خاتمة

ظل الطالب واقفًا مشدوهًا على حافة الطوار كما لو أنه لم ير في حياته رجلًا في مسوح القسس من قبل. ومع ذلك، لم يكن ثوب القس هو الذي أدهشه، بقدر ما أدهشه ما همس به مساعد القس في أذنه إذ هما يحتضن أحدهما الآخر ببهجة حين التقيا بعد أن أُفرِجَ عنهما: «لقد تلقيت أوامر بأن أرتدي هذا الثوب!» وكان سينهي كلامه عن ذاك، ما لم ير في هذه اللحظة صفًّا من السجناء يمرون وسط صفين من الجنود في وسط الطريق. وتمتم مساعد القس في حين صعد الطالب إلى الطوار: «يا للتعساء المساكين، هذا هو الثمن الذي يجب أن يدفعوه لقاء هدم «رواق الرب»! ثمة أشياء يجب رؤيتها عيانًا كيما يصدقها المرء».

وهتف الطالب متعجبًا: «إننا نراها، ونلمسها، ثم لا نصدقها! إنني أتحدث عن «البلدية»».

– ظننتك تعني ثياب القس التي أرتديها …

– إنهم لم يكتفوا بإرغام الأتراك على دفع نفقة تجديد طلاء الرواق، بل امتد غضبهم من اغتيال «الرجل ذي البغل الصغير» إلى هدم البناء نفسه.

– احذر أن يسمعك أحد أيها الثرثار. اصمتْ بحق الله! هذا ليس مؤكدًا …

وكان لدى مساعد القس المزيد من القول، بيد أن رجلًا ضئيل الحجم كان يجري وسط الميدان عاري الرأس، توجه نحوهما وزرع نفسه فيما بينهما وأخذ يغني بأعلى صوته:

أيتها الدمية الصغيرة
أيُّ نحات ماهر صنعك؟
هذا الوجه اللطيف؟

وصاحت امرأة تجري وراءه وهي تُرى على وشك الانفجار في البكاء في أية لحظة: «بنيامين»! «بنيامين»!»

– إنه ليس «بنيامين» الأراجوز.

لا، ليس هو،
الذي جعل منك شرطيًّا،
ودميةً لطيفةً!

وصاحت به المرأة وهي تكاد تبكي الآن: بنيامين! بنيامين! أرجوكما، لا تهتما به، لا تلقيا بالًا إليه؛ لقد جنَّ تمامًا؛ إنه لا يستطيع أن يفهم أن «رواق الرب» لم يعد له وجود الآن!

وبينما كانت زوجة الأراجوز تقدم الاعتذارات عنه لمساعد القس والطالب، هرع السيد «بنيامين» بعيدًا كيما يغني أغنيته لشرطي منحرف المزاج:

أيتها الدمية الصغيرة،
أي نحات ماهر صنعك؟
أي صانع أعطاك …
هذا الوجه اللطيف؟
إنه ليس بنيامين الأراجوز،
لا، ليس هو؛
الذي جعل منك شرطيًّا،
ودمية لطيفة!

وتضرعت زوجة السيد بنيامين الأراجوز وهي تقف بينه وبين الشرطي: أرجوك ألا تقبض عليه، إنه لا يقصد شرًّا؛ ألا ترى أنه مجنون؟ إنه مجنون أقول لك، لا تقبض عليه، كلا، أرجوك ألا تضربه. لقد بلغ به جنونه أنه يقول إنه يرى المدينة كلها ترقد حطامًا كالرواق المهدوم!

وكان السجناء لا يزالون سائرين. كيف يكون الحال لو أن المرء كان واحدًا منهم وليس مجرد شخص ينظر إليهم وهم يعبرون؟

ووراء موكب الرجال الذين يدفعون عربات يد صغيرة، جاء رجال يحملون معاول ثقيلة فوق أكتافهم كأنها الصليب، ووراءهم أيضًا صفَّان من الرجال يجرُّون قيودهم بحلبة رنين كالجلاجل.

وتملص السيد «بنيامين» من يدي الشرطي الذي كان يجادل زوجته بحدة متزايدة، وجرى يرحب بالسجناء بأية عبارات بلهاء وردت على ذهنه ساعتها: «انظر ماذا صنع الدهر بك يا «بانشو تونانشو»، وسكِّينك تلك التي تأكل الجلد وتحب صنع الخروق في حجرة النوم الفلِّينية! انظر ماذا حلَّ بك الآن يا «لولو كوشولو»، بمنجلك ذي الذيل المروحي! انظر كيف تمشي الآن يا «مكستو ملندريس» بينما أنت معتاد على ركوب الحصان، مياه جديدة لخنجرك، أيها اللوطي الخائن! من رآك ومعك مسدسك حين كان اسمك «دومنغو»، ومن يراك الآن بدونه حزينًا كيومٍ من أيام الأسبوع. لقد نقلت إليهم القمل، فعليها هي أن تفلِّيهم. إن البمبار المغطى بالأسماك لا يمكن أن يصنع يخنةً للجنود! أي شخص لا يملك قفلًا لإغلاق فمه يحسن به أن يضع في يديه القيود!»

كان صبية الحوانيت عائدين إلى بيوتهم، وعربات الترام مكتظة إلى آخرها. وثمة عربة أجرة، أو عربة، أو دراجة … دفقة من الحياة لبرهة قصيرة، دامت الوقت الذي استغرقه مساعد القس والطالب في عبور ميدان الكتدرائية، ملجأ الشحاذين ومستودع الملحدين، وتوديع الواحد منهما للآخر أمام باب قصر كبير الأساقفة.

ونظر الطالب باحتقار إلى أطلال الرواق من على جسر من الألواح الخشبية التي نصبت على الحطام. وكانت ثمة نفحة ريح ثلجية قد أثارت سحابة كثيفةً من الغبار، كالدخان بلا نار أو بقايا انفجار قصي. وهبت نفحة ريح أخرى فأثارت وابلًا من قطع أوراقٍ رسمية، لم تعد لها فائدة الآن، تمطر على الموضع الذي كان يومًا ما غرفة الاجتماعات في البلدية. وتماوجت بقايا اللوحات القماشية المعلقة على الجدران الساقطة، كالرايات في مهب الريح. وفجأة، ظهر ظل الأراجوز يركب مكنسة، منعكسًا على صفحةٍ خلفية زرقاء مليئة بالنجوم، وخمسة براكين صغيرة من الحصى والحجارة عند قدميه «طش!» وقفزت الدقات التي تعلن تمام الثامنة مساءً في وسط الصمت — «طش! طش!»

ووصل الطالب إلى بيته في نهاية شارع مسدود، وحين فتح الباب، سمع صوت أمه (يقطعه سعال الخدامة إذ هما يستعدان لتلاوة صلاة المساء) تتلو على مسبحتها:

«… للمحتضرين وللمسافرين؛ كيما يحل السلام بين الحكام المسيحيين؛ لمن يقاسي من اضطهاد العدالة؛ لأعداء الدين الكاثوليكي؛ لاحتياجات الكنيسة المقدسة المسيحية، ولاحتياجاتنا؛ للأرواح المباركة في المطر القدسي … ارحمنا يا رب».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤