الفصل الأول

(المنظر: المسرح مُقسَّم إلى قسمين: حجرة هي جزء من بيت، والقسم الثاني مقهًى في عهد هارون الرشيد، الوقت في الفجر، المسرح مُضاء إضاءة باهتة، يُسمع صياح الديك والأذان فيستمرُّ الصمت حينًا ثم تخرج السيدة جمالات، وهي سيدة في منتصف العمر، يبدو عليها أنها كانت نائمة، تتقدَّم إلى النوافذ فتفتحها، فتضيء الحجرة بعض الشيء والأذان مستمر. المفروض في هذا الفصل أن يكون عبور الناس على المقهى مستمرًّا طوال الفصل بشكل قوي وملموس بحيث لا تكاد تمرُّ دقيقة دون أن يمرَّ عابر سبيل مرورًا سريعًا فيه لهفة وقلق واهتمام وإصرار، ويحسن أن يكون هؤلاء المارَّة لهم علامات مميزة في ملابسهم.)

جمالات : الله أكبر الله أعظم، صبحنا وصبح الملك لله، يا فتَّاح يا عليم يا رزاق يا كريم، (وتفتح دولابًا وتُخرج منه بعض الخبز وبعض أطباق تضعها على المائدة) يا قمر، قمر، قومي يا بنتي ساعديني. قمر! قمر!

(وتدخل قمر إلى المسرح وهي تغالب النوم.)

قمر : نعم يا أم.
جمالات : ساعديني يا بنتي.
قمر : فيمَ أساعدك يا أم؟
جمالات : يوه! ألا تعرفين فيم؟ جهزي معي الفطور لأبيك.
قمر : يا أم توكلي على الله. وهل هناك فطور حتى أجهزه؟!
جمالات : لماذا؟ البيت عامر والحمد لله. هل جُعتِ يومًا؟!
قمر : يا أم الجوع هو الأكل الذي نأكله.
جمالات : يا بنتي قولي يا فتَّاح يا كريم. الأكل مِلْءُ البيت.
قمر : أين يا أم الأكل؟ أتسمِّين هذا أكلًا؟!
جمالات : ماذا أسميه إذن؟!
قمر : وتريدين أن أساعدَكِ أيضًا! بالذمة فيمَ أساعدك؟! لقد جهَّزْتِ أنتِ كلَّ شيء في غمضة عين.
جمالات : وماله، قفي معي وتظاهري بأنكِ تخدمين أباكِ. الرجال يحبون أن يروا نساء بيوتهم يخدمْنَ طلباتهم. اعملي كأنكِ تجهزين الأكل وكأنكِ مشغولة يفرح بكِ أبوكِ وأفرح أنا أيضًا.
قمر : آه! هذا ما تريدين إذن.
جمالات : وهل هذا قليل؟
قمر : قولي إذن هذا ولا تقولي جهزي الفطور؛ فإن الفطور دائمًا لا يحتاج إلى تجهيز.
جمالات : يا أختي من يسمعك تقولين هذا الكلام يحسب أنك تطمعين في عيشة القصور.
قمر : يا أم توكلي على الله، ما لنا وما للقصور؟
جمالات : تحبِّين فتًى مُعدمًا لا يحمل إلا الكلام المزوق.
قمر : وماله يا — أم — إسماعيل؟ أليس يعمل في ديوان الخليفة؟
جمالات : كاتب.
قمر : وما عيب الكاتب؟
جمالات : بائع كلام.
قمر : ولكنه كلام جميل.
جمالات : يصنعه بأمر رئيس الديوان ثم لا يكسب إلا بضعة دراهم.
قمر : نعمة.
جمالات : دراهم إسماعيل نعمة وأكلنا لا يعجبك.
قمر : وهل قلتُ إن أكلنا لا يعجبني؟
جمالات : فماذا كنتِ تقولين من الصبح؟
قمر : كل ما قلتُ إن الأكل عندنا لا يحتاج إلى تجهيز.
جمالات : غدًا نرى الأكل في بيتِكِ.
قمر : لن يكون أحسن من بيتك.
جمالات : فلماذا يا بنتي تُصرِّين على هذا الزواج من هذا الفتى المنكود؟! بذمتك ما الذي يعجبُكِ فيه؟
قمر : هو.
جمالات : نعم؟!
قمر : يعجبني هو … هو بكل شيء فيه … طيِّبٌ يحبُّ الخير للناس، ولا يفكر إلا في خير الجميع.
جمالات : كسبنا صلاة النبي! وهل يملك الخير لنفسه حتى يقدِّمَه للجميع؟! أقرع ونُزَهي!
قمر : ليس المهم أن يقدم الخير للجميع، إنما المهم أن يحبَّ الخير لهم.
جمالات : ومن أدراكِ أنه يقدِّمُ الخير لأحد إذا أصبح غنيًّا؟ هذا يا بنتي كلام الفقراء يقولونه؛ لأنهم لا يملكون ما يعطونه، أما إذا شبع فعلى حبِّ الخير السلام.
قمر : لا يا أم، إنه ليس كذلك.
جمالات : ليس كذلك! وكيف عرفْتِ؟
قمر : لقد كان غنيًّا وظلَّ يوزِّع أمواله على الناس.
جمالات : حتى أصبح على الحديدة؛ خائب … لو كان ذكيًّا لاستثمر هذا المال، ثم أعطى منه للفقراء.
قمر : نعم. لعلِّي أوافقُكِ على هذا. ليس إسماعيل ذكيًّا في معاملة الأموال ولكنه طيب.
جمالات : وماذا ستفعلين بهذه الطِّيبة؟
قمر : أعيش في ظلها، أتمتع بروحه الحلوة.
جمالات : وتجوعين؟
قمر : لن أجوع. ثم إنني يا أم تعودت على الجوع في بيتنا. لن تكون حياتي شرًّا مما هي الآن.
جمالات : وهذا سببٌ يجعلُكِ تقبلينها! يا بنتي أنت جميلة، وألفٌ يتمنَّى أن تكوني في بيته. طاوعيني يا قمر!
قمر : يا أم أهذا كلام يقال على الصبح؟
جمالات : يا بنتي وهل لنا في الدنيا إلا أنتِ؟
قمر : على كل حال الأمرُ أمرُ أبي.
جمالات : أبوك فرحان بوظيفة إسماعيل.
قمر : أنا لا أعصي أمرَ أبي.
جمالات : لا تطمئنِّي كلَّ الاطمئنان إلى رأي أبيك.
قمر : ماذا تقصدين؟
جمالات : لا شيء، ولكن لاحظي دائمًا أنه لم يتقدَّمْ لكِ حتى الآن خيرٌ من إسماعيل.
قمر : تقصدين أنه لو …
جمالات : أنا لا أقصد شيئًا. هيَّا نادي أباكِ ليتناول فطوره.

(يظهر في المقهى عمارة صبي المقهى ويبدأ برفع الكراسي وإعداد المقهى لاستقبال الزوار.)

عمارة : نرفع الكراسي وننظف المناضد ونُعِدُّ الفناجين، والذي نبيت فيه نصبح فيه، والأرزاق على الله …

(يغنِّي):

ولقد قالت لجارات لها
إذ تعرَّت ذات يوم تبترد
أكما ينعتني تبصرني
عمركن الله أم لا يقتصد
لا يقتصد يا ستي لا يقتصد. وهل هناك شاعر يقتصد؟! لا يقتصد، ولماذا يقتصدون؟ هل يدفعون في الكلام فلوسًا؟ كله مجانًا، وهات يا شعر ورص يا شاعر؛ فلماذا يقتصد؟

(يعود إلى الغناء):

فتضاحكْنَ وقد قلن لها
حسن في كل عين من تود
معلوم … حسن في كل عين من تود. لو لم يكن حسن في كل عين من تود كانت قمر تحب إسماعيل! إنما حسن في كل عين من تود. والله كلام حِكَم … قل يا سيدي قل، آه يا كلام! وهل شفنا المصائب إلا من الكلام. إسماعيل يتكلم وقمر تحب، ورحنا نحن في داهية … والصفقة خاسرة بإذن الله.

(يترنَّم بالغناء دون أن يتكلم.)

جمالات : يا بنتي نادي أباك! لم تكن كلمة هذه.
قمر : يا أم، لقد خوفتني حتى أكاد أموت.
جمالات : لماذا؟
قمر : ألم تقولي إن أبي قد يُغيِّر رأيَه؟
جمالات : أكلُّ هذا من أجْل إسماعيل؟
قمر : القلب وما يهوى يا أم.
جمالات : هوى الشوم واللوم. لو كان غنيًّا! لو كان أنيقًا! لو كان جميلًا!
قمر : لا يا أم، لا حقَّ لكِ، هل رأيتِ في حياتك أجمل من إسماعيل؟
جمالات : إسماعيل جميل؟!
قمر : في عيني أنا ليس أجمل منه.
جمالات : عَمَى في عينك؛ فأنتِ إذن لا ترَيْنَ أحدًا.
قمر : يا أم، أنا أرى من الرجال أكثر مما ترى بناتُ بغداد جميعًا. المقهى تَعرِضُ عليَّ في كل يوم أشكالًا وألوانًا.
جمالات : وكل من ترينهم في المقهى إسماعيل أجمل منهم؟!
قمر : في مرة رأيت رجلًا غنيًّا، أنيق الهِندام، عظيم الشكل، مهيب الطلعة، فرُحْتُ أقارن بينه وبين إسماعيل.
جمالات : وماذا كانت نتيجة المقارنة؟
عمارة (مغنِّيًا) : حسنٌ في كل عين من تود … حسنٌ في كل عين من تود.
قمر : قلت هذا غني وإسماعيل فقير، هذا وجيه وإسماعيل (تصمت قليلًا)، شاب لا يعتني بالوجاهة، هذا شاب وإسماعيل أيضًا شاب، هذا لا أعرف عنه شيئًا وإسماعيل طيب.
جمالات : إذن فالرجل الآخر أحسن.
قمر : أبدًا.
جمالات : كيف؟
قمر : إسماعيل هو مَن أُحِبُّ … أتعرفين يا أم معنى كلمة أحب؟ أحب … هذه الكلمة البسيطة التي جعلت ليلى العامرية تعيش حتى الآن، وجعلت لُبنَى تحيا معنا كأنها في عصرنا هذا، وجعلت بُثَينة واحدة من جيلنا ومن كل الأجيال التي سبقتنا حتى الآن، وجعلت عزة، أتعرفين يا أم عزة؟
جمالات : حبيبة كُثَير.
قمر : أتعرفين كُثَير يا أم؟
جمالات : لا أطيق الشعر ولا الشعراء.
قمر : أنا أتكلم عن كُثَير الرجل، أتعرفينه يا أم؟
جمالات : وهل رأيتِني أقرأ أو أكتب؟!
قمر : أَعرفُ أنَّكِ لا تقرئين ولا تكتبين، ولكن ألم تسمعي عنه؟
جمالات : منكِ نستفيد.
قمر : كان كُثَير قصيرًا قبيحًا دميمًا.
جمالات : وبعد؟
قمر : ومع ذلك فقد أحبَّتْه عزة أشدَّ من حبِّه لها.
جمالات : كان شاعرًا وكانت البنات في ذلك الحين عقولهن فارغة ويفرحْنَ بالشعر. أما إسماعيل — اسم النبي حارسه — لا يستطيع أن يُكمِلَ بيتًا من الشعر.
قمر : ليس المهم الشعر.
جمالات : يا بنتي هل جئتُ بسيرة الشعر؟! ألستِ أنتِ التي …؟!
عمارة (مقاطعًا) : حسن في كل عين من تود … حسن في كل عين من تود.
قمر : المهم هو الحب الذي جعل هؤلاء الشعراء يقولون … إن الشعر الذي قالوه يا أم هو الكلام الذي أراد المحبُّون في كل زمان ومكان أن يقولوه فقاله عنهم هؤلاء الشعراء. الحب يا أم هو الذي جعل هؤلاء الشعراء ينطقون.
جمالات : يا أختي لا تُقلقيني … أي شعر وأي كلام فارغ، ألم تَرَي الشاعر نور الدين ملقًى على المقهى ليلَ نهار يكتب الشعر في مدح الخليفة ثم يكاد يموت من الجوع؟
قمر : ولكنه سعيد.
جمالات : سعيد؟! أهذا البائس الشحاذ سعيد؟! فمن إذن التعيس؟!
قمر : الناس جميعًا إلا هو، إنه حين يكتب شعرَه يصبح أسعد الناس جميعًا.
جمالات : يا أختي ومَن أدراكِ؟! فهل كتبتِ الشعرَ أنتِ أيضًا؟!
قمر : أعرف أعرف، انظري إلى نور الدين.
جمالات : منجوس ومنحوس من يومه.
قمر : هذا في رأيِكِ أنتِ، أما إذا نظرتِ إلى حقيقته … إلى مقدار السعادة التي يعيش فيها.
جمالات : مُهرِّج. أهذا ما يُعجبُكِ فيه؟! مُهرِّج.
قمر : بل سعيد، شخص سعيد يحب أن يستقبل الحياة بالضحك دائمًا.
جمالات : وهو مفلس؟!
قمر : وما يهمُّه؟
جمالات : يترك أولاده جياعًا عرايا وهو يضحك.
قمر : فهل إذا حزن يأتي لهم بالطعام والملبس؟!
جمالات : على الأقل يصحو إلى خيبته … يبكي على حاله.
قمر : إنه لو فعل لامتنع الأكل عن أولاده العمر كله.
جمالات : لا يا شيخة؟!
قمر : وحياتك.
جمالات : وكيف هذا وحياة أمك؟
قمر : إنه شخص يعتمد على صفاء روحه … على روحانيته، لو أصبحت رُوحه مظلمة، لامتنع عليه أن يكتب شعرًا في مدح الخليفة، ولأقفل في وجهه باب الرزق الوحيد.
جمالات : ألَا يكتب شعرًا إلَّا إذا ضحك؟
قمر : الشعر الذي يعجب الخليفة لا بد أن يضحك صاحبه، لو أنه حزن وكتب الشعر لغضب عليه الخليفة، ومنع عنه الرزق.
جمالات : والنبي يا بنتي رِزق الهِبل على المجانين، صدق من قال … نادي أباك.
قمر : يا آبا (تخرج من المسرح).

(يظلُّ عمارة ينظِّف في المقهى مغنيًا، يدخل بعضُ أفرادٍ للمسرح ويعبرونَه إلى الباب الآخر، يدخل أبو الحسن والد قمر.)

أبو الحسن : يا فتَّاح يا عليم يا رزاق يا كريم! هيه يا قمر، هل الفطار جاهز؟
قمر (تدخل خلفه) : جاهز من الصبح يا أبي.
أبو الحسن : اطلعي إلى المقهى، شوفي إن كان عمارة أحسن تنظيفها أم لا.
قمر : أمرك يا أبي! ألا تريد شيئًا؟
أبو الحسن : سلامتك.

(تخرج إلى المقهى – يزداد النور في المقهى ويخفت في البيت.)

قمر : صباح الخير يا عمارة.
عمارة : صباح النور يا ست الحسن والجمال.
قمر : هل نظَّفتَ المقهى؟
عمارة : أصبحت كالفُلِّ أو كالياسمين … من الصبح أنظف فيها وحياتِك إن لم تكن مقهاكِ أنظف مقهًى في بغداد، فأنا أستحق الضرب والإهانة.
قمر : وأين الزبائن؟
عمارة : لم يأتوا بعدُ. نحن ما زلنا في أول النهار.
قمر : وأين الشيخ الذي أصبح يفتتح المقهى كل يوم؟
عمارة : موعدُه لم يأتِ بعدُ. اسكتي، عرَفْتُ مَن هو.
قمر : صحيح؟
عمارة : وحياتِك.
قمر : من؟
عمارة : تاجر من أكبر التجار، غني … غناه فاحش.
قمر : وماذا يريد من مقهانا؟
عمارة : الله! تعجبُه المقهى. ألَا تعجبُكِ المقهى؟
قمر : فقط، ألا يأتي إلى هنا لأن المقهى تعجبه؟!
عمارة : وماذا في هذا؟
قمر : ولد يا عمارة، تخفي شيئًا؟
عمارة : الحقيقة نعم. أخفي شيئًا.
قمر : وما هو؟
عمارة : الشيخ يحبُّكِ.
قمر : وهل رآني؟
عمارة : وهل يأتي هنا إلَّا لأنه رآكِ؟
قمر : هل جُنِنْتَ؟
عمارة : وإن جئتِ للحقِّ، وَسَّطَني، لأكلِّمَ عم أبا الحسن.
قمر : وهل كلمتَه؟
عمارة : وهل يُعقَلُ أن أفعل هذا دون أن أسألَكِ؟
قمر : ألَا تعرفُ جوابي؟
عمارة : أعرفه.
قمر : فلماذا تسألُني إذن؟!

(يمرُّ بائعُ أشياءَ قديمة بالمقهى ينادي.)

البائع : تحف وهدايا، تحف، هدايا وتحف، هدايا.
عمارة : يا عم، يا عم، هل أصابك العمى في نظرك؟! هل ترى أحدًا في المقهى حتى تنادي؟! قل يا صبح يا راجل وتوكَّل على الله.
البائع : يا بني هذا عملي؛ عليَّ أن أناديَ والباقي على الله.
عمارة : ألَا تنتظر حتى تجد أحدًا تُنادي له، أم هو نداء والسلام؟
البائع : عملي يا ابني؛ عملي أن أنادي. تحف وهدايا تحف.

(يَخرج من الباب الآخر.)

عمارة : لعلَّكِ تُغيِّرينَ رأيَكِ. هل في هذا بأس؟ الواجب أن أسألَكِ.
قمر : اسمع، لكَ منِّي دينار ولا تقل لأبي شيئًا.
عمارة : لقد عرض هو عشرة دنانير؟
قمر : ومن أين لي بالعشرة دنانير؟
عمارة : من إسماعيل.
قمر : أنت أعلم بالحال.
عمارة : فلماذا تُحِبِّينَهُ إذن؟! قسمًا عظمًا بالله إني أكسب أكثر منه. أيعجبُكِ منه الحديث المزوق، وقوله كنتُ مع الخليفة وجئتُ من عند الخليفة؟! أهذا كل ما يعجبُكِ منه؟!
قمر : ولد يا عمارة!
عمارة (في ثورة هينة) : ألا تقول الحق؟! الحق دائمًا ابن كلب يزعل الناس.
قمر : ولد.
عمارة : سكتنا، ماذا قلتِ في الدنانير؟
قمر : أعطيكَ كلَّ شهر دينارًا.
عمارة : على عشرة أشهر؟! لماذا؟! ما الذي يجعلني أنتظر عشرة أشهر؟! وراءنا مصاريف يا ست قمر والحال كما تعلمين.
قمر : أعطيكَ كلَّ شهر دينارين.
عمارة : لا بأس من أجْل خاطرك.
قمر : على شرط.
عمارة : وشرط أيضًا!
قمر : تقول لهذا الرجل إني مخطوبة، ولا تجعلْه يأتي إلى هذا المقهى أبدًا.
عمارة : وأطرد الزبائن أيضًا؟!
قمر : هذا الزَّبون فقط. لو عرَفَ أبي بغناه صمَّمَ على زواجي منه. هيه ماذا قلت؟
عمارة : ولو عرَفَ أنِّي طردتُه طردَني أنا وأصبحتُ بلا عمل.
قمر : وهل ستطردُه؟
عمارة : ألستِ تُريدينَني أن أطردَه؟!
قمر : أنا لم أقل هذا. كل ما في الأمر أنَّكَ ستقول له إنني مخطوبة، وأن خطيبي رجلٌ قاتل سفَّاك لا يتورَّعُ عن قتلِه لو عرَفَ أنه يريد أن يتزوَّجَني … و… فقط.
عمارة : لا، بسيطة؛ فكيف يكون الطرد إن لم يكن هكذا؟!
قمر : إذن، فماذا ترى؟
عمارة : سأقول له إنَّكِ مخطوبة، بالله ما الذي يُعجبُكِ في إسماعيل؟!
قمر : لا شأنَ لكَ، ماذا ستقول للتاجر؟

(يدخل إسماعيل إلى المسرح.)

عمارة : و… و… يا أهلًا بالسيد إسماعيل، يا أهلًا بالكرم والذوق والكياسة والرياسة.
إسماعيل : كيف أنتَ يا عمارة؟ صباح الخير يا قمر.
عمارة : أهلًا، أهلًا.
قمر : كفى يا عمارة! كفى! اذهب.
عمارة : أذهب! أذهب هكذا دون أن أعرف ماذا يريد السيد السند؟
قمر : أهو زَبون؟
عمارة : طبعًا.
قمر (تلتفتُ إلى إسماعيل) : هل أنتَ زَبون؟!
إسماعيل : طبعًا.
قمر : هل جننتَ يا عمارة؟
إسماعيل : لماذا؟
قمر : ألا تعرفُ مكانَه من البيت؟
عمارة : مكانه من البيت أعرفه، إنما المقهى مقهًى وليست بيتًا.
قمر : هل جُننتَ؟
عمارة : والله إن جئتِ للحقِّ نعم.
قمر : ولد.
عمارة : يا ست قمر، خلي الطابق مستورًا.
قمر : هذا لا يصحُّ أبدًا.
عمارة : وأنا ما ذنبي؟
قمر : أتقصد أن …
عمارة : نعم.
قمر : أبي.
عمارة : أبوكِ يذبحني إن خرج طلبٌ ولم يُدفَعْ ثمنُه.
قمر : هل سألتَه عن إسماعيل؟
عمارة : من غير سؤال، نبَّهَ عليَّ ألَّا أسألَه.
إسماعيل (وقد كان يضحك طوال فترة الحديث) : ماذا جرى يا قمر، هي الحكاية تستحقُّ كل هذا الاهتمام؟
قمر : المسألة مسألة أصول.
إسماعيل : الأصل أن أدفع ثمن ما أريد في المقهى.
عمارة : أبو الأصول أنتَ والله، أبو الأصول يا سيد إسماعيل يا عترة.
إسماعيل : هات فنجان قهوة يا عم عمارة.
عمارة : شفت. وأنتِ ألا تريدين شيئًا.
قمر : امش يا لُكَعْ.

(يذهب عمارة إلى المكان الذي تُعَدُّ فيه الطلبات.)

إسماعيل : صباح الخير.
قمر : لم تذهب اليوم إلى الديوان.
إسماعيل : ليس عندنا عملٌ اليوم، قلتُ أنتهز فرصة الصباح والمقهى خالية لعلي أقعدُ معكِ على انفراد.
قمر : خير ما فعلتَ. لقد كنتُ فعلًا أريد أن أراكَ.
إسماعيل : أيأتي عليكِ وقتٌ لا تريدين فيه أن تَرَيْني؟!
قمر : لا أدري، ولكني اليوم فعلًا كنتُ أريد أن أراكَ.
إسماعيل : قولي لي يا قمر، لماذا أجد كل الكلام الذي قيل في الحب قديمًا لا جِدة فيه ولا طرافة؟! كلما أردتُ أن أقولَ لكِ كم أحبُّكِ وجدتُ كلامي سخيفًا لا يليق بكِ.
قمر : ألهذا لم تقل لي أحبُّكِ أبدًا؟!
إسماعيل : أرجو أن تعرفي مقدار حُبِّي من تصرفي لا من كلامي.
قمر : وما عيبُ الكلام؟! أليس صناعتَكَ؟
إسماعيل : هذه هي المصيبة؛ لا أحب أن أصنع لكِ الكلام.
قمر : ولكني أحبُّ أن أسمعَه منكَ.
إسماعيل : حتى ولو كان كلامًا قديمًا قاله الناس قبلنا ملايين المرات؟
قمر : نعم.
إسماعيل : قاله المنافق والكذَّاب، وقاله المتكلِّف، وقاله السخيف الذي يريد أن يخدع فتاة لا يحبُّها.
قمر : أحبُّ أن أسمعَه منكَ.
إسماعيل : ولكن أنا لا أحبُّ أن أقولَه لكِ.
قمر : إذن فإنك لا تحبني.
إسماعيل : ماذا؟
قمر : فلماذا لا تقول؟
إسماعيل : لأنَّكِ عندي أكبر من أن أقول لك أحبُّكِ! أنتِ أكبر من كلمة الحب ومن معنى الحب! أنتِ حياتي التي تحيا بها حياتي! أنت …
قمر : اسكت، لا تقل أكثر من هذا؛ هذا ما كنتُ أريد أن أسمع.
إسماعيل : أكنتُ محتاجًا لأن أقول هذا، حتى تعرفي مقدارَ حُبِّي؟
قمر : لا، ولكن كنتُ أنا محتاجة لأن أسمع منكَ هذا.
إسماعيل : لماذا؟
قمر : لا أدري؛ فقد كنت أريد أن أسمع هذا.
إسماعيل : يا حُبِّي، يا قمرَ الزمان.
قمر : يا حُبِّي يا إسماعيل.
عمارة : القهوة.
إسماعيل (وكأنه صحا من حلمه) : ماذا؟ آه! شكرًا.
عمارة : عفوًا (ويظل واقفًا).
قمر : قال لك شكرًا.
عمارة : وأنا قلتُ عفوًا.
قمر : فماذا تنتظر؟! لقد قال لك شكرًا.
عمارة : فقط شكرًا هذه لا أستطيع أن أضعها في حساب أبيك.
إسماعيل : آه! صحيح، خذ.
قمر : وماذا تريد أكثر من هذا؟
عمارة : شكرًا، هذا حساب القهوة.
إسماعيل : آه صحيح، خذ يا عمارة وهذا لك.
عمارة (يأخذ ما يعطيه له إسماعيل ويُطبِقُ عليه يدَه، ويقول في استنكار) : شكرًا (وينصرف) حسن في كل عين من تود.
إسماعيل : لعن الله الفقر يا قمر.
قمر : غِنَى النفس هو كل شيء، وأنت يا إسماعيل أغنى الناس نفسًا.
إسماعيل : هذا كلام اخترعه الشعراء؛ لأنهم فقراء.
قمر : ولكنه كلام صادق.
إسماعيل : لو كان صادقًا، لأحبَّني عمارة، ولكنه لا يحبُّني.
قمر : ألا يكفي أن أُحبَّكَ أنا؟
إسماعيل : إنَّ حبَّكِ لي هو النور الذي يضيء لي جنبات الحياة.
قمر : ألا يكفي هذا؟
إسماعيل : لا، لا يكفي.
قمر : ألا يكفي أن يكون لك نور يُضيء لك جنبات الحياة؟!
إسماعيل : في هذا النور أسير، وفي سَيْري أرى الناس فقراء تأكلهم الحياة أكلًا، وتطحنهم بأيامها طحنًا عنيفًا قاسيًا، وينظرون إليَّ يريدون أن أُعينَهم، وأنا لا أقدِّمُ لهم إلا ما عندي من حيث طيب، ومن مشاركة في آلامهم، ولكنهم أبدًا لا يريدون هذا. إنهم يريدون من يرفع عن أعناقهم أظافر الفقر المفترسة السفَّاكة، فلا يهمُّهم حديثي في شيء، ولا يحبونني؛ فالفقراء لا يُحِبُّون الفقراء يا قمر الزمان، والأغنياء أيضًا للأسف لا يُحِبُّون الفقراء.
قمر : قد يَعطفونَ عليهم.
إسماعيل : الفقر يُلهي الناس عن كل العواطف يا قمر الزمان. الفقير يريد أن يطمئن على قوت يومه وغده، وهو أبدًا لا يستطيع أن يطمئن. هو في خوف من غده دائم، وإذا تسلَّط الخوفُ على النفس فهي هباء. لا يستطيع الإنسان أن يعمل وهو خائف يا قمر الزمان.
قمر : ولكن لعل الخوف هو الذي يجعله يعمل.
إسماعيل : إذا اطمأنَّ الناسُ عمِلوا، وإذا أحاط بهم الذُّعرُ انهارت منهم العزائم.
قمر : ولكن الناس يعملون.
إسماعيل : يعملون بجزء من عقولهم يسير، أما الجزء الأكبر من نفوسهم وعقولهم فحبيس الخوف والذُّعر والقلق من الغد ومن الفقر.
قمر : هكذا الحياة.
إسماعيل : يجب أن تتغيَّرَ الحياة. يجب أن يطمئنَّ الناسُ؛ سترَيْنَهم حينئذٍ يعملون أعظم الأعمال وأروعها.
قمر : إنَّ لكَ أفكارًا عجيبة.
إسماعيل : وما فائدة الأفكار؟
قمر : تجعلُني أحبُّكَ.
إسماعيل : ولكنها لا تجعلني أحصل لك على المهر!
قمر : إن هذه الأفكار تجعلك بين الناس منفردًا، ليس للناس فيهم مثيل.
إسماعيل : ولكنها لا تغني الناس ولا تجعل الفقراء يحبونني، بل هي حتى لا تجعلني أحترم نفسي … مجرد أفكار، فقاعات في المخ، فقاعات من الهواء، تأتي وتقال ثم تمضي بلا أثر.
قمر : ولكن جميع ما حقَّقَتْه الحياة كان نتيجة هذه الأفكار.
إسماعيل : وما الذي حقَّقَته الحياة؟! هذا الخوف للناس وهذا الفقر، وهذا الذعر، وهذا الكره؟ ماذا حقَّقَت الحياة للناس؟!
قمر : إسماعيل! إني أحبُّكَ.
إسماعيل : مع أنِّي فقير، ولا أستطيع أن أقدِّمَ لأبيكِ المهرَ الذي يريد لنتزوج.
قمر : ولكني أحبُّكَ.
إسماعيل : أرى الناس وأشقَى بشقائهم، وأتذكَّرُ حُبَّكِ فكأنما ألقَى واحةً في صحْراء الشتاء، وأقول في نفسي ولكنَّ الناسَ ليس لهم واحةٌ مثل واحتي فأعود إلى الشقاء.
قمر : يشغلُكَ الناسُ عن نفسِكَ!
إسماعيل : إذا عِشْتُ معهم ولم أنشغل بهم فالحيوان أعظم مني شأنًا.
قمر : ولكن أحدًا من الناس لا ينشغل بالناس مثلما تفعلُ.
إسماعيل : لا أدري، ولكن لعل حُبِّي للشعر وللجمال يجعلني أتمنى أن أرى الجمال في الناس.
قمر : وهل لهذا وسيلة؟
إسماعيل : لا بد أن هناك وسيلة.
قمر : أتعرفُها؟
إسماعيل : لو عَرَفْتُها ما شَقِيتُ.
قمر : أرى أحدَهم قاصدًا إلى المقهى. أراكَ بخير.
إسماعيل : أراكِ بخير.

(يدخل رجلٌ تبدو عليه مظاهر الثراء، ويجلس إلى مِنضدة وينادي.)

الزَّبون : يا عمارة.
عمارة : لبَّيْكَ! لبَّيْكَ يا سيدي وسعديك!
الزَّبون : هل أعددتَ لي القهوة؟
عمارة : من الصبح.
الزَّبون : هاتِهَا، لا عَدِمْتُكَ.

(يأتي عمارة بالقهوة ويضعها على المنضدة ويدور حول الرجل فينظر هذا إليه بعض الحين.)

الزَّبون : تريد أن تقول شيئًا؟
عمارة : حديث بيننا لم يتم.
الزَّبون : أعرفه.
عمارة : لا بد للحديث أن يتمَّ يا مولانا.
الزَّبون : فليتمَّ الحديث.
عمارة : قلتَ لي إنك تاجر وغنيٌّ، وقلت لي اطلُب قمر الزمان دون أن تذكر اسمَكَ؟
الزَّبون : نعم فعلتُ.
عمارة : ولكن يا سيدي لا أعرف اسمَكَ.
الزَّبون : لا تعرف اسمي؟
عمارة : ومن أين لي أن أعرفَه وأنتَ لم تقلْهُ لي؟
الزَّبون : ما توقعتُ أبدًا أن صبيًّا في مقهًى لا يعرف اسم زَبون فيها! إنَّ لهم مقدرةً لا تتأتَّى إلا لهم! ما إن يأتي الزَّبون يومًا وثانيًا حتى يكون اسمه وعنوانه وعمله وثروته وأولاده وزوجته معروفة للمقهى جميعًا.
عمارة : إلا أنت.
الزَّبون : كيف؟
عمارة : الذي لا شك فيه أنك من مكان في بغداد بعيد كل البُعد عن هذه المنطقة، سألتُ عنك زبائن المقهى أجمعين فما عرفك منهم أحد، أو لعل عملك يتصل بناس لا يجلسون على مثل هذا المقهى.
الزَّبون : أحقًّا؟
عمارة : وحياة رأسك، إن لك لشأنًا لا أدريه.
الزَّبون : إذن فأنت لا تعرفني؟
عمارة : المنطقة كلها لا تعرفك.
الزَّبون : وأنتَ إذن تريد أن تعرف من أنا؟
عمارة : يا سيدي الناس لا يزوِّجون بناتِهم لعابري السبيل.
الزَّبون : إنك تعرف أني تاجر وأني غني.
عمارة : هُرَاء! من أين لي أن أعرف؟! أَلِأَنَّكَ قلتَ إنك تاجر، وإنك غنيٌّ تصبح تاجرًا وغنيًّا؟!
الزَّبون : وماذا تريدني أن أفعل؟
عمارة : لا بد أن أعرف عنك كلَّ شيء.
الزَّبون : وكيف ستصدقني إن قلتُ لكَ؟
عمارة : الحديث من سياقه يظهر صدقه أو كذبه.
الزَّبون : لعلي خبير في الحديث أُلفِّقُه كما أشاء فيبدو أشدَّ صدقًا من الصدق.
عمارة : لو كان الصدق فيه واضحًا كل الوضوح فهو كاذب أيضًا.
الزَّبون : أنت محقٌّ؛ فالحقيقة دائمًا تحمل جانبًا من الخيال.
عمارة : الحياة أبرع من يستعمل الخيال في تصرفاتها.
الزَّبون : لي حديث طويل.
عمارة : وماذا وراءنا؟ الزَّبون الآخر الجالس هناك منَّا وعلينا، وقد دفع حسابه وبقشيشه الحقير، وليس عندنا عمل والأشيا معدن.
الزَّبون : أليس عندك عمل على الإطلاق؟
عمارة : الآن لا.
الزَّبون : ما أسعدَكَ!
عمارة : علامَ؟
الزَّبون : تملك وقتَ فراغ.
عمارة : أراكَ أكثرَ فراغًا مني.
الزَّبون : أَلِأَنِّي أجلسُ هنا؟
عمارة : وهل بعد هذا فراغ؟
الزَّبون : لا جعل الله أحدًا ينشغل كشغلي.
عمارة : وفيمَ شغلك، وأنتَ على المقهى منذ الصباح لا تتركها إلا في الظهيرة؟!
الزَّبون : التجارة يا بني شغلها كثير.
عمارة : أما تزال تعمل في التجارة؟
الزَّبون : ليل نهار.
عمارة : ونهار أيضًا؟!
الزَّبون : ليل نهار.
عمارة : يا أخ، هل أنت تعمل بالنهار؟!
الزَّبون : أغلب عملي بالنهار.
عمارة : هنا على المقهى؟!
الزَّبون : أي وحياتك.
عمارة : أعزَّ الله حياتك!
الزَّبون : ألا تصدقني؟
عمارة : وكيف لا أصدقك؟ وهل يصدقك غيري؟ إني أراك كل يوم وأنت تقطَّع نفسك من الشغل!
الزَّبون : أتسخر؟
عمارة : يا عم أقسم بالله أنني ظننتُكَ تركتَ التجارة منذ زمن بعيد، وهل يُعقل أن يترك تاجر دكَّانه فترة الصباح جميعًا ويجلس إلى المقهى، ويظل مع ذلك يدَّعي أنه تاجر؟!
الزَّبون : وهل قلتُ إنني صاحب دكان؟!
عمارة : فأيُّ نوع من التجارة أنت؟!
الزَّبون : أنا أعظم التجَّار شأنًا وأعلاهم مرتبة.
عمارة : تاجر جواهر أنت؟
الزَّبون : بل أعظم.
عمارة : هل هناك أعظم من تجارة الجواهر؟!
الزَّبون : تجارتي.
عمارة : وما هي؟
الزَّبون : لا أقولها، لا أستطيع أن أقولها لك.
عمارة : لعلك تتاجر في … في … في المسروقات مثلًا؟
الزَّبون : أبدًا، أبدًا.
عمارة : فأيُّ نوع من التجارة أنت؟
الزَّبون : يكفيك أن تعلم أنني أكسب مكاسب لا تخطر لك على بال.
عمارة : سعيدٌ أنت؟
الزَّبون : بل أشقى عباد الله.
عمارة : مع هذا الغنى؟!
الزَّبون : أنا يا بني في رُعب دائم، ولا سعادة مع رعب أبدًا.
عمارة : أيُّ نوع من الرعب هذا؟
الزَّبون : رعب الأغنياء.
عمارة : وهل للأغنياء رعب؟!
الزَّبون : أشد من رعب الفقراء.
عمارة : اللهم رعبًا كرعب الأغنياء!
الزَّبون : اسكت، اسكت فأنت لا تعرف.
عمارة : فعرِّفْني أنتَ.
الزَّبون : رعبُ الغنيِّ على أمواله وحرصه على الزيادة وخوفه من النقصان.
عمارة : هذا جنون.
الزَّبون : وهل الرعب إلا جنون؟
عمارة : والخلاصة؟
الزَّبون : أيُّ خلاصة؟
عمارة : ألا تخبرني ما عملك؟
الزَّبون : لا أستطيع.
عمارة : فماذا أقول لعم أبو الحسن؟
الزَّبون : تاجر.
عمارة : تاجر ماذا؟
الزَّبون : تاجر وغني.
عمارة : هذا لا يكفي.
الزَّبون : أدفع مهرًا ألفَي دينار.
عمارة : ألفَي دينار؟!

(يدخل إلى المقهى نور الدين الشاعر ويتجه إلى إسماعيل.)

إسماعيل : أهلًا نور الدين، كيف الحال؟
نور الدين : شرُّ حال.
إسماعيل : أعوذ بالله هكذا على الصبح، ماذا جرى؟
نور الدين : وهل يتعبني إلا الصبح يا إسماعيل؟
إسماعيل : ما عيب الصبح؟
نور الدين : أملٌ خائب ويوم جديد بهَمٍّ جديد.
إسماعيل : أو يوم جديد بأمل جديد.
نور الدين : ومن أين الأمل؟! من أين؟! أتصدق بالله بِتْنا بالأمس من غير عشاء، وكنا في وقت العشاء بغير غداء، وكنا وقت الغداء بغير فطور، وكنا وقت الفطور بغير عشاء … ساقية يا بني من الجوع، الأيام ساقية تخرج جوعًا … والأولاد أمامي لا أطيق أن أنظر إليهم؛ جياع يا إسماعيل جياع!
إسماعيل : هذه أول مرة تشكو.
نور الدين : نعم لم أكن أشكو.
إسماعيل : كنتَ في البأس الشديد تضحك، وتكتب الشعر، وتنظر إلى الغد بعين باسمة … هذه أول مرة تشكو.
نور الدين : أتعلَم لماذا أشكو؟
إسماعيل : لا.
نور الدين : أشكو؛ لأنني أصبحت أشكو بدلًا من أن أكتب الشعر.
إسماعيل : لا أفهم.
نور الدين : كانت لي القدرة دائمًا أن أفصل بين الشاعر في نفسي والإنسان، فإن رأى الإنسان نفسه جوعان وأولاده وزوجته جياع انفصل عنه الشاعر وكتب شعرًا وجاء بالنقود، فيسكت الإنسان وزوجته وأولاده.
إسماعيل : فماذا جرى للشاعر؟
نور الدين : تغلَّب عليه الإنسان.
إسماعيل : تقصد؟
نور الدين : أقصد أن الشاعر أيضًا أصبح يبكي لجوع أبنائه وزوجته وجوعه.
إسماعيل : وأين قدرتك على الفصل بين الشاعر والإنسان؟
نور الدين : لي يومان لم أستطع فيهما أن أكمل بيتين من الشعر.
إسماعيل : يومان!
نور الدين : قلت المطلع والشطر الأول من البيت الثاني.

(ثم سكت.)

نور الدين :
وقفتُ أُجيلُ الطَّرْفَ حولي فراعني
مدامعُ في عينَيَّ لا تتحدَّرُ
أهيبُ بها تَهمِي فتأبَى ترفُّعًا
  

(ثم سكت.)

إسماعيل : هذا هو الشاعر فيك. لا تخَفْ، فما دُمتَ تُحِسُّ بالترفع فأنت شاعر وستزول الأزمة.
نور الدين : يومان والأزمة مستحكمة.
إسماعيل : وما يومان؟
نور الدين : اليومان ساعات طويلة من الجوع والألم بجوع أولادك والعجز عن إشباعهم، الساعة في هذين اليومين دهور طويلة، فانظر كم من الدهور مرَّ في اليومين.
إسماعيل : أعطيك نصف ما معي.
نور الدين : لا.
إسماعيل : لماذا؟
نور الدين : أخاف أن يتعوَّد الشاعر على هذا ولا يقول الشعر بعد ذلك فنموت جميعًا من الجوع.
إسماعيل : إن الشاعر فيك لم يصنع هذا معك إلا مرَّة واحدة.
نور الدين : كل عادة تبدأ بمرة واحدة. سلام عليكم.
إسماعيل : إلى أين؟
نور الدين : أسير في الطريق حتى أكمل القصيدة.
إسماعيل : انتظر.
نور الدين : لا أنتظر، فإنك تغريني، والإنسان والشاعر فيَّ ضعيفان … لا، لا أنتظر، سلام عليكم.

(يخرج من المسرح.)

عمارة : إذا كانت تجارتُك لا تقال فلا شك أنها خطيرة.
الزَّبون : سوف تعرفها حين أريد ذلك.
عمارة : ولكن عم أبو الحسن لا بد أن يعرفها.
الزَّبون : إذا استطعتَ أن تُتمَّ هذه المسألة دون أن تعرف تجارتي.
عمارة : ماذا؟
الزَّبون : مائة دينار.

(يدخل بائع الأشياء القديمة من الناحية التي يجلس بها إسماعيل.)

البائع : تحف وهدايا تحف (يتقدم من إسماعيل) ألا تشتري مني شيئًا يا سيد؟
إسماعيل : شكرًا.
البائع : اعتبرها صدقة، فوذات الله العلية لم أذُق الزاد منذ أيام؛ لا أنا ولا أولادي.
إسماعيل : ماذا عندك؟
البائع : ما تريد، هذه أوانٍ من الفضة.
إسماعيل (ساخرًا) : الفضة؟
البائع : وهذه أخرى من النحاس.
إسماعيل : وغيرها؟
البائع : معي مصابيح جميلة.
إسماعيل : أريد مصباحًا رخيصًا.
البائع : خذ هذا.
إسماعيل : بكم؟
البائع : عشرة دراهم.
إسماعيل : لا أستطيع فهو غالي الثمن.
البائع : إنه جديد.
إسماعيل : لا يهمني أن يكون جديدًا.
البائع : فخذ هذا.
إسماعيل : بكم؟
البائع : بأربعة دراهم.
إسماعيل : هاته.
البائع : بارك الله فيك.

(يدفع له إسماعيل الثمن ويمضي البائع في طريقه.)

البائع : تحف وهدايا تحف.
إسماعيل : إنه من عهد نوح! لا بأس، لعلي إذا جلوتُه يصبح أنيقًا، المهم أن يضيء لي حجرتي … ولكن أي جلاء ينفع فيه! (يدلِّكه بيده) لا، لا أظن أن أي جلاء سيفيد معه.

(يتقدم شخص إلى منضدة إسماعيل ويجلس عليها في هدوء.)

الشخص : نعم.
إسماعيل : أنعم الله عليك. ماذا تريد؟
الشخص : بل ماذا تريد أنت؟
إسماعيل : يا عم أنا لا أعرفك.
الشخص : أنا خادم هذا المصباح.
إسماعيل : ماذا؟!
الشخص : إذا مررتَ بأصبعك على هذا المصباح جئتُ إليك.
إسماعيل : نعم، أتراني عبيطًا؟! أم أنت تريد أن تهزل؟ قم، قم يا بني الله يفتح عليك.
الشخص : أقوم، أمرك (يقف) أين تريد أن أذهب؟
إسماعيل (في دهشة) : هل أنت جاد؟!
الشخص : يا سيدي أنا لا أستطيع أن أهزل.
إسماعيل : أنت عفريت.
الشخص : دعنا نقول إنني خادم هذا المصباح.
إسماعيل : حذارِ أن تكون ساخرًا.
الشخص : عفوًا مولاي، إنني خادمك.
إسماعيل : سمعنا بمثل هذا ولم نرَه، ولكنهم كانوا يقولون إن عفريتًا يشق الأرض أو السماء فيبدو عاليًا مندلعًا إلى الفضاء، ثم يقول شبيك لبيك عبدك وبين يديك.
الشخص : كان هذا، ولكن رأينا أن هذا قد يخيف صاحب الشيء المرصود؛ فانتهينا إلى أن نتقدم له في هدوء كما فعلتُ أنا ونسأله عما يريد.
إسماعيل : معنى هذا إذن أنك تفعل كلَّ ما أريد؟
الشخص : كل ما تريد.
إسماعيل : لا بد أن أتأكَّد.
الشخص : تأكَّد.
إسماعيل : ضع في جيب عمارة هذا كيسًا من الذهب.
الشخص : لقد أصبح في جيبه كيسٌ من الذهب.
إسماعيل : اجعله يحُسُّ به.
عمارة (يضع يده على جيبه) : ما هذا؟ (يُخرِج الكيس) ما هذا؟ (ينظر إلى التاجر) هل وضعتَ هذا في جيبي؟
التاجر : وضعتُ ماذا؟
عمارة : هذا.
التاجر : كيس؟ ماذا به؟
عمارة (يفتح الكيس) : ذهب. أنت فعلتَ هذا؟
التاجر : أنا لا أحمل أكياسًا من الذهب.
عمارة : اسمع، أنا لا أحب أن أُجَنَّ.
التاجر : وأنا لا أحب أن أبعثر أموالي.
عمارة : من أين جاءني هذا؟
التاجر : لا أدري.
عمارة : ليس معنا أحد إلا أنت.
التاجر : لعله هذا الجالس هناك أراد أن يمزح معك.
عمارة : من؟! هذا؟! إسماعيل! إنه في حياته جميعًا لم يُخرِج من جيبه عُملة ذهبية، ولا يُعقَل … اسمع، هديتك مقبولة على كل حال ولكن هذا كثير، إنه أكثر من مائة دينار.
التاجر : أنت إذَن مُصِرٌّ على أنني أنا الذي وضعتُها في جيبِك.
عمارة : اسمع، أنا لا أملك إلا عقلي وهو أملي في مستقبلي، فإن أضعتَه مني فلن تتمَّ لك الصفقة التي تريد، ولن تجنيَ من هذا إلا أن أصبح مجنونًا يجري في الطرقات يتحسَّس جيبه لعل الذي أعطاه كيسًا في المرة الأولى يعطيه بعد ذلك دائمًا؛ فقل لي وسريعًا، هل أنت الذي أسقطتَ هذا الكيس في جيبي؟
التاجر : اعتبره هدية مني.
عمارة : عظيم! نعود إلى حديثنا إذَن.
إسماعيل : إذَن فأنت تستطيع أن تفعل ما تشاء.
الخادم : عفوًا، إنني أستطيع أن أفعل ما تشاء أنت.
إسماعيل : أي شيء؟
الخادم : أي شيء.
إسماعيل : هل تستطيع أن تجعل أهل بغداد جميعًا سعداء؟
الخادم : إلا هذا.
إسماعيل : أرأيتَ؟
الخادم : نحن لا نستطيع أن نُقدِّم السعادة أو البؤس.
إسماعيل : فماذا تستطيع أن تقدم؟
الخادم : الغنى أو الفقر فقط.
إسماعيل : هل تستطيع أن تكفي أهل بغداد جميعًا؟
الخادم : أستطيع.
إسماعيل : تُقدِّم لهم جميعًا ما يحتاجون من عيش، ومأكل، وملبس؟
الخادم : أستطيع.
إسماعيل : منذ الآن؟
الخادم : منذ هذه اللحظة.
إسماعيل : فافعل إذَن.
الخادم : أفعل. أتريد شيئًا آخر؟
إسماعيل : لا.
الخادم : ألا تريد شيئًا لكَ أنتَ؟
إسماعيل : إنني من أهل بغداد، ألستُ كذلك؟!
الخادم : أعني ألا تريد أن أبْنيَ لك قصرًا وأُحضرَ لك الذهب والجواهر وما إلى ذلك؟
إسماعيل : لا، لا أريد إلا أن يشبع أهل هذه المدينة جميعًا ولا يجوعوا أبدًا.
الخادم : أفعل، ولكن لا شأنَ لي بسعادتهم.
إسماعيل : أشبِعْهم أنتَ ولا شأن لك بسعادتهم.
الخادم : أفعل.

(يهمُّ الخادم بالانصراف فيناديه إسماعيل.)

إسماعيل : إنما قُل لي.
الخادم : نعم.
إسماعيل : لماذا لم تفعل هذا من نفسك؟! أكان لا بد أن أدلِّكَ المصباح حتى تقوم بهذا العمل؟! أتترك الناس جياعًا عرايا ولا تمدُّ يدَكَ لعونهم إلا حين أدلِّكُ المصباح؟!
الخادم : نحن نفعل ما نُؤمر به.
إسماعيل : عجيب أمرك! على كل حال مع السلامة.
الخادم : سلامًا.

(ينصرف.)

(يجلس إسماعيل فترة صامتًا ويستمر النقاش بين عمارة والزَّبون دون حديث، تبدو على إسماعيل أمارات الفرح والاطمئنان، يدخل أبو الحسن.)

أبو الحسن : أنت هنا يا إسماعيل؟
إسماعيل (يقف) : صباح الخير يا عم أبا الحسن.
أبو الحسن : المقهى خالية، المقهى خالية دائمًا، وأريد أن أجهِّزَ لك عروسَكَ.
إسماعيل : إنها كثيرًا ما تزدحم.
أبو الحسن : إنها لا تزدحم أبدًا، لا تزدحم أبدًا يا إسماعيل.
إسماعيل : لكل عمل متاعبه يا عم أبا الحسن.
أبو الحسن : إلا المقاهي فمتاعبها فوق الوصف.
إسماعيل : مع أن الناس يحبُّون المقاهي.
أبو الحسن : أي ناس؟! إنهم الفارغون الذين لا يملكون شيئًا يطلبون الطلب الهائف ويشغلون الكرسي والنضد عشر ساعات، والمقاهي يا بني أبخات تجد مقهًى حقيرًا لا يساوي درهمًا ومع ذلك كل الناس تزدحم فيه كل وقت، ومقهًى نظيفًا كمقهاي ولا يقصده الناس.
إسماعيل : أتعرف يا عم إسماعيل ما الذي يَنقُصك؟
أبو الحسن : ماذا؟
إسماعيل : أن تجعل لمقهاك هذا طابعًا معينًا؛ شيئًا بذاته يجعل الناس يقصدونه من أجله.
أبو الحسن : قل لي يا بني ما هذا الشيء؟
إسماعيل : لا أعرف، لو استطعت أن تستأجر مغنيًا.
أبو الحسن : يا بني ومن أين أدفع له؟
إسماعيل : الزبائن هم الذين سيدفعون له.
أبو الحسن : يا بني أنت أغنى الزبائن عندي، رواد المقهى كلهم فقراء، ولا يستطيعون أن يدفعوا شيئًا.
إسماعيل : لا تخف يا عم أبو الحسن، سيصبح الجميع أغنياء.
أبو الحسن : ماذا تقول؟
إسماعيل : سيصبح الجميع أغنياء، الجميع.
أبو الحسن : يا بني حكايتك لا تشبهها حكاية.
إسماعيل : كيف؟

(يعلو صوت عمارة.)

عمارة : لقد فهمتُ كلَّ شيء وإن كنتُ إلى الآن لم أعرف مَن أنت؟
التاجر : أبعدَ كلِّ هذا الحديث لم تعرف من أنا؟!
عمارة : لا، ولكنني تأكَّدتُ أنك تاجر.
التاجر : كيف؟
عمارة : تستطيع أن تأخذني إلى دجلة عطشان وترجع بي إلى المقهى وأنا عطشان ما أزال.
التاجر (ضاحكًا) : يا بني، هل سألتني عن شيء ولم أُجِبْكَ؟
عمارة : الشيء الوحيد الذي أردتُ أن أعرفَه لم تَقُلْه لي.
التاجر : فيم أتاجر؟
عمارة : فيم تتاجر؟
التاجر : ألم أقل لك هات لي فنجان قهوة؟
عمارة : أنا عارف أنني لن آخذَ منك حقًّا ولا باطلًا.
التاجر : يا بني هات القهوة.

(يقوم عمارة إلى المكان الذي يُعَدُّ فيه القهوة ويرجع وهو يصرخ حاملًا العيش واللحم.)

عمارة : طيب الكيس وقلنا التاجر وضعه لنا في جيبنا، طيب وهذا العيش واللحم؟! وهذا العيش واللحم؟!
أبو الحسن : ما لك يا ولد يا عمارة؟
عمارة : إن الجانَّ والعفاريت وسكَّان البحار السبعة وأبناء طِباق الأرضين يُدبِّرون في بغداد حدثًا ضخمًا! حدثًا ضخمًا!

(يتجمَّع الناس حول عمارة بينما يضيء النور في بيت أبي الحسن وتظهر جمالات وترى العيش واللحم على النَّضَد الذي كانت تأكل عليه … تظهر عليها الفرحة.)

جمالات : يعمر بيتك يا أبا الحسن! الله! اللحم مطبوخ! يعني طبخي لا يعجبك! مَن الذي طبخ لك اللحم؟! والله لأجعل نهارك أسود من هباب الحلل! طبخي لا يعجبك يا أبا الحسن؟! بعد هذا العمر كله؟! طيب!

(تخرج.)

أبا الحسن، أنت يا أبا الحسن.
أبو الحسن : ما لكِ يا جمالات؟ أهذا وقته؟
جمالات : من الذي طبخ لك هذا اللحم؟
عمارة (صارخًا) : اللحم، اللحم، إنهم يُدبِّرون شيئًا في بغداد.
أبو الحسن : انتظِر يا عمارة، أين اللحم يا امرأة؟!
جمالات : هذا اللحم الذي أحضرتَه، ألا يعجبك طبخي يا ضائع يا جائع حتى تأتي بلحم مطبوخ؟
أبو الحسن (في غيظ شديد) : أيُّ لحم يا جمالات؟ أيُّ لحم؟!
جمالات : هذا اللحم، ألا تراه؟ هذا اللحم.
أبو الحسن : أنا، أنا، (يبكي) أنا يا جمالات لم أحضر لحمًا، أنا لم أحضر لحمًا.
عمارة (صارخًا) : صلاة النبي أحسن من كل العفاريت! والمعلم لم يحضر لحمًا، (يرقص) والمعلم لم يحضر لحمًا، والمعلم لم يحضر لحمًا، والمعلم لم يحضر لحمًا …
(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤