الفصل السابع والثلاثون

رقصة «توهيل»١

– ماذا تطلبون أيها السادة؟

– بيرة.

– ليس لي، أنا سآخذ «ويسكي».

– إذن واحد …

– واحد بيرة وواحد ويسكي وواحد براندي.

– وبعض المأكولات الخفيفة!

— إذن واحد بيرة وواحد ويسكي وواحد براندي وبعض المأكولات الخفيفة.

وترامى صوت ذي الوجه الملائكي عائدًا من المرحاض يقول وهو يغلق أزرار بنطاله في شيء من العجلة: هاللو!

– ماذا تطلب؟

– أي شيء. أحضر لي بعض المياه المعدنية.

– آه، إذن واحد بيرة وواحد ويسكي وواحد براندي وواحد مياه معدنية.

وجذب ذو الوجه الملائكي مقعدًا وجلس إلى جوار رجل يبلغ الستة أقدام طولًا، له مظهر الزنوج وحركاتهم رغم أنه أبيض البشرة، وظهره سَوِيٌّ كالقضيب الحديدي، ويداه كالسندان المزدوج، وثمة ندبة بين حاجبيه الشقراوين.

قال له ذو الوجه الملائكي: افسح لي مكانًا يا مستر «جنكيز»، فإني أود أن أجلس إلى جوارك.

– بكل سرور أيها السيد …

– سوف أتناول شرابي وأذهب لأن الرئيس في انتظاري. فقال مستر جنكيز: أوه، إذا كنت ذاهبًا للقاء الرئيس فلا بد أن تكف عن حماقتك وتبلغه بأن الشائعات التي تتردد عنك غير صحيحة، غير صحيحة على الإطلاق.

فقال واحد من الأربعة، وهو الشخص الذي طلب البراندي: هذا لا شك فيه.

فتدخل ذو الوجه الملائكي قائلًا للمستر جنكيز: وهل أنا الذي تقول له ذلك؟

فقال الأمريكي وهو يضرب رخام المائدة براحة يديه: وأقوله للجميع بالطبع! لكني كنت هناك تلك الليلة وسمعت بأذني المدعي العسكري العام يقول إنك تعارض انتخاب رئيس الجمهورية، وإنك نصير «للثورة مثل المرحوم الجنرال كاناليس».

وحاول ذو الوجه الملائكي عبثًا أن يخفي القلق الذي يحس به. ذلك أن الذهاب لمقابلة الرئيس في ظل هذه الظروف شيء يثير الخوف.

وجاء النادل بطلباتهم. كان يرتدي سترة بيضاء عليها اسم المحل «غامبريتوس» مطرزًا عليها بخيوط حمراء.

– واحد ويسكي، واحد بيرة …

وابتلع مستر «جنكيز» الويسكي دفعة واحدة دون أن تطرف له عين، كشخص يشرب مطهرًا معويًا، ثم أخرج الغليون وحشاه بالتبغ.

– أجل يا صديقي، إن هذه الأشياء تصل إلى سمع الرئيس بطريقة أو بأخرى، وهي ليست بالأمر المحبب لديك. والآن حان دورك كيما تقول له بصراحة حقيقة الأمور. إن الموقف دقيق جدًّا.

– شكرًا على نصيحتك يا مستر «جنكيز»، وسلامًا، سوف أذهب للبحث عن عربة للذهاب سريعًا. شكرًا، هه؟ ومع السلامة للجميع.

وأشعل «مستر جنكيز» غليونه.

وتساءل أحد الرجال الملتفين حول المائدة: كم كأسًا من الويسكي شربت يا مستر جنكيز؟

فرد الأمريكي وغليونه في فمه وإحدى عينيه نصف مغلقة، والأخرى، زرقاء ناصعة، تحدق في شعلة الكبريت الصفراء الصغيرة: ثمانية عشر.

– وإنك محق تمامًا في ذلك، فالويسكي مشروب رائع، أليس كذلك؟

– لا علم لي! عليك أن توجه هذا السؤال إلى الناس الذين لا يشربونه انطلاقًا من يأسهم الكامل مثلي.

– لا تقل هذا يا مستر جنكيز.

– لماذا لا أقول ذلك ما دمت أعتقده حقًّا؟ في بلادي، كل شخص يقول ما يراه حقًّا. تمامًا.

– إن هذا ميزة رائعة.

– أوه كلا، إني أفضل ما تسيرون عليه هنا. إنكم تقولون ما لا تعتقدون، ما دام أنه جميل جدًّا.

– إذن ففي بلادك لا تتداولون الحكايات؟

– أوه كلا، على الإطلاق، ما عدا حكايات الإنجيل!

– كأس آخر یا مستر جنكيز؟

– أجل، أظن أنني سآخذ كأسًا آخر من الويسكي!

– برافو! إني أحب ذلك، إنك رجل على استعداد لأن تموت من أجل مبادئك.

– كيف هذا؟

– لقد قال صديقي إنك رجل على استعداد للموت.

– أجل، لقد فهمت ما قال عن الموت في سبيل المبادئ. كلا، إنني رجل يعيش في سبيل مبادئه. إن الحياة تضطرم في عروقي. أما الموت فلا أهمية له عندي، فسوف أموت حين يشاء الله.

– إن المستر جنكيز يريد أن تمطر السماء «ويسكي»!

– «کلا، کلا، لماذا؟ حينئذ لن يبيع أحد مظلات بل سيبيعون أقماعًا!» ثم أضاف بعد فترة جذب فيها أنفاس غليونه وتنفس في رقة بينما ضحك الآخرون: «إن ذا الوجه الملائكي شاب طيب، ولكنه إذا لم يفعل ما قلت له فلن يغفر له، بل سيُقضى عليه بدلًا من ذلك».

وفجأة، دخلت البار جماعة من الرجال في صمت. كانوا مجموعة كبيرة لدرجة تعذر معها دخولهم جميعًا من الباب مرة واحدة. وبقي معظمهم واقفًا لدى الباب أو بين المناضد أو بالقرب من حافة البار. لن يطول مقامهم في البار لذلك فالأمر لا يستحق الجلوس. وصاح رجل قصير نوعًا ما، مسن نوعًا ما، أصلع نوعًا ما، عليه دلائل الصحة نوعًا ما، مجنون نوعًا ما، غليظ الصوت نوعًا ما، قذر نوعًا ما: «صمتًا!»، ثم بسط إعلانًا مطبوعًا كبيرًا، وعاونه اثنان آخران من تثبيته على إحدى المرايا بالشمع الأسود. أيها المواطنون:

إن مجرد النطق باسم السيد رئيس الجمهورية هو بمثابة إلقاء نور مشاعل السلام على المصالح المقدسة للأمة التي غزت تحت حكمه الحكيم وستظل تغزو — أوجه التقدم في جميع المجالات، والنظام في كل شكل من أشكال التقدم! وبوصفنا مواطنين أحرارًا، واعين بالتزامنا بالسهر على مصيرنا (الذي هو مصير الأمة أيضًا)، وبوصفنا رجالًا نقف في صف الخير ونعادي الفوضوية، فإننا نعلن: إن خير الأمة هو في إعادة انتخاب رئيسنا العظيم ولا شيء غير إعادة انتخابه. إذ لماذا تخاطر بسفينة الحكم في بحار مجهولة، حين يكون قائمًا على دفتها أكمل رجل دولة في عصرنا، ذلك الذي سيضعه التاريخ عظيمًا بين العظماء، حكيمًا بين الحكماء، حرًّا، مفكرًا، ديمقراطيًّا؟ إن مجرد تصور وجود شخص غيره في هذا المنصب الخطير يصل إلى حد التعرض لمصير الأمة (الذي هو مصيرنا نحن أيضًا)، وإن من يجرؤ على ذلك بافتراض وجوده يستحق عزله بوصفه مجنونًا خطيرًا، فإذا لم يكن مجنونًا، فهو يستحق أن يقدم للمحاكمة بوصفه خائنًا لوطنه طبقًا للقانون! أيها الأخوة المواطنون: إن صناديق الانتخاب تنتظركم.

انتخبوا! مرشحنا! الذي! سيعيد الشعب! انتخابه!

وأثارت قراءة هذا المنشور بصوت عالٍ كثيرًا من الحماس العام في البار؛ وانبعثت صيحات وتصفيق. وبناء على طلب الجمهور، نهض رجل لا أثر للعناية في ملابسه، طويل الشعر أسود، جامد العينين، لإلقاء كلمة: «أيها المواطنون: إنني أفكر كشاعر ولكني أتحدث كمواطنٍ وطنيٍّ! الشاعر هو رجل اخترع سماءً، ولذلك يجب عليكم الاستماع إلى خطبة لا نظام فيها من الرجل الذي اخترع ذلك الشيء الجميل الذي لا نفع فيه والذي نسميه «سماء». حين كتب ذلك الألماني الذي لم يفهمه الألمان، كلا إني لا أعني بذلك «جيته» ولا «کانط»، ولا «شوبنهاور»، عن الرجل الخارق (السوبرمان) فإنه كان يتنبأ بلا شك بأنه سيُولد في أمريكا، من الأب الكون ومن الطبيعة الأم أول «سوبرمان» حقيقي على الأرض. إنني أتحدث أيها السادة عنه، عمن يفوق الفجر إشراقًا، عن الذي خلع الوطن عليه لقب «صاحب الجدارة والاستحقاق»، عن رئيس الحزب وحامي حمى الشباب المجتهد. إن من أتكلم عنه أيها السادة، كما لا شك قد أدركتم، هو رئيس الجمهورية الدستوري، الذي أشير إليه بوصفه «سوبرمان»، المخلوق الخارق الذي كتب عنه «نيتشه» … إني أقول وأردد ذلك من على هذه المنصة». وحين قال هذه العبارة، دقَّ على نضد البار بقبضة يده. «ولهذا أيها المواطنون، فرغم أنني لست ممن اتخذ السياسة معاشًا، فإنني أؤمن إيمانًا موضوعيًّا تامًّا مخلصًا بأنه نظرًا لعدم وجود «سوبرمان» أو «سوبر مواطن» آخر بيننا، فإنا نكون مجانين أو عميانًا، عميانًا أو مجانين على نحو إجرامي، إذا نحن سمحنا بأن تنتقل أعنَّة الحكم من يد ذلك «السوبر قائد» الذي يقود وطننا الحبيب الآن وإلى الأبد، إلى يد مواطن آخر، مواطن عادي، إلى مواطن، أيها الأخوة المواطنون، حتى لو كان يتمتع بكل الخصال الحميدة على الأرض، فلا بد أنه لا يزال مجرد إنسان. وهناك في قارة أوروبا العتيقة المستنفدة، قضت الديمقراطية على كثير من الأباطرة والملوك، ولكن علينا أن ندرك — وإننا لندرك — أنه وقد انتقلت الديمقراطية إلى قارة أمريكا. فهي: قد حُقنت بطُعم «السوبرمان»، الذي يكاد يكون إلهيًّا، وأنها تتبنى شكلًا جديدًا للحكومة هو «السوبر ديمقراطية». والآن، أيها السادة، سأتشرف بأن أنشد لكم …».

وصاح صوت: «أنشد أيها الشاعر، ولكن شيئًا غير القصيدة!»

– «… ليلية»، من «سي مايو»، موجهة إلى «السوبر فريد».

وتبع قطعة الشاعر الرائعة خطب أخرى أكثر حماسة منها، تهدفُ إلى الهجوم على الحزب الآخر «الشائن»، الذي يساند أميَّة «سان خوان»، ونظام التعاويذ والسحر وغيرهما من الملطفات الدينية. وأخذ أنف أحد الخطباء ينزف، وصاح عاليًا بين الكلمات كيما يحضر له أحدهم «قالب آجرٍ»، منقوع في الماء حتى يشمه ويوقف النزيف بذلك.

قال «مستر جنكيز»: الآن يكون ذو الوجه الملائكي بين الحائط والرئيس. إني أحب الطريقة التي يتحدث بها هذا الشاعر، غير أني أعتقد أن كون المرء شاعرًا هو أمر محزن للغاية؛ أما أن يكون المرء محاميًا فهو أشد الأمور بعثًا للحزن في الدنيا. والآن، سأطلب كأسًا آخر من الويسكي. وصاح: «ويسكي آخر لهذا «السوبرمان»!»

وحين كان ذو الوجه الملائكي يغادر مقهى «غامبریناس»، قابل وزير الحربية.

– إلى أين أنت ذاهب يا جنرال؟

– لمقابلة السيد الرئيس …

– إذن فلنذهب معًا.

– أأنت ذاهب إلى هناك أيضًا؟ إذن فلننتظر عربتي فلن يطول غيابها. بيني وبينك، لقد كنت الآن لدى إحدى الأرامل.

– إني أعرف أنك مغرم بالأرامل الطروبات يا جنرال.

– هيه، هيا، دعك من مداعباتك تلك.

– لم أكن مداعبًا، بل هي ملاحظة بسيطة.

– إنها ليست بالبسيطة، بل هي جديرة بالملوك!

– حقًّا؟

وسارت العربة في سكون كما لو كانت مصنوعة من ورق النشاف. كان الحراس مزروعين في أركان الطرقات، وسمعاهم ينقلون الإشارة فيما بينهم:

«وزير الحربية»، «وزير الحربية».

كان الرئيس يذرع حجرة مكتبه بخطوات قصيرة، مرتديًا قبعة تغطي جبهته، وياقة سترته مرفوعة إلى أعلى فوق لفاع رقيق، وأزرار صداره مفكوكة. حلة سوداء، قبعة سوداء، حذاء أسود.

– كيف حال الجو يا جنرال؟

– بارد يا سيدي الرئيس. وهاك ميغيل بدون معطف!

– سيدي الرئيس …

– كلام فارغ. إنك ترتجف، وستقول لي إنك لا تشعر بالبرد. إنك غير حكيم بالمرة. يا جنرال، أرسل أحدهم إلى منزل ميغيل ليحضر له معطفًا على الفور.

وخرج وزير الحربية مؤديًا التحية العسكرية، وكاد يتعثر في سيفه المتدلي على جانبه، في حين جلس السيد الرئيس على أريكة من الخيزران وقدم لذي الوجه الملائكي مقعدًا مجاورًا له.

وقال وهو يجلس: «کما ترى يا ميغيل، عليَّ أن أقوم بكل شيء بنفسي وأشرف على كل شيء، لأني أحكم أمَّة من «أصحاب النوايا». وحين لا أباشر الأمور بنفسي، لا بد أن أعتمد على أصدقائي». وصمت برهة ثم استطرد قائلًا: «إني أعني بتعبير «أصحاب النوايا» أولئك الذين ينوون القيام بشيء أو عدم القيام بشيء، ثم لا ينفذون هذا ولا ذاك نتيجة لافتقارهم إلى قوة الإرادة. وهم بهذا لا في العير ولا في النفير. فمثلًا، يمضي أصحاب الصناعة عندنا حياتهم مرددين مرارًا وتكرارًا: إني أنوي بناء مصنع، إني أنوي تركيب آلات جديدة، إني أنوي هذا، إني أنوي ذاك، وهكذا إلى ما لا نهاية. وأصحاب الزراعة يقولون: إني أنوي تجربة وسائل جديدة، إني أنوي تصدير منتجاتي؛ ويقول الكاتب: إني أنوي تأليف كتاب؛ والأستاذ: إني أنوي تأسيس مدرسة؛ وأصحاب الأعمال: إني أنوي القيام بهذه الصفقة أو تلك؛ والصحفيون — أولئك الخنازير ذوو كتل الدهن التي تغرق فيها أرواحهم — إني أنوي تحسين حالة المجتمع. ولكن، کما قلت لك، لا أحد ينفذ شيئًا، ولهذا فمن الطبيعي أنه يجب عليَّ أنا — رئيس الجمهورية — أن أقوم بكل شيء، وأتحمل كل لوم إلى جانب ذلك. ولك حتى أن تقول إنه لولاي لما كان هناك حظ ونصيب، إذ إن عليَّ أن أقوم بدور إلهة الحظ في سحب الأرقام الفائزة في اليانصيب …».

ومرَّ على شاربه بأطراف أصابعه الشفافة الرقيقة النحيلة البنية اللون. واستطرد قائلًا في نبرة صوت مختلفة: «وكل هذا يفضي بي إلى القول بأن الظروف تضطرني إلى الاستفادة من خدمات رجال مثلك، من النافع وجودهم إلى جواري، ولكنهم أشد نفعًا خارج الجمهورية، حيث مخططات أعدائي ومؤامراتهم وكتاباتهم الدنيئة تهدد حملة إعادة انتخابي بالخطر …»

وخفض عينيه كأنهما بعوضتان محتقنتان بالدماء، واستطرد يقول: «إنني لا أتحدث عن «كاناليس» وأتباعه، فالموت دائمًا كان أصدق حلفائي يا ميغيل! إني أتحدث عن الناس التي تحاول التأثير على الرأي العام في أمريكا الشمالية، أملًا في إثارة الشبهات حول صورتي في «واشنطون». وحين يبدأ حيوان متوحش سجين في قفص في تبديل شعره، فإن ذلك لا يعني أنه يريد من الآخرين نزع ما تبقى له من شعر بالقوة، أليس كذلك؟ حسنًا، إذن؛ هل أنا إنسان عجوز ذو عقل مخمور وقلب كالأبنوس في صلابته، كما يشيعون عني؟ دع السفلة يقولون ما يشاءون! أما أن يقوم الشعب نفسه، لأسباب سياسية، باستغلال ما قمت به کیما أنقذ وطني من مذابح هؤلاء الكلاب، فهذا شيء لا يمكن قبوله! إن إعادة انتخابي في كفة الميزان، وهذا هو السبب الذي أرسلت إليك من أجله يا ميغيل. عليك أن تذهب إلى «واشنطن» وتحضر لي من هناك تقريرًا مفصلًا عن سحب الكراهية والشكوك تلك، وعن المراسم الجنائزية التي تدور هناك والتي ليس فيها من دور محترم إلا دور الجثمان نفسه، كما يحدث في كل الجنازات».

فقال ذو الوجه الملائكي متلعثمًا، وهو مشطور بين رغبته في اتباع نصيحة «المستر جنكيز» بإلقاء أوراقه على المائدة، وبين خوفه من أن يفقد — نتيجة أي زلة لسان — فرصة قيامه بسفرة أدرك منذ البداية أنه قد يكون فيها خلاصه: «سيدي الرئيس، إنكم تعلمون أنني تحت أمركم دون قيد ولا شرط لأي غرضٍ كان؛ ومع ذلك، أرجو أن تسمحوا لي بأن أقول كلمتين نظرًا لأنني أردت دائمًا أن أكون أشد خدمكم إخلاصًا وتكريسًا. ذلك أنني أود — قبل أن أضطلع بهذه المهمة الدقيقة — أن أطلب من السيد الرئيس أن يتعطف — إذا لم ير مانعًا — ويأمر بإجراء تحقيق في الاتهامات الباطلة التي ترميني بأنني عدو للسيد الرئيس، والموجهة لي من جانب المدعي العسكري العام من ناحية …».

– ولكن، من ذا الذي يُلقي بالًا إلى هذه الترهات؟

– إن السيد الرئيس لا يمكن أن يشك في ولائي المطلق لشخصه ولحكومته، بيد أني لا أريده أن يوليني ثقته الكاملة قبل أن يكتشف ما إذا كانت اتهامات المدعي العسكري العام صحيحة أم باطلة.

– «إني لم أطلب منك النصيحة فيما يجب أن أفعل يا ميغيل! كفاك هذا! إني أعلم كل شيء عن هذا الموضوع، بل سأمضي قدمًا وأخبرك أن في مكتبي هذا الاتهام الذي صاغه المدعي العسكري العام ضدك وقت فرار الجنرال «كاناليس»؛ بل وأكثر من ذلك: بوسعي أن أقول لك إن عداوة المدعي العام لك ناتجة عن ظرف ربما تجهله تمامًا. لقد وضع المدعي العسكري العام، بالاتفاق مع الشرطة، خطة لخطف السيدة التي هي الآن زوجتك لبيعها إلى صاحبة بيت للدعارة، كان قد تلقى منها عشرة آلاف بيزو مقدمًا ثمنًا للتنازل لها عنها. وقد اضطر إلى الاستعاضة عنها بامرأة مسكينة هي الآن علي وشك الجنون من جراء ما تعانيه في ذلك البيت».

وجلس ذو الوجه الملائكي ساكنًا تمامًا، محاذرًا أن يُظهر أمام سيده أقل تغيير في ملامحه، دافنًا مشاعره في أعماق فؤاده وراء حاجز عينيه القطيفتين السوداوين. كان يحاكي كرسيه الخيزراني في شحوبه وبرودته.

«إذا سمح لي السيد الرئيس، فإني أفضل البقاء إلى جواره أدافع عنه بدمي».

– أتعني أنك لا تقبل ما أعرضه عليك؟

– كلا، إني أقبله قبولًا مطلقًا يا سيدي الرئيس.

– حسنًا جدًّا إذن. كل هذا لا لزوم له أبدًا، مجرد كلمات. ستنشر صحف الغد خبر رحيلك الوشيك، ولا يمكنك أن تخذلني. ولدى وزارة الحربية أوامر بإعطائك اليوم ما تحتاج إليه من نقود للاستعداد. وسأرسل إليك نفقات الرحلة والتعليمات في محطة القطار.

وبدأ ذو الوجه الملائكي يشعر بدقات ساعة في باطن الأرض تشير إلى مرور الوقت المحتوم. ومن خلال نافذة مفتوحة على مصراعيها، مدت عيناه، تحت حاجبيه السوداوين، نظرهما ورأتا ركية نيران تتوقد إلى جوار دغل من أشجار السور الخضراء الداكنة وجدرانا من الدخان الأبيض، في وسط فناء شبه مطموس المظهر وسط الظلمة المطبقة. وكانت ثمة مجموعات من الحراس واقفة هناك تحت النجوم البازغة. ووقف أربعة أطياف لقسس في جوانب الفناء، الأربعة يرتدون طحالب كالعرافين الباطنيين، والأربعة ذوو أياد مغطاة بجلد الضفادع الأخضر الصفراوي، والأربعة عيونهم مغلقة في الجانب المشرق من وجوههم، ومفتوحة في جانبه المظلم. وفجأة، دوی قرع طبول: طم طم، طم طم، طم طم، وظهر عدد كبير جدًّا من الرجال متخفين في صورة حيوانات، يتقافزون في صف يسير الواحد منهم فيه خلف الآخر. ومن وسط عصا الطبول النابضة الملطخة بالدماء، هبطت سرطانات البحر من الهواء الساقط وجرت الديدان من النيران الساقطة. ورقص الرجال، حتى لا يظلوا مزروعين في الرياح، على إيقاع الطبول، وهم يغذون ركية النار بزيوت «التربنتينا» الساقطة من جباههم. ومن وسط الظلال التي لها لون الروث، بزغ رجل ضئيل الحجم ذو وجه يماثل الفاكهة المجففة، ولسانه مدلى بين فكيه، والأشواك على جبهته، وليس له آذان، يرتدي حول سُرَّته حبلًا من الصوف تتدلى منه رءوس محاربين وأوراق القرع العسلي. وذهب ينفخ في النيران المتجمعة، وبعث بهجة عمياء في نفوس الرجال الحيوانات إذ تناول بعض النار في فمه ولاكها بين أسنانه كما لو كانت قطعًا من اللَّادن دون أن يحترق. وصدرت صيحة من الظلمة التي تلف الأشجار، وارتفعت من هنا ومن هناك أصوات الحداد من القبائل التي كان رجالهم يتحاربون ويتقاتلون فيما بينهم منذ الميلاد: بأحشائهم، فقد كانوا رجالًا حيوانات؛ وبجلودهم، فقد كانوا طيور العطش؛ وبخوفهم، وبقيئهم، وبحاجاتهم الجسمانية، ضارعين إلى «توهیل» — واهب النار — أن يرد عليهم شعلة النار الموقدة. ووصل «توهيل» ممتطيًا نهرًا من صدور الحمامات يفيض كاللبن. وهرعت الغزلان إليه حتى لا يتوقف سيل المياه، وكانت قرونها في رقة الأمطار، وسقطت حوافرها الصغيرة على الرمال البهيجة في خفة الهواء. وهرعت الطيور إليه حتى لا يتوقف خيالها السابح على صفحة المياه طيور عظامها أرق من الريش الذي يغطيها. وترددت وقع أقدام من أعماق الأرض: راتبلان … راتبلان … راتبلان!

وطلب «توهيل» قرابين بشرية. وعرضت القبائل أمهر صياديها في محضره، وسهامهم مشرعة في الهواء ومقاليعهم معبأة.

وسأل «توهيل»: وهل يصطاد هؤلاء الرجال رجالًا آخرين؟

وترددت وقع الأقدام من أعماق الأرض: راتبلان … راتبلان … راتبلان!

وردت القبائل: «سنُنفذ ما تطلب على شرط أن تقوم يا واهب النار بإعادة النار إلينا، حتى لا يتجمَّد بعد الآن لحمُنا، ولا الهواء، ولا أظافرنا، ولا ألسنتنا، ولا شعرنا! على شرط ألا تمضي في تدمير حياتنا وإخضاعنا إلى حياة هي الموت ذاته!» وقال «توهيل» «إني راضٍ!»

وتردد وقع الأقدام من أعماق الأرض: راتبلان … راتبلان … راتبلان!

– «إني راضٍ! إني أستطيع أن أسودَ الرجال الذين يصيدون رجالًا. ولذلك فلن يكون هناك لا موت حقيقي ولا حياة حقيقية. والآن، ارقصوا رقصة الأبواق من أجلي!»

وتناول كل محارب صياد بوقه ونفخ فيه نفخًا متواصلًا دون أن يتوقف لالتقاط أنفاسه، على إيقاع الطبول والصدى ونغمات الهواء، مما جعل عيني «توهيل» ترقصان.

وبعد هذه الرؤيا العجيبة التي ليس لها ما يفسرها، استأذن ذو الوجه الملائكي من الرئيس، وعند خروجه، ناداه وزير الحربية وناوله رزمة أوراق مالية ومعطفه. قال بصعوبة: ألست خارجًا یا جنرال؟

– وددت لو استطعت. ولكن ربما لحقت بك هناك، وإلا فسنتقابل يومًا آخر، عليَّ أن أكون هنا الآن، کما ترى، ولوى رأسه فوق كتفه الأيمن «أستمع إلى صوت سيدي».

١  توهيل: إله المطر في أساطير «المايا» بغواتيمالا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤