الفصل الأول

النثر في عصر الولاة

وأعني بالنثر الفني الذي سأتحدث عنه؛ هذه الكتابة الفنية التي يتعمد فيها الكاتب الأناقة في التعبير ومحاولة السمو بالأسلوب إلى مستوى رفيع هو مستوى كتابة الطبقة التي نالت حظًّا كبيرًا من الثقافات المختلفة، وظهر أثر خيالهم وعاطفتهم في كتاباتهم، فإذا بنا نرى في هذه الكتابة صورًا فنية لا تختلف عن الصور التي في الشعر في شيء. هذه الكتابة التي يتعمدها الكاتب تعمدًا كانت تتمثل في أدبنا العربي في كل عصوره وبيئاته في أربعة ألوان رئيسية هي:
  • (١)

    الرسائل الديوانية.

  • (٢)

    الرسائل الأدبية.

  • (٣)

    الرسائل الإخوانية.

  • (٤)

    الرسائل المذهبية.

ولا شك أن رُقي النثر الفني لا يتأتى إلا برُقي الثقافة وارتفاع المستوى الاجتماعي، وتشعُّب الاتصالات بين أفراد المجتمع بعضه مع بعض، والاتصال بينهم وبين العالم الخارج عن مجتمعه. فإذا نظرنا إلى مصر في عصر الولاة — أي من وقت دخول العرب مصر سنة ٢٠ﻫ (على خلاف بين المؤرخين في هذا التاريخ) إلى سنة ٢٥٤ﻫ وهي سنة قيام الدولة الطولونية — سنجد أننا لا نكاد نجد نثرًا فنيًّا بالمعنى الذي ذهبنا إليه إلا فيما ندر؛ فاللغة العربية كانت في محيط ضيق لا يتحدث بها إلا قبائل العرب وبعض الموالي، وكانت مصر في هذه الفترة تابعة للخلافة في المدينة أو الكوفة أو دمشق أو بغداد، فلم يكن للولاة سلطة تامة في شئون البلاد إلا بعد مراجعة مركز الخلافة. أضف إلى ذلك كله أن اللغة الرسمية في مصر كانت اليونانية حتى ورد أمر الخليفة الأموي سنة ٨٧ﻫ بتعريبها. فهذا كله من العوامل التي جعلتنا مضطرين إلى أن نمر بتاريخ النثر الفني في عصر الولاة مرًّا سريعًا؛ لعدم وجود ما يكفي للحديث عنه، ذلك بالرغم من وجود ديوان الرسائل في مصر. فنحن نعرف أن القاضي خير بن نعيم ولِي ديوان الرسائل سنة ١٣٢ﻫ بعد أن كان قاضيًا، ولكن لم يصلنا عن رسائل ديوان الرسائل هذا شيء. كما كان بمصر ديوان البريد ويقال لمتوليه صاحب البريد، وإليه مرجع ما يَرِد من دار الخلافة على أيدي أصحاب البريد من الكُتب، وهو الذي يطالع بأخبار مصر. كما كان لبعض وجوه مصر كُتاب يُنشئون عنهم الكُتب والرسائل مثل عبد الله بن صالح كاتب الليث بن سعد.

ومع ذلك كله، كان بمصر بعض الخُطباء البُلغاء أمثال عمرو بن العاص، وقيس بن سعد بن عبادة، وعُتبة بن أبي سفيان وغيرهم، والذي وصلنا من خُطبهم كلها خُطب تحذير ووعيد وفيها وعد وإغراء بالجزاء، ولا تظهر الشخصية المصرية في هذه الخُطب التي بين أيدينا مثل خُطبة عُتبة التي يقول فيها:

يا أهل مِصر، قد طالت معاتبتنا إياكم بأطراف الرماح وظُبات السيوف حتى صِرنا شجًى في لهاكم ما تُسيغه حلوقكم، وأقذاءً في أعيُنكم ما تَطرِف عليه جفونكم، أفحين اشتدت عُرى الحق عليكم عَقدًا، واسترخت عُقد الباطل منكم حلًّا، أرجفتم بالخليفة، وأردتم تهوين الخلافة، وخُضتم الحق إلى الباطل، وأقدم عهدكم به حديث! فاربحوا أنفسكم إذ خسرتم دينكم، فهذا كتاب أمير المؤمنين بالخبر السار عنه والعهد القريب منه. واعلموا أن سلطاننا على أبدانكم دون قلوبكم، فأصلِحوا لنا ما ظهر، ونَكِلكم إلى الله فيما بَطَن، وأظهِروا خيرًا، وإن أضمرتم شرًّا، فإنكم حاصدون ما أنتم زارعون. وعلى الله أتوكل وبه أستعين.

فهذه الخُطبة تدل على مدى غضب الوالي على المصريين؛ لكثرة خوضهم في حق الخليفة، وفي الخُطبة تظهر قوة الخطيب وبلاغته في أسلوبه الجميل والتصوير الحسن وفي هذه الفقرات المسجوعة التي يتعمدها الخطيب، وهذه الخُطبة تصلح أن تقال في كل مجتمع ساده العصيان ولذا لم تظهر الشخصية المصرية هنا.

ولا نستطيع أن نمر بهذا العصر دون الإشارة إلى ما روته بعض المصادر المصرية من أن الخليفة عمر بن الخطاب أرسل إلى عمرو بن العاص يسأله أن يصف مصر بعد أن حررها من الرومان، وأن عمرًا أرسل إليه رسالة جاء فيها:

وَرَدَ كتاب أمير المؤمنين أطال الله بقاءه يسألني عن مصر، اعلم يا أمير المؤمنين أن مصر تربة غبراء، وشجرة خضراء، طولها شهر، وعرضها عشر، يكنفها جبل أغبر، ورمل أعفر، يخط وسطها نهر مبارك الغدوات، ميمون الروحات، تَجري فيه الزيادة والنقصان كجري الشمس والقمر، له أوان يدر حلابه، ويكثُر فيه ذبابه، تمده عيون الأرض وينابيعها، حتى إذا ما اصلخم عجاجه، وتعاظمت أمواجه، فاض على جانبيه، فلم يمكن التخلص من القرى بعضها إلى بعض إلا في صغار المراكب وخفاف القوارب، وزوارق كأنهن في المخايل ورق الأصايل، فإذا تكامل في زيادته، نكص على عقبيه كأول ما بدأ في جريته وطما في درته، فعند ذلك تخرج أهل مِلة محقورة، وذمة مخفورة، يحرثون بطون الأرض، ويبذرون بها الحب، ويرجون بذلك النماء من الرب، لغيرهم ما سعوا من كدهم، فناله منهم بغير جِدهم، فإذا أصدق الزرع وأشرق، سقاه الندى، وغذَّاه من تحته الثرى، فبينما مصر — يا أمير المؤمنين — لؤلؤة بيضاء، إذا هي عنبرة سوداء، فإذا هي زمردة خضراء، فإذا هي ديباجة رقشاء، فتبارك الله الخلَّاق لما يشاء. والذي يُصلح هذه البلاد وينميها، ويقر قاطنيها فيها، ألا يقبل قول خسيسها في رئيسها، وألا يُستأدى خراج ثمرة إلا في أوانها، وأن يُصرف ثلث ارتفاعها في عمل جسورها وترعها، فإذا تقرر الحال مع العمال في هذه الأحوال، تضاعف ارتفاع المال، والله تعالى يوفِّق في المبدأ والمآل.

هذه الصورة الوصفية الجميلة لمصر التي وردت في هذه الرسالة تُنسب إلى عمرو بن العاص، وبالرغم من أن عمرًا عُرِفَ بالفصاحة والذكاء فإننا نشك أن هذه الرسالة من كلام عمرو، ونرى من أسلوبها وخصائصها الفنية أنها من كتابات القرن الرابع وما بعده، بالرغم من أن بعض فقراته تُنسب إلى كُتاب في القرن الأول والقرن الثاني. ووُجدت صورة رسالة أخرى في نفس الموضوع مخالفة في أسلوبها وألفاظها تُنسب إلى عمرو رواها مؤرخ مصر ابن زولاق في كتابه فضائل مصر، فكل هذا يدل على أن الرسالة السابقة إنما وُضعت وضعًا على لسان عمرو بن العاص.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤