الفصل الثالث

(المقهى، إسماعيل على أحد المناضد ذاهلًا، الوقت ليل والظلام يكاد يكون دامسًا، وكراسي المقهى ومناضدها مكومة في أحد الجوانب.)

إسماعيل : ماذا فعلتُ؟! ماذا فعلتُ؟! ماذا فعلتُ؟!

(يُفتح باب البيت لتخرج منه قمر الزمان.)

قمر : من؟ من هنا؟
إسماعيل : ماذا فعلتُ يا قمر؟! ماذا فعلتُ؟!
قمر : إسماعيل، أما زلتَ هنا؟
إسماعيل : ألم تتوقعي أن تجديني؟
قمر : لا أدري، يُخيَّلُ إليَّ أنني توقعتُ.
إسماعيل : ماذا فعلتُ يا قمر؟!
قمر : لعبتَ بالحياة.
إسماعيل : فانتقمتْ منِّي الحياة.
قمر : هكذا تفعلُ بكلِّ مَن يلعب بها.
إسماعيل : أنتِ لا تعرفين كم أتعذَّب.
قمر : بل أعرف، فما خرجتُ الآن إلا لأنني توقعْتُ أن أجدَكَ تتعذَّبَ وحدَكَ هنا.
إسماعيل : وبعدُ يا قمر؟
قمر : كم أتمنى أن أجدَ سبيلًا لإجابتك.
إسماعيل : لماذا لا أعيدُ الناسَ إلى ما كانوا عليه؟
قمر : يتركون هذه الحياة الوادعة الهانئة، ليعودوا إلى الكدِّ والتعب والقلق.
إسماعيل : ولكنهم يَضيقون بهذه الحياة الوادعة الهانئة.
قمر : لأنهم يَحْيَون فيها.
إسماعيل : فهذا خيرٌ لهم وهم لا يعلمون.
قمر : بل الخير لهم أن يختاروا هم حياتَهم.
إسماعيل : لقد حِرْتُ معكِ.
قمر : لقد اخترتَ أنتَ لنفسِكَ هذه الحيرة.
إسماعيل : فلأتركهم إذن يعودون إلى الحياة التي اختاروها؟
قمر : لقد أصبحَتْ هذه الحياة التي صنعْتَها لهم جزءًا من الاختيار، إنها حياة كانوا يَحلُمون بها، ولم يتوقَّعوا أن توجَدَ لهم حقيقةً، أمَا وقد وُجِدَتْ فسيظلون إذا ذهبت عنهم يَتُوقون إلى العودة إليها.
إسماعيل : ولكنهم كرهوها، مَقَتُوها …
قمر : لأنهم أصبحوا لا يعملون.
إسماعيل : ولا يقلقون أيضًا.
قمر : من قال لك إنهم لا يحبُّون القلق؟
إسماعيل : أيحبُّ الناسُ القلقَ؟!
قمر : إذا نَجَوْا منه وَصَلُوا إلى الأمان.
إسماعيل : فحياتُهم اليومَ أمانٌ.
قمر : ولكنه أمان بلا قلق.
إسماعيل : هل هناك أمان مع القلق؟!
قمر : لا بد من القلق؛ حتى نشعر بالأمان، لا لذَّة للأمان إذا لم يَسبقْه قلق، إذا لم يوجد القلق بحث عنه الناس. القلق هو الذي يحرِّكُهم، هو عنصر الحياة في حياتهم.
إسماعيل : ماذا فعلتُ؟! ماذا فعلتُ؟!
قمر : لا بد أن تفعلَ شيئًا غير هذا السؤال الذي تكرِّرُه دائمًا.
إسماعيل : إنَّكِ تُقفلين أمامي الطُّرُقَ.
قمر : أيُّ الطرق؟
إسماعيل : أنا الآن لا أملكُ إلا واحدة من اثنتين: إما أن يظلَّ الناسُ كما هم، وهذا ما لا أحتمل، وإما أن يعودوا إلى ما كانوا.
قمر : وهذا ما لا يحتمل الناس.
إسماعيل : لَكَمْ أتمنى يكون هذا الذي أنا فيه حُلُمًا ثقيلًا ضاريًا ثم أصحو، فإذَا كل ما كان فيه أضغاث وخرافة.
قمر : إسماعيل.
إسماعيل : ماذا؟
قمر : ألا تستطيع؟ لا، لا أظن.
إسماعيل : ماذا؟ قولي.
قمر : ما أحسب هذا ممكنًا.
إسماعيل : قولي لعلني أستطيع أن أجعلَه ممكنًا.
قمر : لا، لا يمكن.
إسماعيل : وهل هذا الذي نحن فيه كان ممكنًا؟!
قمر : نعم، ولكن.
إسماعيل : قولي.
قمر : لقد أوشك الفجر أن يظهر.
إسماعيل : وما صلة هذا بما نحن فيه؟
قمر : اسمع، هل تستطيع أن تجعل الناس ينسون هذه الأيام التي عاشوها في ظل حياتك الجديدة؟
إسماعيل : ماذا؟
قمر : إذا فعلتَ خرجتَ من هذه الكارثة.
إسماعيل : لا أدري.
قمر : إذن فحاول.
إسماعيل : اسمعي سترَيْنَني أتكلَّمُ وحدي، أتخافين؟
قمر : لا.
إسماعيل : ليكن إذن.

(يُخرِجُ إسماعيل المصباح من جيبه، ويمرُّ بيده عليه، فيأتي خادم المصباح ويجلس في هدوء إلى جانب إسماعيل.)

إسماعيل : قل لي.
الخادم : تحت أمرك.
إسماعيل : طبعًا تستطيع أن توقف الغذاء والكساء من التوزيع.
الخادم : طبعًا.
إسماعيل : طبعًا؛ فقطع الخير أسهل من مواصلته.
قمر : هل كان خيرًا؟
إسماعيل : لا أدري.
قمر : أما زلتَ لا تدري؟!
إسماعيل : النهاية (يلتفت إلى الخادم) أيمكن أن تجعل الناس ينسَوْن هذه الأيام التي كانوا يتلقَّوْن فيها الغذاء والكساء؟
الخادم : ماذا؟
إسماعيل : هل تستطيع؟
الخادم : كل الناس؟
قمر : لا، لا يا إسماعيل، ليس كل الناس.
إسماعيل : كيف؟
قمر : يجب أن نظلَّ أنا وأنت متذكِّرَيْنِ.
إسماعيل : ماذا؟
قمر : لو نسيتَ هذه الأيام ستحاولُ التجربة مرةً أخرى.
إسماعيل : لا لا، أبدًا.
قمر : تقول هذا لأنك عرفتَها، ولكنك إن نسيتَ فمن يدري؟
إسماعيل : هيه! ماذا قلتَ؟
الخادم : أستطيعُ أن أجعل الناس جميعَها تنسى.
إسماعيل : أتستطيع أن تتركني أنا وقمر؟
الخادم : أستطيع أن أترك هذا البيت.
إسماعيل : البيت جميعه؟
قمر : البيت جميعه لا.
إسماعيل : ماذا قلتِ؟!
قمر : لو ظلَّت أمي ذاكرةً جُنَّتْ.
إسماعيل : كيف؟
قمر : قد يستطيع أبي أن ينسى ولو أنه أسعد شخص بما حدث، أما …
إسماعيل : تقولين إن أباكِ أسعدُ شخص بما حدث؟
قمر : طبعًا.
إسماعيل : كيف؟
قمر : الناس لا يتركون المقهى صباح مساء، فكيف لا يكون سعيدًا؟!
إسماعيل : ولكن ألَا يهمُّه تعاسة الناس؟
قمر : بل تهمُّه المكاسب التي يَجنيها؛ لقد ربح في هذه الأيام ما لم يجمعْه في شهور.
إسماعيل : عجيبة هذه الحياة! كل طريق فيها يَنتفع به ناس ويُضَرُّ به آخرون.
قمر : أهذا وقت تفلسُفٍ؟! قد أستطيع أن أُقنِعَ أبي، وقد يرى من الحكمة أن ينسى؛ فهو تاجر ويخشَى أن يظنَّ الناس به الجنون، أما أمي فلا حيلةَ لي معها لا بد أن تنسى مع الناس، وإلَّا صدَّقَت على كلام أبي وجُنَّ كلاهما معًا.
إسماعيل : وكيف تجعلين أباكِ في مكان وأمَّكِ في مكان؟
قمر : لا أدري.
إسماعيل : لا بد من حلٍّ سريع، الفجر يقترب ويجب أن ننتهيَ من هذا الأمر فورًا.
قمر : اسأل صاحبَكَ، متى يجعل الناس ينسون؟
الخادم : أستطيع ذلك في أي وقت أريد.
إسماعيل : في أي وقت؟
قمر : سأحاول محاولة، ستخرج أمي الآن لا تجعلها تراك.
الخادم : لن تراك.

(تدخل قمر إلى بيتها وتعبر المسرح وتدلف من الباب وما تلبث أن تعود ومعها أمها وعلى أمها آثار النوم.)

جمالات : ما الذي أيقظكِ الآن؟
قمر : هذا لا يهمُّ الآن، المهمُّ أن تذهبي إلى الكوخ.
جمالات : ماذا أفعل؟
قمر : سيوزِّعون الخبز هناك اليوم.
جمالات : لماذا؟
قمر : أتريدين أن ترفضي دعوة من بسم الله الرحمن الرحيم؟
جمالات : لا لا، وهل أستطيع؟!
قمر : إذن …
جمالات : أقول لأبيك ونذهب معًا.
قمر : ولكن أبي لن يذهب معكِ.
جمالات : لماذا؟
قمر : متى رأيتِهِ يصدِّقُ الكلامَ عن بسم الله الرحمن الرحيم؟
جمالات : آه، صدقت، رأسُه كالحجر، طول عمره لا يسمع كلامي في أي شيء. تصوري قلت له يومًا …
قمر : ماذا جرى يا أم، هل ستتركين بسم الله الرحمن الرحيم ينتظرون وتروين لي عن أبي؟
جمالات : آه، نسيت، إذن أذهب، أضع هدومي عليَّ وأخرج.
قمر : أي هدوم؟ هل سينتظرون؟!
جمالات : أخرج هكذا؟
قمر : من سيراكِ؟
جمالات : على رأيك، أذهب هكذا.
جمالات : أخرج هكذا؟
جمالات : تأتين معي طبعًا.
قمر : ماذا؟! وأنا ماذا أفعل معك؟!
جمالات : أذهب وحدي؟!
قمر : أليس هذا خيرًا من أن يستيقظ أبي، فلا يجد أحدًا منا هنا؟
جمالات (في شيء من الخوف) : أذهب وحدي.
قمر : لن تكوني وحدك؛ ستكون نساء كثيرات.
جمالات : أواثقة أنت؟
قمر : كلَّ الثقة.
جمالات : أذهب، لاحظي أباكِ، قولي له إنْ صَحا إنني عائدة توًّا.
قمر : سأفعل، اذهبي.
جمالات : ذاهبة، ذاهبة، الله لا إله إلا هو الحي القيوم.

(تخرج جمالات إلى المقهى، ولا ترى إسماعيل، تمضي إلى خارج المسرح وتخرج قمر.)

قمر : إسماعيل، إسماعيل، أين أنت؟
الخادم : هل أجعلها تراك؟
إسماعيل : هل أنت مخفيني؟!
الخادم : نعم.
إسماعيل : لا يهمُّ، هل نبدأ الآن؟
قمر : إسماعيل.

(تراه حيث تركته.)

هذا أنت، أين كنت؟
إسماعيل : لا يهمُّ، هل نبدأ الآن؟
قمر : إذا شئتَ، أستطيع دائمًا أن أجعل أمي تفعل ما أريد، أما أبي …
إسماعيل : هل هو بالداخل؟
قمر : إن أبي لن ينسى.
إسماعيل : سيجعله الناس ينسى.
قمر : كم كنتُ أتمنى ألَّا أعرِّضَه لهذه التجربة.
إسماعيل : لقد أردتِ لنا أن نذكر.
قمر : ولا بد لنا أن نذكر.
إسماعيل : ألا تستطيعين إبعادَ أبيك؟
قمر : لو كنتُ أستطيع ما تأخرتُ.
إسماعيل : فلا حيلةَ لنا إذن.
قمر : لا حيلة لنا.
إسماعيل : إذن نبدأ.
الخادم : أنا تحت أمركَ.
إسماعيل : هل ستبذل مجهودًا كبيرًا في هذا العمل؟
الخادم : لا شيء في أرضكم يكلِّفُنا نحن مجهودًا كبيرًا.
إسماعيل : إذن افعل ولا داعي لهذا الغرور؛ فلا شك أن لكم متاعبَكم.
الخادم : ليس العمل من متاعبنا على أية حال.
إسماعيل : فما متاعبكم؟
الخادم : شرُّها جميعًا العبودية.
إسماعيل : أي أنواع العبودية؟
الخادم : أن أكون عبدًا لشيء.
إسماعيل : هل أنت عبد لشيء؟
الخادم : أنا عبد لهذا المصباح.
إسماعيل : فما الذي يُطلِقُكَ من هذه العبودية؟
الخادم : تستطيع أنت تُطلِقُني.
إسماعيل : أنا؟ كيف؟
الخادم : تعطيني حريتي.
إسماعيل : أنا؟!
الخادم : نعم، أنت.
إسماعيل : أملك أنا حرية أحد؟!
الخادم : حريتي.
إسماعيل : فهي لك.
الخادم : الآن؟
إسماعيل : طبعًا، بعد أن تنتهيَ من هذه المأمورية الأخيرة.
الخادم (يشير بحركة بيده ثم يلتفت إليه) : لقد انتهت.
إسماعيل : فأنت حرٌّ.
الخادم : شكرًا.
إسماعيل : انتظر، وهذا ماذا أفعل به؟
الخادم : المصباح، لقد رجع مصباحًا عاديًّا يضيء!
إسماعيل : لقد أصبح ذا فائدة حقيقية.
الخادم : وداعًا.
إسماعيل : وداعًا.

(يخرج الخادم ويغمر النور المسرح.)

إسماعيل : طلع الصبح يا قمر.
قمر : يا تُرى ماذا سيصنع الناس؟
إسماعيل : سيعودون إلى ما كانوا عليه.
قمر : تُرى هل استطاع الخادم أن ينسيَهم حقًّا؟
إسماعيل : الذي استطاع أن يفعل كل هذا الذي فعل لا يعجزه شيء.
قمر : كان عليك أن تجعله ينتظر حتى تتأكَّد.
إسماعيل : هؤلاء لا يكذبون.
قمر : نعم صدقت، هؤلاء لا يكذبون.
إسماعيل : أخاف أن يشقى الناس يا قمر الزمان.
قمر : ألم تتبيَّن بعد أن الناس يسعدون بشقائهم؟
إسماعيل : إن أحدًا لا يسعد بشقائه.
قمر : إن التغلب على الشقاء سعادة.
إسماعيل : ومن لا يتغلب؟
قمر : ليست طريقتُك هي المثلى على كل حال.
إسماعيل : فما هي الطريقة؟
قمر : لستُ أدري ولكن لا بد أن يكون العمل فيها هو الأساس.
إسماعيل : إذن فماذا أفعل؟
قمر : اعمَلْ.
إسماعيل : ماذا؟
قمر : قم بعملك وأتقنه ودعِ الخليفة يفكر في شئون الناس.
إسماعيل : إن الخليفة لا يفكِّرُ إلا في خزانته وفي توسيع مُلكه.
قمر : فدع الزمن يرعى شئون الناس.
إسماعيل : إن الزمن هو الذي يقسو على الناس.
قمر : فدعِ الناسَ يُغيِّرون الزمن ويُغيِّرون الخليفة.
إسماعيل : الناس؟!
قمر : إنها مشكلتهم، فهم وحدهم المسئولون عن إصلاحها.
إسماعيل : ولكنهم مساكين.
قمر : مساكين لأنهم لا يواجهون مشاكلهم، إنهم هم أكبر قوة في بغداد لو أرادوا لسيَّروا الزمن والخليفة، ولكنهم سكتوا للزمن وخضعوا للخليفة.
إسماعيل : إنهم إزاء قوة لا قِبل لأحد بها.
قمر : إنهم أقوى.
إسماعيل : لقد عجزتِ القُوَى الخفية التي سخرتها لهم أن ترضيَهم.
قمر : لأنهم يريدون أن يعملوا.
إسماعيل : فما لهم لا يعملون على تحسين حالهم؟
قمر : لأن كل فرد فيهم يفكِّر في نفسه ولا يفكِّرُ في المجموع.
إسماعيل : أنا فكرتُ في المجموع.
قمر : ولكنك لم تُشرِك المجموع في العمل الذي قمتَ به، لقد فرضتَ عليهم غذاءَك وكساءَك.
إسماعيل : نعم عليهم أن يختاروا، عليهم هم أن يصنعوا حياتهم.
قمر : لهذا خُلقت لهم الحياة ليصنعوها هم، بتفكيرهم، بعملهم.
إسماعيل : حاولت …

(تدخل جمالات المسرح هالعة خائفة وتتقدم إلى قمر.)

جمالات : قمر ابنتي، هل أنا حقًّا في بيتي؟!
قمر : في بيتك يا أم، نعم في بيتك.
جمالات : لماذا خرجتُ يا قمر؟! أين ذهبتُ؟!
قمر (تنظر إلى إسماعيل) : خرجتِ … خرجتِ … لا أعرف يا أم، ألا تعرفين أنتِ لماذا خرجتِ؟
جمالات : خرجتُ … لقد وجدتُ نفسي خارجة!
قمر (في ضحك) : ماذا؟ ماذا تقولين يا أم؟
جمالات : وجدت نفسي في الطريق هكذا بلا مناسبة، بهدومي هذه، وقفت في الطريق أسأل نفسي لماذا خرجتُ وإلى أين أنا ذاهبة فلم أستطع أن أجد الجواب.
إسماعيل : لا بأس عليك يا أم قمر.
جمالات : أنت هنا يا إسماعيل؟ ألا تعرف يا بني لماذا خرجتُ؟
قمر : لعلَّكِ يا أم قد خرجتِ لتُحضري العيش.
جمالات : العيش، العيش يأتينا كلَّ يوم دون أن أخرج له.
قمر : يأتينا! (تنظر إلى إسماعيل).
جمالات : طبعًا، ماذا بكِ، هل جُننتِ؟!
قمر : يأتينا يا أم؟
جمالات : نعم يأتي به الخبَّاز ويأخذ أجرَه كلَّ أسبوع.
قمر : آه! حسبتُ أنه يأتينا بلا ثمن.
جمالات : بلا ثمن؟ أهناك شيء بلا ثمن؟ هل جُننتِ؟
إسماعيل : إذن فلماذا خرجتِ يا أم قمر؟
جمالات : هذا ما يحيرني يا إسماعيل يا بني.
قمر : على كل حال يا أم، سليمة والحمد لله.
جمالات : تقولين سليمة! أَأُجنُّ وتقولين سليمة؟
قمر : لعلَّكِ يا أم أردتِ أن تتمشَّي قليلًا قبل أن يزحم الناس الشوارع.
جمالات : لعلني، ولكن لماذا نسيتُ سببَ خروجي؟!
قمر : على كل حال يا أم لا داعي للقلق، فها قد عُدتِ وأنتِ بخير والحمد لله.
جمالات : أأخرج وحدي ولا …
قمر (تقاطعها) : أم، لا تعيدي هذا الحديث.
جمالات : أأجن وحدي؟ لا بد أن أقول.
قمر : خيرٌ لكِ ألا تعيدي هذا الحديث، فما أظن أبي يسرُّه أن يعرف أنَّكِ خرجتِ بهذه الملابس في عرض الطريق ودون سبب مفهوم.
جمالات (وكأنها أدركت الموقف) : ماذا؟ ماذا قلت؟
قمر : أيُّ عذر ستقدمينه لأبي؟
جمالات (في لجلجلة وسرور وخفر) : نعم، نعم، لكِ حق، إنه يغار عليَّ، يغار بجنون. أتصدق يا إسماعيل أنه يغار عليَّ غيرة عمياء؛ لو نظرتُ من الباب أو من الشباك ثار وزمجر وأوشك أن يقتلني قتلًا. منذ بضعة شهور جاء إليَّ …
قمر : يا أم أهذا وقته؟! ادخلي الآن إلى البيت قبل أن يصحوَ أبي وقبل أن يأتيَ الزبائن إلى القهوة.
جمالات : صدقتِ، أحكيها لكَ في يومٍ آخر يا إسماعيل.
إسماعيل : كم أنا مشتاق إلى سماعها.

(تدخل جمالات.)

إسماعيل : أرأيتِ؟ لقد صدق الخادم وعدَه.
قمر : ولكن المصاعب ما زالت أمامنا.
إسماعيل : المصاعب؟ أية مصاعب؟
قمر : أبي.

(صوت أبي الحسن ينادي من الداخل.)

أبو الحسن : جمالات، جمالات.

(تدخل قمر إلى بيتها ويجلس إسماعيل إلى منضدة في المقهى ويسمع للحديث.)

جمالات : نعم يا أبا الحسن، ها أنا ذي قادمة.

(يظهر أبو الحسن في قاعة بيته.)

أبو الحسن : أين أنت؟ وما الذي أيقظك من فجر الله؟
جمالات : هكذا أصحو كلَّ يوم.
أبو الحسن : كان هذا في الزمن الماضي، أما منذ أصبح الغذاء والكساء يجيئنا وحده دون سعي فنحن …
جمالات : ماذا؟! ماذا؟!
أبو الحسن : ألم تسمعي ما قلتُ؟
جمالات : سمعتُ ولكني لم أفهم.
أبو الحسن : ألا يأتينا غذاؤنا وكساؤنا دون سعي؟
جمالات : أشربتَ شيئًا في أمسك؟!
أبو الحسن : ولا في يومي.
جمالات : فما الذي تقول؟!
أبو الحسن : أقول ما يحدث.

(يأتي عمارة إلى المقهى ويبدأ في ترتيب الكراسي.)

عمارة : صباح الخير يا سيد إسماعيل، يا أهلًا.
إسماعيل : أهلًا عمارة.

(يعود عمارة إلى تنظيم الكراسي ويعود إسماعيل إلى التسمع.)

قمر : هل أنت واثق يا أبي مما تقول؟
أبو الحسن : ماذا؟ وأنتِ أيضًا …
قمر : ولكنه يا أبي شيء لا يُعقل.
جمالات (تبكي) : يا بختي المائل! يا فضيحتي أمام الناس! جُنَّ الرجل ولا حول ولا قوة إلا بالله.
قمر : انتظري يا أم، لعله يا أبي كان حلمًا.
أبو الحسن : يكون حلمًا لو كان مرة واحدة أو يومًا واحدًا، ولكنه استمر لأيامٍ وأيام.
جمالات (باكية) : يا مصيبتي! مصيبة لم يعرفها عدو ولا حبيب.
قمر : يا أبي فكِّر فيما تقول.
أبو الحسن : أفكر! كان الغذاء يأتينا كلَّ يوم في مواعيده، وكان الكساء يأتينا أيضًا وكان يأتي الناسَ جميعًا، وكانت المقهى مزدحمة بالرواد لا يخلو فيها كرسي طول اليوم حتى الليل المتأخر، وغاب عمارة فاستأجرت صبيًّا آخر اسمه ميمون.
جمالات : يا خيبتي! يا سواد أيامي!
قمر : لعلكَ يا أبي كنت تحلم.
جمالات : لعلكَ كنتَ تحلم يا أبا الحسن، لعلك يا حبيبي كنت تحلم.
أبو الحسن : أحلم! عظيم! كنتُ أحلم! فإذا كانت ثروتي في هذه الأيام قد بلغت مائتَي دينار أيكون هذا حلمًا؟!
جمالات : لا، إن كانت زادت حقًّا لا يكون حلمًا، هل زادت يا أبا الحسن؟!
أبو الحسن : انتظري حتى أحضرها.

(تخرج قمر إلى إسماعيل.)

قمر : هل سمعتَ؟
إسماعيل : ماذا سنفعل؟
قمر : اسمع، عليك أن توافق على كل ما أقوله.
إسماعيل : هل ستقولين شيئًا؟
قمر : سترى.
إسماعيل : ماذا ستقولين؟
قمر : سترى، عليك أن توافق، فقط عليك أن توافق.

(تدخل.)

جمالات : أرأيتَ؟
قمر : انتظري يا أم لا تتعجلي.

(يدخل أبو الحسن.)

أبو الحسن : إن كان ما رأيتُه حلمًا، فهل هذه الدنانير حلم أيضًا؟!
جمالات (تنتفض) : أرني.
أبو الحسن : انظري، امسكي، المِسي، شمي، ضعي هذه الدنانير بين أسنانك وامضغيها حتى تنكسر أسنانك.
جمالات : قمر الزمان، أكان حلمًا أم حقيقة؟!
قمر : طبعًا يا أبي هذه الدنانير غير المائتَي دينار التي أعطيتُها لك.
أبو الحسن : ماذا؟! هل أعطيتِني أنتِ مائتَي دينار؟!
قمر : ماذا؟! هل نسيتَ يا أبي؟! المهر الذي أعطاه لي إسماعيل لأسلمه لك.
جمالات : أخذتَ مهر البنت ولم تقُل لي.
أبو الحسن : أنا يا قمر أخذتُ مهرَكِ؟
قمر : وهل هذا المبلغ يُنسى يا أبي؟! لقد جاء إسماعيل ولم يجدك ولا وجد أمي وخاف أن يضيع منه المهر فتركه معي.
أبو الحسن : هل جُننتِ؟
قمر : الفتاة لا تنسى أن مهرها دُفع.
جمالات : وأنتَ تخلط بين الحلم والحقيقة.
أبو الحسن : ألا تصدقينني؟!
جمالات : أصدق الرجل الذي يقول إن الغذاء والكساء كان يُوزَّع على الناس جميعهم بلا ثمن؟ أهذا كلام يُصدَّق؟! لقد اختلط عقلك، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
أبو الحسن : وهذا المال؟!
جمالات : مهر البنت، أخذتَه وتريد أن تأكله.
أبو الحسن : هل جُننتِ؟!
جمالات : أأنا التي جُننتُ أم أنتَ الذي تريد أن تأكل مهر بنتك وتحاول أن تخدعنا بهذا الخرف الذي تقول؟
أبو الحسن : أنا يا بنتي أخذتُ مهرَكِ؟
قمر : انتظر يا أبي.

(تخرج وتنادي إسماعيل.)

قمر : إسماعيل، تعالَ.

(يدخل إسماعيل إلى البيت.)

إسماعيل : صباح الخير يا عم أبا الحسن.
أبو الحسن : أنت يا بني …
قمر (مقاطعة) : إسماعيل، ألم تأتِ هنا يوم الإثنين الماضي؟
إسماعيل : أنا أجيء كل يوم.
قمر : ولكنك يوم الإثنين أعطيتني المائتَي دينار، وقلت إنها مهري وطلبتَ مني أن أعطيَها لأبي.
إسماعيل : أنا … أنا … نعم نعم.
أبو الحسن : ومن أين أتيتَ بهذه الدنانير؟
إسماعيل : أتيتُ بها … أتيتُ بها …
قمر : ما لكَ لا تقول؟! وما العيب في هذا؟ ما العيب في أن تأخذ مائتَي دينار من الخليفة؟
أبو الحسن : الخليفة؟!
قمر : سمع أنه يريد أن يتزوج ولا يملك مالًا فأعطاه هذه الدنانير.
أبو الحسن : من الخليفة يا إسماعيل؟!
إسماعيل (وقد استردَّ نفَسَه) : اسمع يا عم أبا الحسن.
أبو الحسن : نعم يا سيدي، قل.
إسماعيل : عندي اقتراح.
أبو الحسن : ماذا؟ أدفع لك فوقها مائتَي دينار؟!
إسماعيل : لا، أنا أريد قمر الزمان بلا جهاز. خذ المائتي دينار وزوجني قمر الزمان.
جمالات : ماذا تقصد؟
إسماعيل : ألم تفهمي يا خالتي أم قمر؟
جمالات : فهمت الشوم واللوم، تريد ابنتي أن تتزوج بلا جهاز؟
قمر : وأنتِ ماذا يغضبك يا أم، ما دام إسماعيل يريد ذلك؟
جمالات : والناس! ماذا تقول الناس؟
إسماعيل : وما للناس ولنا يا خالتي أم قمر؟
أبو الحسن : إذن فأنتَ دفعت مهر البنت؟
إسماعيل : وطبعًا حين نعقد العقد سأدفع لك المهر الرسمي.
أبو الحسن : فهذه الدنانير هي مهر البنت؟
إسماعيل : وأريدها بلا جهاز.
أبو الحسن : إذن …
إسماعيل : بارِك الزواج يا عم أبا الحسن، توكَّل على الله.
جمالات : وبلا جهاز؟!
أبو الحسن : إذن فقد كان حلمًا. عمارة، عمارة، عمارة تغيَّب عن المقهى وأحضرتُ بدلًا منه ميمون.
قمر : عمارة في الخارج يصفُّ الكراسي.
أبو الحسن : عمارة في الخارج!

(يخرج إلى المقهى ويتبعه ثلاثتهم.)

أبو الحسن : عمارة!
عمارة : نعم يا عم أبا الحسن.
أبو الحسن : أين كنتَ يا ولد؟
عمارة : في بيتنا يا عم أبا الحسن.
أبو الحسن : كل هذه الأيام.
عمارة : أي أيام يا عم أبا الحسن؟ لقد كنتُ هنا أمس.
أبو الحسن : أمس! أمس يا عم عمارة!
عمارة : ماذا جرى لك يا عم أبا الحسن؟ … ألم أسلمك إيراد المقهى أمس قبل أن ألمَّ الكراسي؟
أبو الحسن : وكم كان إيراد المقهى؟
عمارة : دينار وعشرة دراهم.
أبو الحسن : كنتَ هنا أمس يا عمارة؟!
عمارة : سلامتك يا عم أبا الحسن.
جمالات : اسمع، نصف مهر البنت لك والنصف لي.
أبو الحسن : إذن فقد كان حلمًا.

(يدخل إلى بيته ويعبر القاعة ذاهلًا ويخرج من المسرح وتتبعه جمالات.)

جمالات : نعم! أظن لم تسمعني! النصف لك والنصف لي.

(تخرج وراءه.)

قمر : نفعَت الحيلة.
إسماعيل : لولا أنني ألهمت أن أترك له المهر ما قبلت الزواج منك.
قمر : نعم كان هذا إلهامًا، أنت رائع يا إسماعيل!

(يمر الناس بالمقهى مسرعين — كما كانوا في الفصل الأول — ولا يجلس أحد على المقهى، ثم يدخل التاجر.)

إسماعيل : إنما أنت الرائعة. إن الفكرة كلها فكرتك، ولكني خجِل.
قمر : لماذا؟
إسماعيل : سأتزوجك بلا مهر.
قمر : بل إن مهري هو أغلى مهر تطمع فيه عروس.
إسماعيل : أنا لم أقدِّم المائتَي دينار كما تعلمين.
قمر : ولكنك قدَّمتَ حُبَّك.
إسماعيل : كلام شعراء.
قمر : ألا تحب كلام الشعراء؟
إسماعيل : ترَيْن، أيعود نور الدين إلى الشعرا؟
عمارة : أنتَ جئت! أهلًا وسهلًا!
التاجر : أهلًا بك! هات القهوة.
عمارة : أتريد القهوة حقًّا أم ندخل في الموضوع مباشرة؟
التاجر : كما تحب.
عمارة : طبعًا أنت تريد القهوة لفتح الحديث معي وأنا مستعد للحديث دون مقدمات.
التاجر : مستعد!
عمارة : دون لف أو دوران، قالت أقبَلُه لو عرفتُ فيما يتاجر.
التاجر : إذن فلا فائدة.
عمارة : أنت حر.
التاجر : أمري لله، أنا تاجر جوارٍ.
عمارة : جوارٍ؟!
التاجر : نعم.
عمارة : أنفس بشرية؟!
التاجر : هي جوار على كل حال.
عمارة : إذن خذ.
التاجر : ماذا؟
عمارة : كيس النقود الذي أخذتُه منك (يبحث عن الكيس) الكيس! أين الكيس؟ لقد كان معي!
التاجر : تقصد هذا الكيس؟
عمارة : أهو معك؟
التاجر : وجدتُه اليوم في جيبي.
عمارة : فهو لك.
التاجر : والذي بيننا؟
عمارة : ليس بيننا شيء، ولن يكون بيننا شيء.
إسماعيل : قمر، ألا ترين أن نخرج لنرى الناس ماذا يفعلون؟
قمر : لقد عادوا إلى حياتهم.
إسماعيل : لا بد أن أتأكَّد.
قمر : اخرج إذا شئت.
إسماعيل : ماذا ستفعلين؟
قمر : سأبقى مع أبي أقنعه إن عاد إليه الشك.
إسماعيل : خيرًا تفعلين.

(يتجه إسماعيل للخروج.)

(تدخل قمر إلى البيت.)

التاجر : يا بني فكِّر.
عمارة : تعالَ يا سيد إسماعيل.
إسماعيل : ماذا تريد يا عمارة؟
عمارة : لحظة إذا أذنت.
إسماعيل (يتقدم إليه) : ماذا؟
عمارة : يا سيدي التاجر، أقدِّم إليك السيد إسماعيل خطيب الست قمر الزمان، رجل يحب الشعر والجمال والفن ولا يتاجر في الأنفس البشرية.
التاجر : أتركك بخير يا عمارة (يخرج).
إسماعيل : أكان يريد أن يخطب قمر الزمان؟
عمارة : وانتهى الأمر يا سيد إسماعيل، انتهى الأمر.

(يدخل نور الدين مهرولًا.)

نور الدين : إسماعيل، لقد صح ما توقعته، إنك هنا، لقد عدتُ أقول الشعر يا إسماعيل.
إسماعيل : أكملتَ الأبيات؟
نور الدين : أكملتُها، أكملتُها:
وقفتُ أُجيلُ الطَّرفَ حَوْلِي فراعني
مدامعُ من عينَيَّ لا تتحدَّرُ
أهيبُ بها تَهمِي فتأبَى ترفُّعًا
وأزجرُها تمضي فتعصِي فأصبرُ
ومسَّ فؤادي من نسيمك خطرة
فسالت دموعي فرحةً تتفجَّرُ
حياةٌ بلا دَمعٍ حياةٌ بئيسةٌ
وعَيْشٌ بلا حِسٍّ مُمِلٌّ مُكدَّرُ
ولا خيرَ في الدنيا إذا هي أصبحت
هناءً بريئًا عن دموعٍ تحدَّرُ
جمالُ حياتي في دموعي وبَسمتي
وأجملُ أيَّامي قصيدٌ ومزهرُ

سلامٌ عليك.

(ينصرف فرحًا.)

إسماعيل : إلى أين؟
نور الدين : أقول القصيدة للناس، فلا جمالَ لها إذا لم يسمعها الناس.

(يخرج.)

إسماعيل (يذهب إلى بيت قمر) : يا قمر، يا قمر.
قمر : نعم يا إسماعيل (تأتي إليه).
إسماعيل : لقد أكمل نور الدين القصيدة.
قمر : إذن عادت الحياة كما كانت يا إسماعيل.
إسماعيل : قد عادت الحياة إلى الحياة يا قمر الزمان.
(ستار)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤