الفصل الثالث

النثر في عصر الفاطميين

تولى الفاطميون مصر ونهضة الكتابة فيها قوية مزدهرة على نحو ما رأيناه، فقَوِيت هذه النهضة في العصر الفاطمي بما قام به الفاطميون من نهوض بالعلم وإذكاء شُعلته في البلاد، وبما ظفرت به مصر الفاطمية من نهضة أدبية كان لها أثرها في ازدهار الشعر والكتابة معًا.

فقد عني الفاطميون بالكُتاب عنايتهم بالشعراء، بل لا أغالي إذا قُلت إن عناية الفاطميين بالكُتاب كانت أشد من عنايتهم بالشعراء؛ ذلك أن اتساع مُلكهم وتشعُّب نواصي حياتهم وسلطانهم اضطرتهم إلى أن يوجهوا همتهم إلى العناية بالدواوين المختلفة عناية خاصة تتناسب مع غُلوهم في إظهار مجدهم ودعايةً لهم عند شعوب العالم كله.

ويُحدِّثنا المؤرخون عن هذه الدواوين وعن الكُتاب الذين تولوها والتشريف الذي كان يجده هؤلاء الكُتاب في العصر الفاطمي، من ذلك أن صاحب ديوان المجلس كان يُخلع عليه ويُنشأ له السجل وله المرتبة والمسند والدواة والحاجب إلى غير ذلك. ويقول أحد المؤرخين عن أبي البركات بن أبي الليث متولي ديوان المجلس سنة ٥١٧ﻫ أنه كان له باسمه مياومة إدرارًا من بيت المال والخزائن ودار التعبية والمطابخ الشيء الكثير، وكان يُحضر إليه في كل يوم من الإصطبلات بغلة بمركوب محلي وبغلة برسم الراجل وفراشين برسم خدمته.

ويقول مؤرخ عن ديوان التحقيق إنه كان لا يتولاه إلا كاتب خبير وله الخِلَع والحاجب، أما صاحب ديوان الإنشاء والمكاتبات فكان أول أرباب الإقطاعات وأرباب الكسوة والرسوم، وله حاجب من الأمراء الشيوخ وفراشون، وله المرتبة الهائلة والمخاد والمسند والدواة، وهي من أخص الدوى ويحملها أستاذو الخليفة. ويُحدِّثنا ياقوت الحموي أن ابن خيران كاتب الإنشاء كان رزقه ثلاثة آلاف دينار في السنة وكان له عن كل ما يكتبه من السجلات والعهود وكُتب التقليدات رسوم يستوفيها من كل شيء. فهذا التشريف الذي جعله الفاطميون لكُتاب دولتهم كان من أهم عوامل ازدهار الكتابة في عصرهم، وكان من أسباب كثرة إقبال الناس على التعليم وإجادة الكتابة ليصلوا إلى مرتبة الكتابة في الدواوين الكثيرة التي رتبها الفاطميون حتى يتسنى لهم تحقيق أطماعهم في سيادة العالم الإسلامي ومباهاة الدول المناوئة لهم بعظمة دولتهم.

ولا يسعنا في هذا الكتاب أن نتحدث عن كل الدواوين الفاطمية لكثرتها، ولكن الذي يهمنا الآن أن نسجل ظاهرة كثرة الكُتاب، وأنه كان من عادة كبار رجال الدولة وموظفيها أن يرسلوا أبناءهم إلى ديوان المكاتبات ليتعلموا فن الكتابة حتى يصير لهم شأن بعد أن يبلغوا مبلغ الرجال.

ويقول القاضي الفاضل: «كان فن الكتابة بمصر في زمن بني عبيد غضًّا طريًّا، وكان لا يخلو ديوان المكاتبات من رأس يرأس مكانًا وبيانًا، ويقيم لسلطانه بقلمه سلطانًا.

وكان من العادة أن كُلًّا من أرباب الدواوين إذا نشأ له ولد وشدا شيئًا من علم الأدب أحضره إلى ديوان المكاتبات ليتعلم فن الكتابة ويتشرب ويرى ويسمع، فأرسلني والدي، وكان إذ ذاك قاضيًا بثغر عسقلان، إلى الديار المصرية في أيام الحافظ، وأمرني بالمصير إلى ديوان المكاتبات، وكان الذي يرأس به في تلك الأيام رجل يقال له ابن الخلَّال، فلما حضرت الديوان ومثلت بين يديه وعرَّفته من أنا وما طلبي رحَّب بي وسهَّل، ثم قال: ما الذي أعددته لفن الكتابة من الآلات؟ فقلت: ليس عندي شيء سوى أني أحفظ القرآن العزيز وكتاب الحماسة، فقال: وفي هذا بلاغ.

ثم أمرني بملازمته، فترددت عليه وتدربت بين يديه، ثم أمرني بعد ذلك أن أحل شعر الحماسة فحللته من أوله إلى آخره، ثم أمرني أن أحله مرة ثانية فحللته.»

فهذا النص يدلنا على مبلغ تعلق الناس بتعليم أبنائهم فن الكتابة. ولم يقنع الفاطميون بأن تكون كتابات الكُتاب سليمة صحيحة بل حرصوا أشد الحرص على ذلك؛ بأن جعلوا في ديوان الإنشاء لغويين ونحويين لمراجعة ما كان يحرره الكُتاب حتى تخرج كتاباتهم سليمة من الأخطاء، فهذا الحرص على سلامة أساليب الكتابة كان من العوامل التي جعلت الكُتاب أنفسهم يعملون جاهدين على أن تخرج كتاباتهم متفقة مع الأساليب العربية دون أن يشوبها مطعن أو أي لون من ألوان الخطأ، فلا غرو أن يقول القاضي الفاضل: «إن فن الكتابة بمصر في زمن بني عبيد كان غضًّا طريًّا.»

أضف إلى هذه العوامل التي أدت إلى ازدهار النثر الفني وقوته في العصر الفاطمي، أن وزراء العصر الأول من الحكم الفاطمي بمصر كانوا يُختارون من رجال القلم الذين رأسوا الدواوين قبل اختيارهم للوزارة؛ فجوهر الصقلي كان كاتبًا من كُتابهم، ويعقوب بن كلس، والفلاحي، والجرجرائي، واليازوري وغيرهم ممن تولوا الوزارة كانوا كُتابًا في الدواوين. أما في العصر الثاني من الحكم الفاطمي فكان الوزراء يُختارون من رجال السيف، وظل الكُتاب يتمتعون بمثل مركزهم الرفيع الذي كانوا عليه في العصر الأول، فكان منهم جُلساء الخليفة وحُجَّابه، ومنهم القضاة والدعاة، وهذه كانت أرفع مناصب الدولة بعد الوزارة. ومعنى هذا كله أن الفاطميين عنوا بالكُتاب عناية خاصة لحاجتهم إليهم في تسجيل كل دقيقة وعظيمة؛ فخروج الخليفة إلى الصلاة أو في الأعياد والمواسم، وتعيين الوزراء والكُتاب والقضاة والدعاة أو غيرهم من أرباب الوظائف، وحضور رسول من قِبل دولة من الدول أو غير ذلك من الأعمال، كانت تصدر بها سجلات عن الدواوين فيها من فن الكتابة صور رائعة تمثل العصر أصدق تمثيل.

ومن الظواهر اللافتة أن بعض كُتاب العصر الفاطمي كانوا من أهل الذمة مثل أبي المنصور بن نسطورس، وكان كاتبًا في ديوان العزيز بالله، والرئيس فهد وابن عبدون النصراني وكانا كاتبين للحاكم، وابن أبي الدم اليهودي وكان كاتبًا للحافظ وغيرهم. فهذا يدل على مدى انتشار اللغة العربية بين أهل الذمة أنفسهم؛ حتى بلغ بهم الأمر إلى أن يصبحوا مثل المسلمين في فن الكتابة، وأن يختارهم الخلفاء ليكونوا من كُتاب الدواوين الذين كَثُرَ عددهم في العصر الفاطمي بحيث أصبحنا في حيرة من اتجاههم الفني في الكتابة، ولا سيما أن آثارهم فُقدت، ولم يبقَ منها إلا القليل من كتابات أشهر الكُتاب. ولكن مما بقي لنا نستطيع أن نلمس خصالًا عامة اشترك فيها هؤلاء الكُتاب الذين وصل إلينا شيء من كتاباتهم؛ فأول خصلة من هذه الخصال هي أن جميع الكُتاب التزموا السجع في كتاباتهم، فنحن نرى السجع هو التقليد الأول في الكتابة طوال العصر الفاطمي من ابتدائه إلى آخره، واستمر هذا التقليد بعد العصر الفاطمي نراه عند كُتاب الأيوبيين والمماليك والعثمانيين، ولم تتحرر الكتابة في مصر من السجع إلا في العصر الحديث. والخصلة الثانية التي نراها في فن الكتابة هي كثرة الاقتباس من معاني القرآن الكريم أو تحلية كتاباتهم بتضمين آية من آيات القرآن. وخصلة ثالثة هي المبالغة في استخدام الزينة اللفظية والمعنوية في كتاباتهم، فهم يُغرقون في المبالغة حين يحاولون تشخيص المعاني، ويُولعون باستخدام الجناس، ويَكلفون في تركيب جُملهم بمراعاة النظير؛ فإذا بك تجد كتاباتهم عبارة عن جُمل قصيرة في الغالب، والجملة تتبع الأخرى في وزنها وموسيقاها ومعناها، وينتقل بك الكاتب من معنى إلى آخر في رقة وعذوبة، ويتخلص من معنى إلى آخر دون أن تشعر أنه ينتقل إلى المعاني؛ مما يدل على فطنة الكاتب ومهارته، كما يدل أيضًا على أن الصنعة الفنية كانت تستهوي جميع الكُتاب. على أن أكثر هذه الخصال التي نراها في كتابات العصر الفاطمي هي تطور الخصال التي كانت في كتابات مدرسة ابن عبدكان، ففن الكتابة الذي عُرِفَ في العصر الطولوني ظهر واضحًا في العصر الفاطمي، وإن كان كُتاب الفاطميين قد بالغوا في فنهم مبالغتهم في كل شيء في حياتهم. وهي نفس الخصال التي عُرفت بها كتابات القاضي الفاضل، فالقاضي الفاضل ما هو إلا أحد تلاميذ كُتاب الفاطميين وبهم تخرَّج، ومن عجب أن يذهب القدماء وتبعهم بعض المحدثين إلى القول بأن للقاضي الفاضل مذهبًا خاصًّا وطريقة يتمايز بها عن الكُتاب، والواقع أن الفاضل لم يبتدع طريقة خاصة في الكتابة بل تبع أساليب كتابة العصر الفاطمي، وأساليب العصر الفاطمي في الكتابة هي تطور طبيعي لأساليب كُتاب مدرسة ابن عبدكان.

ولكن يجب أن نُفرِّق بين طريقة الكتابة الديوانية في العصر الفاطمي وبين طريقة الكتابة الديوانية في غير عصر الفاطميين من عصور تاريخ مصر، فقد كان تأثير العقائد والنُّظم الفاطمية شديدًا على طرق الكتابة الديوانية؛ فقد دفعت العقيدة الدينية والتمذهب بمذهب الشيعة الإسماعيلية الكُتاب إلى أن يبدأوا رسائلهم وسجلاتهم بالحمد لله ثم بالصلاة على النبي وعلى الوصي والأئمة من أهل البيت، ويتعمدون دائمًا أن يلحوا في ذكر أن الرسول هو جَدُّ الأئمة، وكأنهم كانوا يردُّون على سجلات العباسيين في دحض نسب الفاطميين، هذه الظاهرة تجدها في الكتابات الدينية طوال العصر الفاطمي من أوله إلى آخره، وهذه الظاهرة تُميز العصر الفاطمي عن غيره من عصور مصر. وكما كانوا يبدأون رسائلهم الديوانية وسجلاتهم بالحمد والصلاة على النبي والوصي والأئمة، كانوا كذلك يختمون بها رسائلهم وسجلاتهم. كما كانوا يُلمُّون في سجلاتهم بالمصطلحات المذهبية الإسماعيلية ويذكرون التأويلات الفاطمية التي تناسب السجل؛ فالسجلات التي صدرت في عيد الغدير كانت تَنْصَب على ولاية عليِّ بن أبي طالب والأئمة من بعده، وسجل مأتم عاشوراء كان في الحسين بن عليِّ وما لاقاه أهل البيت على أيدي الأمويين والعباسيين، وسجل رؤية رمضان في ذكر عقيدة الشيعة الإسماعيلية في هلال رمضان، وهكذا كانت السجلات الفاطمية حافلة بالمصطلحات والتأويلات الدينية التي لا يمكن أن تصدر عن دولة غير إسماعيلية المذهب.

وعن هذا العصر وصلتنا سجلات عديدة في الاحتفال بفتح الخليج وفيضان النيل، وهو موضوع مصري خالص لا يشارك مصر فيه قُطر آخر من الأقطار، فلا غرابة أن يستمر هذا الموضوع المصري من موضوعات الكتابة الديوانية منذ العصر الفاطمي إلى الآن؛ لأن الحكومات التي توالت على مصر استمرت في الاحتفال بفيضان النيل وأخرجت السجلات الديوانية بهذا الاحتفال.

ولعل أول قطعة نثرية وصلتنا عن العصر الفاطمي هي رسالة الأمان التي كتبها جوهر الصقلي إلى المصريين، وهو الأمان الذي قطعه على نفسه وعلى إمامه للمصريين جميعًا على اختلاف دياناتهم ومذاهبهم، وهذه الرسالة من السجلات التاريخية، ولكنها في صورة أدبية دبجتها براعة هذا القائد الذي كان من كُتاب المعز لدين الله قبل أن يوليه قيادة جيوشه. وقد حُفظت لنا بعض توقيعات جوهر التي تدل على كفايته ومقدرته في فن الكتابة، فهو يقول في رقعة رُفعت إليه بمصر: «سوء الاجترام أوقع بكم حلول الانتقام، وكُفر الإنعام أخرجكم من حفظ الذمام، فالواجب فيكم ترك الإيجاب، واللازم لكم ملازمة الاحتساب؛ لأنكم بدأتم فأسأتم، وعُدتم فتعديتم، فابتداؤكم ملوم، وعودكم مذموم، وليس بينهما فرجة إلا تقتضي الذم لكم والإعراض عنكم؛ ليرى أمير المؤمنين صلوات الله عليه رأيه فيكم.»

ففي هذا التوقيع خصائص فن جوهر في الكتابة؛ فالجُمل قصيرة مسجوعة، والمعاني متسقة وهناك مقابلة بين معنى الجملة والأخرى، وهذه كلها من خصائص الكتابة في العصر الفاطمي كله. فمثلًا نرى نفس هذه الخصائص في السجل الذي أمر به الحاكم بأمر الله بتولية الحسين بن علي بن النعمان القضاء، ومن هذا السجل:

أمره أن يتقي الله عزَّ وجلَّ حق التقوى، في السِّر والجهر والنجوى، ويعتصم بالثبات واليقين والنُّهى، وينفصم من الشبهات والشكوى والهوى، فإن تقوى الله تبارك وتعالى موئل لمن وئل إليها حصين، ومعقل لمن اقتفاها أمين، ومعول لمن عوَّل عليها مكين، ووصية الله التي أشاد بفضلها، وزاد في سناها بما عهد أنه من أهلها، فقال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ.

ثم اقرأ توقيعًا من إنشاء ابن خيران الكاتب وقَّعه عن الخليفة المستنصر الفاطمي: «الفقر مُر المذاق، والحاجة تذل الأعناق، وحراسة النِّعم بإدرار الأرزاق، فليجروا على رسومهم في الإطلاق، ما عندكم ينفد وما عند الله باق.» وابن خيران هذا الذي أنشأ هذا التوقيع هو الذي قيل عن فنه في الكتابة: «رسائله قد انتُزعت من الشعر إلا خلوها من الوزن والقافية.» وكان ابن خيران رئيسًا لديوان الإنشاء في مصر في عهد الظاهر والمستنصر إلى أن توفي سنة ٤٣١ﻫ، وتولى بعده في رياسة ديوان الإنشاء عدد من الكُتاب الذين نهجوا سبيل المدرسة المصرية في الكتابة الديوانية، نذكر منهم أبا الفرج الذهلي وأبا الطاهر النهركي وولي الدولة موسى بن الحسن وغيرهم، إلى أن تولى المؤيد في الدين هبة الله بن موسى الشيرازي ديوان الإنشاء سنة ٤٤٣ﻫ. ولكن المؤيد في الدين لم يكن مصريًّا بل وفد على مصر سنة ٤٣٨ﻫ بعد أن اكتمل فنه في بلده شيراز، فلم يتأثر بالمدرسة المصرية في الكتابة كما لم يتأثر الكُتاب به، بالرغم من أنه كان أستاذًا لمدرسة العقيدة الإسماعيلية وكان أخص تلاميذه الذين نقلوا عنه هم دعاة اليمن، أما في فن الكتابة فلم يكن له أثر يُذكر، كما لم يبلغ فنه في الكتابة مبلغ فن الكُتاب المصريين مع محاولته اتباع نهجهم في الكتابة، ففي العهد الذي كتبه لابن مزيد صاحب الحِلة يقول:

(أما بعد)، فالحمد لله ولي الحمد وأهله، الناصر لدين الهدى والجامع لشمله، والقائل وهو الصادق في قوله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. يحمده أمير المؤمنين حمد المعتصم بحبله، المتكل على حول الله وقوته دون قوته وحوله، المنتجز لميعاد نصره، الموعود به في أهل بيت خاتم رسله، ويسأله أن يُصلِّي على جَده محمد أشرف الأجداد، وعلى أبيه علي العالي بفخره على السبع الشِّداد، وعلى الأئمة من ذريتهما آبائه الطاهري الميلاد، الأجواد الأمجاد، الرُّكَّع السُّجَّاد، شفعاء شيعتهم يوم الميعاد. ولما استقر بحضرة أمير المؤمنين عليه السلام ما حباك الله من كرم الأعراق، وكونك بالولاء لأهل البيت عليهم السلام لمعة في أديم العراق، وكون فم التدين به ناطقًا بلسانك، وجسمه ممانعًا دونه بيدي سيفك ولسانك، وتوطئتك بلادك لخائف تنزع عنه لباس المخافة، وتُقرِّب بينه وبين مهاد الأمنة بعيد المسافة، ومظلوم يفزع من خريف الظلم إلى ربيع العدل، وممحل يُقلع إلى مكان الخصب بها من محل المحل. وشفَّعت هذه السيرة المرضية، التي أوجبت لك الذمم المرعية، بإجابتك من أمير المؤمنين منادي الإيمان إذ سمعته مناديًا، واستضاءتك بضوء فجره لما رأيته باديًا، واهتداؤك بثاقب نجمه إذ رأيته شارقًا، وتسرُّعك تحت لوائه لما رأيته خافقًا. رأى أمير المؤمنين وبالله توفيقه أن يُفيض عليك من خاص ملابسه ما تُفيض به السعادة عليك ملابسها، وتطيب لك منابتها ومغارسها، ويحملك من خاص مراكبه على ما تتخذ به قمم الأفلاك مركبًا، وتجعل معه بيت مجدك إلى السماء مطنبًا، وأن يقلد من سيفه ما هو شعلة من سيف أبيه علي بن أبي طالب عليه السلام المسمى ذا الفقار، الذي صقله الله بماء تأييده ولوغًا في دماء المنافقين والكفار، وأن يلقبك «بالأمير سلطان ملوك العرب، سيف الخلافة، صفي أمير المؤمنين»، رفعًا بك إلى أعلى درج الاصطفاء، وإنافةً بمكانتك على مكانات الأشباه والأكفاء، وأن يقلدك الزعامة على عرب العراق ممن يُقتضى أن تكون أنت عليه زعيمًا، والوساطة لمن يبتغي أن يكون تبعًا لأولياء الدولة صميمًا … إلخ.» فظاهر من هذه المقطوعة كيف حاول المؤيد في الدين أن يقلد منهج كُتاب مصر وأن يصطنع خصائصهم في الكتابة فظهر في أسلوبه التكلف والتصنع، ومع ذلك كله فقد بلغ به غروره بنفسه إلى أن يدعي أنه أقدر في فن الكتابة من الذين سبقوه في رياسة ديوان الإنشاء؛ فقد قال مرة للوزير اليازوري وقد جرى ذكر كُتاب الإنشاء: «معلوم ما كان لمتولي هذا الديوان من الجاه الوسيع الرزق السني الكثير، ولئن كانت أشخاصهم مفقودة فإن آثارهم في صناعتهم حاضرة موجودة، وأنت كاتب تُفرِّق بين الجيد والرديء والضعيف في الصناعة والقوي، وأريد أن تعتبر من انتصب هذا المنصب من خمسين سنة إلى اليوم مقايسةً إليَّ، فإن كنت ممن يَجري في جملتهم فرسه ويطول نحو أمرهم باعه فأنزلني منزلتهم من الجاه والمال، وإلا فقُل لي ما أنت مثلهم ولا في آفاقهم، فقد رضيتك حَكمًا وجئت لحكمك مستسلمًا.»

وكان أبو عليٍّ الحسن بن عبد الصمد المعروف بابن أبي الشخباء الملقب بالمجيد ذي الفضيلتين من شيوخ الكُتاب في القرن الخامس للهجرة، بل يُعد من أقدر الكُتاب وأكثرهم تصرفًا في فن الكتابة، حتى إن القاضي الفاضل اعتمد في فنه على حفظ كلام ابن أبي الشخباء، ووصفه أحد النقاد المؤرخين بقوله: «كان من البُلغاء الأفراد، وأبهر نجوم تلك البلاد، طلوعًا من ثنايا الأدب، واجتناءً لخبايا لسان العرب، فقد كاشف حقائقها، واستخرج دقائقها، وأحرز مسبوقها وسابقها.» وقال عنه مؤرخ آخر: «المجيد مجيد كنعته، قادر على ابتداع الكلام ونحته.» فلا غرابة إذن أن نرى جميع الكُتاب الذين جاءوا بعده يقتدون به، ويسلكون طريقته الفنية ويحفظون رسائله، فمع احتفاظ ابن أبي الشخباء بكل خصائص الكُتاب المصريين فإنه أضاف إليها تقليدًا جديدًا؛ هو تحلية كتاباته بشيء من الشعر يتناسب مع المعنى الذي يتحدث عنه، وكثيرًا ما كان هذا الشعر من شعر ابن أبي الشخباء نفسه. وسار الكُتاب من بعده على هذا التقليد، وأكثر من الزينة البديعة كثرةً في إفراط وتصنُّع، وكان الجناس من أظهر ألوان البديع عنده حتى إنه كان يأتي الجناس مع السجع في جُمل متوالية في رسالة واحدة. انظر إلى ما كتبه في رسالة رثاء:

غير بِدْع من الزمان أن تنتكث حباله، وتصرد نباله، وتفهق بالغدر فجاجه، ويجرح بالسم أجاجه، وتراش في قصد الكرام سهامه، ويثار في قبض النفوس عجاجه؛ ولذلك عرفت النفوس مواقع نكره، وأنِست بغرائب غدره ومكره، واطمأنت الضلوع وقد أصمت صوائبه، وهجعت العيون وقد استيقظت نوائبه، ولما طرق الحادث بمن لا أسميه تفاديًا من تحقيق الخبر بمصرعه، وصونًا له عن مورد الحمَام ومشرعه، رأيت المحامد ذات نور خالد، والمآثر ذات عِقدٍ متناثر، والقمر وقد سئم هالته، والصبح وقد خلع الليل عليه غلالته، وشاهدت الفضل وقد اسودت سحنته، واشتدت على الزمان أحنته، إذ طرق بما يتجاوز القدر، ويوحش الأضالع من صُحبة الصدر؛ هذا والله هو المَصاب الذي تستعذب فيه العلوم هفواتها، وتفارق له القلوب سويداواتها، وتستخف النفوس فيه حمل الأوزار، وتأنف العيون من لقائه بغير الدموع الغزار، حتى تجعل ذلك دأبها، وتُخضب بالنجيع أهدابها، إلا أنه نزل بمن لا يصبح الجزع مالكه، ولا يخطب الخطوب تهالكه، فلذلك ساغ للعبيد أن يخلوا الخدم من الإرشاد إلى مواقف التسليم، والحض على الصبر على الحادث الأليم، ويقتصروا على الرغبة إلى الله في أن يَهِب له عقبى الدار، وينقل عنه جوامح الأقدار، ويُسعد بني الدنيا بسعادة جِدَّه، ويصون عن درجة الكسوف شموس مجده:

إذا صفحت عنك الليالي وأعربت
بحفظك فينا هان كل مضيع
وأكثر رسائله التي بقيت هي رسائل إخوانية تظهر فيها شدة ولعه بالأدب العربي القديم وما يتعلق به من أخبار ولغة، وفي مثل هذه الرسائل الإخوانية كان يبعد عن أسلوبه الذي عُرِفَ به ويطرح الخصائص التي تحدَّثنا عنها، ففي رسالته التي أرسلها إلى الكاتب أبي الفرج الموفقي يقول فيها:

وصلت رقعة مولاي، والصبح قد سل على الأفق مقضبه، وأزال بأنوار الغزالة غيهبه، فكانت بشهادة الله صُبح الآداب ونهارها، وثمار البلاغة وأزهارها، قد توشحت بضروبٍ من الفضل تقصر قاصية المدى، ويَجري به في مضمار الأدب مفردا:

فكأن روض الحُسن تنثره الصَّبا
فأطلت في قرطاسها أتصفح

فأما ما تضمنته من وصفي، فقد صارت حضرته السامية تتسمح في الشهادة بذلك مع مناقشتها في هذه الطريقة، وأنها لا توقع ألفاظها إلا مواقع الحقيقة، فإن كنت قد بهرجت عليها فلتراجع نقدها تجدني لا أستحق من ذلك الإسهاب فصلًا، ولا أُعد لكلمة واحدة منه أهلًا، وبالجملة فالله يُنهضني بشكر هذا الإنعام الذي يقف عنده الثناء ويضلع، ويحصر دونه الخطيب المصقع:

هيهات تُعيي الشمس كل مرامق
ويعوق دون منالها العيوق

وأما الفضل الذي أودعه الرقعة الكريمة من قوله: «فأما فلان فيحل في قومه ويفرح بالضيوف فرح حنيفة بابن الوليد، قدوره عمارية، وعطسات جوارية أسدية، ويهوين لو خلق الرجال خلق الضباب، يتضوعن النشر العبقسي، ويرضعن مراضع ثعالة المجاشعي.» وما أمرت حضرته السامية من ذكر ما عندي فيه فقد تأملته طويلًا، وعثر الخادم فيه بما أنا ذاكره، راغبًا في الرضى بما بلغت إليه المقدرة، وتجليل ذلك بسجوف الصفح. أما قوله: «يفرح بالضيوف فرح حنيفة بابن الوليد» فيقع لي أنه أراد خالد بن الوليد المخزومي؛ وذلك أن سليمة الحنفي كان قد تنبأ بعد رسول الله ، وحديثه مشهور، فبعث إليه أبو بكر رضي الله عنه خالد بن الوليد المقدم ذكره في جيش كثيف من المسلمين ففتح اليمامة وقتل مسيلمة وأباد جماعة كثيرة من بني حنيفة. وأما قوله: «قدوره عمارية» فإن هذا الفصل لما كان مبنيًّا على الذم وجب أن يتطلب لهذا السبب معنى يجب حمله عليه ولم نجد ما يُنسب إليه إلا قول الفرزدق:

لو أن قِدرًا بكت من طول ما حُبست
عن الحقوق بكت قِدر ابن عمار
ما مسها دسم مُذ فُض معدنها
ولا رأت بعد نار القين من نار

ففي هذه الرسالة الإخوانية نرى كيف حاول ابن أبي الشخباء أن يشرح بعض النصوص التي سأله فيها أبو الفرج الموفقي الكاتب، وكيف استعان ابن أبي الشخباء بما ذكره القدماء من المؤرخين أو من الشعراء، ولم تظهر في هذه الرسالة خصائص كتابته الفنية؛ لأنه تعمد إيضاح المعاني قبل تعمُّد جمال الأسلوب. ومهما يكن من أمر، فإن هذا الكاتب النابه نُكِبَ في أواخر أيامه؛ إذ حُبِسَ في خزانة البنود ثم قُتِلَ سنة ٤٨٢ﻫ.

وكان الكاتب أبو القاسم عليُّ بن منجب المعروف بابن الصيرفي من أظهر الكُتاب الذين نهجوا نهج ابن أبي الشخباء في الكتابة، وُصِفَ ابن الصيرفي بأنه من أجلاء الكُتاب وأعيان أهل الأدب، ويذكر المؤرخون أنه وضع عددًا كبيرًا من الكُتب منها؛ كتاب الإشارة إلى من نال الوزارة، وكتاب قانون ديوان الرسائل. وله اختيارات لبعض دواوين الشعراء مثل ديوان ابن السرَّاج وديوان أبي العلاء. وكتب كثيرًا من الرسائل الأدبية نذكر منها؛ عمدة المحادثة، استنزال الرحمة، رسالة لمح الملح، رسالة منائح القرائح إلى غير ذلك من الرسائل التي تُعرف بالأفضليات؛ نسبةً إلى الوزير الأفضل بن بدر الجمالي التي كُتبت هذه الرسائل باسمه. ورسائله الديوانية والإخوانية تظهر فيها خصائص الكتابة المصرية بأجلى مظاهرها، فمثلًا جاء في السجل الذي كتبه في شهر المحرم سنة ٥٠١ﻫ الخاص بالخِراج وتحويل السنة الخِراجية:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الذي ارتضى أمير المؤمنين أمينه في أرضه وخليفته، وألهمه أن يعم بحُسن التدبير عبيده وخليفته، وأورثه مقام آبائه الراشدين الذين اختصهم بشرف المفخر، وجعل اعتقاد موالاتهم سبب النجاة في المحشر، وعناهم بقوله يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وأعلى منار سلطانه بمدبر أفلاك دولته، ومبيد أعداء مملكته، وأشرف من نصب للجند عَلَمًا وراية، ووقف على مصلحة البرية نظره ورأيه، السيد الأجلُّ الأفضل الذي نَبُهَ في السياسة على ما أهمله مَنْ سبقه، وأغفله مَنْ تقدَّمه، وتتبع أحوال المملكة فلم يدَع مشكلًا إلا أوضحه وبيَّن الواجب فيه، ولا خللًا إلا أصلحه وبادر بتلافيه، وإيثارًا لعمارة الأعمال، وقصدًا لما يقضي بتوفير الأموال، واعتناءً برجال الدولة العَلوية وأجنادها، واهتمامًا بمصالحهم التي ضعُفت قُواهم عن ارتيادها، ورعايةً لمن ضمته أقطار المملكة من الرعايا، وحملًا لهم على أعدل السُّنن وأفضل القضايا. يحمده أمير المؤمنين على ما أعانه عليه من حُسن النظر للأمة، وادخره لأيامه من الفضائل التي ضفت بها ملابس النعمة، ويُرغِّب إليه الصلاة على محمد الذي ميزه بالحكمة وفصل الخطاب، وبيَّن به ما استُبهم من سُبل الصواب، وأنزل عليه في محكم الكتاب: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ. صلَّى الله عليه وعلى أخيه وابن عمه أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كافيه فيما أعضل لما عَدِمَ المساعد، وواقيه بنفسه لما تخاذل الكفء المساعد، وعلى الأئمة من ذريتهما العاملين برضى الله تعالى فيما يقولون ويفعلون، والذين يهدون بالحق وبه يعدلون.

ففي هذا السجل تظهر كل تقاليد الكتابة الديوانية في العصر الفاطمي، فهو يلم بشيء من العقائد والمصطلحات المذهبية للشيعة الإسماعيلية، كما تظهر الناحية الفنية في الكتابة من الزخرف والسجع والازدواج والجناس وتضمين آيات القرآن الكريم. وكما ظهرت هذه التقاليد في كتاباته الديوانية نراها بوضوح في رسائله الإخوانية، فمثلًا طلب منه بعض إخوانه أن يكتب إلى صديق رقعة يستهديه شيئًا من النبيذ بمناسبة عيد الغطاس — وعيد الغطاس من أيام المصريين دون غيرهم — فكتب ابن الصيرفي:

جرت العادة في الغطاس بأعمال الكاس والطاس، وهذه الآلة إذا فقدت الراح، بمنزلة أجسام عُدمت الأرواح، فداوِ بإحيائها قلبًا لي قريحًا، وإذا كانت عازر فكُن لها مسيحًا.

لعل رشاقة اللفظ وحُسن اختياره والتأنق في الأسلوب والمعاني المستملحة الواضحة في هذه الرقعة تُغني عن كل تعليق، فكتابات ابن الصيرفي بها كل خصائص الكتابة المصرية.

وكذلك كان القاضي أبو الفتح محمود بن إسماعيل المعروف بابن قادوس الدمياطي الذي كان أحد كُتاب الحضرة، وسماه القاضي الفاضل بذي البلاغتين؛ لأنه ضرب بأسهمه في ميدان الشعر وميدان النثر وكان من السابقين في المضمارين. ومن إنشاء ابن قادوس بالبشارة بوفاء النيل وهو من الموضوعات المصرية الخالصة قوله:

والنِّعم وإن كانت شاملة للأمم، فإنها متفاضلة الأقدار والقيم، فأولاها بشكر تنشر الآفاق أعلامه، واعتداد تحكم بإدراك الغايات أحكامه، نعمةٌ يشترك في النفع بها العباد، وتبدو بركتها على الناطق والصامت والجماد، وتلك النعمة النيل المصري الذي تبرز به الأرض الجرز في أحسن الملابس، وتظهر حُلل الرياض على القيعان والبسابس، وتُرى الكنوز ظاهرة للعيان، متبرجة بالجواهر واللجين والعقيان، فسبحان من جعله سببًا لإنشار الموات، وتعالى من ضاعف به ضروب البركات، ووفر به موارد الأرزاق والأقوات.

ومن السجلات التي كتبها ابن قادوس بمناسبة ركوب الخليفة الفاطمي في عيد النحر قوله:

أما بعد، فالحمد لله ماحي دنس الأنام بالحج إلى بيته الحرام، وموجب الفوز في المعاد لمن عمل بمراشد أئمة الهدى الكرام، ومضاعف الثواب لمن اجتهد فيما أمر الله به من التلبية والإحرام، ومخول الغفران لمن كان بفرائض الحج ونوافله شديد الولوع والغرام، وصلَّى الله على جَدِّنا محمد الذي لبَّى وأحرم، وبيَّن ما أحل الله وحرَّم، وعلى أخيه أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي ضرب وكبَّر، وحقَّر من طغى وتجبر، وعلى الأئمة من ذريتهما أعلام الدين، وحتوف المعتدين، وسلَّم وكرَّم، وشرَّف وعظَّم.

وإن من الأيام التي كمُلت محاسنها وتمت، وكثُرت فضائلها وجمت، ووجب تخليد عِز صفاتها، وتعين تسطير تأثيراتها، يوم عيد النحر من سنة (كذا)، وكان من قَصصه أن الفجر لما سلَّ حسامه، وأبدى الصباح ابتسامه، نهض عبيد الدولة في جموع الأولياء والأنصار، وأُولِي العزيمة والاستبصار، ميممين القصور الزاهرة متبركين بأفنيتها، ومستملين بسعادتها، وتألفوا صفوفًا تُبهر النواظر، ويُخجل تألفها تألف زهر الروض الناضر، مستصحبين فنونًا من الأزياء تروق، ومستتبعين أصنافًا من الأسلحة يغض لمعها مع لمع اللهب والبروق، والأعلام خافقة، والرياح بألسنة النصر على الإخلاص لإمام العصر متوافقة، فأقاموا على تشوُّف لظهوره، والتطلع للتبرك بلامع نوره، ولما بزغت شمس سعادته، وجرت الأمور على إيثاره وإرادته، وبدت أنوار الإمامة الجلية، وظهرت طلعته المعظمة البهية، خرَّ الأنام سجودًا بالدعاء والتمجيد، والاعتراف بأنهم العبيد بنو العبيد، واستقل ركابه أمير المؤمنين ووزيره السيد الأجلُّ الذي قام بنصر الله في إنجاد أوليائه، وتكفَّل للإسلام برفع مناره ونشر لوائه، وناضل عن حوزة الدين وجاهد، وناصل أحزاب الكفار وناهد، يقوم بأحكام الوزارة، وتدبير الدولة تدبير أُولِي الإخلاص والطهارة، ويتبع آراء أمير المؤمنين فيما تنفذ به أوامره، ويعمل بأحكام الصواب فيما تقتضيه موارده ومصادره، ويُحسن السياسة والتدبير، ويتوخى الإصابة في كل صغير من أمور الدولة العَلوية وكبير، ويُخلص لله جلَّ وعزَّ ولإمامه، ويكفكف من الأعداء ببذل الجهد في إعمال لهذمه وحسامه. وسار أمير المؤمنين والعساكر متتابعة في أثره، متوافقة على امتثال أمره، قد رفعت السنابك من العجاج سحابًا، وخُيلت جنن الجند للناظرين في البر عبابًا، والجياد المسومة تموج في أعنتها، وتختال في مراكبها وأجلتها، وتُسرع فتُكسب الرياح نشاطًا، وتُفيد المتعرض لوصفها إفراطًا، وتُهدي لمن يحاول مماثلتها غُلوًّا واشتطاطًا، وأصوات مرتفعة بالتهليل، وأصوات الحديد تسمع بشائر النصر بترجمة الصليل، ويكاد يُرعِب الأرض تزلزُل الصهيل، وترض سنابكها الهضاب وتغدو صلابها كالكثيب المهيل … إلخ.

هذان مثلان مما كتبه ابن قادوس من سجلات هي في موضوعات مصرية خالصة فلا ينازع مصر بلد آخر في هذين الموضوعين؛ فالبشارة بوفاء النيل من خصائص مصر، وركوب الخليفة الفاطمي في العيد من نُظم الفاطميين دون غيرهم. وظهر تأثير العقائد الفاطمية والصنعة الفنية التي نراها عند كل كُتاب مصر. ويظهر فنه في رسائله الإخوانية ظهورها في رسائله الديوانية، مثال ذلك ما كتبه إلى ابن معروف الكاتب:

أطال الله بقاء الحضرة لغرائب مجد يبتدعها، وفرائض جود يشرعها، وقوادم يذلل صعابها، ومسايف سعود يطرق جنابها، وأدام أيامها التي هي للدهر تمائم، وفي المحل غمائم:

عزر من الأيام توضح فجرها
والدهر من ظُلم النوائب عاتم
ملك تملكه الندى وتجمعت
في راحتيه غمائم وسمائم
فالروض يجدب وهو روض ممرع
والغيث يُقلع وهو غيث دائم

وشتان ما بينهما، تلك سحاب قد رعدت بوارقها، وعدت صواعقها، وروض يجف نباته وتضوع زهراته، ومكارم الحضرة تزيد جِدَّة على التكرار، وتماثل فعل الفلك المدار، فهي تباري الشمس نهارًا، وتزور مزار الطيف سرارًا:

منن بغير أهلة مستورة
فطلعن في فلك العُلا أقمارا
ومواهب ومناقب ومناسب
رفعت له فوق السماك منارا
وكان الكاتب حسن بن زيد الأنصاري ينافس ابن قادوس في ميداني الشعر والنثر حتى بلغ التنافس بينهما إلى أن أوقع ابن قادوس بمنافسه؛ إذ سعى به حتى قتل الأنصاري هذا الكاتب. وصفه القاضي الفاضل بأنه في فنه لم يسمح الدهر بمثله، وقال عنه ابن الزبير: «هو عريق النسب في صناعة الأدب، يَمتُّ إليها بأوفى ذمام.» وما بقي من رسائله يدل على أنه كان كاتبًا ممتازًا حقًّا، ففي إحدى رسائله التي كتبها في التهنئة بولاية يقول:

من هُنئ بمنزلةٍ يرتقيها، أو مرتبةٍ يعتليها، فالخدم تُهنئ بالحضرة لما يكسوها من جميل السيرة، والإنصاف الذي يتعادل فيه الجهر والسريرة، فخلَّد الله ملك المجلس العالي المالكي وثبَّت أيامه، ونصر أعلامه، فإنه منظور فيها بناظر البصيرة التي تمده القوة الفلكية، وسلك بتقديمها نهج السعادة الذي توضحه المادة الإلهية، فأصاب الضريبة، ووقع العقد في التريبة، وأرهف الحسام القاطع، وأضرم الشهاب الساطع.

وفي رسالة أخرى كتبها إلى صديق له يُهنئه بالشفاء من مرض:

إذا قَدُمَ الوداد، وصح الاعتقاد، وصفت الضمائر، وخلصت السرائر، حل الإخاء المكتسب محل أُخوة النسب، وصار المتعاقدان على الإيثار، والمتحابان على بُعد الدار، متساهمين فيما ساء وسَر، ومتشاركين فيما نفع وضر، وتلك حالي وحال حضرة مولاي، فإني وإياها كنفسٍ قُسِّمت على جسمين، وروح فُرِّقت بين شخصين، فأما ألمها فقد مضَّني وأزعجني، وأما برؤها فقد سرَّني وأبهجني، وعرفت خبر إبلالها، من ألمٍ كان بها، فشكرت الله على خلتين معا، ونفعين اجتمعا، أحدهما أنني لو كنت أعلم بألمها، لكنت ألاقي ما يكدر الشراب، ويمنع تلاقي الأهداب، وأجد على حال الصحة ما يجد المريض، وأرى الدنيا على آثارها بعين البغيض، والآخر علمي ببرئها عند حلوله، ومعرفتي به عند تخييمه بساحتها ونزوله.

ومن رسائله يُهنئ الوزير بالشفاء قوله:

الحمد لله الذي أقر القلوب بعد وجيبها، وأضحك الأيام بعد قطوبها، وقوَّى المنن بعد انخزالها، وشدَّ عُرى الإسلام بعد انحلالها، بما أتاحه من البرء الذي أقر عيون الأولياء، وأكمد قلوب الأعداء، وأصبحت الدنيا متحليةً بعقودها، مائسةً في برودها، باسمةً عن المضحك الأنيق، لاجئةً إلى الركن الوثيق، وغدا الدين عزيز الجانب، رفيع المناكب، محمي الكواكب، فمملوك الدولة أحق الأولياء بأن يستفزه الجذل ويستطيره، وتتضاعف مسرته بهذه المنحة الخطيرة، إذ هو بيمينها مشمول، وعلى موالاتها مجبول، وقد جذبت بباعه من الحضيض الأوهد، وسمعت به إلى المحل الأمجد، فهو يتأزر بإنعامها ويرتدي، ويروح إلى إحسانها ويغتدي. الحمد لله الذي أبقى المجلس السامي شهابًا لا يخبو في اللأداء ثاقبه، وحسامًا لا تنبو عن الأعداء مضاربه، ورُكنًا تلوذ به الأمم، وسحابًا يهطل بأنواء الكرم.

فهذه كلها أمثلة تظهر فيها صناعة الكاتب الفنية، فاهتمام الكاتب بالتصوير والتشخيص ومراعاة النظير، مع التأنق في اختيار اللفظ الذي يتلاءم مع غيره في الجملة ويؤدي إلى نوع من الموسيقى يلذ السمع ويتفق مع المعنى المراد.

وكان يوسف بن محمد المعروف بالموفق وبابن الخلَّال آخر من تولى رياسة ديوان الإنشاء في مصر الفاطمية، وظل يشغل هذا المنصب زهاء ربع قرن، إلى أن طعن في السن وعجز عن الحركة فانقطع في بيته عقب تولية أسد الدين شيركوه الوزارة، فتولى الديوان القاضي الفاضل تلميذ ابن الخلَّال المباشر، وكان القاضي الفاضل يرعى لأستاذه حق تخريجه، فكان يُجري عليه كل ما يحتاج إليه، إلى أن توفى ابن الخلَّال سنة ٥٦٦ﻫ. كان ابن الخلَّال من أظهر كُتاب مصر الفاطمية، قال عنه العماد الأصفهاني: «هو ناظر ديوان مصر وإنسان ناظره، وجامع مفاخره، وكان إليه الإنشاء، وله قوة على الترسل يكتب كما يشاء.» وذكره عمارة اليمني بقوله: «ووجدت من أعيان أهل الأدب الشيخ الجليس أبا المعالي بن الحبَّاب، والموفق بن الخلَّال صاحب ديوان الإنشاء، وأبا الفتح محمود بن قادوس، والمهذب أبا محمد الحسن بن الزبير، وما من هذه الحلبة أحد إلا ويضرب في الفضائل النفسانية والرياسة الإنسانية بأوفر نصيب، ويرمي شاكلة الإشكال فيصيب.» فمعاصرو ابن الخلَّال شادوا به وبفنه في الكتابة واعترفوا بفضله وسبقه، وكتاباته التي بقيت إلى الآن تدل على أن ما ذكره معاصروه لم يكن من قبيل الزُّلفى إليه إنما كان من تقدير صحيح لما كان عليه. ففي السجل الذي كتبه عن الخليفة العاضد بتقليد شاور السعدي الوزارة بعد أن تغلَّب على ضرغام، يقول:

من عبد الله ووليه عبد الله أبي محمد العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد الأجلِّ، سلطان الجيوش، ناصر الإسلام، سيف الإمام، شرف الأنام، عمدة الدين.

سلامٌ عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يُصلِّي على جَده محمد خاتم النبيين، وإمام المرسلين، صلَّى الله عليه وعلى آله الطاهرين الأئمة المهديين وسلَّم تسليمًا. أما بعد، فالحمد لله مانح الرغائب ومنيلها، وكاشف المصاعب ومزيلها، ومذل كل عصبة كَلِفت بالغدر والشقاق ومذيلها، ناصر من بغى عليه، وعاكس كيد الكائد إذا فوَّق سهمه إليه، ورادَّ الحقوق إلى أربابها، ومرتجع المراتب إلى من هو أجدر برقيها وأولى بها، ومسني الخير بتيسير أسبابه، ومسهِّل الرتب بتمهيد طرقه وفتح أبوابه، ومدني نائي الحظ بعد نفوره واغترابه، ومُطلِع الشمس بعد المغيب، ومتدارك الخطب إذا أعضل بالفرج القريب، مبدع ما كان ويكون، ومسبب الحركة والسكون، محسن التدبير، مسهل التعسير، قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ ۖ بِيَدِكَ الْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.

والحمد لله الذي اختص أولياء أمير المؤمنين الأبرار بالاستعلاء والظهور، وذلل لهم جوامح الخطوب ومصاعب الأمور، وآتاهم من التأييد كل بديع مستغرب، وأنالهم من كل غريب إذا أورد قَصصه أطرب، ومكنهم من نواصي الأعداء، وشملهم بعناياته في الإعادة والإبداء، وضمن لهم أحمد العواقب، وأرشدهم إلى الأفعال التي ثبَّتت لهم في صحائف الأيام أفضل المناقب، وهداهم بأمير المؤمنين إلى ما راق زلاله، وتم غاية التمام كما أنه كان لرضى الله سبحانه وحُسن ثوابه ومآله، ويمدهم في المجاهدة عن دولته بالتأييد والتمكين، ويحظيهم من أنوار اليقين، بما يجلو عن أفئدتهم دُجى الشك البهيم، ويُظهر لأفهامهم خصائص الإمامة في حُلل التفخيم والتعظيم، ويُريهم أن خلوص الطاعة منجاة في المعاد بتقدير العزيز العليم. والحمد لله الذي استثمر من دوحة النبوة الأئمة الهادين، وأقامهم أعلامًا مرشدة في محجة الدين، وبيَّن بتبصيرهم الحقائق، وورَّث أمير المؤمنين شرف مقاماتهم، وجعلهم محرز غاياتهم، وجامع معجزاتهم وآياتهم، وقضى لمن التَحَف بظل فنائه، واشتمل بسابغ نِعمه وآلائه، وتمسك بطاعته واعتصم بولائه، بالخلود في النعيم المقيم، والحلول في مقام رضوان الكريم، ذَٰلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.

يحمده أمير المؤمنين على نِعمه التي جعلته للبشر إمامًا، وأمضت له في المشارق والمغارب أوامر وأحكامًا، وجرَّد من عزمه في حياطة دين الله عضبًا مرهفًا وحسامًا، استخلص لإنجاد دولته من أوليائها أكملهم شجاعة وإقدامًا، وأحسنهم في تدبير أمورها قانونًا ونظامًا، وأتمهم لمصالح أجنادها ورعاياها تفقُدًا واهتمامًا، وأولاهم بألا يوجه عليه أحد في حق من حقوق الله ملامًا، وأجدرهم بأن يحل من جميل رأي أمير المؤمنين دار سلام يُلقي فيها تحيةً وسلامًا. ويسأله أن يُصلِّي على جَده محمد خاتم النبيين الذي أعلن بالتوحيد وجهر، وغلب بالتأييد وقهر، وأظهر المعجز البديع واستطال إعجازه وبهر، وأطلع نور الإسلام واشتهر في المشارق والمغارب إشراقه وظهر … إلخ.

ففي هذا السجل يظهر طابع الكتابة المصرية في العصر الفاطمي ظهوره عند كل كُتاب الدواوين؛ فالحمد لله والصلاة على النبي والوصي والأئمة، وإلحاح الكُتاب على انتساب إمام العصر إلى النبي وعلي بن أبي طالب، والإلمام بشيء من معتقدات الشيعة الإسماعيلية في الإمامة. كل ذلك من مظاهر الكتابة المصرية، أما جهة الأسلوب والمعاني فتتجلى في هذا السجل التقاليد التي نهجها الكُتاب المصريون؛ فالسجع، والجناس، والتطبيق، والاقتباس، والولوع بالصور البيانية، وكثرة الجُمل المتوالية التي تحمل معنًى واحدًا، مع الألفاظ المترادفة. كل هذا نراه واضحًا في كتابات الموفق بن الخلَّال، وعنده انتهت تقاليد الكُتاب الفاطميين لتعود إلى الظهور عند القاضي الفاضل، وابن سناء الملك، ومحيي الدين بن عبد الظاهر، وغيرهم من الكُتاب الذين ظهروا بعد عصر الفاطميين، والذين يذهب المؤرخون إلى أنهم تلاميذ الطريقة الفاضلية والحق عندي أنه لا توجد طريقة في الكتابة تعرف بالطريقة الفاضلية؛ لأن القاضي الفاضل نفسه كان تلميذًا لمدرسة الكُتاب الفاطميين وهؤلاء من جهة أخرى كانوا استمرار تيار مدرسة ابن عبدكان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤