الفصل الرابع

فكرة بنك مركزي لمصر

(١) مُحاولات البنك المركزي في مصر

كنتُ أُريدُ أن أرى في مصر بنكًا مركزيًّا لأتحدَّثُ عنه، ولكنِّي مع الأسف لم أجد سوى مُحاولات لاتِّخاذ ذلك البنك، بعضها قامت به الحكومة، والبعض الآخر قام به الأفراد، من ذلك أنَّ المرحوم محمد علي باشا عقد اتِّفاقًا بينه وبين أحد الأجانب في شركةٍ تقربُ من البنك المركزي شبه الحكومي ساعده في تمويلِ تجارته الخارجية وفي تدبيرِ النقد المصري، ولم يطلق على هذه الشركة اسم بنك؛ لأن العلماء كانوا يحرِّمُون البنوك، ولم يتعامل بالفائدة فيما أعطى أو أخذ من ذلك الماليِّ الأجنبي.

أمَّا المُحاولة الثانية فقد كانت في أواخر عهدِ المغفور له إسماعيل باشا بعد أن اضطربت الأحوال المالية في مصر؛ فقد عَقَدَ بعض كبار المصريين اجتماعًا بموافقة الخديو ووضعوا نظام بنك مركزي نقلوه عن نظام بنك فرنسا، وجعلوا من أغراضه تسوية ديون الخديو والقيام على خدمتها. ولكن إنجلترا عارضت في ذلك، في حين اشترطت فرنسا أن يكون البنك دوليًّا وتحت إشرافها، وحجَّتها في ذلك أنَّ مصر لا تستطيع أن تصدر تشريعًا يمسُّ حقوق الأجانب بغيرِ مُوافقة دولهم.

وأمَّا المُحاولة الثالثة فقد جاءت أثناء الثورة العرابيَّة؛ إذ وضع العرابيون في برنامجهم لترقية البلاد تأسيس بنك مركزي وطني.

وفي سنة ١٨٩٨ صدر دكريتو خديويٌّ يصرِّح للسير أرنست كاسل، وسلفاجو، وسوارس، بإنشاء البنك الأهلي، ويختصه وحده بامتياز إصدار البنكنوت في مصر. وقد جاء في الطلب الذي قدَّمُوه للسير «ألوين بالمر» — المُستشار المالي — للحصول على الدكريتو أنهم يحقِّقُون الرَّغبة التي كلَّفهم بها جنابه، وأنَّ البنك الأهلي — كما يعلم جنابه — حين يصدر البنكنوت يقترض بغير فائدة.

هذه العبارة تُغنينا عن كلِّ تعليق، فالبنك الأهلي يقترض من مصر بغير فائدةٍ، بل أكثر من ذلك أقرض مالَ مصر بفائدة قليلة لإنجلترا باستعماله القراطيس الإنجليزية غطاءً لما يصدره من بنكنوت. وقد نجحت سياسة اللورد كرومر المالية إلى أقصى حدٍّ حين أرادَ من إنشاء هذا البنك أن يُحارب نفوذ البنوك الأجنبية، وأن تُستخلَص مصر للإنجليز.

وأمَّا المُحاولة الرَّابعة فقد كانت عن طريق أبحاثٍ جرت بين البنك الأهلي والحكومة بين سنتيْ ١٩٠٤، ١٩٠٧ أرادَ منها البنك أن يَزِيد من اختصاصاته بأن يكتسب صفة البنك المركزي فوق أعماله التجارية الواسعة النطاق التي قد يتنازل مُطمئنًّا عن قسم منها لبعض البنوك الإنجليزية، وبهذا تتم سيطرة رءوس الأموال الإنجليزية على مصر.

وأمَّا المحاولة الخامسة فقد دعا إليها المرحوم طلعت باشا حرب في كتاب له عنوانه: «البنك الوطني وعلاج مصر الاقتصادي» طبعه سنة ١٩١٢. وقد أرادَ من إنشاء بنك مصر أن يحقِّقَ به تلك الفكرة — كما أخبرني رحمه الله — وقد ظلَّ ينتظرُ بفارِغِ الصَّبرِ انتهاء امتياز البنك الأهلي ليحلَّ بنك مصر محله في إصدار البنكنوت، ويكونُ بنكًا مركزيًّا يضطلع بنهضةِ البلاد. ولم يغِب هذا عن البنك الأهلي فأعدَّ له العدَّة.

وأمَّا المُحاولة السَّادسة فقد كانت فُرصة عَرَفَ البنك الأهلي كيف يستغلُّها حينَ انكشف في سنة ١٩٤٠حساب الحكومة الجاري في البنك بمبلغ مليونيْ جنيه، وحين أرادَ بنك مصر أن يقترضَ منه كما كانت تُقرِضُ البنوك الأُخرى على سندات الدَّين المُوحَّد وسبائك الذهب. فاشترط البنك الأهلي لإمهال الحكومة في دفع دينها ولمساعدة بنك مصر على اجتياز أزمةٍ عابِرةٍ أن تستصدر الحكومة قانونًا من البرلمان يمدُّ امتيازه أربعين سنة، وقد تعهَّدَ لها البنك الأهلي بأن يتحوَّلَ إلى بنكٍ مركزيٍّ. وقد قبلت الحكومة ذلك مُرغَمَة تحتَ ضغط الحوادث، كما قال وزير ماليتنا.

(٢) استعداد الحكومة

وما زال البرلمان بمجلسيه يُطالب الحكومة كلَّ عام أن تتَّخِذَ لمصر بنكًا مركزيًّا، والحكومة تعد، حتَّى لقد بلغ بها الأمر أن ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك، فقد جاءَ في خطاب العرش في نوفمبر سنة ١٩٤٦ ما نصه:

وتقدَّمت الأبحاث المُتعلِّقة بالأرصدة وبنظام العملة المصرية وبالبنك المركزي. وأصبحت الحكومة المصريَّة على أتمِّ استعداد لأن تتناول بالعملِ الإيجابي هذه الموضوعات الهامَّة، سواء من حيثُ ما يستدعيه علاجها من تشريعات، أو من حيثُ التدابير التي تتخذ مع المؤسسات الحالية.

انتهت الدَّورة البرلمانية، ولم تنفذ الحكومة ما أتمَّت دراسته، ولم تتناول بالعمل الإيجابي موضوع البنك المركزي، ولم تتخذ مع المؤسسات الحالية أيَّ تدبير.

وفي نوفمبر سنة ١٩٤٧ جاء في خطاب العرش ما نصه:

وقد حان الوقت لإنجاز ما وعدت به حكومتي من تأميم البنك الأهلي تحقيقًا لاستقلالنا الاقتصادي وتدعيمًا لنقدنا المصري.

وقد استفسرت اللجنة المالية بمجلسِ الشيوخ من الحكومة عمَّا أعدته من تشريع في هذا الصدد، فتبيَّنَ لها أنَّه لم يُوضع بعد. وانتهت الدورة كسابقتها ولم تنفذ الحكومة ما أعلنت استعدادها للقيام به أكثر من مرَّة.

(٣) المشروع المقدَّم منِّي لتحويل البنك الأهلي إلى بنك مركزي

ولقد رأيتُ — بوصفي عضوًا بمجلس الشيوخ — أن أضع حدًّا للأضرار المُحيطة بنا؛ فقدمت في الثاني من يناير سنة ١٩٤٦ مشروع قانون لتحويل البنك الأهلي إلى بنك مركزي للدولة المصرية على أساس شركة شبه حكومية رأس مالها عشرون مليونًا من الجنيهات تملك الحكومة منه ٥١٪ والباقي يكتتب به المساهمون الحاليُّون — إذا هم أرادوا — والبنوك والهيئات المالية والأفراد، فلا يقل نصيب المصريين فيه عن ٨٠٪ على أقلِّ تقدير.

وبالرَّغم من امتلاك الحكومة لأغلبيَّةِ رأس المال، فقد جعلت لها في الجمعية العمومية أصواتًا بنسبة ٣٠٪ حتَّى لا تستأثر بالإدارة، ولكنِّي جعلتُ لها من ناحيةٍ أُخرى كلَّ الاختصاصات التي توجَّه بها سياسة البنك طِبقًا للمصلحة العامَّة بصفتها مُمثِّلة للدولة وتحت رقابة البرلمان.

وتأييدًا لهذا الإشراف جعلتُ للحكومة حقَّ تعيين المُحافظ ونائبيه بقرارٍ من مجلس الوزراء، ويعين وزير المالية أيضًا مندوبين من قبل الحكومة لدى البنك لهما مُراقبة أعمال البنك.

ونص مشروعي على أن تكون أغلبية أعضاء مجلس الإدارة من المصريين، فيضم إلى المحافظ ونائبه ثمانية آخرون من المصريين. أمَّا باقي الأعضاء فيجوزُ أن يكونوا من الأجانب لمدَّة تسع سنوات يجب بعدها أن يصبح مجلس الإدارة كله مصريًّا. وجعلت إلى جوار مجلس الإدارة خبيرًا يُؤخذ رأيه في المَسائِلِ الكُبرى.

وقد بحثت اللجنة المالية بمجلس الشيوخ مشروعي في عدَّة جلسات استمعت فيها إلى رأي ممثل الحكومة وإلى آراء بعض أساتذة الجامعة وبعض المشتغلين بالشئون المالية، وانتهت اللجنة إلى تقريرٍ جاءَ فيه أنَّ مشروعي يبعدنا عن الطَّفرة والمُفاجأة، وليس فيه إخلالٌ بتعهداتنا ولا يحملُ في ثناياه ثورة ولا انقلابًا على نظامنا المالي. وإنَّما هو مجرَّد خطوة هادئة أملتْها الحاجة وقضتْ بها الظروف.

ولمَّا عارضَت الحكومة في مشروعي لأنها ترى ضرورة تأميم البنك الأهلي لتسيطرَ عليه تمامًا وتوجِّهه الوجهة التي تراها لمصلحة البلاد، لم يَسَع اللجنة المالية إلَّا أن تقدم تقريرًا لمجلس الشيوخ مُطالبة الحكومة أن تسرع بتقديم مشروعها حتى يمكن المُقارنة بينه وبين مشروعي، وما زال تقرير اللجنة المالية منظورًا أمام المجلس.

تحبيذ مشروعي ونقده

وقد أثارَ هذا المشروع اهتمامَ كثيرٍ من الدَّوائر المالية والعلمية؛ فخاطبني في صدده بعض مديري البنوك وثقات المال مبدين ارتياحهم للمبادئ التي قام عليها المشروع وأخصها عدم تأميم البنك تأميمًا كاملًا كما تريدُ الحكومة. وقد عنيت به شعبة النقود والبنوك في جمعية فؤاد الأول للتشريع والإحصاء والاقتصاد، فعقدت عدَّة جلسات لبحثه انتهت إلى الموافقة عليه.

ولقد بذل نادي التجارة الملكي هِمَّةً عظيمة في بحث مشاكلنا الاقتصادية، فنظم عدَّة مُحاضرات ومُناظرات وشكَّل لجنة لدراسة موضوع البنك المركزي. وقد كان الرَّأي السَّائد في المحاضرات والمناظرات ضد فكرة التأميم. أمَّا اللجنة فقد أعدَّت توصيات مُتَّفقة مع مشروعي في قواعده الأساسية.

ولم يقصُر قسم الخدمة العامة بالجامعة الأميريكية جهده على النَّواحي الأدبية والاجتماعية، بل أضافَ إليها هذا العام النَّاحية الاقتصادية؛ فدعا نُخبة من رجالِ الاقتصاد إلى مُحاضرات أعقبتها مُناقشات في موضوعِ البنك المركزي. وكانت أغلبية المُحاضرين والمتناقشين تؤيِّد فكرة عدم التأميم، وتقولُ بضرورة امتلاك الحكومة لأكثر من نصفِ أسهم البنك مع وجوب ابتعادها عن التدخل في إدارته.

يتَّضِحُ ممَّا تقدَّمَ أنَّ الأغلبية العُظمى لمن درسوا موضوع البنك المركزي تؤيِّدُ مشروعي وتناصره، وإن كان البعض قد اعترض على تقديري سعر سهم البنك بمبلغ ثلاثين جنيهًا أو على ضمِّ خبير دولي إلى إدارة البنك أو على السَّماح للبنك بالتعامل مع الأفراد أو إتيان بعض عمليَّات تجارية.

أمَّا الاعتراض على تقديري سعر السَّهم بمبلغِ ثلاثين جنيهًا فردِّي عليه أنَّ هذا التقدير مأخوذٌ من مُتوسِّطِ أسعار أسهم البنك في عدَّةِ سنوات كما فعلت كثير من الدول عند تحويل بنك فيها إلى بنك مركزي. ثمَّ إنِّي لم أجعل هذا السعر إجباريًّا، بل تركتُ للمساهم الخيار بين أن يأخذ هذا المبلغ وبين أن يبقى مُساهمًا في البنك الأهلي بعد تحويله إلى بنك مركزي، وفوق ذلك جعلت من الجائز أيضًا أن يعطيه البنك سندات فائدتها مُتوسِّط الأرباح التي كان يحصُلُ عليها في السنوات الأخيرة. فلم أظلم المساهمين الحاليين أو الجدد خصوصًا وأنِّي مددت مدَّة الامتياز ١٣ سنة. فإذا قدَّرنا مُقابلًا لهذه الزيادة فالتقدير يزيدُ عن الثلاثين جنيهًا.

وأمَّا عن ضمِّ خبيرٍ دولي إلى إدارة البنك، فهذا من أوجب الأُمُور، ونحنُ نستقدمُ خبراء فنيين في أتفه المسائل. وهذا له نظائر في بعض البنوك المركزيَّة مثل بنك أستونيا وبنك شكوسلوفاكيا. على أنَّنِي لم أحدِّد جنسيَّة الخبير الكُفؤ الذي يستطيع أن يضطلع بمثل هذه المُهمَّة الدقيقة الخطرة، فمن الجائز أن يكون مصريًّا.

وأمَّا عن السَّماح لبنكنا المركزي بالتعامل مع الأفراد وبالتدخُّلِ في بعض الأعمال التجارية، فالواقع أنِّي قد منعته من الأعمال التجارية التي يُنافِسُ بها البنوك الأُخرى، ولم أسمح له بالتعامل مع الأفراد إلَّا في حالات استثنائية محضة يقرِّرُها وزير المالية، ولا يُمكنني أن أمنع البنك من تشجيع نهضتنا ومن علاج الأزمات أو أقبَل أن يقفل فروعه في السودان لتنفرد البنوك الأجنبية بالعمل، فلا بدَّ من تدخُّلِهِ إذا دعت الضرورة.

(٤) مشروع البنك الأهلي

بقي أن نتكلَّمَ عن مشروع البنك الأهلي وعن تفكير الحكومة في مشروع تريد به التأميم.

يرى البنك الأهلي أنَّ التعاقد الذي تمَّ بينه وبين الحكومة سنة ١٩٤٠ يستوجب أن تُصدِرَ الحكومة قانونًا يمكِّنه من الهيمنة على البنوكِ الأُخرى ويزيدُ من نفوذه في مصر، ويتمسَّكُ بأن يبقى ملكًا لمساهميه الحاليين. ذلك مشروع البنك الأهلي يُراعي مصلحة المساهمين وحدهم ويضرب بمصلحة البلاد عرض الحائط، وقد صدق سعادة محمود بك الدرويش عندما وصف ذلك المشروع في مذكرته المعروفة بأنَّه امتهانٌ لذكاء المصريين.

(٥) مذهب الحكومة في التأميم

أمَّا الحكومة فإنها وإن صرَّحت في الصحف وفي خطب العرش بفكرة التأميم إلَّا أنَّها مُتقاعسة متردِّدَة في تنفيذِ تلك الفكرة. وقد لا تستطيع تنفيذها بعد أن عمل البنك الأهلي على امتلاك مُعظم الأرصدة ليضع أمامها عقبة لا تستطيع أن تتخطَّاها إلَّا إذا أرادت أن تعرض نفسها لأخطار تسوية الأرصدة التي تصبح دينًا للحكومة المصرية على الحكومة البريطانية.

ومن أعجب الآراء التي سمعتها رأي يقول بأن تسلخ الحكومة من البنك الأهلي عملية إصدار البنكنوت، فتجعل لها إدارة مُلحقة بوزارة المالية. وهذا رأيٌ عقيمٌ فاسدٌ يؤثِّر على مكانة نقدنا ويحرمنا من بنك مركزي ينظِّمُ الائتمان ويرعى نهضتنا. وقد يرحِّبُ البنك الأهلي بهذا الرَّأي ليتفرَّغ للأعمال التجارية المكسبة.

ما لنا ولكلِّ هذا؟ ولمَ الطَّفرة والمُجازفة ومُحاولة الوثوب في قفزةٍ واحدةٍ إلى أغراض قد نُدرِكها وقد لا نُدركها؟ أليس من الأفضل لنا أن نمشي فوق أرضٍ صلبةٍ، وأن نقطع الطريق على مرحلتين، فإن كانت المرحلة الأُولى غير كافية أضفنا إليها مرحلة ثانية، فنبدأ ببنك شبه حكومي فإن اتضح بعد ذلك ضرورة امتلاك الحكومة له أصدرنا تشريعًا نستكملُ به التأميم.

إنَّ التأميم الكامل وسيلة وليس بغاية. والمسألة ليست مسألة مذهب يقصد لذاته أو عقيدة تُفرَضُ على النَّاس فَرضًا، وإنَّمَا هي مسألة تخضع أولًا وقبل كلِّ شيءٍ إلى الظروف الخاصَّة بكلِّ بلد. فإذا كانت ظروفه السياسية والاقتصادية يقتضي إبعاد الحكومة عن امتلاك البنك وإدارته فلا بدَّ من إبعادها، وإذا كانت تلك الظروف تستلزِمُ اشتراك الحكومة والبنوك والأفراد ليكون من هذا الاشتراك نفع وتوازن وتحمُّل للمسئوليات وتعاون على النهوض بالاقتصاد القومي، فمن الواجب حتمًا أن نأخذَ بها النظام الذي يُطلِقُ عليه الاقتصاديُّون النظام شبه الحكومي، ويسمِّيه بعض الكتاب نظام التأميم الناقص. وهو ما نراه ضروريًّا لمصر مُتَّفِقًا مع ظروفها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤