الفصل السابع عشر

أحابيل الغرام

– هل سيأتي أم لا؟

– سوف يظهر في أي لحظة، سوف ترين.

– إنه قد تأخَّر، ولكن لو أتى آخر الأمر، فلا يهمُّ تأخيره، أليس كذلك؟

– إنه سوف يأتي بالتأكيد، إنَّ ذلك مضمون ضمان أن الآن ليل. ولسوف أقطع أذني إن لم يَحضُر. لا تُعذبي نفسك هكذا …

– وهل تعتقدين أنه سيحضر لي أخبارًا عن والدي؟ لو وعدني بذلك.

– بالطبع، وهذا يزيدك تأكيدًا …

– أوه، إنني أدعو الله ألا تكون أخبارًا سيئة! إنني لا أدري ما أنا فاعلة، أحسُّ أنني سأُجن … أريد أن يأتي سريعًا حتى أخرج من هذه الشكوك، وأرجو في نفس الوقت ألا يأتي إذا كان سيُحضر لي أخبارًا سيئة.

كانت «لامسكواتا»، صاحبة الحانة، تُصغي من المطبخ الصغير الذي ابتدعته في ركن من الغرفة، إلى عبارات كميلة التي كانت ترقد على الفراش وتتكلَّم بصوت مرتعش. وكانت هناك شمعة موقدة مثبتة على الأرض أمام صورة العذراء.

– بما أنك تمرين بهذه المرحلة الدقيقة فلا بدَّ أن يأتي، وبأخبار لا بدَّ أن تملأك سرورًا، وسترين. ستقولين ومن أين لي أن أعلم؟ لأن هذا هو اختصاصي، ولا يوجد شيء يتعلَّق بالقلب والحب لا أعرفه. صحيح أن المرء يجب أن لا يحكم بالمظاهر، ولكن الرجال كلهم سواء … كالنحل حول الرحيق …

وقطع صوت المنفاخ كلمات صاحبة الحانة. وراقبتها كميلة شاردة البال وهي تنفخ في النار بالمنفاخ.

– إنَّ الحب كالمشروب المثلج يا عزيزتي، إذا شربته ساعة تحضيره شعرت به حلو المذاق وخير الشراب، يأتي من كل ناحية، ولا بدَّ من شربه بسرعة وإلا تساقطت قطراته على كل جانب. ولكن، بعد ذلك، لا يبقى منه سوى قطعة ثلج لا لون لها ولا طعم.

وسمع صوت خطوات في الطريق. ودق قلب كميلة بعنف لدرجة اضطرَّت معها أن تضغط بيدَيها الاثنتين على صدرها. وعبر صوت الخطوات الباب وابتعد بسرعة.

– ظننت أنه هو …

– لن يتغيَّب أكثر من ذلك …

– لا بد أنه تأخر لأنه ذهب إلى منزل عمي قبل حضوره. ومن المحتمل أن يحضر معه عمي «خوان».

– بس! القطة! القطة تَشرب كوب لبنك، اطرديها!

والتفتت كميلة نحو القطة، كانت قد خافت من صيحة صاحبة الحانة، وكانت تلعق شواربها المغمسة باللبن إلى جوار الكوب الذي نسيته كميلة فوق المقعد.

– ما اسم القطة؟

– بنجي.

– كان لديَّ قطة اسمها قطر الندى، كانت أنثى.

وسمع وقع أقدام مرة أخرى. ربما …

أجل، كان ذا الوجه الملائكي.

وبينما كانت «لامسكواتا» ترفع القضيب الحديدي الذي يُغلق الباب، حاولت كميلة أن تُسوي شعرها إلى الخلف قليلًا بيديها. كان قلبها يدق بعنف في صدرها، فعند نهاية هذا اليوم الأبدي، الذي بدا لها أحيانًا بلا نهاية، كانت تشعر بالخدر، والضعف، والخوَر، والإنهاك، كالشخص المريض الذي يَسمع همهمات من حوله استعدادًا لإجراء عملية جراحية له.

قال ذو الوجه الملائكي من عند الباب وهو يزيح جانبًا التعبير المتعب الذي كان على وجهه: أخبار طيبة يا آنستي، كل شيء على ما يرام!

كانت تنتظره إلى جوار الفراش، وهي تقف وإحدى يدَيها على رأس السرير، وعيناها مليئتان بالدموع وعليها تعبير بارد. وتناول المحبوب يدها.

– أولًا، أخبار والدك، هذا أهم شيء بالنسبة إليك.

وبعد أن قال ذلك، نظر إلى «لامسكواتا»، ثم غيَّر رأيه دون أن يغير نبرة صوته: «ولكن والدك لا يعلم أنك مختبئة هنا …»

– وأين هو؟

– لا بدَّ أن تلزمي الهدوء!

– حسبي أن أطمئن أنه لم يحدث له شيء لأحتمل أي شيء.

فقاطعت صاحبة الحانة حديثهما بقولها لذي الوجه الملائكي وهي تشير إلى مقعد: اجلس.

– شكرًا.

– وبما أن لديك الكثير مما تقوله للآنسة، فربما تسمح لي بالخروج بعض الوقت إذا لم تكن تريد شيئًا. أريد أن أذهب لأرى ماذا حدث للوسيو. لقد خرج هذا الصباح ولم يَعُد من ساعتها.

وكان المحبوب على وشك أن يطلب من المرأة ألا تتركه وحده مع كميلة، ولكنها كانت قد حرجت بالفعل إلى الفناء الصغير المظلم لتغير رداءها، وكانت كميلة تقول: «سيُكافئك الله على ما فعلته لأجلي يا سيدتي. يا للمسكينة، إنها طيبة جدًّا. وكل ما تقوله مُسلٍّ. إنها تقول إنك طيب جدًّا، وغنيٌّ جدًّا، وساحر، وإنها تعرفك منذ وقت طويل.»

– أجل إنها طيبة. ومع ذلك فلم يكن بإمكاننا التحدث صراحة أمامها، ومن الأفضل أنها قد خرجت. الشيء الوحيد المعروف عن والدك هو أنه في طريق الفرار، وإلى أن يَعبر الحدود، لن نستطيع الحصول على أخبار مؤكدة عنه. ولكن أخبريني، هل قلت أي شيء عن والدك لهذه المرأة؟

– كلا، لأنني اعتقدتُ أنها تعرف كل شيء.

– حسنًا، من الأفضل ألا تقولي كلمة واحدة لها.

– وماذا قال عمي وعمتي؟

– لم أتمكن بعد من الذهاب لمقابلتهما لأنني كنت مشغولًا باستقصاء الأنباء عن والدك، ولكني أرسلت لهما بأنني سأزورُهما غدًا.

– إني آسفة لكل هذه المضايقات، ولكني على ثقة بأنك ستفهم أنني سأكون أسعد حالًا معهما، خاصة مع عمي «خوان» إنه إشبيني في العماد وكان دائمًا أبًا ثانيًا بالنسبة لي.

– هل كنتم تتزاورون كثيرًا؟

– كل يوم تقريبًا. تقريبًا — أجل، أجل؛ لأنه إذا لم نذهب نحن إلى بيته، كان هو يأتي لزيارتنا، إما مع زوجته، وإما وحده. وهو الأخ الذي كان والدي يحبه أكثر من غيره من إخوته. وكان دائمًا يقول لي: «حين أذهب سوف أتركُك مع «خوان»، يجب أن تذهبي إلى بيته وتُطيعيه كما لو كان والدك.» وقد تعشَّينا معًا يوم الأحد الماضي.

– على كل حال، يجب أن تُدركي أنني قد خبأتك هنا حتى أتحاشى أن يضايقك رجال الشرطة، ولأن هذا المكان كان قريبًا من بيتكم.

وخفقت الشعلة المرهقة للشمعة التي لم يُنظِّفها أحد، كنظرة شخص يشكو من قصر النظر. وشعر ذو الوجه الملائكي بنفسه ضعيفًا وضئيلًا في ضوئها. وبدت كميلة أكثر شحوبًا، أكثر وحدة، وأشد جاذبية أكثر من أي وقت مضى في ردائها الصغير الأصفر الليموني …

– فيم تفكرين؟

ورن صوته ودودًا مطمئنًا.

– في الآلام التي لا بد وأن والدي يكابدها، هاربًا عبر أماكن مظلمة مجهولة — إنني لا أعبر جيدًا عن أفكاري — جائعًا متعبًا، عطشًا، وحيدًا لدى أحد يعاونه. فلتُواكب العذراء المقدَّسة خطاه! لقد أبقيت شمعتها مضيئة طوال اليوم.

– لا تُفكِّري في هذه الأشياء، لا تتوقعي الشر قبل حدوثه. إن ما هو مكتوب سيحدث. إنك لم تتوقَّعي أن تعرفيني، ولا أنا أن أكون بذي نفع لوالدك.

وتناول إحدى يدَيها في يده وسمحت له بأن يُربت عليها بينما هما واقفان معًا يُحدِّقان إلى صورة العذراء.

وكانت تجوَّل في ذهن المحبوب هذه الأبيات من الشعر:

بوسعك أن تمرِّي بسهولة،
من ثقب مفتاح باب السماوات،
لأن صانع المفاتيح،
حينما جئت إلى الوجود،
جبل صورتك من الثلج،
وطبعها على الشهاب البارق.

كانت تلك الفقرة الغنائية تمرُّ عبر ذهنه في تلك اللحظة، كأنَّما هي تجسد الإيقاع الذي يربط الآن بين قلبيهما.

– لقد قلت لي إن والدي سيَذهب بعيدًا، فمتى سنعرف المزيد من الأخبار عنه؟

– في الحقيقة ليست لدى أيُّ فكرة، ولكن لا بد أن نعرف شيئًا بعد أيام.

– بعد أيام كثيرة؟

– كلا.

– ربما كان لدى عمي «خوان» أخبار عنه؟

– مُحتمَل جدًّا.

– إنك تبدو محرجًا حين أتكلم عن عمي وعمتي.

– ماذا تعنين بذلك بحق السماء؟ كلا، على الإطلاق. على العكس تمامًا. إنني مدرك لولاهما لكانت مسئوليتي أعظم بكثير. إلى أين آخذك إن لم يكن إليهما؟

كانت نبرة صوت ذي الوجه الملائكي تتغير حين يترك لخياله العنان في الحديث عن هرب الجنرال وعن العم والعمة، الجنرال الذي يخشى أن يعود مُكبلًا بالأغلال مخفورًا، أو باردًا كالمرمر على محفة ملطخة بالدماء.

وفتح الباب فجأة. كانت «لامسكواتا»، في حالة من الاضطراب الشديد. ورنت قضبان الباب على الأرض. وهبت دفقة هواء كادَت أن تُطفئ الشمعة.

– اعذراني لمقاطعتكما ودخولي فجأة هكذا. لقد قبضُوا على «لوسيو» سمعت لتوِّي الأنباء من صديقة حين وصلتني هذه الورقة الصغيرة. إنه في السجن. إن ذلك من فعل «خينارو روداس». يا له من رجل! لقد كنت أشعر بالقلق طوال المساء. كل دقيقة كان قلبي يدقُّ: بوم بوم بوم بوم بوم. لقد ذهب ذلك الشخص وقال لهم إنك أنت ولوسيو خطفتما السيدة الصغيرة من منزلها.

ولم يستطع المحبوب أن يفعل أي شيء لتدارك الكارثة. لم يحتجِ الأمر إلا إلى كلمات قليلة حتى يقع الانفجار. لقد أطيح به وبكميلة وبقصة حبهما ذات الحظ العاثر في ثانية واحدة، بل في أقل من الثانية بسبب حديث صاحبة الحانة الصريح عن اختطافهم لكميلة. وحين بدأ ذو الوجه الملائكي يُحيط إدراكًا بالموقف، كانت كميلة ترقد وهي تَدفن وجهَها في الفراش تبكي بلا توقف، وكانت صاحبة الحانة لا تزال تصف عملية الاختطاف بالتفصيل، دون أن تُدرك أي إدراك بأنها تَقذف بعالم صغير كامل إلى هوة سحيقة، أما هو؛ فقد شعر كأنما يَدفنونه حيًّا مفتوح العينين.

وبعد أن بكت كميلة وقتًا، نهضت كمن يمشي في نومه وطلبت من صاحبة الحانة غطاءً تخرج به.

وقالت وهي تَلتفت إلى ذي الوجه الملائكي بعد أن ناولتها المرأة شالًا: وإذا كنت سيدًا مهذبًا حقًّا، خذني من فضلك إلى منزل عمي «خوان».

ورغب المحبوب أن يقول ما لا يُمكن قوله، عبارات لا يمكن أن تعبر عنها الشفاه، ولكنها تتراقص في عيون أولئك الذين أحبط القدر أعز آمالهم.

وتساءل بصوت أجش وبفعل ابتلاعه لعاب القلق: أين قبَّعتي؟

وعاد وقبَّعته في يده إلى داخل الغرفة ليرى مرةً أخرى قبل الرحيل المكان الذي غرقتْ فيه آماله لتوِّه.

واعترض قائلًا وهو على وشك الخروج: «ولكني أخشى أن يكون الوقت قد فات …»

– هذا يُمكن أن يكون صحيحًا لو أننا كنا ذاهبين إلى منزل أحد الغرباء، ولكنا ذاهبون إلى منزلي؛ ذلك أن منزل أي واحد من أعمامي هو منزلي.

وأوقفها ذو الوجه الملائكي من ذراعها برفق، وقال لها الحقيقة المؤلمة كأنما تخرج روحه من صدره: يجب عليك ألا تُفكِّري في منزل عمك «خوان» بعد الآن، إنه لا يريد أن يسمع أي شيء عنك، أو عن الجنرال، فهو متبرئ منه كأخ. لقد قال لي ذلك اليوم.

– ولكنك قلت الآن لتوِّك إنك لم ترهما، وإنك قد حددت موعدًا للذهاب إليهما فحسب! ماذا أصدق؟ هل نسيت ما قلت لي منذ لحظة وها أنت تقول أشياء مريعة عن عمي؛ وذلك حتى تبقيني أسيرة هنا في هذا الخان وتمنع فراري! هل تقول إن عمي وعمتي لا يريدان أن يسمعا أي شيء عنا، وأنهما لا يريدان استقبالي في منزلهما؟ حسنًا، لا بد أنك قد جننت. تعال معي هناك وسأثبت لك العكس!

– إنني لم أجنَّ. لا بد أن تصدقيني. إنني أضحي بحياتي حتى أحول دونك والتعرُّض للهوان، وإذا كنت قد كذبت عليك أولًا فذلك لأنني — لا أعرف، أظنُّ أنني كذبت رحمة بك، حتى أوفر عليك الآلام التي تشعرين بها الآن لأطول مدة ممكنة. وكنت أنوي الذهاب غدًا مرة أخرى لأجدد محاولاتي، عارضًا أسبابًا أخرى، وأسترحمهما ألا يتركاك في الطريق، ولكن ذلك مستحيل الآن وأنت ستَخرُجين. إن هذا مستحيل الآن.

وكانت الطرقات المضاءة بالنور الساطع تبدو أكثر عزلة من أيِّ وقت مضى. وتبعتهما صاحبة الحانة إلى الخارج وهي تَحمل الشمعة التي كانت مضاءة أمام صورة العذراء، لتُضيء لهما أول الطريق. وهبَّت الريح فأطفأتها، وبدَت الشعلة الصغيرة وكأنها ترسم علامة الصليب قبل أن تموت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤