الفصل الحادي عشر

الاختطاف

توجه لوسيو فاسكيز، بعد افتراقه عن روداس، إلى الحانة التي توجد فيها «لامسكواتا» بأسرع ما تستطيع قدماه أن تحملاه، كيما يرى ما إذا كان الوقت قد حان للمساعدة في اختطاف الفتاة. وأسرع في مروره بنبع «لامرسيد» وهو مكان يَمتلئ بالأشباح والجريمة طبقًا للإشاعات والأكاذيب التي تُطلقها النسوة اللائي يخلطن إبر ثرثرتهن مع المياه القذرة التي يملأن بها صفائحهنَّ من النبع.

وقال جلاد الأبله في نفسه دون أن يخفف من خطاه: «إن الاشتراك في عملية اختطاف شيء عظيم. ونظرًا لأن مهمَّتي في «رواق الرب» قد أنجزت بسرعة فائقة، حمدًا لله، فإن في وسعي أن أستمتع بتنفيذ تلك العملية. يا إلهي، إذا كان الفرح لا يسعني حين أعثر على شيء أو حين أسرق دجاجة، فكيف ستكون مُتعتي إذ تُتاح لي الفرصة كي أخطف فتاة!»

وبدت الحانة التي تمتلكها «لامسكواتا» على مشارف البصر، بيد أنه أخذ يتصبَّب عرقًا حين لمح ساعة كنيسة «لامرسيد». كان الوقت قد أزف، ما لم تكن عيناه تخدعانه. وألقى التحية على رجل شرطة أو اثنين ممَّن كان يَحرسان منزل الجنرال كاناليس، ثم دلف إلى باب الحانة كأنه أرنب يدلف إلى جحره.

وكانت «لامسكواتا» قد أوَت إلى الفراش في انتظار الساعة المحددة، وهي الثانية صباحًا، وأعصابها على أحر من الجمر، وضغطت إحدى ساقيها بالأخرى، وسحقت ذراعيها تحت جسدِها في أوضاع غير مريحة، وطوت رأسها على مدار الوسادة، والعرق يتصبب منها مع كل حركة، ولكن دون أن تفلح في إغلاق عينيها.

وحين طرق فاسكيز الباب قفزت من الفراش وأسرعت إلى الباب وهي تشهق من فرط الاضطراب.

– «من هناك؟»

– أنا، فاسكيز، افتحي.

– لم أكن أنتظرك!

وقال وهو يدخل: كم الساعة الآن؟

– الواحدة والربع صباحًا.

قالت ذلك على الفور دون أن تنظر إلى الساعة، ولكن بقناعة من كان يحصي كل دقيقة تمر، وكل خمس دقائق، وعشر دقائق، وربع ساعة، وعشرين دقيقة؛ إذ هي في انتظار أن تحل الساعة الثانية.

– إذن كيف تشير ساعة الكنيسة إلى الساعة الثانية إلا ربعًا؟

– غير معقول. لا بدَّ أنها غير مضبوطة.

– ثم … أخبريني، هل عاد ذلك الشاب؟

– كلا.

وأخذ فاسكيز صاحبة الحانة بين ذراعَيه وهو يتوقَّع تمامًا أن يكون جزاؤه صفعة منها. ولكن لم يحدث شيء من هذا؛ فقد أصبحت «لامسكواتا» وديعة كالحمامة، فتركته يحتضنُها ويقبلها في شفتيها، ماهرة بذلك إمضاءها على اتِّفاق بألا ترفض له شيئًا أيًّا كان الليلة. وكان الضوء الوحيد في الغرفة يتوهج أمام صورة للعذراء، إلى جوار باقة من الورد المصنوع من الورق. وأطفأ فاسكيز الشمعة ثم أوقع صاحبة الحانة أرضًا. واختفت صورة العذراء في الظلمة؛ إذ تدحرج جسداهما على أرض الحجرة وقد التصقا ببعض كحزمة من الثوم.

•••

وظهر ذو الوجه الملائكي من ناحية المسرح، يمشي مسرعًا بصحبة مجموعة من الأفاقين الأجلاف. وقال لهم: «حالما تصبح الفتاة في يدي، بوسعكم أن تنهبوا المنزل، لن تذهبوا أبدًا فارغي اليد، أعدكم بذلك. ولكن، الزموا الحيطة، الآن وفيما بعد على حد سواء، ولا تُفشوا السر، وإلا فإني أفضِّل أن أعمل بدونكم.»

وحين داروا إلى المنعطف أوقفتم دورية للشرطة. وتحدث المحبوب مع ضابط الدورية في حين وقف الجنود حولهما.

– إننا ذاهبون للغناء أمام نافذة إحدى السيدات١ أيها الملازم.

فقال الضابط وهو يدق على الأرض بسيفه: «هل تتفضَّل فتخبرني أين ذلك؟»

– هنا، في حارة «المسيح».

– وأين هي قيثاراتكم وطبولكم؟ يا لها من سيرينادا غريبة بدون أية موسيقى!

فدس ذو الوجه الملائكي في خفة ورقة مالية من فئة المائة بيزو في يد الضابط، وعندها سحب ذاك جميع اعتراضاته.

وكانت نهاية الشارع مسدودة ببناية كنيسة «لامرسيد»، وهي كنيسة بنيت على شكل سلحفاة ذات عينين، هما نافذتان، في قبتها. وأمر المحبوب رفاقه بألا يذهبوا إلى حانة «الخطوتان» كلهم مرة واحدة. وقال لهم بصوت عال وهم يفترقون: «تذكروا، سنتقابل جميعًا في حانة «الخطوتان»، «الخطوتان»، حذار أن تخطئوا المكان، «الخطوتان»، إلى جوار حانوت الأثاث.»

وغاضت أصوات أقدامهم إذ تفرقوا كل إلى جهة. كانت خطة الهروب كما يلي: حين تدقُّ ساعة الكنيسة الثانية صباحًا، يرتقي رجل أو اثنان من رجال ذي الوجه الملائكي سطح منزل الجنرال كاناليس، وعندها تقوم ابنة الجنرال، طبقًا للاتفاق، بفتح نافذة في واجهة المنزل وتصيح بأعلى صوتها طلبًا للنجدة من اللصوص الذين اقتحمُوا المنزل، وذلك لجذب انتباه رجال الشرطة الذين يراقبون المكان. وعند ذاك ينتهز الجنرال كاناليس فرصة الهرج والمرج من الباب الخلفي.

وما كان يضع مثل هذه الخطة السخيفة أحمق أو مجنون أو طفل، فهي خطة دون بداية ولا نهاية، وإذا كان الجنرال وذو الوجه الملائكي قد وافقا عليها رغم سخفها؛ فذلك لأن كلًا منهما كان يرى فيها — على حدة — هدفًا آخر مختلفًا تمامًا؛ فبالنسبة للجنرال كاناليس، كانت الحماية التي خلعها عليه ذو الوجه الملائكي تُعطيه فرصة أفضل للهرب؛ وبالنسبة لذي الوجه الملائكي، كان نجاح الخطة لا يعتمد على اتفاقه مع كاناليس بل مع السيد الرئيس، الذي كان قد أبلغه هاتفيًّا بزمان الخطة وتفاصيلها حالما غادر الجنرال منزله.

•••

تبدو ليالي أبريل في المناطق الاستوائية كأنها أرامل أيام مارس الحارة، مظلمة، باردة شعثاء، حزينة. ووقف ذو الوجه الملائكي في المنعطف الذي يقع بين الحانة وبين منزل كاناليس، وأخذ يحصي أشباح رجال الشرطة ذات اللون الأخضر الداكن، المتناثِرين هنا وهناك، ثم سار ببطء خلف ذلك الصف من المنازل، وفي عودته، دلف إلى باب حانة «الخطوتان» الصغير. كان ثمة رجل شرطة في زيه الرسمي على باب كل منزل من المنازل المجاورة، عدا عدد لا يُحصى من رجال الشرطة السرية، يسيرون في عصبية جيئة وذهابًا على الطوار. وشعر بنذر شؤم. قال في نفسه: «إنني أشارك في اقتراف جريمة. إنهم سوف يقتلون هذا الرجل حين يغادر منزله». وكلما أمعن فكره في تلك الخطة؛ بدت له أشد هولًا. وبدت له فكرة اختطاف ابنة رجل محكوم عليه بالموت بشعة وكريهة، على نحو ما كان يمكن أن يكون الأمر سارًّا ومناسبًا لو أنه ساعد الجنرال على الهرب حقًّا. ولم تكن طيبة القلب هي التي دفعت هذا الرجل، وهو عديم الإحساس بطبعه، إلى الشعور بالكراهة لفكرة نصب كمين في قلب المدينة لمواطن أعزل سلَّم له ثقته إلى حدِّ أنه يهرب من منزله معتقدًا أن صديق السيد الرئيس يبسط حمايته عليه. لا، ولا كون أن تلك الحماية لا بد أن تنكشف في نهاية الأمر وتكشف عن خدعة بالغة القسوة تملأ اللحظات الأخيرة للضحية بالمرارة إذ تجعله يتحقق أنهم قد خدعوه وخانوه وداسوه بالأقدام، وأنهم قد أعدوا طريقة بارعة لخلع مظهر قانوني على الجريمة بالقول إنها كانت الملجأ الأخير للسلطات تحُول بها بين المجرم المزعوم وبين الفرار في اليوم السابق لاعتقاله. كلا. لقد كانت الدوافع التي حملت الوجه الملائكي على عض شفتَيه إنكارًا لتلك الخطة الجهنمية البائسة مختلفة تمامًا. لقد كان يعتقد بكل حسن نية أنه قد اكتسب — بوصفه حاميًا للجنرال — حقوقًا على ابنتِه، بيد أنه يرى الآن أن تلك الحقوق قد راحت ضحية قيامه بدوره المعتاد في كل مرة، كأداة عمياء، كتابع وفيٍّ يقوم بدور جلاد السيد الرئيس.

كانت ثمة رياح غريبة تهب عبر وادي الصمت الذي يلفه، حيث أخذت تنمو نباتات برية عطشى عطش الأهداف التي لا تعرف الدموع، عطش الصبار المليء بالأشواك، عطش الأشجار التي لا تسقيها الأمطار. ما معنى هذه الرغبة الحارقة؟ ولماذا يتعين على الأشجار أن تكون عطشى حين تنهمر الأمطار؟!

وأومضَت فكرة في ذهنِه كالبرق، أن يعود أدراجه ويدق جرس الباب في منزل كاناليس ويُحذره من المصير الذي ينتظرُه. (وتخيل ابنته تبتسم له في امتنان). بيد أنه قد اجتاز بالفعل مدخل الحانة الصغيرة، وشعر بشجاعته تعود إليه مع كلمات فاسكيز الجريئة ووجود الرجال الآخرين.

– جرِّبني، هذا كل شيء. إنني من تبحث عنه. أجل، إنني مستعد أن أساعدك في أي شيء، أتسمع ذلك؟ إنني لست بالمرء الذي يتراجع. إنني كالقط، بسبعة أرواح، سليل عربي شجاع!

وكان فاسكيز يحاول خفض نبرة صوته الأنثوي ليعطي كلماته صفة الرجولية. وأضاف في صوت خفيض: لو أنك لم تجلب لي الحظ السعيد، لما كنتُ أتحدث هنا الآن بمثل هذه الشجاعة. كلا. صدقني. إنك قد أصلحت وضعي مع «ماسكواتا»، وهي تعاملني الآن كما يجب أن يكون.

وردَّ ذو الوجه الملائكي وهو يصافح يد الجلاد الذي قتل الأبله: «إنني سعيد جدًّا أن أجدك هنا مليئًا بتلك الروح الجسورة. إنك رجل قريب إلى قلبي. لقد أعدتَ لي معنوياتي التي سرقها رجال الشرطة مني يا عزيزي فاسكيز، إن ثمة رجلًا منهم أمام كل باب.»

– تعال واشرب شيئًا من الخمر الهولندي تدفع عنك الخوف.

– أوه! إنني لا أشعر بالخوف على نفسي، فإن هذه ليست أول مرة أجد نفسي في مأزق عصيب؛ إنني خائف على الفتاة. لا أحب أن يقبضوا علينا خارجين من منزلها، أتفهم ذلك؟

– «ولكن، ما هذا؟ من الذي سيقبض عليك؟ حالما سيجد رجال الشرطة شيئًا ينهبونه في المنزل لن ترى واحدًا منهم في الطريق، ولا واحدًا منهم، أراهن بحياتي على ذلك. إنني أعدك أنهم حين يرون ما يمكنهم أن يضعوا مخالبهم عليه، سينشغلون جميعًا في حمل ما خف وزنه وغلا ثمنه؛ لا تكن لديك ذرة من شك في هذا …»

– «أليس من الأفضل أن تذهب إليهم وتكلمهم، ما دمت قد تفضلت وجئت، ماداموا يعرفون أنك غير قادر …»؟

– «كلام فارغ. لا حاجة إلى قول أي شيء لهم. حين يرون الباب مفتوحًا على مصراعَيه، سيقولون لأنفسهم: هيا، لا ضرر من ذلك. بل سيرون أنهم يحسنون صنعًا. أما إذا رأوني، أنا الذي أصبحت شهيرًا منذ اقتحمت مع «أنطونيو ليبيلولا» بيت ذلك القس الضئيل الحجم، الذي بلغ به الخوف مداه حين رآنا نهبط إلى حجرته من الطابق الأعلى ونضيء النور لدرجة ألقى إلينا بمفاتيح الخزانة التي يحتفظ فيها بمدخراته الملفوفة في منديلٍ كبيرٍ حتى لا تصدر أصواتًا، ثم تظاهر بأنه نائم! أجل، في تلك المرة خرجت منتصرًا. والآن، فإن الأولاد عاقدو العزم».

وأنهى فاسكيز كلامه مشيرًا إلى مجموعة الرجال الصامتين القذرين المنكودي الحظ، الذين كانوا يعبُّون كأسًا وراء أخرى من البراندي، قاذفين بالخمر إلى سقف حلقهم دفعة واحدة ثم يبصقون باشمئزاز حالما تترك الكأس شفاههم: «أجل، أؤكد لك أنهم جاهزون للعمل.»

ورفع ذو الوجه الملائكي كأسه ودعا فاسكيز أن يشرب نخب الحب. وصبت «لامسكواتا» لنفسها كأسًا من «الأنيس»، وشرب ثلاثتهم.

وعلى بصيص النور الخابي؛ إذ إنهم خشوا أن يوقدوا النور الكهربي فلم يبقَ من نور في الحجرة سوى الشمعة المضاءة أمام صورة العذراء، ألقَت أجساد هؤلاء الرجال البائسين ظلالًا غريبة، مُتطاولة كأنها الغزلان على الجدران المائلة إلى الاصفرار، كما بدَت الزجاجات كأنها شعلات مختلفة الألوان على رفوفها. وكان الجميع يرقبون مسير الساعة. وكانت بصقاتهم على الأرض تدوي كطلقات الرصاص. وكان ذو الوجه الملائكي ينتظر على مبعدة من الآخرين وظهره إلى الحائط بجوار صورة العذراء وعيناه السوداوان الواسعتان تجولان في الغرفة، تطارد الفكرة التي ما فتئت تهاجمه في تلك اللحظات الحاسمة: إنه بحاجة إلى زوجة وأولاد. وابتسم في نفسه إذ تذكر حكاية السجين السياسي المحكوم عليه بالإعدام، الذي زاره المدعي العسكري العام قبل إعدامه باثنتي عشرة ساعة، عارضًا عليه باسم السلطات أن يهبه أي شيء يطلبه، حتى لو كان حياته، مقابل أن يغير شهادته. فرد عليه السجين بحزم: حسنًا، إنني أطلب أن أترك ورائي ابنًا. فقال المدعي العسكري العام: موافق. وأرسل يطلب له عاهرة، وهو يظن نفسه قد أحسن صنعًا. بيد أن السجين أطلق المرأة دون أن يمسها، وحين عاد المدعي العسكري قال له: «يكفي ما هو موجود فعلًا من أبناء العاهرات»!

ولاحت ابتسامة أخرى على شفتَيه إذ قال لنفسه: «لقد عملت مديرًا لمدرسة، ورئيس تحرير صحيفة، ودبلوماسيًّا، وعضو برلمان وعمدة مدينة، وها أنا الآن رئيس لمجموعة من الأفَّاقين! هذه هي الحياة في المناطق المدارية!»

ودقت ساعة الكنيسة مرتين.

فصاح ذو الوجه الملائكي: «إلى الخارج جميعًا». وقال لـ «ماسكواتا» وهو يخرج ومسدسه في يده: «سوف أعود مع غنيمتي». وصاح فاسكيز آمرًا وهو يصعد كالعظاءة إلى إحدى نوافذ منزل الجنرال يتبعه اثنان من عصابته: هيا إلى العمل، وممنوع الهذر، أسامعون؟

وكذلك سمع من في المنزل دقتي الساعة.

– هل أنت جاهزة يا كميلة؟

– أجل يا والدي العزيز؟

كان كاناليس يرتدي بنطال ركوب الخيل وسترة عسكرية زرقاء خالية من الأوسمة الذهبية، بدا شعره أعلاها أبيض لامعًا لاشية فيه. وألقت كميلة بنفسها بين ذراعيه يكاد يغشى عليها، دون أن تنبس بكلمة أو تذرف دمعًا. إن معنى السعادة أو الشقاء لا يمكن أن يدركه إلا أولئك الذين جرَّبوه في أذهانهم من قبل، الذين عضوا بنواجذهم على منديل مبلل بالدموع ومزقوه إربًا إربًا بأسنانهم من فرط الحزن. أما بالنسبة لكميلة فقد كان كل ذلك يبدو إما لعبة أو كابوسًا، كلا، لا يُمكن، لا يمكن أن يكون حقيقة. إن ما يحدث، ما يحدث لها، وما يحدث لوالدها، لا يمكن أن يكون حقيقة. وأخذها الجنرال كاناليس بين ذراعيه وقال لها وداعًا.

– «هكذا احتضنت والدتك حين ذهبت للقتال من أجل وطني في الحرب الأخيرة. وقد وضعت العزيزة المسكينة في فكرها أني لن أرجع ثانية، ولكنها هي التي لم تنتظرني.»

وإذ سمع ذلك المحارب القديم خطوات على السطح، نحى كميلة جانبًا، وذهب عبر الفناء المليء بالأصص والأزاهير إلى الباب الخلفي. وقال له عِطرُ كل زهرة وكل جييرانيوم وكل وردة وداعًا. وقالت له المياه التي تقطر إلى الجرار وداعًا، وكذلك الضوء الذي يسري من النوافذ. وفجأة ساد المنزل الظلام، كأنما قد انفصل عن جيرانه بفعل ضربة قاضية. الهرب لا يليق بالجندي. ومن ناحية أخرى، فإن فكرة العودة لتحرير وطنه على رأس ثورة …

ووفقًا للخطة التي اتفقوا عليها، توجهت كميلة إلى النافذة لطلب النجدة: «واللصوص قد اقتحموا المنزل! النجدة! اللصوص!»

وقبل أن يتلاشى صوتها في وهدة الليل، وصل أول جنود الشرطة — أولئك الذين كانوا يراقبون واجهة المنزل — ينفخون في صفاراتهم الطويلة الجوفاء. وعلت أصوات متنافرة من حديد وخشب؛ وانهار الباب الخارجي من فوره. وظهر رجال شرطة آخرون في ملابس مدنية عند منعطف الطريق، جاهلين ما كان يحدث، ومن أجل ذلك خاصة كانوا يحملون خناجرهم الحادة جاهزة، وقبعاتهم تخفي وجوههم بينما رفعوا ياقات معاطفهم إلى أعلى. وابتلعهم الباب المفتوح جميعًا — كالبحر الهائج. وكان فاسكيز قد قطع الأسلاك الكهربائية بعد أن صعد إلى السطح، حتى استحالت الممرات والحجرات ظلًّا واحدًا هائلًا. وأشعل بعض رفاقه أعواد الثقاب حتى يروا طريقهم إلى الخزائن والصناديق والأدراج، ودون مزيد من الضوضاء، عمدوا إلى نهبها من أعلاها إلى أسفلها بعد أن كسروا أقفالها، وحطموا الأبواب الزجاجية وأحالوا الخشب الثمين مزقًا ونثارًا. وكان آخرون يعيثون فسادًا في حجرة الجلوس، يقلبون المقاعد والمناضد وخزانات الأركان المغطاة بالصور الفوتوغرافية التي بدت كأوراق اللعب الأسيانة في وسط الظلال، أو يضربون على مفاتيح بيانو صغيرة ثمين كان قد ترك مفتوحًا، يئنُّ كالحيوان الذي يتألم كلَّما دقوا عليه بأصابعهم.

وبعيدًا كانت تسمع أصوات الشُّوك والملاعق والسكاكين وهي تقع على الأرض، ثم صرخة قطعتها ضربة حادة. وكانت المربية العجوز، «تشابيلونا»، قد خبأت كميلة في حجرة الطعام بين حائط وخوان في الحجرة. وألقى المحبوب المربية أرضًا واشتبك شعرها بمقبض خزانة الفضيات فانتثرت على الأرض بصوت رنان. وأسكتها فاسكيز بضربة قضيب حديدي حيثما اتَّفق، حتى إنه لم يكد يرى يديها في الظلام.

١  عادة كانت منتشرة في بلاد أمريكا اللاتينية وإسبانيا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤