاهاتهم:

أردنا في أبي حسن مديحًا
كما بالمدح يُنتجع الولاة
فقالوا: أكرم الثقلين طُرًّا
ومن جدواه دجلة والفرات
وقالوا: يَقبل المدحات لكن
جوائزه عليهن الصلاة
فقلت لهم: وما تُغني صلاتي
عيالي، إنما تُغني الزكاة
فأما إذ أبى إلا صلاتي
وعاقتني الهموم الشاغلات
فيأمر لي بكسر الصاد منها
فتُصبح لي الصلاة هي الصِّلات
فيصلح لي على هذا حياتي
ويصلح لي على هذا الممات

فأعطاه الأمير وأجزل عطاءه. وقد انقطع الجمل لمدح القاضي ابن أبي الليث الذي تولى قضاء مصر سنة ٢٢٣ﻫ وكان حنفي المذهب، وفي أيامه امتُحن المصريون بفتنة خلق القرآن واشتد القاضي في الامتحان فزج بأكثر الفقهاء في السجن ومنعهم من الجلوس بالمسجد بل من الاقتراب منه، وهرب بعض الناس واختفى بعضهم، وسجل الجمل كل ذلك في مديحه لابن أبي الليث وطعنه على هؤلاء العلماء الذين لم يقروا بخلق القرآن، ولكن الطريف في شعر الجمل في هذه الحوادث هو وصفه لعمائم العلماء العالية فقد كانوا يرتدون القلانس الطويلة، وكيف أن القاضي عندما اجتمع العلماء في مجلسه أمر غلامه بضرب رءوس الشيوخ حتى أُلقيت قلانسهم على الأرض ولعب بها الأولاد والرعاع، فالشاعر يقول في إحدى قصائده:

وأخفْت أيام الطوال وأهلها
فرموا بكل طويلةٍ لم تُقصر
ما زلت تأخذهم بطرح طوالهم
والمشي نحوك بالرءوس الحُسر
حتى تركتهم يرون لباسها
بعد الجمال خطيةً لم تُغفر
يتفزعون بكل قطعةٍ خرقة
يجدونها من أعيُنٍ ومُخبر
فإذا خلا بهم المكان مشوا بها
وتأبطوها في المكان الأعمر
فلئن ذعرت طوالهم فلطالما
ذعرت، ومن بروائها لم يذعر
لبسوا الطوال لكل يوم شهادةٍ
ولقوا القضاة بمشيةٍ وتبختر
مالي أراهم مُطرقين كأنما
دُمغت رءوسهم بحُمى خيبر

فهذه الأبيات لها دلالتها الاجتماعية والتاريخية عن مصر في النصف الأول من القرن الثالث للهجرة؛ لأنها تُعطينا صورة عن زي رجال الدين والقضاة في هذه السنوات وما حدث لهم في محنة خلق القرآن، تحدَّث عنها شاعر متصل بهذه الحوادث قريب منها كل القرب. كما نلاحظ أن هذا الشاعر كان يميل إلى المحسنات البديعية بعض الميل، ويظهر ذلك في مقطوعته التي أنشدها في الزهد والقناعة، فهو يقول:

إذا أظمأتك أكف اللئام
كفتك القناعة شبعًا وريا
فكن رجُلًا رِجله في الثرى
وهامة همته في الثريا
أبيًّا لنائل ذي ثروةٍ
تراه بما في يديه أبيا
فإن إراقة ماء الحيا
ة دون إراقة ماء المحيا

فهناك جناس في البيت الثاني في رجل ورِجل وفي ثرى وثريا وفي هامة وهمته وفي البيت الأخير في ماء الحياة وماء المحيا، وهناك مقابلة بين الظمأ والري في البيت الأول، ومع ذلك لم يكن الشاعر موفقًا كل التوفيق فيما أراده من التلاعب البديعي.

استمر تيار الشعر يقوى في مصر حتى كان النصف الثاني من القرن الثالث — أي في عصر الطولونيين والإخشيديين — فنرى عددًا كبيرًا من الشعراء المصريين. ويزعم أحد المؤرخين أنه رأى كتابًا قدر اثنتي عشرة كراسة مضمونة فهرست شعراء الميدان الذي لأحمد بن طولون، فإذا كانت أسماء الشعراء في اثنتي عشرة كراسة فكم يكون شعرهم؟! فبالرغم مما في هذا القول من مبالغة، فلا نغالي إذا قلنا إن عددًا كبيرًا من الشعراء تجمعوا في بلاط الطولونيين الذين كانوا أهل بذخ وكرم، وأرادوا أن يجعلوا من مدينتهم التي بنوها «القطائع» مركزًا أدبيًّا شبيهًا ببغداد؛ فكثُر حولهم الشعراء المتكسبون الذين سجلوا في أشعارهم مآثر الطولونيين وما شيدوه من مباني، وشدوا أزرهم في الخلاف الذي كان بين أحمد بن طولون وولي عهد العباسيين الموفق؛ فالشاعر قعدان بن عمرو مدح ابن طولون بأنه يدافع عن المعتمد العباسي خليفة المسلمين أمام أخيه الموفق، ودفاع ابن طولون على هذا النحو دفاع عن الدين، وحث الشاعر المسلمين على أن يتبعوا ابن طولون في حروبه فهو يقول:

طال الهدى بابن طولون الأمير كما
يزهو به الدين، عن دين وإسلامِ
قاد الجيوش من الفسطاط يقدمها
منه على الهول ماضٍ غير محجامِ
في جحفل للمنايا في مقانبه
مكامن بين راياتٍ وأعلامِ
يسمو به من بني سام غطارفة
بيض، وسُود أُسُود من بني حامِ
حاط الخلافة والدنيا خليفتنا
بصارم من سيوف الله صمصامِ
يا أيها الناس هبُّوا ناصرين له
مع الأمير بدهم الخيل في اللامِ
ليست صلاة مُصلِّيكم بجائزة
ولا الصيام بمقبول لصيَّامِ
حتى يرى السيد الميمون ذبكم
عن الإمام بأطراف القنا الدامي

وقال الشاعر نفسه «قعدان بن عمرو» في قصيدة أخرى يستنهض المصريين لنُصرة خليفة المسلمين، ويدعوهم لاتباع ابن طولون في سياسته في الدفاع عن الخليفة:

مَنْ مُبلِغ مضر الشام وما حوت
مصر ومَنْ هو متهم أو منجد
ما بالكم هضتم جناح سنانكم
بتواكل من فعلكم لا يُحمد

ويقول الشاعر منصف بن خليفة الهذلي يمدح ابن طولون ويُشيد بفضائله ودفاعه عن الخليفة:

يا غُرة الدنيا الذي أفعاله
غُرر بها كل الورى تتعلق
أنت الأمير على الشام وثغرها
والرقتين وما حواه المشرق
وإليك مصر وبرقة وحجازها
كُلٌّ إليك فؤاده متشوق
هتك الخلافة صاعد وخليله
إسحق لعبًا والحسود والأخرق١
أسيافنا بيض المنون فليتها
بنجيع من خذل الإمام تخلق
تمسى وتَصبح ضاربًا من دونه
بمهند منه الحتوف تفرق

فالشعر المصري إذن قام بدوره في تسجيل الحوادث التي كانت في عصر ابن طولون، كما قام بالدعوة للذود عن الخلافة ضد تلاعب المتلاعبين. ووُجِدَ في الوقت نفسه الشعراء الذين كانوا ينقمون على أحمد بن طولون ويسبونه أقبح سب؛ فالشاعر المصري محمد بن داود وقف بالمرصاد لابن طولون، فلم يأتِ ابن طولون عملًا من الأعمال دون أن يهجوه هذا الشاعر ويُقبِّح أفعاله. فمثلًا بنى ابن طولون المارستان وهو عمل إنساني جليل ولكن هجاه الشاعر بقوله:

ألا أيها الأغفال أيها تأملوا
وهل يُوقظ الأذهان غير التأمل
أَلَمْ تعلموا أن ابن طولون نقمة
تسير من سفل إليكم ومن عل
ولولا جنايات الذنوب لما علت
عليكم يد العلج السخيف المجهل
فيا ليت مارستانه نيط باسته
وما فيه من علج عتل مقلل
فكم ضجة للناس من خلف شعره
تضج إلى قلب عن الله مغفل

فالشاعر هنا يدعو إلى الثورة ضد ابن طولون، وأن ابن طولون نقمة من الله جزاء أفعالهم، وجعل الشاعر مآثر ابن طولون في إنشاء المارستان وسيلة للتهكم والهجاء المقذع، كذلك قول هذا الشاعر أمام الخلاف بين الموفق ولي عهد الخلافة العباسية. وبنى ابن طولون حصن الجزيرة وأنشأ المراكب الحربية في جزيرة الروضة، فاتخذ الشاعر ذلك كله وسيلة لهجاء ابن طولون في قوله:

لما ثوى ابن بغا بالرقتين ملا
ساقيه زرقًا إلى الكعبين والعقب
بنى الجزيرة حصنًا يستجن به
بالعسف والضرب والصُّناع في تعب
له مراكب فوق النيل راكدة
فما سوى القار للنظار والخشب
يرى عليها لباس الذي مُذ بُنيت
بالشط ممنوعة من عِزَّة الطلب
فما بناها لغزو الروم محتسبًا
لكن بناها غداة الروع للهرب

بل لما مات أحمد بن طولون لم يتورع هذا الشاعر في هجائه والتهكم به في قوله:

عرِج على اليحموم فانزل به
فأسلح على قبر ابن طولونا
يا حفرة النار التي أُضرمت
وظل فيها الرجس مدفونا
لا تجعلي لبسة جثمانه
إلا الأفاعي والثعابينا
فعز إبليس بها أولًا
وعز من بعد الشياطينا
وقل لهم: قد كان يكفيكم
ويهتك المعروف والدينا
ثم مضى غير فقيد ولا
كان حميدًا عمره فينا

هكذا لم ينسَ الشاعر حقده الدفين على أحمد بن طولون، ولم يحترم جلال الموت ورهبته، فهجا ابن طولون هذا الهجاء المقذع الذي لا نكاد نجد له مثيلًا في الأدب العربي القديم، ولكن هذا الشاعر المصري كان شاذًّا في هجاء الميت، فهو يقول في قصيدة أخرى:

مضى غير مفقود وما كان عمره
سوى نقمة للخلق شنعاء صيلم
لقد زِيد في اليحموم بالرجس لعنة
ولم يُسقَ بالمرجوس ترب المقطم
ولم تبكه الأرضون لكن تبسمت
سرورًا ولولا موته لم تبسم
يبشره إبليس عند قدومه
عليه بأحمى بقعة في جهنم
لقد طَهُرَ الأرضون من سوء فِعله
ومن وجهه ذاك الكريه المورم

فهذا الهجاء يدل على مدى سخط هذا الشاعر على ابن طولون حيًّا وميتًا، ويدل أيضًا على أن الشاعر المصري أخذ يُعبِّر عن عواطفه وشعوره في مثل هذه الصور المختلفة بين الرضى والسخط وبين المدح والذم. وقد لعب الشعر دوره في الثورة التي قام بها العباس بن أحمد بن طولون ضد أبيه؛ فقد كان للشاعر ابن جدار، كاتب ابن طولون، أثر كبير في دفع العباس إلى العصيان، فيقال إن العباس لما هم بالانخلاع عن طاعة أبيه كان مترددًا مرتبك الرأي، ولكن أنشده ابن جدار قصيدة يحرضه على العصيان منها:

إذا هممت فلا ترجع، وقُم وثُب
فأنت أرفع من يسمو إلى الرُّتب

في ثورة العباس هذه وهروبه إلى برقة وحروبه مع ابن الأغلب أنشد العباس:

لله دري إذ أغدو على فرسي
إلى الهياج ونار الحرب تستعر
وفي يدي صارمٌ أفري الرءوس به
في حِدة الموت لا يُبقي ولا يَذر
إن كنتِ سائلةٌ عني وعن خبري
فها أنا الليث والصمصامة الذكر
من آل طولون أصلي إن سألتِ فما
فوقي لمفتخرٍ بالجود مفتخر
ورثت مجد أبي عنه ووَرثني
مجدًا أناف به آباؤه الغرر
لو كنتِ شاهدةً كري ببلدة إذ
بالسيف أضرب والهامات تُبتدر
إذن لعانيتِ مني ما تسير به
عني الأحاديث والأنباء والخبر

كما سجل الشعر ثورة ابن الخليج الذي هزم جيوش العباسيين واستولى على الفسطاط سنة ٢٩٢ﻫ، وأراد أن يُعيد دولة الطولونيين، فمن ذلك قول أحمد بن محمد الحبيشي يخاطب ابن الخليج:

غضبت لمصر وما نالها
وشرَّدت بالحوف من غالها
تلافيتها بعد إدبارها
وأقبلت تطلب إقبالها
وكادت تُؤوه شوقًا إليك
وتُظهر بالشوق بلبالها
وما شوقها كان من طبعها
ولكن ربك أوحى لها
لقد فرَّج الله كرب النفوس
وبلَّغها فيك آمالها
ولما رأيناك في مِصْرنا
منحنا الإمارة إجلالها
وما زلت تطلبها هِمةً
وتركب بالسيف أهوالها
وتُعلم نفسك أن الأمو
ر إما عليها وإما لها
تمنُّوا لقاك فلما رأوك
رأوا للمنية إظلالها
ومرُّوا يُطيعون في كل شيءٍ
رأوه المنايا وإنزالها
وكان أبوك خليج العُفاة
وبحر الثغور التي عالها
به كانت الروم في أمنها
تُفزع للذنب أطفالها

بل نجد تطورًا في فنون الشعر وأغراضه إذ ظهرت أغراض لم تُعرف من قبل؛ فقد وُجِدَ في مصر فن جديد لم يُسبق إليه، وهو فن رثاء الدول، فعندما انتزع العباسيون مصر من الطولونيين أمر القائد العباسي سنة ٢٩٣ﻫ بهدم الميدان الذي أنشأه أحمد بن طولون، فقام جماعة من شعراء مصر يبكون الدولة الطولونية ويتحدثون عن أيامها السعيدة والمباني التي أنشأتها وكيف أصبحت مباني الطولونيين أثرًا بعد عين، كل ذلك تحدَّث عنه المصريون في صور متتابعة وفي نغمة حزينة مؤثرة، فالشاعر المصري محمد بن طشويه يقول:

مَنْ لم يَرَ الهدم للميدان لم يَرَه
تبارك الله ما أعلاه وأقدره
لو أن عين الذي أنشأه تُبصره
والحادثات تُعاديه لأكبره
كانت عيون الورى تغشى لهيبته
إذا أضاف إليه الملك عسكره
أين الملوك التي كانت تحل به
وأين من كان بالإتقان دبَّره
وأين من كان يحميه ويحرسه
من كل ليثٍ يهاب الليث منظره
صاح الزمان بمن فيه ففرَّقهم
وحط ريب البِلى فيه فدعثره
وأخلق الدهر منه حُسن جِدَّته
مثل الكتاب محا العصران أسطُره
دُكت مناظره واجتُث جوسقه
كأنما الخسف فاجأه فدمَّره
أو هبَّ إعصار نارٍ في جوانبه
فعاد معروفه للعين مُنكره
كم كان يؤوي إليه في مقاصره
أحوى أغن غضيض الطرف أحوره
كم كان فيه لهم من مشربٍ غدقٍ
فعب طرف الردى فيه فكدَّره
أين ابن طولون بانيه وساكنه
أماته الملك الأعلى فأقبره
ما أوضح الأمر لو صحَّت لنا فِكرٌ
طُوبى لمن خصه رُشدٌ فذكَّره

وقال أحمد بن إسحق الجفر:

وإذا ما أردت أُعجوبة الد
هر تراها فانظر إلى الميدانِ
تنظر البث والهموم وأنوا
عًا توالت به من الأشجانِ
يَعلم العالِم المُبصر أن الد
هر فيما تراه ذو ألوانِ
أين ما فيه من نعيمٍ ومن عيـ
ـشٍ رخيٍّ ونضرةٍ وجنانِ
أين ذاك المِسْك الذي ذيف
بالعنبر بحتًا وعُل بالزعفرانِ
أين ذلك الخز المضاعف والوشي
وما استجلبوا من الكتانِ
أين تلك القيان تشدو على الفُر
ش بما استحسنوا من ألحانِ
دوَّر الدهر آل طولون في هو
ة قفرٍ مسكونها غير دانِ
وأعاض الميدان من بعد أهليه
ذئابًا تَعوي بتلك المغاني

وقال إسماعيل بن أبي هاشم:

يا منزلًا لبني طولون قد دثرا
سقاك صوب الغوادي القطر والمطرا
يا منزلًا صِرت أجفوه وأهجره
وكان يَعدل عندي السمع والبصرا
بالله عندك عِلمٌ من أحِبتنا
أم هل سمعت لهم من بعدنا خبرا

وقال الشاعر سعيد القاص:

وكأن الميدان ثكلى أُصيبت
بحبيبٍ صباح ليلة عُرس
تتغشى الرياح منه محلًّا
كان للصون في ستور الدمقس
ولفرش الإضريح والبُسط الديـ
ـباج في نعمةٍ وفي لين مس
ووجوه من الوجوه حِسانٍ
وخدودٍ مثل اللآلئ مُلس
كل كحلاء كالغزال ونجلا
ء رداحٍ من بين حُورٍ ولُعس
آل طولون كنتم زينة الأر
ض فأضحى الجديد أهدام لُبس

فشعراء مصر قاموا يندبون الدولة الطولونية ويذكرون مآثرها ومنشآتها على هذا النحو الذي رأينا بعض أمثلته، وهذا فن جديد كل الجِدَّة في تاريخ الأدب العربي، حقيقةً زار الشاعر البحتري «إيوان كسرى» فتذكر دولة الأكاسرة الفارسية قبل الإسلام، ونشط خياله إلى صور استمدها من التاريخ القديم فأنشد «قصيدته السينية» المعروفة التي ربما استفاد منها الشاعر المصري سعيد القاص في مقطوعته السابقة، ولكن شعراء مصر لم يستمدوا صورهم وعواطفهم من التاريخ، بل شاهدوا الأحداث وسجلوها وعبَّروا عن مشاعرهم نحوها.

ومهما يكن شيء فنستطيع مما تقدم أن نقول إن الشعر المصري ظهر ظهورًا واضحًا في القرن الثالث للهجرة، وأنه عبَّر تعبيرًا صادقًا عن الحوادث المصرية وعن مشاعر وأهواء الشعراء في هذا القرن، وأن الشعراء تناولوا أغراض الشعر المختلفة وكانوا إيذانًا لازدهار الشعر المصري وظهوره في صورة قوية لافتة بعد ذلك، على أننا يجب أن نسجل هنا أن الشعراء الوافدين على مصر لمدح الولاة كانوا من عوامل إيقاظ شاعرية شعراء مصر فجدير بنا أن نتحدث عن هؤلاء الشعراء.

١  صاعد بن مخلد الذي ساعد إسحق بن كنداج في أسر الخليفة المعتمد عندما حاول الهرب من أخيه الموفق والالتجاء إلى ابن طولون بمصر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤