الفصل الثاني

البنك المركزي في إنجلترا وفي فرنسا وفي ألمانيا وفي روسيا وفي الولايات المتحدة

بنك إنجلترا

ندع تلك البنوك التي أنزل عليها التاريخ ستاره لنتكلَّمَ عن أهم البنوك المركزية القائمة في الوقتِ الحاضِرِ مُبتدئين بعميدها؛ بنك إنجلترا. فهو وإن لم يكن أقدم البنوك الموجودة على قيدِ الحياة أو أكثرها مالًا، إلَّا أنه برغم ذلك له مآثر لا تنكر في عالم البنوك وآثار خالدة في السياسة والاقتصاد والاستعمار البريطاني.

رسم الخطَّة الأولى لهذا المصرف العتيد رجُل اسمه «وليم باترسون» سنة ١٦٩٤، واستعان على تدبيرِ ماله بجماعة من كبارِ الماليين في حي السيتي، بعضهم من الحزب المعروف بجماعة اﻟ Whigs ليقرضوا الملك وليم الثالث William ١٢٠٠٠٠٠ جنيه ليستعين بها في حربه مع لويس الرَّابع عشر ملك فرنسا نظير فائدةٍ تدفع لهم سنويًّا بواقع ٨٪ مُضافًا إليها ما سمِّي نفقات الإدارة، فيكون مجموع ما يدفع لهم ١٠٠٠٠٠ جنيه سنويًّا، وعلى أن يكون من حقِّ هذه الشركة أن تحصلَ على إذنٍ من الحكومة البريطانية بإصدار الورق النقدي، وقد حصلت على ذلك الإذن بعد سنوات قليلة.
ولكن هارلي Harley وفولي Foley على رأس جماعة من ملاك الأراضي وأعيان الأقاليم والقساوسة والرجعيين من المطالبين بإعطاء الملكية أوسع الاختصاصات المعروفين Tories أغاظهم ذلك، فاتهموا مُنشِئ بنك إنجلترا بأنهم انتهزوا فُرصة احتياجه للمال وأقرضوه بربا فاحش، ورموهم عَلَنًا في البرلمان بأنهم أفَّاكون خونة. ولم يطل الأمر بحزب الملك حتَّى ناهضهم بمشروعٍ أعدَّهُ رجلٌ جمَّاعٌ للمال كان في الأصلِ طبيب الأمراض النسائية ومولد الملكة آن، اسمه Dr, Chamberlen، فكون شركة من رجالِ البلاط وحزب الملك أنشأت بنكًا يُسمُّونه بنك الأراضي Land Bank له حق إصدار الورق النَّقدي على أن يغطى برهونٍ على الأملاك الزراعية، وحجَّتهم في ذلك أنَّه لا خوفَ من إصدارِ الورق طالما هو مُغطًّى بحقوقٍ عينيَّةٍ على الأراضي الزراعية التي تغلُّ إيرادًا مضمونًا يكفي أيضًا لدفعِ ربحٍ معقولٍ للمساهمين.

وبالرَّغمِ من كون الملك وليم قد حَاوَلَ أن يبقى مُحايدًا في ذلك الصراع، إلَّا أنَّه اضطر تحتَ ضغط الحوادث إلى المُساهمة في بنك الأراضي بمبلغ ٥٠٠٠ جنيه.

وقد قامَ مشروع هذا البنك على أساسٍ قريبِ الشَّبه للمشروع الذي سبق أن وضعه جون لو. وقد فات مُؤسِّسِي هذا البنك أنَّ طول مدَّة الرهن يُفقِد الأرض سمعتها وقيمتها. وقد ظنُّوا أنَّ الأرض التي قيمتها مثلًا ١٠٠٠ جنيه إذا رهنت عشرة أعوام أتت بثروةٍ تُوازي ١٠٠٠٠ جنيه، وإذا رهنت عشرين عامًا أتت بثروة تُوازي ٢٠٠٠٠ جنيه وهكذا، وحسبوا أنَّ مثل هذه الثروة تصلح أساسًا طيِّبًا للغطاءِ عند الإصدار.

ولم يكتف خصوم بنك إنجلترا بمُحاربته ماليًّا بل حاربوه دينيًّا؛ فقد وقف القس الدكتور Sachervell خطيبًا في كنيسة سانت بول ودعا إلى مُظاهرةٍ قامت من هايد بارك لتخريب بنك إنجلترا ونهبه، ولكن الملكة Anne آن أرسلت حرسها الملكي فحافظ على البنك وحماهُ من المُعتدين، وقد حفظ البنك لها هذا الصنيع ووثق العلاقات معها. ولكنها اضطرَّت من ناحيةٍ أُخرى أن تُرضي المناصرين للملكية، فأصدرت لهم امتيازًا بشركة South Sea مُحاربة لنفوذِ فرنسا في أمريكا. وقد أقحموا الملك جورج الأوَّل، فأجلسوه في رياسة شركات فجَّة، وجعلوا في عضوية إدارتها بعض ذوي النفوذ ليقبل الجمهور على الاكتتابِ فيها. وقد أفلست هذه الشَّركات وحقَّقَ البرلمان في تصرُّفاتهم، وأصدر قراره بإدانة هؤلاء العُظَمَاء الذين غرَّرُوا بالشعب وأوقعوه في مشروعات خائبة.

ولقد استطاع بنك إنجلترا أن يقومَ بعملِهِ على الوجه الأتم وسط تلك العواصف الحزبية والمالية، ولعلَّ من حُسنِ حظِّهِ أنَّ خصومه قد منعوا بنص صريح مساهمي بنك إنجلترا من الاشتراك في بعض شركاتهم. ولكن بنك إنجلترا رغم كيدهم له كان رحب الصدر مع خُصومه؛ فلم يمتنع عن بذل المُساعدة لإنقاذِ أعوان الحكومة من الورطة المالية التي أوقعوا أنفسهم فيها.

ولم يبخل على الحكومة البريطانية بالقروض في الحروب والأزمات التي سبَّبَت لها ديونًا بلغت في سنة ١٧٥٠ ما قُدِّرَ بمبلغ ٧٥ مليونًا من الجنيهات، منها لبنك إنجلترا وحده ١٢ مليونًا. وهذا الدين ليس بالقليلِ في ذلك الوقت على شعبٍ عدده ستة ملايين ونصف مليون نسمة. لقد قبل البنك عن طيبِ خاطرٍ أن ينزل فائدة دينه إلى ٤٪، ثمَّ أنزلها مرَّة ثانية إلى ٣٪، وفوق هذا فقد تكفَّلَ بتحويلِ وحدته ديون الحكومة المُختلفة الأنواع، فأحسن القيام بتلك المهمة التي عهدت إليه بها الحكومة البريطانية.

ولمَّا ولِّي الحُكم العبقري بت الصغير Pitt أخذ على عاتقه وهو في الخامسة والعشرين من عمره سنة ١٧٨٣ أن يعمل على تخفيضِ ديون إنجلترا بتقليلِ النفقات واتخاذ احتياطي يخصَّصُ في الميزانية لاستهلاك الديون. ولكن الثورة الفرنسية لم تمهله، فقد جرَّت في أعقابها صراعًا عنيفًا في القارَّة الأوروبية امتدَّ لهيبه إلى إنجلترا، وأوشك أن يتناولها في مُستعمراتها، ولم يكن بدٌّ لإنجلترا في أن تقترضَ لتستعدَّ للحرب التي لم يكن ثمَّة مفر من الدخول فيها.

ولمَّا كان بنك إنجلترا مُقيَّدًا بمقتضى القانون ألَّا يقرض الحكومة إلَّا بتصريحٍ من البرلمان، فقد استصدر «بت» قانونًا يعفي بنك إنجلترا من هذا القيد، ويطلق يده أن يقترض ما يشاء من ذلك البنك في تلك الفترة الحالكة السواد التي تعلَّقت فيها مصائر إنجلترا بين الحياة والفناء. وقَبِلَ البنك ذلك ولكنه تعرَّضَ للإفلاس؛ إذ أكثر من البنكنوت وجاء الناس يُطالبونه بالقطع النقدية المعدنية. وهمَّت الحكومة أن تعفيه من ذلك، وإذا بزعماء المالِ يجتمعون ويمضون تعهُّدًا ألَّا يسحبوا أموالهم وألَّا يطالبوا بالنقود المعدنية. ذلك موقفٌ خالدٌ من مواقِفِ الوطنية العملية، لا بدَّ لنا من أن نذكرَهُ بالإعجابِ لقومٍ بنوا مجدهم على الأخلاقِ والتضحية.

ولمَّا انتصر الإنجليز على نابليون عادت الثقة إلى المالية البريطانية، وجاءت الأموال والسبائك المعدنية تتدفَّقُ على البنك وغيره من البنوك الأُخرى، وأعادت الحكومة العمل بالمادة التي كانت تحرِّمُ على بنك إنجلترا ألَّا يُقرضها إلَّا بعد استئذان البرلمان.

ولم تكن شدائد الحروب فقط هي التي أدَّى فيها البنك واجبه نحو بلاده، بل أدَّى ذلك الواجب في أزمات السلم أيضًا عندما عمَّت ضائقة نقص المحاصيل الزراعية، ونشأت مُفاجآت التنافُس الصناعي وتخبُّط شركات التأمين التي تعرَّضت فيها بنوك إنجلترا وشركاتها للخراب فعلًا، فتقدَّم بنك إنجلترا وقاد السفينة قيادة ربان ماهر فنجت بأقلِّ الخسائر الممكنة.

ولقد كانت لهذا البنك اليد الطولى في إقالة عثرات كثيرٍ من الشَّرِكَات الاستعمارية، وفي إنشاءِ البنوك التي تعمل في الخارج لمصلحة التجارة والاستعمار البريطاني. وكم كلَّفَته الحكومة البريطانية سِرًّا وعلنًا أن يمدَّ هذه الشركات بالمعونة. وحسبه أنَّه مكَّنَ للحكومة البريطانية أن تشتري موجودات شركة الهند الشرقية عندما قرَّرَ البرلمان ضمها إلى التاج ليحكم الهند، وأنَّه أعطى تلك الحكومة أيضًا المبلغ الذي دفعته ثمنًا لأسهم شركة قنال السويس عندما عرضها الخديو للبيع بثمنٍ بخسٍ.

لم يكن من المُستغرب بعد هذا كله أن تنظرَ إليه الحُكومة والشركات والأفراد في إنجلترا نظرة الإعجاب بما انطوى عليه من رعاية مصلحة الجميع؛ فقد لمسوا قيمة تلك الخصال التي طبع عليها مساهموه وإدارته على مرورِ الزَّمن وتعاقُبِ الأحداث.

ولقد وصف هذا البنك Walter Pagehot أدقَّ وصف وأوجزه في كتابه Lombard Street الذي طُبِعَ سنة ١٨٧٣ فقال: «إنَّ بنك إنجلترا قد نجح؛ لأنه عرف أن يؤدِّي واجبه في نظرٍ ثاقبٍ لا يُحابِي أحدًا، بل يعمل للمصلحة العامة وحدها، فيدخر في وقتِ الرَّخاء احتياطيات هائلة يتقدَّمُ بها مُخاطرًا في أوقاتِ الشَّدَائِدِ ليُنقذَ بلاده.» وقد أعجب بهذا الوصف اللورد كنيس، فقال عنه في سنة ١٩٢٦: «إنَّه قد أُمِّمَ بنك إنجلترا بتلك العبارة الجامعة منذُ خمسين سنة مضت.» تلك نبوءة صدقت قولًا وتأويلًا؛ فقد تحقَّقَت سنة ١٩٤٥ عندما أمَّمَته الحكومة، ولم يشعر أحد بأقلِّ فارق.

بنك فرنسا

ذلك بنك إنجلترا قامَ على أموال الأفراد، وتدرَّجَ مع الزمن في تقاليد جعلته يضع مصلحة الإمبراطورية في المقامِ الأوَّل، هو بنك يختلف بعضَ الاختلاف عن بنك فرنسا الذي أنشئ سنة ١٨٠٠ في عهد نابليون الذي لم يقصر كل همه على الحروب، بل نهض بفرنسا في الاجتماع والقانون والمال.

تأسَّسَ بنك فرنسا برأسِ مالٍ قدره ٣٠٠٠٠٠٠٠ فرنك مُقسَّم إلى أسهم قيمة كلِّ سهمٍ منها ١٠٠٠ فرنك، كتبت فيه الحكومة بما قيمته ٥٠٠٠٠٠٠ فرنك، والباقي من رأسِ المال اكتتب به الأفراد والشركات، ثم زيد رأس ماله سنة ١٩٤٨ عندما ضمَّت إليه تسع بنوك إقليمية صارت ضمن فروعه المُنتشرة في فرنسا.

نشأ هذا البنك أولَ أمره شبه حكومي خاضعًا لسلطان الحكومة الفرنسية إلى حدٍّ كبيرٍ؛ فهي مُساهمة فيه، ولا رأي غير رأيها في إدارته وسياسته. وقد احتكر إصدار البنكنوت في فرنسا، وأكثر من إصداره بالنسبة لبنك إنجلترا؛ لأن الفرنسيين لا يستعلمون الشيكات بالكثرة التي يستعملها الإنجليز.

وتستودع الحكومة الفرنسية هذا البنك أموالها، ويقومُ لها بخدماتٍ كبيرة بغيرِ أجرٍ، وتستطيعُ دائمًا أن تلزمه بتقديم قروض لها، ولا يقتصر عمله على الحكومة والبنوك، بل يتعامل مع الأفراد ويحفظ لهم الودائع، ويعطيهم خطابات الاعتماد، ويشتري ويبيع لهم الأوراق المالية في البورصات. وهو في هذا يُخالِفُ ما كان الإجماعُ مُنعقِدًا عليه من ضرورة ابتعاد البنوك المركزية من التعامل مع الأفراد.

وقد وجَّهَ بعض الكُتَّاب إلى هذا البنك انتقادين؛ أولهما: أنَّه بالَغَ في كثيرٍ من المواقف في جمع السبائك المعدنية الذهبية منها بوجهٍ خاصٍّ عملًا بالأسالِيبِ الكلاسيكية التي تعتبر المعادن النفسية عنوانَ الرَّخاء وعماد الثبات في سعرِ العملات. وثانيهما: أنه كان خاضعًا خضوعًا أعمى لأوامر وزارة المالية الفرنسية، لا يُناقشها ما تطلبه من قروض، ولو كانت عقيمة أو كانت بواعثها العمل على تصويرِ التوازن لميزانيَّات مُلفَّقة؛ ممَّا أدَّى إلى هبوط الفرنك.

ومهما يوجه إليه من انتقاد فمن حقِّه عليها أن تذكر له أنَّه قد أدَّى واجبه هو الآخر نحو بلاده في حروبها وأزماتها، وفي نشر استعمارها وتجارتها قبل أن يتحوَّلَ كزميله بنك إنجلترا إلى بنكٍ مُؤمَّمٍ مملوك للدولة.

الريشبنك في ألمانيا

ومن النماذج الفريدة في بابها: بنك الريخ الألماني، الذي أُنشئ في سنة ١٨٧٥ بعد أن توحَّدت ألمانيا وانتصرت على فرنسا في الحرب السبعينيَّة. وكان من المتعيَّن أن يُوجد نظام الإصدار الذي كانت تقوم به بنوك الدويلات من قبل، وأن يكون للإمبراطورية الجرمانية بنك مركزي تقوم عليه نهضتها الاقتصادية التي يجب تجنيد القوى لتسرع فتحتل ألمانيا المكان اللائق بها؛ ولهذا كان من خصائص النظام الألماني أن يجعل البنوك على صلَةٍ وثيقةٍ بالصناعة على عكسِ النظام الإنجليزي والفرنسي — ولا يُماثِلُ النظام الألماني إلَّا نظام النمسا والمجر واليابان قبل الحرب الماضي — وأن يجعل البنوك أيضًا على صلةٍ كبيرةٍ بالحكومة والهيئات العامة.

لقد جنت الحرب العالمية الأولى على ألمانيا، وأفقدت برلين سوقًا مالية عظيمة كانت تمتازُ بكونها تقترضُ لآجال طويلة في حينِ أنَّها هي تقترضُ لآجالٍ قصيرةٍ، كما جَنَت أيضًا على بنك الريخ الذي وإن استطاع بمهارةٍ فائقةٍ أثناء تلك الحرب أن يموِّل ألمانيا وحلفاءها الذين كانوا عِبئًا ثقيلًا عليها لقلَّة مواردهم، إلَّا أنه خرج منها منهوك القوى غارقًا في خضمٍّ من الورق النقدي الذي فقد قيمته سنة ١٩٢٣ حين أعلنت الحكومة الألمانية عجزها عن سدادِ ما عليها، ومدَّ لها الحلفاءُ يد المُساعدة لتستطيع أن تدفع لهم ما فرضوه عليها من ديون.

أعاد الحلفاء بنك الريخ سنة ١٩٢٤ في نظامٍ جديدٍ فرض عليه طبقًا لمشروع داوز Dawes أن يبتعدَ عن الحُكومة، وأن يعين في مجلس إدارته قوميسيرًا أجنبيًّا، ثم جاء مشروع «يونج» فأحلَّ خبيرًا أجنبيًّا محله. ولكن هتلر أرجع البنك تحتَ سيطرة الحُكومة وجعله مَسئولًا أمام الفوهرر، ولو أنَّ أسهمه تحملها الأفراد. ولقد لعب هذا البنك دورًا خطيرًا أثناء الحرب العالمية الثانية في تمويل ألمانيا، وكان واسطة التعامل بين الدول المُحتلَّة التي ربط عملاتها بعملته في نظامٍ مُحكمٍ للتبادُلِ التجاري بزعامة المارك في منطقته التي أخضعتها جيوش الألمان قبل هزيمتهم، وجعلت عملتها مُتَّصِلَة بالمارك اتصال الإسترليني بالعملات التابعة له.

نظام روسيا الشيوعية

أمَّا روسيا فإنها أنشأت بنكها المركزي ملكًا للحكومة سنة ١٨٦٠ في العهد القيصري. ولكنَّها أسرفت في الاقتراض منه وفي حمله على إصدار ورق نقدي كان يعوزه الغطاء السليم. فكان النظام القيصري مضرب المثل على فساد الإدارة الحكومية حين تسيطر على بنك الدولة.

وقد تغيَّرَ هذا النظام على أيدي البلاشفة الذين جعلوا الغابات والمزارع والمصانع والمُواصلات كلها ملكًا للدولة، وهي التي تقومُ بالتوزيعِ في نظامٍ مُتمَاسِكٍ مُتشابك يعودُ بالنفع على الأُمَّة في مجموعها — كما يقولون — وجند فيه الأفراد في مُختلف طرائق الإنتاج التي تقوم بالصرف عليها ميزانية ضخمة تجمع في ميزانيات الاتحاد السوفيتيي بإشراف الهيئة التشريعية المركزية، وهذه الميزانية هي التي تمدُّ البنك الحكومي بالمال طبقًا لما يرسم له من خطط.

ومنع هذا النظام سنة ١٩٢١، وأُعطي البنك حقَّ إصدار ورق النقد «البنكنوت»، وقد حصر فيه بمقتضى القانون حق امتلاك الذهب، سواء ما يُوجد منه في البلاد أو ما يستورد من الخارج، وكذلك له وحده حقُّ امتلاك المعادن التي تقرب منها القطع المعدنية، وحق امتلاك العملات الأجنبية التي تُوجَد أو تردُّ إلى روسيا.

وقد استطاع هذا البنك بعد مجهودٍ عنيفٍ أن يثبت العملة الروسية، وهو المسئول عن غطاء النقد وكل ما يتعلَّق بالعملات، وتحت تصرُّفِهِ بنوك صغيرة مُنتشرة في البلادِ تقومُ بالقروض الطويلة الأجل. أمَّا القصيرة الأجل فهي من حقِّ بنك الحكومة الرئيسي وحده.

ومهمَّة هذا البنك أن يموِّل الإنتاج بمختلف أنواعه من يومِ أن يبدأ الإنتاج إلى آخر مرحلةٍ يُباعُ فيها. ويزعم البلاشفة أنَّ نظامهم مَرِن يجعل النقود لا تَبْقَى عاطلة أيَّة مُدَّة، مع أنَّه يُخضِعُ المقترض إلى إشرافٍ حُكوميٍّ وتوجيهٍ يُقيِّدَانِهِ. فإذا أخفق حقَّق معه لمعرفة أسباب الإخفاق، فإذا كان العمل الذي اقترض من أجله مُجديًا استمرَّ فيه، وإلَّا مُنع منه وسُئِلَ عن نتائج أخطائه.

وتدخل أرباح هذا البنك وخسائره في الميزانية العامة. أمَّا موارده فتأتيه من ودائع مخصَّصَة للإنتاج وتنفيذِ برامج أُعدَّت للصناعة ولتمويل الإنتاج في المزارع التعاونية ومن احتياطي خاص يُؤخذُ من أرباحه، فضلًا عمَّا تخصِّصُه له الميزانية العامَّة للاتحادِ سنويًّا.

وهذا البنك مسئول أكبر المسئولية عن جعل كمية النقود وحركتها مُطابقتين لحاجات البلاد، وهو وحده الذي يستطيع أن يتعامل مع البنوك الخارجية، وعند اللزوم يصدر له قانون بتحديد سعر العملات الأجنبية.

الطريقة الفدرالية في الولايات المتحدة

نترك العالم القديم لننتقِلَ إلى توأمه الحديث الاكتشاف الذي قام كيانه الاقتصادي على أكتاف جماعات نشيطة هاجرت إليه زرافاتٍ ووُحدانًا مُعظمُهم من القارة الأوروبية؛ لدواعٍ دينية، أو سعيًا وراءَ الرِّزقِ في استخراجِ المعادن النفيسة، أو فِلاحة الأرض. ولقد كانت تلك القارة مسرحًا لمعارك طاحنة بين هؤلاء الأقوام، بل أيضًا بين بعضهم وبين الإنجليز في حرب انتهت باستقلال الولايات المتحدة.

وإنَّ لنا في تاريخ الولايات دروسًا يجب الانتفاع بها حين تتطور من بلاد كان جل اعتمادها على الزراعة، إلى بلاد تجمع بين الزراعة والصناعة في أرقى الأساليب المُبتكرة التي باتت يُحسَبُ لها أكبر حساب في المُنافسة الدولية والتهيُّؤ لانتزاع أسواق المال من القارَّة الأوروبية.

ونظام بنوكها المركزية المتحدة في إدارةٍ عامَّة جاءَ وليد تجارب قاسية مرَّت بها البنوك والحكومة والأفراد في أدوارٍ مُتلاحقة من الرَّخاء والأزمات والاعتبارات الإقليمية المختلفة.

ولقد قضت ظروف هذه الولايات أن تكون الخطوة الأولى إنشاء بنوك الأراضي Land Banks في سنة ١٦٨٦ لمساعدة المزارعين على استغلال أراضيهم. وكان من حقِّ هذه البنوك أن تُصدرَ ورقًا نقديًّا، ولكنها تحت ضغط الحاجة أسرفت في إصداره إلى حدٍّ جَعَلَ إبداله بالنقود المعدنية مُتعذِّرًا؛ فجرَّ هذا إلى تضخُّمٍ سيِّئ العواقب تلته أزمات ممَّا اضطر الحكومة أن تخطوَ الخطوة الثانية بإنشاءِ بنوك حكومية في الولايات State Banks أولها بنك The Bank of the State of Peunysilvania، ثم بنك The Bank of the State of New York، ثم بنوك أخرى بعضها مملوك للولاية وبعضها مملوك لها وللأفراد مثل بنك Bank of Indiana، ومضت هذه البنوك في أعمالها تُصدِرُ الورق النقدي وتقبل الودائع وتقترضُ وتُقرض، ولكن القروض زادت عن الودائع.
ولمَّا لم تكن هذه البنوك على جانبٍ من القوَّة والتنظيم يسمحُ لها أن تنهض بالولايات المتحدة كدولةٍ تسعى إلى هدف في المعترك الدولي، فقد أسَّست الحكومة سنة ١٧٩١ بنكًا مركزيًّا شبه حكومي Bank of the United States، رأس ماله ١٠٠٠٠٠٠٠ دولار، دفعت منها الحكومة ٢٠٠٠٠٠٠ دولار، والباقي اكتتب به الأفراد والبنوك. ونقلت عن بنك إنجلترا وتقاليده بعض موارد هذا البنك. وبدأ عمله في فيلادلفيا، واستودعته الحكومة والبنوك والأفراد ما زادَ لديهم من مال، فضلًا عن كونِ الحكومة قد اعتمدته في تحصيلِ مالها أو أداء ما عليها للأفراد.

ولمَّا انتهى امتياز هذا البنك بعد عشرين عامًا، وأرادت الحكومة أن تمدَّ مُدَّتَه لعبت الأهواء السياسية دورًا خطيرًا فرفض مشروع القانون بصوتٍ واحدٍ في المجلسين، واضطرَّ البنك أن يصفِّي أعماله في سنة ١٨١١.

نشطت على أثر ذلك البنوك الأخرى نشاطًا ضارًّا، فحدثت أزمات اتضحَ منها بوجهٍ قاطعٍ خطأ تصفية ذلك البنك؛ فأنشأت الحكومة بنكًا ثانيًا على غرارِ البنك الأوَّل عُرِفَ باسم The Second Bank of the United States، وجعل امتيازه كذلك لمدَّة عشرين عامًا، وقام على إدارته مجلس مكوَّن من عشرينَ عضوًا تنتخبهم الجمعية العمومية للمساهمين وخمسة أعضاء يعينهم رئيس الولايات المتحدة بموافقة الكونجرس. وكان مركزه الرئيسي في فيلادلفيا أيضًا وله فروع مُنتشرة في المدن الهامة.

وبالرَّغمِ من كون هذا البنك قد أُصلحت فيه العيوب التي أُخِذت على البنك الأول، وبالرغم من كونه قد قام للحكومة والأفراد بخدمات لا تُنكر، إلَّا أنَّ تدخُّل الحكومة في إدارته واضطرارها تحت ضغطٍ سياسي لم تقوَ على مُواجهته إلى سحبِ ودائعها منه وإعطائها للبنوك الإقليمية التي كثر عددها، وساءت إدارتها، كل أولئك سبَّبَ للبلادِ كارثة مالية جعلت هذا البنك يتوقَّفُ عن الدَّفعِ في سنة ١٨٤١.

ساء الموقفُ بعدئذٍ؛ فالبنوك الإقليمية مُتضاربة السياسة، ومصادر النفوذ الورقية مُتعدِّدة، ونظمها مُتغيِّرة مُتبدلة، وزاد الموقف سوءًا على سوء قيام الحرب الأهلية؛ فأصبح من المحتَّمِ بعد هذا أن يصدر قانون في سنة ١٨٦٣ ينظِّمُ أعمال البنوك في الولايات المتحدة.

نصَّ ذلك القانون على نظامٍ يُعرف ﺑ National Banks System، بمقتضاهُ يتعيَّنُ على البنوك في الولايات المتحدة أن تملك ضمانًا لإصدارها سندات حكومية بقيمة ٢٥٪ ممَّا تصدره هذه البنوك من ورقٍ وما تحفظه من ودائع. عمل هذا القانون على ضبط أعمال البنوك، ومكَّنَ للحكومة أن تعترضَ منها وبين واجباتها في الإصدار، وحدَّدَ لها المُدَّة التي يُعطى فيها الامتياز بعشرين عامًا.
ولكن هذا النظام رغم متانته الظَّاهرة لم يحلَّ الإشكال الأول، وهو عدم توحيد سياسة البنوك لمصلحته الاقتصاد القومي في الولايات المتحدة. وقد اتَّضح هذا العيب جليًّا في أزمة سنة ١٩٠٧ عندما شكَّلَت الحكومة لجنة National Monetary Committee لتبحثَ أسباب ونتائج تلك الضائقة … وقد قدمت تلك اللجنة تقريرًا لفتت فيه النظر إلى أنَّه من عيوب ذلك النظام عدم توحيد السياسة، وعدم مرونة النظام نفسه، وضعف السوق المفتوحة لخصم الأوراق التجارية والزراعية، وبالجملة عدم انطباق هذا النظام تمامًا على حاجات البلاد.
وكان هذا التقرير أساس التعديل الذي أقرَّه الكونجرس سنة ١٩١٣ للنظام الحالي المعروف ﺑ Federal Reserve System المتَّبَع الآن في الولايات المتحدة، ومن أهم أغراضه تدبير نظام مرن في إشرافٍ دقيقٍ وتنظيمٍ عامٍّ مركَّزٍ.
قُسِّمَت الولايات المتحدة بمقتضى هذا النظام الجديد إلى اثنتيْ عشرة منطقة، في كلِّ منطقةٍ منها مدينة هامَّة للاحتياطي بها بنك مركزي له مجلس إدارة مكوَّن من تسعة أعضاء، ويتكوَّن رأس ماله من اكتتابٍ تدفعه البنوك، وقد تُساهم الخزانة العامَّة للدولة بمبلغٍ مُعيَّن تأخذ به أسهمًا بناءً على اقتراح من لجنة Organisation Committee، ولكن لوزير المالية أن يتصرَّفَ ببيعِ هذه الأسهم إذا لم تعد هناك حاجة إلى امتلاكها.
وكل بنك من هذه البنوك له حرية العمل في استقلالٍ ذاتيٍّ يتعامَلُ فيه بالسوق المفتوحة وبالخصم ويتَّصِلُ بالبنوك المركزيَّةِ الأُخرَى. ولكن تشرف على هذه البنوك هيئة مركزيَّة في واشنجتن تسمَّى Board of Governors of the Federal Reserve System، ترسم لها خطة العمل الموحَّد حتَّى لا تتضارب الخطط. وهذه الهيئة تتكوَّنُ من سبعة من المُديرين يُعيِّنهم رئيس الولايات المُتَّحِدَة بموافقة مجلس الشيوخ. وبهذا فإنَّ اللامركزيَّة تصبح اسمية أكثر منها فعلية؛ لأن هذه الهيئة المركزية تنسِّقُ العمل بين تلك البنوك، وتجعلها ترعى رعاية موحَّدة للاقتصاد الوطني.

ذلك النظام الأمريكي لا نظيرَ له في بلدٍ آخرَ من بلادِ العالم التي في كلٍّ منها بنك مركزي واحد. إنَّ هذا النظام الأمريكي بلا شكٍّ فَذٌّ في نوعه؛ لأنه يقوم على اثنيْ عشر بنكًا يتبعها أربعة وعشرون فرعًا لها يُساهم فيها ٦٣٠٠ بنك. ومثل هذا النظام لم يسمع بمثله في بلادٍ أُخرى، ومن المتعذِّرِ — إن لم يكن من المستحيل — أن يطبق في غير الولايات المتحدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤