الفصل الثاني عشر

كميلة

كانت «كميلة» في سالف الأيام تقضي ساعات وساعات أمام المرآة في حجرتها. وكانت مربيتها العجوز تصرخ فيها: «إذا أنت نظرت في المرآة طويلًا، سيأتي الشيطان ويطلُّ من وراء كتفيك!» وتردُّ كميلة: «إنه لن يكون أكثر شيطنة مني!» كان شعرها ثورة من الشعلات السوداء، ووجهها الأسمر يلمع بمعجون البشرة المصنوع من زبدة جوز الهند، وعيناها الخضراوان المائلتان تغرقان في محجريهما العميقين. وكانت زميلاتها في المدرسة يدعونها «كاناليس الصينية» حين تخرج متشحة بمعطفها المدرسي المغلق حتى الرقبة، ولكنها الآن نضجت وازدادت جمالًا وأصبحت فتاة بمعنى الكلمة.

وكانت تقول لنفسها أمام المرآة: خمسة عشر عامًا! ولكني ما زلت كالقطة الأليفة، لا أذهب إلى مكان إلَّا ويحوطني الأعمام والعمَّات وأبناء وبنات العم كأنهم الحشرات.

وكانت تعمد أحيانًا إلى جذب شعرها، وإلى الصراخ، وإلى السخرية من نفسها. كانت تكره أن تكون دائمًا وسط هذا الرهط من الأقارب، وأن تكون الفتاة الصغيرة، وأن تذهب معهم إلى كل مكان: إلى الاستعراض العسكري، إلى قداس الثانية عشرة، إلى ربوة «الكرمة» لركوب الخيل والنزهة عند مسرح «كولون»، وصعود تلال «ساوثي» والهبوط منها.

وكان أعمامها يُشبهون فزَّاعات الطيور، ذوي شوارب يقف عليها الصقر، تصلصل خواتمهم في أصابعهم، وأبناء عمها منكوشي الشعر، سمان، ثقلاء الظل. وعماتها — وهن أصلًا زوجات الأعمام — يُثِرن النفور. أو هكذا كانوا يبدون جميعًا في عينيها. وكانت تشعر بالضيق حين يقدمون لها — خاصة أبناء العم — قراطيس مليئة بالحلوى، كأنما هي طفلة صغيرة، أو حين يقوم الأعمام بالتربيت عليها بأيديهم التي تعبق برائحة التبغ، والإمساك بوجهها بين إصبعَي السبابة والإبهام كيما يحركونه من جانب إلى آخر — وكانت كميلة تُصلِّب رقبتها آنذاك عمدًا، أو حين يقبلها العمات دون أن يرفعن نقابهن، فيخلفن لديها شعورًا بأن ثمة نسيج عنكبوت قد التصق بوجنتيها.

وفي أيام الآحاد، كانت تنام، أو تجلس في غرفة الاستقبال يَنتابها السأم تتطلَّع إلى صور قديمة ملصقة في «ألبوم» العائلة، أو إلى الصور المعلقة على الجدران المغطاة بالقماش الأحمر، أو الموضوعة على رفوف الصوانات في الأركان وعلى المناضد المفضَّضة والكونصولات المرمرية، بينما والدها يتطلع من النافذة إلى الطرق الخالية وهو يُخرخر كالقطة ويرد على تحيات الأصدقاء والجيران. كانوا يَرفعون القبعة تحية واحترامًا له، فهو الجنرال كاناليس. وكان الجنرال يرد عليهم في صوت جهوري: «مساء الخير، إلى اللقاء، إني مسرور لرؤيتك، مع السلامة!»

وكانت هناك صورة لأمها بعد الزواج بفترة قصيرة، لا يَظهر منها سوى أصابعها ووجهها، مُشتملة على رداء على أحدث طراز آنذاك يصل إلى قدمَيها، وقفاز إلى مرفقَيها، وفراء حول عنقها، وقبعة يتدلى منها شلال من الشرائط والرياش على ظلة من الدانتلا. وكانت هناك صور لعماتها، ضخمات الصدور، محشوات كطنافس الصالون، وشعرهن متحجر، وعلى جباههن تاج مرصَّع بجواهر دقيقة الحجم، وصور أخرى لصديقات الأيام الخوالي، امرأة تَرتدي شالًا من الدنتلا المطرزة وأمشاطًا ومراوح، وأخرى ترتدي ملابس هندية وصندلًا ورداءً مطرزًا وتحمل إبريقًا على كتفها، وأُخريات لهن شامات حسن ومجوهرات. وكانت كل هذه الصور تبعث في كميلة إحساسًا بخدر الشفق، مقرونًا بإحساس خرافي بما تحمل من إهداءات: «ستكون صورتي هذه معك كظلي»، «بكل سرور، وحظًّا سعيدًا لك»، «وداعًا، واعتني بنفسك»، «إذا محا النسيان هذه السطور فستنمحي ذكراي»، «في خدمتكم، وتحياتي إلى السيدة الوالدة».

وأحيانًا، كان ثمة صديق يقفز من ألبوم الصور ويحضر ليتجاذَب أطراف الحديث مع الجنرال في الشُّرفة. وكانت كميلة تتلصص عليه من وراء الستار. إنه ذلك الشخص الذي كانت عليه سيماء «الدون جوان» في الصورة، شاب في مُقتبَل العمر، رشيق، فاحم الحاجبَين، يرتدي بنطالًا مربعات ملوَّنًا، وسترته مقفلة بأزرار حتى أعلاها، وعلى رأسه قبعة متوسِّطة الحجم … وهي ملابس آخر طراز في نهاية القرن الماضي. وتبتسم كميلة وتقول لنفسها: «كان من الأفضل أن تظلَّ كما كنت في الصورة. كنت ستبدو عتيق الطراز وسيضحك الناس على ملابسك اللائقة بالمتاحف، ولكنك على الأقل لن تكون منبعج البطن هكذا أصلع الرأس غائر الوجنتين كما أنت الآن.»

وعبر ظلال الستارة المخملية التي تعبق بالغبار، كانت كميلة تُسرِّح عينيها الخضراوين عبر النافذة أصيل يوم الأحد؛ ولم تخفِ حدَّة البرودة في عينيها الزجاجيتين المتجمدتين حين كانت تمدُّهما خارج المنزل لتريا ما يحدث في الطريق. كان والدها، مرتديًا قميصًا وضاءً من الكتان بلا سترة، يعتمد بمرفقيه على وسادة من الساتان، يقتل الوقت بالثرثرة مع شخص بدا وكأنه صديق حميم، عبر قضبان الشرفة. كان رجلًا صفراوي المظهر، معقوف الأنف، ذا شارب صغير وعصا ذهبية المقبض. يا لها من مصادفة سعيدة! لقد كان يتمشى أمام المنزل حين استوقفه الجنرال قائلًا: يا لها من سعادة أن نراك هنا في حي «لامرسيد»! هذا عظيم! وقد وجدته كميلة في ألبوم الصور. لم يكن من السهل التعرُّف عليه، وكان عليها أن تطيل التحديق إلى الصور. كان لهذا الرجل المسكين أنف مستقيم ووجه مستدير جميل يومًا ما. كم صحيح هو القول بأن الزمن يُسيء معاملة الناس. لقد أصبح وجهه الآن نحيلًا بارز عظام الوجنتين، نحيل الحاجبين، ناتئ الفكين. وحين كان يتحدث إلى والدها بصوته البطيء الخفيض، ظل يرفع مقبض عصاه إلى أنفه كأنما هو يشم الذهب. إنها الرحابة في حركة دائمة. هي نفسها في حركة دائمة. كل شيء فيها، حتى الساكن بطبيعته، كان في حركة دائمة. وحين رأت البحر لأول مرة، فارت الكلمات التي تعبر عن دهشتها على شفتيها، ولكن حين سألها أعمامها عن رأيها في مرأى البحر قالت بمظهر الأهمية الكاذبة: «لقد عرفت البحر قبل ذلك من الصور!» وكان الهواء يعبث بقبعتها الوردية العريضة الأطراف التي أمسكتها في يدَيها. كانت تشبه الطوق، أو طائرًا مُستديرًا ضخمًا.

وتطلَّع إليها أبناء عمها وقد اتسعت عيونهم من فرط الدهشة، فاغِرِي الأفواه. وغطت أصوات الموجات الهادرة على ملاحظات العمات: «يا لجمال البحر! شيء لا يصدقه عقل! يا للمياه الغزيرة! يبدو هائجًا! انظروا هناك، إن الشمس تغرب! ألم ننس شيئًا في القطار عند تعجلنا النزول منه؟ ألم تروا ما إذا كان كل شيء على ما يرام؟ يجب أن تُحصى الحقائب!»

وكان أعمامها قد حملوا حقائب مليئة بالثياب الخفيفة للشاطئ (تلك الملابس المغضَّنة كالزبيب التي يَرتديها المصيفون) وعناقيد من جوز الهند اشترتها السيدات في المحطات التي توقف القطار فيها على الطريق، لمجرَّد أنها رخيصة الثمن، ومجموعة من الرزم والسلال حملها عدد من الهنود إلى الفندق.

وقال أخيرًا أنضج أبناء العم: «أجل، إنني أعرف ما تقصدين»، (واصطبغت وجنتا كميلة الداكنتين باحمرار خفيف من جراء دفعة دفعة دماء حين سمعته يكلمها) «ولكني لا أشاركك رأيك. إني أرى أن ما أردت أن تقولي هو أن البحر يشبه الصور المتحركة، ولكنه أكبر حجمًا.»

وكانت كميلة قد سمعت عن الصور المتحركة التي تعرض في حي «المائة باب»، إلى جوار «رواق الرب»، ولكن لم تكن لديها أي فكرة عنها. ولكن كان بإمكانها بعد ما قاله ابن عمها عنها أن تتصور ماهيتها وهي تتطلَّع إلى البحر. كل شيء في حركة دائمة. لا شيء ثابت. صور تَمتزج بصور أخرى، متبدلة، تتكسَّر حطامًا لتشكل صورة جديدة في كل ثانية، في حالة لا هي بجامدة ولا سائلة ولا غازية، بل هي حالة حياة في البحر. حالة وضاءة. في البحر وفي الصور المتحركة على حد سواء.

ومضت كميلة تتأمَّل المشهد في بهجة نهمة وهي تعقص أصابع قدميها داخل حذائها. وعيناها تومضان في كل اتجاه وشعرت في البداية أن عينيها تتخلَّيان عن مكانهما كي تحيطا بهذه الرحابة؛ وأحست بعد ذلك أن تلك الرحابة تملآنها كلية. لقد بلغ المدُّ الزاخر عينيها.

وسارت ببطء إلى الشاطئ يتبعها ابن عمها، وكان المسير على الرمال صعبًا بعض الشيء. كانت تُريد أن تزداد قربًا من الموجات، ولكن المحيط الهادئ، بدلًا من أن يمدَّ لها يدًا حنونًا، صوَّب نحوها صفعة سائلة من المياه الشفافة بلَّلت قدميها. وقد فوجئت بذلك، وبجهد تراجعت في الوقت المناسب، تاركة وراءها رهينة، قبعتها الوردية اللون، التي لم تُصبح بعد برهة إلا مجرَّد نقطة على صفحة الموجات، وأطلقت كميلة وعيدًا صبيانيًّا بأن تذهب لتشكو البحر إلى أبيها: آه أيها البحر!١

ولم تلاحظ هي ولا ابن عمها أنها نطقت كلمة «يحب» لأول مرة وهي تتوعد البحر وتنذره. وخلع لون السماء فوق الشمس الغاربة مزيدًا من البرودة على المياه الخضراء الداكنة.

لماذا عمدت إلى تقبيل ذراعيها على الشاطئ، مستنشقة عبير جسدها الملحي الذي لوحته الشمس بأشعتها؟ لماذا فعلت نفس الشيء بثمرة الفاكهة التي حُرم عليها أكلها، إذ هي تلمسها بشفتيها؟ كانت عماتها قد قلن: «الحمضيات ضارة بالفتيات الصغيرات، وكذلك الأقدام المبللة، والسير اللعوب.» ولم تكن كميلة تشمُّ والدها ولا مربيتها حين تقبلهما. ولقد كتمت أنفاسها حين قبلت قدمي المسيح في الكتدرائية الذي كان يشبه جذع الشجرة المحطوم. وإذا لم يشم المرء ما يقبل، لما أصبحت القبلة ذات طعم. وكان جسدها الملحي البني اللون كالرمال، ولباب الأناناس والسفرجل، يُغرونها جميعًا بتقبيلهم راجفة الأنف مشتاقة نهمة. ولكن جاءت الحقيقة ناصعة بعد الشك: فإنها لم تعد تعرف ما إذا كانت تشم أم تعض حين عمد ابن عمها نفسه الذي تحدث عن الصور المتحركة إلى تقبيلها في فمها في نهاية ذلك الصيف، وإلى عزف نغمة تانجو أرجنتيني بفمِه.

وحين عادوا إلى العاصمة، ألحَّت كميلة على مربيتها كي تصحبها إلى الصور المتحركة. كانت تُعرض في دار صغيرة في جانب من ميدان «رواق الرب» في حي «المائة باب». وذهبا دون علم والدها، تقرضان أظافرهما في قلق وعصبية وتتلوان الصلوات. وبعد أن كادتا تعودان أدراجهما لدى رؤية الصالة غاصة بالناس، تشجَّعتا واتخذتا مقعدَين أمام ستارة بيضاء، يظهر عليها بين الفينة والفينة ضوء كأنه آت من الشمس. كانوا يُجرِّبون آلة العرض وعدساتها، التي كان يصدر عنها قرقعة تماثل قرقعة فوانيس الشارع الكهربائية. ثم أظلمت القاعة فجأة. وشعرت كميلة كأنما هي تلعب «عسكر وحرامية». وأصبح كل شيء على الشاشة غير واضح. وكانت الشخوص تتحرَّك عليها هنا وهناك كالجراد. أناس مبهمون بدوا كأنهم يمضغون شيئًا حين يتكلمون، يمشون على شكل قفزات ويُحركون أذرعتهم كأنما هي مخلوعة عن أجسادهم. وتذكرت كميلة بوضوح حادثة، حين اختبأت هي وصبيٌّ من أقرانها في غرفة ذات سقف زجاجي مفتوح على السماء، جعلتها تنسى للحظة الصور المتحركة. وكان ثمة شمعة ذائبة أمام صورة شفافة للمسيح في الركن المظلم من الغرفة. واختبأ تحت السرير وكان عليهما أن يرقدا بالطول على الأرض. وأخذ السرير يقرقع بصوتٍ عالٍ مستمرٍّ. كان قطعة أثاث عتيقة من عهد الجدود ولا يتحمل تلك المعاملة القاسية. وسمعت صيحة: «أنا قادم» من الفناء البعيد؛ «أنا قادم». وحين سمعت كميلة صوت أقدام من هو «قادم»، فاجأتها رغبة في الضحك. ونظر إليها رفيقها في المخبأ بحدَّة مُنذرًا إياها أن تصمت؛ وأطاعت في البداية واتخذت مظهرًا جادًّا ولكنها لم تستطع السيطرة على نفسها حين وصلت إلى أنفها رائحة مغثية من خزانة نصف مفتوحة، وكانت ستنفجر ضاحكة على الفور لو لم تبدأ عيناها تدمعان من جراء التراب الدقيق تحت السرير، في حين تلقَّت ضربة مفاجئة في نفس الوقت على جبهتها.

وتمامًا كما غادرت مكمنها تحت السرير منذ فترة بعيدة، غادرت دار الصور المتحرِّكة وعيناها مفعمتان بالدموع، وسط جمهرة من الناس كانت تغادر مقاعدها وتهرع إلى باب الخروج وسط الظلام. ولم تتوقف هي والمربية حتى بلغتا «رواق التجار» وهناك علمت كميلة أن النظارة قد غادرت الدار كي تتجنَّب الحرمان الديني من الكنيسة؛ فقد ظهرت على الشاشة صورة امرأة في ثوب يلتصق بجسدها ترقص التانجو الأرجنتيني مع رجل طويل الشعر ذي شاربٍ كثٍّ يرتدي ربطة عنق فنان.

•••

وخرج «فاسكيز» إلى الطريق وهو لا يزال يحمل القضيب الحديدي الذي أخرس به المربية. وأعطى إشارة بيده فظهر ذو الوجه الملائكي وراءه يحمل ابنة الجنرال بين ذراعيه. واختفَيا داخل حانة «الخطوتان» في نفس الوقت الذي بدأ رجال الشرطة يهربون بما يحملون من أسلاب. وكان أولئك الذين لم تقع أيديهم على سروج جياد يحملون على ظهورهم ساعة حائط، أو مرآة كبيرة، أو تمثالًا، منضدة، تمثال المسيح، سلحفاة، دجاجًا، بطًّا، حمامًا، أو أيًّا من مخلوقات الله الأخرى؛ ملابس رجال، أحذية حريم، أدوات من الصيني، زهورًا، صور قديسين، أحواضًا، جرادل، مصابيح، نجف، زجاجات دواء، صورًا زيتية، كتبًا، مظلات لمياه السماء ومبوَلات لمياه الإنسان.

وكانت صاحبة الحانة تنتظر في الداخل وفي يدها قضيب حديدي، جاهزة لتغلق به الباب خلفهم.

ولم تكن كميلة لتتصوَّر وجود مثل هذه «الزريبة» التي تفوح منها رائحة الفراش العفن، لا تبعد سوى أمتار قليلة من البيت الذي عاشت فيه في سعادة غامرة، يُدللها ذلك الجندي العجوز (وكان من المستحيل تصور أنه كان سعيدًا بالأمس فقط)، وترعاها مربيتها (وكان من المستحيل تصور أنها ترقد الآن مصابة بجراح مميتة). والزهور التي كانت بالأمس ناضرة أصبحت الآن على الأرض مداسة بالأقدام، وقطتها هربت، وعصفورها الكناري مات بعد أن ديس بالأقدام مع قفصه. وحين أزاح المحبوب الوشاح الأسود من على عيني كميلة، خامرها شعور بأنها بعيدة جدًّا عن منزلها. ومرَّت بيدها على وجهها مرتين أو ثلاثًا وهي تتطلَّع فيما حولها لترى أين هي، وتوقفت أصابعها عن الحركة كي تخنق صيحة استياء كادت تصدر عنها حين تحقَّقت أن محنتها حقيقة واقعة وليست حلمًا أو خيالًا.

وجاءها صوت الرجل الذي نقل إليها الأنباء المشئومة ذلك المساء، طافيًا نحو جسدها الثقيل الخدر: «آنستي، على الأقل ليس من خطر يتهدَّدك هنا. ماذا نستطيع أن نفعل كي نُهدِّئ من مخاوفك؟»

فصاحت صاحبة الحانة: «ماء ونيران!» وأسرعت تحرك بضع جمرات في أعلى وعاء فخاري تستخدمه فُرنًا، في حين انتهز «فاسكيز» الفرصة لمهاجمة قنينة من البراندي القوي، وابتلع ما فيها دون أن يذوقه، كأنما هو يَشرب سم فئران.

وأنعشت صاحبة الحانة النيران عن طريق النفخ فيها، وهي تُتمتم طوال الوقت: «اشتعلي سريعًا! اشتعلي سريعًا!» وتراءى خلفها، على جدار الغرفة الخلفية التي كانت تتوهَّج الآن بالنور الأحمر المنبعث من جمرات النار، ظل فاسكيز وهو ينسلُّ في طريقه إلى الفناء.

وأسقطت «لامسكواتا» جمرة مشتعلة في صحن مليء بالماء، فقعقعت وهسهست كالشخص المرتعب، ثم طفت الفحمة المنطفئة على سطحها كنواة ثمرة جهنمية سوداء، فالتقطتها المرأة بالملقاط. وبعد أن احتست كميلة شيئًا من هذه المياه، عاد إليها صوتها ثانيًا.

وكان أول ما قالته: ماذا حدث لوالدي؟

فرد ذو الوجه الملائكي: «اهدئي، لا تقلقي، اشربي مزيدًا من مياه الفحم، إن الجنرال بخير.»

– هل أنت متأكد؟

– أعتقد ذلك.

– إن المصيبة …

– «هس! لا تجلبي الحظ السيئ!»

واستدارت كميلة ونظرت إلى ذي الوجه الملائكي. إن تعبير الوجه كثيرًا ما يكون أشد إيحاءً من الكلمات. بَيْد أن عينَيها تاهتا في عيني المحبوب السوداوين الجامدتين.

وقالت لامسكواتا: «يجب أن تجلسي يا عزيزتي.»

وسحبت لها المقعد الذي كان يجلس عليه «فاسكيز» حين دخل الغريب الذي دفع ثمن شرابه بورقة نقد كبيرة في الحانة لأول مرة.

أكان ذلك المساء منذ سنوات عدة، أم منذ بضع ساعات ليس إلا؟ وحدق المحبوب إلى ابنة الجنرال أولًا، ثم إلى نار الشمعة الموقدة أمام صورة العذراء. وتوهجت حدقتاه حين جال بخاطره أن يطفئ الشمعة ويقضي وطره من الفتاة. نفخة واحدة … وتصبح ملكه إما برغبتها أو رغمًا عنها. ولكن عينيه تحوَّلتا عن صورة العذراء لتتطلَّعا إلى كميلة، كانت تهاوت على المقعد وغاصَت فيه، وحين رأى وجهها مرصعًا بالدموع، وشعرها الأشعث وجسدها الشبيه بجسد الملاك الفتى، تغيَّرت سيماؤه وتناول القدح من يدها بمظهر أبوي، قائلًا: يا فتاتي الصغيرة المسكينة!

وجاءه سعال صاحبة الحانة على نحوٍ حصيف لتنبههما إلى أنها ستتركهما وحدهما، ثم شتائمها اللاذعة حين وجدت فاسكيز يرقد مخمورًا تمامًا في الفناء الصغير الذي يعبق برائحة الورود في أصصها المصفوفة وراء الغرفة الخلفية، وتسبب كل هذا في انفجار كميلة في موجة جديدة من الدموع.

قالت «لامسكواتا» تؤنب فاسكيز: لقد ملأت نفسك حتى التخمة أيها البائس. الشيء الوحيد الذي تُجيده هو أن تجعلني أفقد أعصابي! إن ما يقال صحيح تمامًا، لا يمكنني أن أغلق عيني إلا وتخطف شيئًا. ورغم ذلك تدَّعي أنك تحبني. آه، أجل، لا شك في هذا. ما أكاد أدير رأسي حتى تنقض على الزجاجة. إنها لا تُكلِّفك مليمًا واحدًا، أليس كذلك؟ كل ذلك لأني وثقت بك. اخرج من هنا، أيها اللص، قبل أن ألقيَ بك إلى الخارج!

ورنَّ صوت الرجل المخمور في نغمة شاكية، بينما اصطك رأسه بالأرض حين بدأت المرأة تجذبُه من قدميه. وأغلق الهواء باب الفناء الصغير، وساد الصمت بعد ذلك. وكان ذو الوجه الملائكي يردِّد في سمع كميلة وهي تبكي: «لقد انتهى كل شيء الآن. إن والدك لم يعد في خطر، وإنك في أمان تام في هذا المخبأ، إنني هنا لكي أحميك. لقد انتهى كل شيء، لا تبكي، فإن بكاءك سيزيد ما تشعُرين به من قلق. توقفي عن البكاء وانظري لي وسأشرح لك كل شيء.»

وخبت شهقات كميلة رويدًا رويدًا. كان ذو الوجه الملائكي يربت على شعرها، وتناول منديلها من يدها وأخذ يجفف به عينيها. وبدأ ضوء الفجر يلون الأفق ويشعُّ بين الأشياء في الحجرة وتحت الأبواب، كأنه ماء الجير الأبيض ممزوجًا بطلاء وردي. إن البشر يُحسُّون بوجود بعضهم بعضًا قبل أن يتمكَّنوا من رؤية بعضهم بعضًا. وهاجت الأشجار بفعل أول غناء للعصافير ولم تعد تستطيع أن تحكَّ أوراقها. وتثاءبت النوافير من وراء أخرى. وأطرحت السماء جانبًا خصلات الليل السوداء، خصلات الموت، وارتدَت حُلَّة مذهبة.

– «ولكن يجب عليك أن تلزمي الهدوء، وإلا ضعنا. سوف تُضيعين نفسك، وتضيعين والدك، وتُضيعينني. سوف أعود هذا المساء وأصطحبك إلى منزل عمك. أهم شيء هو كسب الوقت. لا بدَّ أن نتذرَّع بالصبر. لا يمكن للمرء أن يُرتب كل شيءٍ في وقت واحد، فبعض الأشياء أشد صعوبة من أشياء أخرى.»

– «أنا لا أشعر بالقلق على نفسي، فأنا أشعر بالأمان بعد ما قلته لي، وإني ممتنَّة لذلك. إني أدرك أن عليَّ أن أبقى هنا. إنني قلقة على والدي. إنني تواقة لأن أتأكَّد أنه لن يحدث مكروه لوالدي.»

– أعدك أن أحضر لك أنباء عنه.

– اليوم؟

– اليوم.

وقبل أن ينصرف ذو الوجه الملائكي، التفت إلى كميلة وربت على خدها في ود.

– أأنت أحسن حالًا الآن؟

ونظرت إليه ابنة الجنرال كاناليس بعينين قد امتلأتا ثانية بالدموع وقالت: ائتني بالأنباء …

١  هذه الصيحة تُماثل بالإسبانية فعل Amar: يحب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤