واستهلت سنة خمس ومايتين وألف (١٧٩٠م)

(في حادي عشر المحرم) ورد أغا وعلى يده تقرير إسماعيل باشا على السنة الجديدة فعملوا له موكبًا وطلع إلى القلعة، وقرئ المقرر بحضرة الجمع وضربوا له مدافع.

(وفي ذلك اليوم) قبض إسماعيل بك على المعلم يوسف كساب معلم الدواوين وأمر بتغريقه في بحر النيل.

(وفي صبحها) نفوا صالح أغا أغات الأرنؤد قيل إن السبب في ذلك أنه تواطأ مع الأمرا القبالي بواسطة المعلم يوسف المذكور على أنه لم يملكهم المراكب الرومية، والقلاع التي بناحية طرا والجيزة، وعملوا له مبلغًا من المال التزم به الذمي يوسف وكتب على نفسه تمسكًا بذلك.

وفيه كثر تعدي أحمد أغا الوالي على أهل الحسينية، وتكرر قبضه وإيذاؤه لأناس منهم بالحبس والضرب وأخذ المال بل ونهب بعض البيوت، وأرسل في يوم الجمعة ثاني عشرينه أعوانه بطلب أحمد سالم الجزار شيخ طايفة البيومية، وله كلمة وصولة بتلك الدايرة، وأرادوا القبض عليه فثارت طوايفه على أتباع الوالي وقفلوا ومنعوه منهم وتحركت حميتهم عند ذلك، وتجمعوا وانضم إليهم جمع كثير من أهل تلك النواحي وغيرها، وأغلقوا الأسواق والدكاكين وحضروا إلى الجامع الأزهر، ومعهم طبول وقفلوا أبواب الجامع، وصعدوا على المنارات وهم يصرخون ويصيحون ويضربون على الطبول وأبطلوا الدروس، فقال لهم الشيخ العروسي: أنا أذهب إلى إسماعيل بك في هذا الوقت وأكلمه في عزل الوالي وتخلص منهم بذلك، وذهب إلى إسماعيل بك فاعتذر بأن الوالي ليس من جماعته، بل هو من جماعة حسن بك الجداوي وأمر بعض أتباعه بالذهاب إليه، وإخباره بجمع الناس والمشايخ وطلبهم عزل الوالي فلم يرض بذلك، وقال: إن كان أنا أعزل الوالي تابعي يعزل هو الآخر الأغا تابعه، ويعزل رضوان كتخدا المجنون من المقاطعة ويرفع مصطفى كاشف من طرا ويطرد عسكر القليونجية والأرنؤد، وترددت بينهم الرسل بذلك، ثم ركب حسن بك وخرج إلى ناحية العادلية مثل المغضب، وصار أحمد أغا الوالي يركب بجماعة كثيرة ويشق من المدينة ليغيظ العامة، وكذلك تجمع من العامة خلايق كثيرة ووقع بينه وبينهم بعض مناوشات في مروره وانجرح بينهم جماعة وقتل شخصان، ثم ركب المشايخ وذهبوا إلى بيت محمد أفندي البكري، وحضر هناك إسماعيل بك وطيب خاطرهم والتزم لهم بعزل الوالي، ومر الوالي في ذلك الوقت على بيت الشيخ البكري، وكثير من العامة مجتمع هناك ففزع فيهم بالسيف وفرق جمعهم وسار من بينهم وذهب في طريقه، ثم زاد الحال وكثرت غوغا الناس، ومشوا طوايف يأمرون بغلق الدكاكين واجتمع بالأزهر الكثير منهم، واستمرت هذه القضية إلى يوم الثلاثا ثالث صفر، ثم طلع إسماعيل بك والأمرا إلى القلعة واصطلحوا على عزل الوالي والأغا وجعلوهما صنجقين وقلدوا خلافهما، الأغا من طرف إسماعيل بك والوالي من طرف حسن بك، ونزل الوالي الجديد من الديوان إلى الأزهر وقابل المشايخ الحاضرين واسترضاهم، ثم ركب إلى بيته وانفض الجمع وكأنها طلعت بأيديهم، والذي كان راكب حمار ركب فرسًا.

(وفي ليلة الجمعة خامس شهر صفر) غيمت السماء غيمًا مطبقًا، وسحت أمطارًا غزيرة كأفواه القرب، مع رعد شديد الصوت وبرق متتابع متصل قوي اللمعان يخطف بالأبصار مستديم الاشتعال، واستمر ذلك بطول ليلة الجمعة ويوم الجمعة والأمطار نازلة حتى سقطت الدور القديمة على الناس، ونزلت السيول من الجبل حتى ملأت الصحرا وخارج باب النصر وهدمت التراب وخسفت القبور، وصادف ذلك اليوم دخول الحجاج إلى المدينة فحصل لهم غاية المشقة، وأخذ السيل صيوان أمير الحاج بما فيه وانحدر به من الحصوة إلى بركة الحج وكذلك خيام الأمرا وغيرهم، وسالت السيول من باب النصر ودخلت البلد، وامتلأت الوكايل بالمياه وكذلك جامع الحاكم، وقتلت أناس في حواصل الخانات، وصار خارج باب النصر بركة عظيمة متلاطمة بالأمواج، وانهدم من دور الحسينية أكثر من النصف، وكان أمرًا مهولًا جدًّا.

وفيه حصل أيضًا كاينة عبد الوهاب أفندي بشناق الواعظ، وذلك أنه مات رجل من البشانقة من أهل بلده، وكان قد جعله وصيًّا على تركته، فاستولى عليها واستأصلها، وكان للرجل المتوفى شركة بناحية الإسكندرية، فسافر المذكور إلى الإسكندرية وحاز باقي التركة أيضًا، ورجع إلى مصر وحضر وطالبه بتركة مورثه فأظهر له شيئًا نزرًا فذهب الوارث إلى القاضي، وكلمه في ذلك فقال له: أنا وصي مختار، وأنا مصدق وليس عندي خلاف ما سلمته له، فقال له القاضي: إنه يدعي عليك بكذا وكذا وعنده إثبات ذلك وطال بينهما الكلام، وتطاول على القاضي واستجهله فطلع القاضي إلى الباشا وشكا له فأمر بإحضاره، فحضر في جمع الديوان وناقشوه فلم يتزلزل عن عناده إلى أن نسب الكل إلى الانحراف عن الحق، فحنق الباشا منه وأمر برفعه من المجلس، فقبضوا عليه وجروه وضربوه ورموا بتاجه إلى الأرض وحبسوه في مكان، وصادف أيضًا ورود مكتوب من ناحية المدينة من مفتيها، كان أرسله المذكور إليه لسبب من الأسباب، وذكر فيه الباشا بقوله: التعيس الحربي. وكذلك الأمرا بنحو ذلك، فأرسله المفتي وأعاده على يد بعض الناس إلى إسماعيل بك، وحقدًا منه عليه لكراهة خفية بينهما سابقة وأوصله إسماعيل بك أيضًا إلى الباشا، فازداد غيظًا وأرعد وأبرق، وأحضر بشناق أفندي من محبسه وقت القايلة، وأراه ذلك المكتوب، فسقط في يده واعتذر فلطمه على وجهه ونتف لحيته، وأراد أن يضربه بخنجره فشفع فيه أكابر أتباعه، ثم أخذوه وسجنوه، وأمر بمحاسبته على ما أخذه من التركة، فحوسب وطولب وبقي بالحبس حتى وفى ما طلع عليه وشفع فيه علي بك الدفتردار وخلصه من الترسيم.

(وفي أواخر صفر) قلدوا أحمد بك الوالي المذكور كشوفية الدقهلية، وعثمان بك الحسني الغربية، وشاهين بك شرقية بلبيس، وعلي بك چركس المنوفية، وصار جماعة أحمد بك وأتباعه عند سفرهم يخطفون دواب الناس من الأسواق، وخيول الطواحين ولما سرحوا في البلاد حصل منهم ما لا خير فيه من ظلم الفلاحين، مما هو معلوم من أفعالهم.

(وفي شهر ربيع الأول) كمل بناء بيت إسماعيل بك وبياضه وأتمه على هيئة متقنة وترتيب في الوضع، ونقل إليه قطع الأعمدة العظام التي كانت ملقاة في مكان الجامع الناصري الذي عند فم الخليج وجعلها في جدرانه، وبنى به مقعدًا عظيمًا متسعًا ليس له مثيل في مقاعد بيوت الأمرا في ضخامته وعظمه وهو في جهة البركة، وغرس بجانبه بستانًا عظيمًا، وظن أن الوقت قد صفا له، قال الشاعر:

هذي المنازل قبلنا
كم ذا تداولها أناس
كم مدع ملكًا وكم
من مدع وضع الأساس
غرسوا وغيرهم اجتنى
من بعدهم ثمر الغراس
دول تمر كأنها
أضغاث حلم في نعاس

(وفي أواخر شهر جمادى الأولى) أشيع في الناس أن في ليلة السابع والعشرين نصف الليل يحصل زلزلة عظيمة وتستمر سبع ساعات، ونسبوا هذا القول إلى أخبار فلكيين من غير أصل، واعتقده الخاصة فضلًا عن العامة وصمموا على حصوله من غير دليل لهم على ذلك، فلما كانت تلك الليلة خرج غالب الناس إلى الصحرا وإلى الأماكن المتسعة مثل بركة الأزبكية والفيل وخلافهما ونزلوا في المراكب، ولم يبق في بيته إلا من ثبته الله وباتوا ينتظرون ذلك إلى الصباح، فلم يحصل شيء وأصبحوا يتضاحكون على بعضهم، كما قيل:

وكم ذا بمصر من المضحكات
ولكنه ضَحِكٌ كالبكا

وفيه ابتدأ أمر الطاعون وداخل الناس منه وهم عظيم.

وفيه قلدوا عبد الرحمن بك عثمان وجعلوه صنجق الخزينة وشرعوا في تشهيله، واجتهد إسماعيل بك في سفر الخزينة على الهيئة القديمة ولبس المناصب والسدارة وأرباب الخدم، وقد بطل هذا الترتيب والنظام من نيف وثلاثين سنة، فأراد إسماعيل بك إعادته ليكون له بذلك منقبة ووجاهة عند دولة بني عثمان فلم يرد الله بذلك وعاجله الرجز.

(وفي شهر رجب) زاد أمر الطاعون وقوي عمله بطول شهر رجب وشعبان، وخرج عن حد الكثرة ومات به ما لا يحصى من الأطفال والشبان والجواري والعبيد والمماليك والأجناد والكشاف والأمرا، ومن أمرا الألوف الصناجق نحو اثني عشر صنجقًا ومنهم إسماعيل بك الكبير المشار إليه وعسكر القليونجية والأرنؤد الكاينون ببولاق ومصر القديمة والجيزة، حتى كانوا يحفرون حفرًا لمن بالجيزة بالقرب من مسجد أبي هريرة ويلقونهم فيها، وكان يخرج من بيت الأمير في المشهد الواحد الخمسة والستة والعشرة، وازدحموا على الحوانيت في طلب العدد والمغسلين والحمالين، ويقف في انتظار المغسل أو المغسلة الخمسة والعشرة ويتضاربون على ذلك، ولم يبق للناس شغل إلا الموت وأسبابه فلا تجد إلا مريضًا أو ميتًا أو عايدًا أو معزيًا أو مشيعًا أو راجعًا من صلاة جنازة أو دفن أو مشغولًا في تجهيز ميت أو باكيًا على نفسه موهومًا، ولا تبطل صلاة الجنايز عن المساجد والمصليات، ولا يصلى إلا على أربعة أو خمسة أو ثلاثة، وندر جدًّا من يشتكي ولا يموت وندر أيضًا ظهور الطعن ولم يكن بحمى بل يكون الإنسان جالسًا فيرتعش من البرد فيدثر فلا يفيق إلا مخلطًا أو يموت من نهاره أو ثاني يوم، وربما زاد أو نقص أو كان بخلاف ذلك، وكان شبيهًا بفصل البقر الذي تقدم (ذكره) واستمر عمله إلى أوايل رمضان ثم ارتفع، ولم يقع بعد ذلك إلا قليلًا نادرًا، ومات الأغا والوالي في أثنا ذلك فولوا خلافهما فماتا بعد ثلاثة أيام فولوا خلافهما فماتا أيضًا، واتفق أن الميراث انتقل ثلاث مرات في جمعة واحدة، ولما مات إسماعيل بك تنازل الرياسة حسن بك الجداوي وعلي بك الدفتردار، ثم اتفقوا على تأمير عثمان بك طبل تابع إسماعيل بك على مشيخة البلد وسكن ببيت سيده، وقلدوا حسن بك قصبة رضوان أمير حاج، ثم إنهم أظهروا الخوف والتوبة والإقلاع وإبطال الحوادث والمظالم، وزيادات المكوس ونادوا بذلك، وقلدوا أمراء عوضًا عن المقبورين من مماليكهم.

(وفي غرة رمضان) حضر ططري وعلى يده مرسوم بعزل إسماعيل باشا، وأن يتوجه في المورة وأن باشة المورة محمد باشا الذي كان بجدة في العام الماضي بعزت هو والي مصر، فعملوا الديوان وقريت المرسومات، فقال الأمرا: لا نرضى بذهابك من بلدنا وأنت أحسن لنا من الغريب الذي لا نعرفه، فقال: وكيف يكون العمل ولا يمكن المخالفة؟ فقالوا: نكتب عرضحال إلى الدولة ونرجو إتمام ذلك، فقال: لا يتم ذلك، فإن المتولي كأنكم به وصل إلى الإسكندرية وعزم على النزول صبح تاريخه ثم إنهم اتفقوا على كتابة عرضحال بسبب تركة إسماعيل بك خوفًا من حضور معين بسبب ذلك، وعين للسفرية الشيخ محمد الأمير.

(وفي يوم الخميس خامس عشر رمضان) نزل الباشا من القلعة وقصد السفر على الفور، وطلب المراكب وأنزل بها متاعه ويرقه، فلما رأوا منه العجلة وعدم التأني وقصدهم تأخيره إلى حضور الباشا الجديد ويحاسب على ما دخل في جهته، فاجتمعوا عليه صحبة الاختيارية وكلموه في التأني فعارضهم وعاندهم وصمم على السفر من الغد، فأغلظوا عليه في القول، وقالوا له: هذا غير مناسب، يقال إن الباشا أخذ مال مصر وهرب! فقال: وأي شيء أخذته منكم؟ وقالوا له: لا بد من عمل حساب فإن الحساب لا كلام فيه، ولا بد من التأني حتى نعمل الحساب، فقال: أنا أبقي عندكم الكتخدا فحاسبوه نيابة عني والذي يطلع لكم في طرفي خذوه منه فلم يرضوا بذلك، فقال: أنا لا بد من سفري إما اليوم أو غدًا، فقاموا من عنده على غير رضا وأرسلوا الوالي والأغا يناديان على ساحل البحر على المراكب بأن كل من سافر بشي من متاع الباشا أو يأخذ من أتباعه يستاهل الذي يجرى عليه، وطردوا النواتية من المراكب ولم يتركوا في كل مركب إلا شخصًا واحدًا نوتيًّا فقط، وتركوا عند بيت الباشا جماعة حراس.

وفيه حضر خازندار الباشا الجديد وأخبر بوصول مخدومه إلى ثغر الإسكندرية، ومعه خلعة القايممقامية لعثمان بك طبل ومكاتبة إلى الأمرا بعدم سفر الملاقاة وأرباب الخدم على العادة، وأخبر أنه واصل إلى رشيد في البحر بالنقاير فنزل لملاقاته أغات المتفرقة فقط.

وفيه رفعوا مصطفى كاشف من طرا وعملوه كتخدا عثمان بك شيخ البلد.

وفيه أشيع بأن عبد الرحمن بك الإبراهيمي حضر من طرف الشام، ومر من خلف الجبل وذهب إلى سيده بالصعيد.

(وفي غرة شوال يوم الجمعة وليلة السبت) حضر الباشا الجديد إلى ساحل بولاق فعملوا له سقالة، وركب الأمرا وعدوا إلى إنبابة وسلموا عليه، وعدى صحبتهم وركب إلى قصر العيني، وأوكب في يوم الاثنين رابعه في موكب أقل من العادة بكثير إلى القلعة من ناحية الصليبة وضربوا له مدافع من القلعة.

(وفي ذلك اليوم) سافر الشيخ محمد الأمير بالعرضحال وكانوا أخروا سفره إلى أن وصل الباشا الجديد وغيروه بعد أن عرضوا عليه الأمر، ثم إنهم عملوا حساب الباشا المعزول فطلع عليه للباشا المتولي مائتا كيس من ابتدا منصبه، وهو سابع عشر رجب للأمرا مبلغ أيضًا، فسدد ذلك بعضه أوراق وبعضه نقد وبعضه أمتعة وأذنوا له بالسفر، فشرع في نزول متاعه بالمراكب بطول يوم الخميس والجمعة، وأراد أن يسافر يوم السبت، ففي تلك الليلة وصل بشلي من الروم وبيده مرسوم، فعمل الباشا في صبحها ديوانًا حضر فيه المشايخ والأمرا وأبرز الباشا المرسوم فكان مضمونه محاسبة الباشا المعزول من ابتدا شهر توت واستخلاص ما تأداه من ابتدا المدة، فعند ذلك أرسلوا ثانيًا وحجزوا عليه، ونكتوا عزاله من المراكب وحبسوا النواتية، ونادوا عليه ثاني مرة وذلك في سادس عشره.

وفيه تواردت الأخبار بأن الأمرا القبالي تحركوا إلى الحضور إلى مصر، فإنه لما حصل ما حصل من موت إسماعيل بك والأمرا حضر مراد بك من أسيوط إلى المنية، وانتشر باقي الأمرا في المقدمة وعدى بعضهم إلى الشرق ووصلت أوايلهم إلى كفر العياط، وأما إبراهيم بك فإنه لم يزل مقيمًا بمنفلوط ومنتظر ارتحال الحجاج ثم يسير إلى جهة مصر، فأرسلوا علي بك الجديد إلى طرا عوضًا عن مصطفى كاشف، وأرسلوا صالح بك إلى الجيزة وأخذوا في الاهتمام.

وفيه حفر خندق من البحر إلى المتاريس على البلاد للحفر مع اشتغالهم بأمور الحج، ودعواهم نقص مال الصرة وتعطيل الجامكية المضافة لدفتر الحرمين، وتوجيه المعينين من القليونجية على الملتزمين.

(وفي يوم الأحد رابع عشرينه) حضر السيد عمر أفندي الأسيوطي بمكاتبة من الأمراء القبليين خطابًا إلى شيخ البلد والمشايخ وللباشا سرًّا.

وفيه سافر إسماعيل باشا المنفصل من بولاق بعد أن أدى ما عليه.

(وفي يوم الاثنين خامس عشرينه) خرج المحمل صحبة أمير الحاج حسن بك قصبة رضوان.

(وفي يوم الثلاثا) اجتمعوا بالديوان عند الباشا وقريت المكاتبات الواصلة من الأمرا القبليين، فكان حاصلها أننا في السابق طلبنا الصلح مع إخواننا والصفح عن الأمور السالفة من إسماعيل بك، ولم يطمين لطرفنا وكل شي نصيب والأمور مرهونة بأوقاتها، والآن اشتقنا إلى عيالنا وأوطاننا وقد طالت علينا الغربة وعزمنا على الحضور إلى مصر على وجه الصلح، وبيدنا أيضًا مرسوم من مولانا السلطان وصل إلينا صحبة عبد الرحمن بك بالعفو والرضا، والماضي لا يعاد ونحن أولاد اليوم، وأن أسيادنا المشايخ يضمنون غايلتنا. فلما قريت تلك المكاتبة التفت الباشا إلى المشايخ وقال: ما تقولون؟ فقال الشيخ العروسي: إن كان التفاقم بينهم وبين أمراينا المصريين الموجودين الآن فإننا نترجى عندهم، وإن كان ذلك بينهم وبين السلطان فالأمر لنايب مولانا السلطان، ثم اتفق الرأي على كتابة جواب حاصله: إن الذي يطلب الصلح يقدم الرسالة بذلك قبل قدومه وهو بمكانه، وذكرتم أنكم تايبون وقد تقدم منكم هذا القول مرارًا ولم نر له أثرًا فإن شرط التوبة رد المظالم، وأنتم لم ترسلوا ما عليكم من الميري في هذه المدة، فإن كان الأمر كذلك فترجعوا إلى أماكنكم، وترسلوا المال والغلال ونرسل عرضحال إلى الدولة بالإذن لكم، فإن الأمرا الذين بمصر لم يدخلوها بسيفهم ولا بقوتهم وإنما السلطان هو الذي أخرجكم وأدخلهم، وإذا حصل الرضا فلا مانع لكم من ذلك، فإننا الجميع تحت الأمر وعلم على ذلك الجواب الباشا والمشايخ وسلموه إلى السيد عمر مكرم وسافر به في يوم الثلاثا المذكور، ثم اشتغلوا بمهمات الحج، وادعوا نقص مال الصرة ستين كيسًا ففردوها على التجار ودكاكين الغورية، وارتحل الحاج من الحصوة وصحبته، وذلك يوم السبت غايته وبات بالبركة وارتحل يوم الأحد غرة ذي القعدة.

(وفي ذلك اليوم) عملوا الديوان بالقلعة ورسموا بنفي من كان مقيمًا بمصر من جماعة القبليين، فنفوا أيوب بك الكبير وحسن كتخدا الجربان إلى طندتا، وكتبوا فرمانًا بخروج الغريب وفرمانًا آخر بالأمن والأمان، وأخذهما الوالي والأغا ونادوا بذلك في صبحها في شوارع البلد، ونبهوا على تعمير الدروب وقفل أبواب الأطراف، وأجلسوا عند كل مركز حراسًا.

(وفي يوم الخميس) نزل الأغا وأمامه المناداة بفرمان على الأجناد والطوايف والمماليك بالخروج إلى الخلا.

وفيه وصل قاصد من الديار الرومية، وهو أغا معين بطلب تركة إسماعيل بك وباقي الأمرا الهالكين بالطاعون، فأنزلوه ببيت الزعفراني وكرروا المناداة بالخروج إلى ناحية طرا، وكل من تأخر بعد الظهر يستحق العقوبة.

(وفي تلك الليلة وقت المغرب) طلع الأمرا إلى الباشا وأشاروا عليه بالنزول والتوجه إلى ناحية طرا فنزل في صبحها، وخرج إلى ناحية طرا كما أشاروا عليه، وكذلك خرج الأمرا وطاف الأغا والوالي بالشوارع وهما يناديان على الألضاشات المنتسبين إلى الوجاقات بالصعود إلى القلعة والباقي بالخروج إلى متاريس الجيزة، وطلع الأوده باشا والاختيارية وجلسوا في الأبواب.

(وفي يوم السبت) أشيع أن الأمرا القبليين يريدون التخريم من ورا الجبل إلى جهة العادلية، فخرج أحمد بك وصالح بك تابع رضوان بك إلى جهة العادلية، وأقاموا هناك للمحافظة بتلك الجهة وأرسلوا أيضًا إلى عرب العايد فحضروا أيضًا هناك.

وفيه وصل القبليون إلى حلوان ونصبوا وطاقهم هناك، وأخذ المصريون حذرهم من خلف متاريس طرا.

(وفي يوم الثلاثاء) توجه المشايخ إلى ناحية طرا وسلموا على الباشا والأمرا ورجعوا، وذلك بإشارة الأمرا ليشاع عند الأخصام أن الرعية والمشايخ معهم، وبقي الأمر على ذلك إلى يوم الثلاثا التالي.

(وفي صبح يوم الأربعا) نزل الأغا والوالي وأمامهم المناداة على الرعية الكافة بالخروج في صبح يوم الخميس صحبة المشايخ ولا يتأخر أحد، وحضر الشيخ العروسي إلى بيت الشيخ البكري وعملوا هناك جمعية، وخرج الأغا من هناك ينادي في الناس، ووقع الهرج والمرج وأصبح يوم الخميس فلم يخرج أحد من الناس، وأشيع أن الأمرا القبليين نزلوا أثقالهم في المراكب وتمنعوا إلى قبلي، ويقولون إن قصدهم الرجوع وبقي الأمر على السكوت بطول النهار والناس في بهتة، والأمرا متخبلون من بعضهم البعض، وكل من علي بك الدفتردار وحسن بك الجداوي يسيء الظن بالآخر، ولم يخطر بالبال مخامرة عثمان بك طبل ولا الباشا، فإن عثمان بك تابع إسماعيل بك الخصم الكبير، وقد تعين عوضه في إمارة مصر ومشيختها، والباشا لم يكن من الفريقين.

فلما كان الليل تحول الباشا والأمرا وخرجوا إلى ناحية العادلية وأخرجوا شركفلك صحبتهم وجملة مدافع متاريس، فما فرغوا من عمل ذلك إلا ضحوة النهار من يوم الجمعة وهم واقفون على الخيول، فلم يشعروا إلا والأمرا القبالي نازلون من الجبل بخيولهم ورجالهم لكنهم في غاية الجهد والمشقة، فلما نزلوا وجدوا الجماعة والمتاريس أمامهم، فتشاور المصريون مع بعضهم في الهجوم عليهم، فلم يوافق عثمان بك على ذلك وثبطهم عن الإقدام ورجعوا جميع الحملة إلى مصر، ووقفوا على جرايد الخيل، فتمنع القبليون وتباعدوا ونزلوا عند سبيل علام يأخذون لهم راحة حتى يتكاملوا، فلما تكاملوا ونصبوا خيامهم واستراحوا إلى العصر ركب مصطفى كاشف صهر حسن كتخدا علي بك وهو من مماليك محمد بك الألفي وصحبته نحو خمسة مماليك وذهب إلى سيده، ثم ركب محمد بك المبدول أيضًا بأتباعه، وذهب إلى إبراهيم بك، ثم ركب قاسم بك بأتباعه وذهب إلى مراد بك؛ لأنه في الأصل من أتباعه، ثم ركب مصطفى كاشف الغزاوي وهو أخو عثمان بك طبل شيخ البلد وذهب أيضًا إليهم واستوثق لأخيه، فكتب له إبراهيم بك بالحضور فلم يتمكن من الحضور إلا بعد العشا الأخيرة حتى انفرد عن حسن بك وعلي بك.

فلما فعل ذلك وفارقهما سقط في أيديهما وغشي على علي بك ثم أفاق، وركب مع حسن بك وصناجقه وهم: عثمان بك وشاهين بك وسليم بك المعروف بالدمرجي الذي تأمر عوضًا عن علي بك الحبشي ومحمد بك كشكش، وصالح بك الذي تأمر عوضًا عن رضوان بك العلوي، وعلي بك الذي تأمر عوضًا عن سليم بك الإسماعيلي، وذهب الجميع من خلف القلعة على طريق طرا، وذهبوا إلى قبلي حيث كانت أخصامهم، فسبحان مقلب الأحوال، ولما حضر عثمان بك وقابل إبراهيم بك أرسله مع ولده مرزوق بك إلى مراد بك، فقابله أيضًا ثم حضرت إليهم الوجاقلية والاختيارية وقابلوهم وسلموا عليهم، وشرع أتباعهم في دخول مصر بطول ليلة السبت حادي عشرين شهر القعدة، ولما طلع النهار دخلت أتباعهم بالحملات والجمال شي كثير جدًّا، ثم دخل إبراهيم بك وشق المدينة، ومعه صناجقه ومماليكه وأكثرهم لابسون الدروع، ثم دخل بعده سليمان بك والأغا وأخوه إبراهيم بك الوالي، ثم عثمان بك الشرقاوي وأحمد بك الكلارجي وأيوب بك الدفتردار ومصطفى بك الكبير وعلي أغا وسليم أغا وقائد أغا وعثمان بك الأشقر الإبراهيمي وعبد الرحمن بك، الذي كان بإسلامبول وقاسم بك الموسقو وكشافهم وأغواتهم.

وأما مراد بك فإنه دخل من على طريق الصحرا، ونزل على الرميلة وصحبته عثمان بك الإسماعيلي شيخ البلد وأمراؤه، وهم محمد بك الألفي وعثمان بك الطنبرجي الذي كان بإسلامبول أيضًا وكشافهم وأغواتهم، واستمر انجرارهم إلى بعد الظهر خلاف من كان متأخرًا أو منقطعًا فلم يتم دخولهم إلا في ثاني يوم، وأما مصطفى أغا الوكيل فإنه التجأ إلى الباشا وكذلك مصطفى كاشف طرا، فأخذهما الباشا صحبته وطلعا إلى القلعة ودخل الأمرا إلى بيوتهم، وباتوا بها ونسوا الذي جرى وأكثر البيوت كان بها الأمرا الهالكون بالطاعون، وبقي بها نساؤهم ومات غالب نساء الغايبين، فلما رجعوا وجدوها عامرة بالحريم والجواري والخدم فتزوجوهن وجددوا فراشهم وعملوا أعراسهم، ومن لم يكن له بيت دخل ما أحب من البيوت وأخذه بما فيه من غير مانع، وجلس في مجالس الرجال وانتظر تمام العدة إن كان بقي منها شيء، وأورثهم الله أراضيهم وديارهم وأموالهم وأزواجهم.

(وفي يوم الأحد) ركب سليم أغا ونادى على طايفة القليونجية والأرنؤد والشوام بالسفر ولا يتأخر منهم أحد، وكل من وجد بعد ثلاثة أيام استحق ما ينزل به، ثم إن المماليك صاروا كل من صادفوه منهم أو رأوه أهانوه وأخذوا سلاحه، فاجتمع منهم طايفة وذهبوا إلى الباشا فأرسل معهم شخصًا من الدلاة أنزلهم إلى بولاق في المراكب، وصار أولاد البلد والصغار يسخرون بهم ويصفرون عليهم بطول الطريق، وسكن مراد بك ببيت إسماعيل بك وكأنه كان يبنيه من أجله.

(وفي يوم الاثنين) أيضًا طاف الأغا وهو ينادي على القليونجية والأرنؤد.

(وفي يوم الخميس سادس عشرينه) صعد الأمرا إلى القلعة وقابلوه الباشا وكانوا يروه ولم يرهم قبل ذلك اليوم، فخلع عليهم الخلع، ونزلوا من عنده وشرعوا في تجهيز تجريدة إلى الهاربين؛ لأنهم حجزوا ما وجدوه من مراكبهم وأمتعتهم، وكتب الباشا عرضحال في ليلة دخولهم وأرسله صحبة واحد ططري إلى الدولة بحقيقة الحال، وعينوا للتجريدة إبراهيم بك الوالي وعثمان بك المرادي متقلدًا إمارة الصعيد وعثمان بك الأشقر، وأحضر مراد بك حسن كتخدا علي بك بأمان وقابله وقيده بتشهيل التجريدة وعمل البقسماط ومصروف البيت من اللحم والخبز والسمن وغير ذلك، ووجه عليه المطالب حتى صرف ما جمعه وحواه وباع متاعه وأملاكه ورهنها واستدان، ولم يزل حتى مات بقهره، وقلدوا علي أغا مستحفظان سابقًا وجعلوه كتخدا الجاويشية.

(وفي حادي عشرين شهر الحجة الموافق لسابع عشر مسرى القبطي) أوفى النيل أذرعه ونزل الباشا إلى قصر السد وحضر القاضي والأمرا، وكسر السد بحضرتهم وعملوا الشنك المعتاد، وجرى الماء في الخليج ثم توقفت الزيادة ولم يزد بعد الوفاء إلا شيًّا قليلًا، ثم نقص واستمر يزيد قليلًا وينقص إلى الصليب، فضجت الناس وتشحطت الغلال وزاد سعرها وانكبوا على الشرا ولاحت لوايح الغلا.

وفيه أيضًا شرع الأمرا في التعدي على أخذ البلاد من أربابها من الوجاقلية وغيرهم وأخذوا بلاد أمير الحاج.

وفيه صالح الباشا الأمرا على مصطفى أغا الوكيل، وأخلوا له داره وقد كان سكن بها عثمان بك الأشقر فأخلاه له إبراهيم بك ونزل من القلعة إليه ولازمه إبراهيم بك ملازمة كلية، وكذلك مصطفى كاشف الذي كان بطرا لازم مراد بك، واختص به وصار جليسه ونديمه.

ذكر من مات في هذه السنة من الأعيان

مات شيخنا علم الأعلام والساحر اللاعب بالأفهام الذي جاب في اللغة والحديث كل فج وخاض من العلم كل لج، المذلل له سبل الكلام الشاهد له الورق والأقلام ذو المعرفة والمعروف، وهو العلم الموصوف العمدة الفهامة والرحلة النسابة، الفقيه المحدث اللغوي النحوي الأصولي الناظم الناثر، الشيخ أبو الفيض السيد محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزاق الشهير بمرتضى الحسيني الزبيدي الحنفي، هكذا ذكر عن نفسه ونسبه، ولد سنة خمس وأربعين وماية وألف في بلجرام الهند كما سمعته من لفظه ورأيته بخطه، ونشأ ببلاده وارتحل في طلب العلم وحج مرارًا، واجتمع بالشيخ عبد الله السندي والشيخ عمر بن أحمد بن عقيل المكي وعبد الله السقاف والمسند محمد بن علاء الدين المزجاجي وسليمان بن يحيى وابن الطيب، واجتمع بالسيد عبد الرحمن العيدروس بمكة، وبالشيخ عبد الله ميرغني الطايفي في سنة ثلاث وستين، ونزل بالطايف بعد ذهابه إلى اليمن ورجوعه في سنة ست وستين، فقرا على الشيخ عبد الله في الفقه وكثيرًا من مؤلفاته وأجازه، وقرا على الشيخ عبد الرحمن العيدروس مختصر السعد، ولازمه ملازمة كلية وألبسه الخرقة، وأجازه بمروياته ومسموعاته، قال: وهو الذي شوقني إلى دخول مصر بما وصفه لي من علمايها وأمرايها وأدبايها وما فيها من المشاهد الكرام؛ فاشتاقت نفسي لرؤياها وحضرت مع الركب، وكان الذي كان، وقرا عليه طرفًا من الإحيا، وأجازه بمروياته، ثم ورد إلى مصر في تاسع صفر سنة سبع وستين وماية وألف، وسكن بخان الصغة، وأول من عاشره وأخذ عنه السيد علي المقدسي الحنفي من علما مصر.

وحضر دروس أشياخ الوقت كالشيخ أحمد الملوي والجوهري والحفني والبليدي والصعيدي والمدابغي وغيرهم، وتلقى عنهم وأجازوه وشهدوا بعلمه، وفضله وجودة حفظه، واعتنى بشأنه إسماعيل كتخدا عزبان ووالاه بره حتى راج أمره، وترونق حاله واشتهر ذكره عند الخاص والعام، ولبس الملابس الفاخرة، وركب الخيول المسومة، وسافر إلى الصعيد ثلاث مرات، واجتمع بأكابره وأعيانه وعلمايه، وأكرمه شيخ العرب همام وإسماعيل أبو عبد الله وأبو علي وأولاده نصير وأولاد وافي وهادوه وبروه.

وكذلك ارتحل إلى الجهات البحرية مثل دمياط ورشيد والمنصورة، وباقي البنادر العظيمة مرارًا حين كانت مزينة بأهلها عامرة بأكابرها، وأكرمه الجميع، واجتمع بأكابر النواحي وأرباب العلم والسلوك وتلقى عنهم وأجازوه وأجازهم، وصنف عدة رحلات في انتقالاته في البلاد القبلية والبحرية تحتوي على لطايف ومحاورات ومدايح نظمًا ونثرًا، لو جمعت كانت مجلدًا ضخمًا وكناه سيدنا السيد أبو الأنوار بن وفا بأبي الفيض، وذلك يوم الثلاثا سابع عشر شعبان سنة اثنتين وثمانين وماية وألف، وذلك برحاب ساداتنا بني الوفا، يوم زيارة المولد المعتاد، ثم تزوج وسكن بعطفة الغسال مع بقاء سكنه بوكالة الصاغة، وشرع في شرح القاموس حتى أتمه في عدة سنين في نحو أربعة عشر مجلدًا، سماه تاج العروس، ولما أكمله أولم وليمة حافلة جمع فيها طلاب العلم وأشياخ الوقت بغيط المعدية، وذلك في سنة إحدى وثمانين وماية وألف وأطلعهم عليه، واغتبطوا به وشهدوا بفضله وسعة اطلاعه، ورسوخه في علم اللغة وكتبوا عليه تقاريظهم نثرًا ونظمًا، فمِمَّن قرظ عليه: شيخ الكل في عصره الشيخ علي الصعيدي، والشيخ أحمد الدردير، والسيد عبد الرحمن العيدروس، والشيخ محمد الأمير، والشيخ حسن الجداوي، والشيخ أحمد البيلي، والشيخ عطية الأجهوري، والشيخ عيسى البراوي، والشيخ محمد الزيات، والشيخ محمد عبادة، والشيخ محمد العوفي، والشيخ حسن الهواري، والشيخ أبو الأنوار السادات، والشيخ علي القناوي، والشيخ علي خرايط، والشيخ عبد القادر بن خليل المدني، والشيخ محمد المكي، والسيد علي القدسي، والشيخ عبد الرحمن مفتي جرجا، والشيخ علي الشاوري، والشيخ محمد الخربتاوي، والشيخ عبد الرحمن المقري، والشيخ محمد سعيد البغدادي الشهير بالسويدي، وهو آخر من قرظ عليه وكنت إذ ذاك حاضرًا وكتبه نظمًا ارتجالًا، وذلك في منتصف جمادى الثانية سنة أربعة وتسعين وماية وألف، وهو:

شرح الشريف المرتضى القاموسا
وأضاف ما قد فاته قاموسا
فغدت صحاح الجوهري وغيرها
سحر المدائن حين ألقى موسى
إذ قد أبان الدر من صدف النهى
في سلك جمهرة اللهى تأنيسا
وبنى أساسًا فائقًا واختار في
أتقانه مختاره تأسيسا
فأثار من مصباح مزهر نوره
عين الغبي فأبصرته نفيسا
فهو الفريد فلا يثنى جمعه
إذ لا يحاك كمثله تدليسا
فلسان نظمي عاجز من مدحه
فالله ينشر نثره تقديسا
ويديم مولاي الشريف بعصرنا
في كل قطر للهداة رئيسا
وإذا توجه لي بلمحة نظره
إني سعيد لا أصير خسيسا
أهدي الصلاة مع السلام لجده
هديًا جزيلًا لا يطاق مقيسا
والآل مع صحب وهذا المرتضى
ومن ارتضى ومن اصطفاه أنيسا
وقد ذكرت بعض التقريظات في تراجم أصحابها، ومنها تقريظ الشيخ علي الشاوري الفرشوطي أذكره لما فيه من تضمن رحلة المترجم إلى فرشوط، ونصه:

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، الحمد لله منطق البلغاء بأفصح البيان ومودع لسان الفصيح حلاوة التبيان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد ولد عدنان، وعلى آله وصحبه ما تعاقب الملوان، وبعد فإن للعلوم شعبًا وطرايق، وهضابًا وشواهق، يتفرع من كل أصل منه فنون، ومن كل دوحة فروع وغصون، وإن من أجل العلوم معرفة لغات العرب التي تكاد ترقص العقول عند سماعها من الطرب، وكان ممن كيل له ذلك بالكيل الوافر، وطلع في سمايها طلوع البدور السوافر، ومر في ميدانها طلق العنان، وشهد له بالفصاحة القلم واللسان، حلية أبناء العصر والأوان، ونتيجة آخر الزمان، العدل الثبت الثقة، الرضا مولانا السيد الشريف المرتضى، متعنا الله بوجوده، وأطال عمره بمنة وجوده، وقد منَّ الله علينا وشرفنا بقدومه الصعيد، فكان فيه كالطالع السعيد، فحصل لنا به غاية الفرح وقرت العين به واتسع الصدر وانشرح، وقد أطلعني على بعض شرحه على قاموس البلاغة، فإذا هو شرح حافل ولكل معنى كافل، وقد مدحه جمع من السادة العلما الأعلام خصوصًا شيخنا، وأستاذنا العلامة البطل الهمام خاتمة المحققين بالاتفاق، وأحد الأيمة المجتهدين الحذاق، أستاذنا الشيخ علي الصعيدي العدوي وناهيك به من شاهد، وكل ألف لا تعد بواحد، فهو مولف جدير بأن يثنى عليه، وحقيق بأن تشد الرحال إليه، كيف وهو صياغة نبراس البلاغة، وفارس البداعة والبراعة، الذي قلت فيه حين قدم فرشوط بلدتنا.

قد حل في فرشوطنا كل الرضا
مذ جاءها الحبر النفيس المرتضى
أكرم به من طود فضل شامخ
من نسل نرجوهمو يوم القضا
جاد الزمان بمثله فحسبته
من أجل هذا قد يعود بمن مضى
عجبًا لدهر قد يجود بمثله
ورواؤه قدمًا تولى وانقضى
أحيا فنون العلم بعد فنائها
وأزال غيهبها بتحقيق أضا
لا سيما علم اللغات فإنه
قد شيد الأُسَّ الذي منه نضا
أمست به فرشوط تفخر غيرها
وتبلجت أقطارها حتى الفضا
لما تولى ذاهبًا من عندنا
فكأن في أحشائنا نار الغضى

وقد اجتمع السيد السند العظيم بأمير المنهل العذب الرحيق الذي قصد من كل فج عميق، كهف الأنام الليث الهمام شيخ مشايخ العرب همام، لا زالت همته هامية ودواعيه إلى فعل الخير نامية، فأحله من التعظيم بمكانه الأقصى متأدبًا معه بآداب لا تعد ولا تحصى وهو جدير بذلك.

فما كل مخضوب البنان بثينة
ولا كل مسلوب الفؤاد جميل

أعاد الله علينا من بركاته وصالح دعواته في خلواته وجلواته، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم، قائل هذا النظم والنثر العبد الفقير إلى مولاه الغني القدير علي بن صالح بن موسى الشهير بالشاوري جنبه الله شرور نفسه، وجعل يومه خيرًا من أمسه، والله ولي التوفيق.

وكتب للمرحوم الوالد يسأله الإجازات والتقريض بقوله:

أمولاي بحر العلم يا من سناؤه
يفوق ضياء الشمس في الشرق والغرب
ويا وارث النعمان فقهًا وحكمةً
وزهدًا له قد شاع في البعد والقرب
عبيدكم الظمآن قد جاء يرتجى
ملاحظة منها يفوز قضا الإرب
ويسأل في هذا الكتاب إجازة
بتقريظه حتى يفوق على الكتب
حباكم إله العرش منه كرامة
وعيشًا هنيئًا في أمان بلا كرب
وقابلكم بالجبر يوم حسابه
بحسن وجازاكم بفضل وبالقرب
وينصب في الآفاق أعلام علمه
ويقرن بالتوفيق إخلاصه القلبي
وصلِّ إله العرش ربي على الرضا
محمدٍ المبعوث للعجْم والعرب
وأتبعه بالآل والصحب كلهم
نجوم الهدى يحيا بذكرهم قلبي

ولما أنشا محمد بك أبو الدهب جامعه المعروف به بالقرب من الأزهر، وعمل فيه خزانة للكتب، واشترى جملة من الكتب، ووضعها بها أنهوا إليه شرح القاموس هذا، وعرفوه أنه إذا وضع بالخزانة كمل نظامها، وانفردت بذلك دون غيرها ورغبوه في ذلك، فطلبه وعوضه عنه ماية ألف درهم فضة ووضعه فيها، ولم يزل المترجم يخدم العلم ويرقى في درج المعالي، ويحرص على جمع الفنون التي أغفلها المتأخرون كعلم الأنساب، والأسانيد وتخاريج الأحاديث، واتصال طرايق المحدثين المتأخرين بالمتقدمين، وألف في ذلك كتبًا ورسايل ومنظومات وأراجيز جمة، ثم انتقل إلى منزل بسويقة اللالا تجاه جامع محرم أفندي بالقرب من مسجد شمس الدين الحنفي، وذلك في أوايل سنة تسع وثمانين وماية وألف، وكانت تلك الخطة إذ ذاك عامرة بالأكابر والأعيان فأحدقوا به، وتحببوا إليه واستأنسوا به وواسوه وهادوه، وهو يظهر لهم الغنى والتعفف، ويعظهم ويفيدهم بفوايد وتمايم، ورقى ويجيزهم بقراة أوراد وأحزاب، فأقبلوا عليه من كل جهة وأتوا إلى زيارته من كل ناحية، ورغبوا في معاشرته لكونه غريبًا، وعلى غير صورة العلما المصريين وشكلهم، ويعرف باللغة التركية والفارسية، بل وبعض لسان الكرج فانجذبت قلوبهم إليه وتناقلوا خبره وحديثه، ثم شرع في إملا الحديث على طريق السلف في ذكر الأسانيد والرواة والمخرجين من حفظه على طرق مختلفة، وكل من قدم عليه يملي عليه الحديث المسلسل بالأولية وهو حديث الرحمة برواته ومخرجيه، ويكتب له سندًا بذلك وإجازة وسماع الحاضرين فيعجبون من ذلك.

ثم إن بعض علما الأزهر ذهبوا إليه وطلبوا منه إجازة، فقال لهم: لا بد من قراة أوايل الكتب، واتفقوا على الاجتماع بجامع شيخون بالصليبة الاثنين والخميس تباعدًا عن الناس، فشرعوا في صحيح البخاري بقراة السيد حسين الشيخوني واجتمع عليهم بعض أهل الخطة والشيخ موسى الشيخوني إمام المسجد وخازن الكتب، وهو رجل كبير معتبر عند أهل الخطة وغيرها، وتناقل في الناس سعي علما الأزهر مثل: الشيخ أحمد السجاعي، والشيخ مصطفى الطائي، والشيخ سليمان الأكراشي وغيرهم للأخذ عنه، فازداد شأنه وعظم قدره واجتمع عليه أهل تلك النواحي وغيرها من العامة والأكابر والأعيان، والتمسوا منه تبيين المعاني فانتقل من الرواية إلى الدراية وصار درسًا عظيمًا، فعند ذلك انقطع عن حضوره أكثر الأزهرية، وقد استغنى عنهم هو أيضًا وصار يملي على الجماعة بعد قراءة شي من الصحيح حديثًا من المسلسلات أو فضايل الأعمال، ويسرد رجال سنده ورواته من حفظه ويتبعه بأبيات من الشعر كذلك، فيتعجبون من ذلك لكونهم لم يعهدوها فيما سبق من المدرسين المصريين، وافتتح درسًا آخر في مسجد الحنفي، وقرا الشمايل للترمذي في غير الأيام المعهودة بعد العصر، فازدادت شهرته وأقبلت الناس في كل ناحية لسماعه ومشاهدة ذاته؛ لكونها على خلاف هيئة المصريين وزيهم، ودعاه كثير من الأعيان إلى بيوتهم وعملوا من أجله ولايم فاخرة، فيذهب إليهم مع خواص الطلبة والمقري والمستملي وكاتب الأسما فيقرا لهم شيًّا من الأجزا الحديثية كثلاثيات البخاري أو الدارمي أو بعض المسلسلات بحضور الجماعة، وصاحب المنزل وأصحابه وأحبابه وأولاده وبناته ونسايه من خلف الستاير، وبين أيديهم مجامر البخور بالعنبر والعود مدة القراءة، ثم يختمون ذلك بالصلاة على النبي على النسق المعتاد، ويكتب الكاتب أسما الحاضرين والسامعين حتى النسا والصبيان والبنات واليوم والتاريخ، ويكتب الشيخ تحت ذلك صحيح ذلك، وهذه كانت طريقة المحدثين في الزمن السابق، كما رأيناه في الكتب القديمة.

يقول الحقير: إني كنت مشاهدًا وحاضرًا في غالب هذه المجالس والدروس ومجالس أخر خاصة بمنزله وبسكنه القديم بخان الصاغة، وبمنزلنا بالصنادقية وبولاق وأماكن أخر كنا نذهب إليها للنزهة مثل: غيط المعدية والأزبكية وغير ذلك، فكنا نشغل غالب الأوقات بسرد الأجزا الحديثية وغيرها، وهو كثير بثبوت المسموعات على النسخ وفي أوراق كثيرة موجودة إلى الآن، وانجذب إليه بعض الأمرا الكبار، مثل: مصطفى بك الإسكندراني وأيوب بك الدفتردار، فسعوا إلى منزله وترددوا لحضور مجالس دروسه وواصلوه بالهدايا الجزيلة والغلال، واشترى الجواري وعمل الأطعمة للضيوف وأكرم الواردين والوافدين من الآفاق البعيدة، وحضر عبد الرازق أفندي الريس من الديار الرومية إلى مصر، وسمع به فحضر إليه والتمس منه الإجازة وقراءة مقامات الحريري، فكان يذهب إليه بعد فراغه من درس شيخون، ويطالع له ما تيسر من المقامات ويفهمه معانيها اللغوية.

ولما حضر محمد باشا عزت الكبير رفع شأنه عنده، وأصعده إليه وخلع عليه فروة سمور ورتب له تعيينًا من كلاره لكفايته من لحم وسمن وأرز وحطب وخبز، ورتب له علوفة جزيلة بدفتر الحرمين والسايرة وغلالًا من الأنبار وأنهى إلى الدولة شأنه، فأتاه مرسوم بمرتب جزيل بالضربخانة وقدره ماية وخمسون نصفًا فضة في كل يوم، وذلك في سنة إحدى وتسعين وماية وألف، فعظم أمره وانتشر صيته وطلب إلى الدولة في سنة أربع وتسعين فأجاب ثم امتنع، وترادفت عليه المراسلات من أكابر الدولة وواصلوه بالهدايا والتحف والأمتعة الثمينة في صناديق، وطار ذكره في الآفاق، وكاتبه ملوك النواحي من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والبصرة والعراق وملوك المغرب والسودان وفزان والجزاير والبلاد البعيدة، وكثرت عليه الوفود من كل ناحية، وترادفت عليه منهم الهدايا والصلات والأشيا الغريبة، وأرسلوا إليه من أغنام فزان وهي عجيبة الخلقة عظيمة الجثة يشبه رأسها رأس العجل، وأرسلها إلى أولاد السلطان عبد الحميد فوقع لهم موقعًا، وكذلك أرسلوا له من طيور الببغا والجوار والعبيد والطواشية، فكان يرسل من طرايف الناحية إلى الناحية المستغرب ذلك عندها، ويأتيه في مقابلتها أضعافها، وأتاه من طرايف الهند وصنعا اليمن وبلاد سرت وغيرها أشيا نفيسة، وماء الكادي والمربيات والعود والعنبر والعطر شاه بالأرطال.

وصار له عند أهل المغرب شهرة عظيمة ومنزلة كبيرة واعتقاد زايد وربما اعتقدوا فيه القطبانية العظمى، حتى أن أحدهم إذا ورد إلى مصر حاجًا ولم يزره ولم يصله بشي لا يكون حجه كاملًا، فإذا ورد عليه أحدهم سأله عن اسمه ولقبه وبلده وخطته وصناعته وأولاده، وحفظ ذلك أو كتبه، ويستخبر من هذا عن ذاك بلطف ورقة، فإذا ورد عليه قادم من قابل سأله عن اسمه وبلده فيقول له: فلان من بلدة كذا، فلا يخلو إما أن يكون عرفه من غيره سابقًا أو عرف جاره أو قريبه، فيقول له: فلان طيب؟ فيقول: نعم سيدي، ثم يسأله عن أخيه فلان وولده فلان وزوجته وابنته، ويشير له باسم حارته وداره وما جاورها، فيقوم ذلك المغربي ويقعد ويقبل الأرض تارة ويسجد تارة ويعتقد أن ذلك من باب الكشف الصريح، فتراهم في أيام طلوع الحج ونزوله مزدحمين على بابه من الصباح إلى الغروب، وكل من دخل منهم قدم بين يدي نجواه شيًّا إما موزونات فضة أو تمرًا أو شمعًا على قدر فقره وغناه، وبعضهم يأتيه بمراسلات وصلات من أهل بلاده وعلمايها وأعيانها ويلتمسون منه الأجوبة، فمن ظفر منهم بقطعة ورقة ولو بمقدار الأنملة، فكأنما ظفر بحسن الخاتمة، وحفظها معه كالتميمة ويرى أنه قد قبل حجة، وإلا فقد باء بالخيبة والندامة، وتوجه عليه اللوم من أهل بلاده ودامت حسرته إلى يوم ميعاده.

وقس على ذلك ما لم يقل، وشرع في شرح كتاب إحيا العلوم للغزالي وبيض منه أجزا، وأرسل منها إلى الروم والشام والغرب؛ ليشتهر مثل شرح القاموس ويرغب في طلبه واستنساخه، وماتت زوجته في سنة ست وتسعين، فحزن عليها حزنًا كثيرًا، ودفنها عند المشهد المعروف بمشهد السيدة رقية، وعمل على قبرها مقامًا ومقصورة وستورًا وفرشًا وقناديل، ولازم قبرها أيامًا كثيرة، وتجتمع عنده الناس والقرا والمنشدون ويعمل لهم الأطعمة والثريد والكسكسو والقهوة والشربات، واشترى مكانًا بجوار المقبرة المذكورة، وعمره بيتًا صغيرًا وفرشه وأسكن به أمها ويبيت به أحيانًا، وقصده الشعرا بالمراثي فيقبل منهم ذلك ويجيزهم عليه، ورثاها هو بقصايد وجدتها بخطه، بعد وفاته في أوراقه المدشتة على طريقة شعر مجنون ليلى منها قوله:

أعادل من يزرأ كرزئي لا يزل
كئيبًا ويزهد بعده في العواقب
أصابت يد البين المشت شمائلي
وحاقت نظامي عاديات النوائب
وكنت إذا ما زرت زبدا سحيرة
أعود إلى رحلي بطين الحقائب
أرى الأرض تطوى لي ويدنو بعيدها
من الخفرات البيض غر الكواعب
فتاة الندى والجود والحلم والحيا
ولا يكشف الأخلاق غير التجارب
فديت لها ما يستذم رداؤها
عميدة قوة منكرام أطايب
عليها سلام الله في كل حالة
ويصحبه الرضوان فوق المراتب
مدى الدهر ما ناحت حمامة أيكة
بشجو يثير الحزن من كل نادب

وقوله أيضًا:

يقولون: لا تبكي زبيدة واتئد
وسلِّ هموم النفس بالذكر والصبر
وتأتي لي الأشجان من كل وجهة
بمختلف الأحزان بالهم والفكر
وهل لي تسلٍّ من فراق حبيبة
لها الجدث الأعلى بيشكر من مصر
أبى الدمع إلا أن يعاهد أعيني
بمحجرها والقدر يجري إلى القدر
فإما تروني لا تزال مدامعي
لدى ذكرها تجري إلى آخر العمر

وقوله أيضًا:

خليلي ما للأنس أضحى مقطعا
وما لفؤادي لا يزال مروعا
أمن غير الدهر المشت وحادث
ألم برحلي أم تذكرت مصرعا
وإلا فراق من أليفة مهجتي
زبيدة ذات الحسن والفضل أجمعا
مضت فمضت عني بها كل لذة
تقر بها عيناي فانقطعا معا
لقد شربت كأسًا سنشرب كلنا
كما شربت لم يجد عن ذاك مدفعا
فمن مبلغ صحبي بمكة أنني
بكيت فلم أترك لعيني مدمعا

وقوله أيضًا:

خليلي هل ذكري الأحبة نافع
فقد خانني الصبر الجميل العواقب
وهل لي عود في الحمى أم تراجع
لوصل بتلك الآنسات الكواعب
لقد رحلت عني الحبيبة غدوة
وسارت إلى بيت بأعلى السباسب
أقول: وما يدري أناس غدوا بها
إلى اللحد ماذا أدرجوا في السباسب
تأخرت عنها في المسير وليتني
تقدمت لا ألوي على حزن نادب

وقوله أيضًا:

زبيدة شدت للرحيل مطيها
غداة الثلاثا في غلايلها الخضر
وطافت بها الأملاك من كل وجهة
ودق لها طبل السماء بلا نكر
تميس كما ماست عروس بدلها
وتخطر تيهًا في البرانس والأزر
سأبكي عليها ما حييت وإن أمت
ستبكي عظام والأضالع في القبر
ولست بها مستبقيًا فيض عبرة
ولا طالبًا بالصبر عاقبة الصبر

وقوله أيضًا:

نعم الفتاة بها فجعت غديه
وكذلك فعل حوادث الأيام
شدت مطايا البين ثم ترحلت
وتمايلت أكوارها بسلام
رحلت لرحلتها غداة تحملت
أحلامنا من قاعد وقيام
ما خلفت من بعدها في أهلها
غير البكا والحزن والأيتام
يا لهف نفس حسن أخلاق لها
جبلت عليه ووصلة الأرحام
وإطاعة للبعل ثم عناية
صرفت لإطعام ولين كلام
تلك المكارم فابكها ما رنحت
ريح الصبا سحرًا غصون بشام
يا واردًا يومًا على قبر لها
قف ثم راجع من شج بسلام
وقلن لها: قد كنت فيما مضى
تأتي له عند اللقا بمقام
واليوم ما لك قد هجرت فهل لذا
سبب فقولي يا ابنة الأعلام

وغير ذلك تركته خوفًا من الإطالة، وفي هذا القدر كفاية في هذا المقام، ثم تزوج بعدها بأخرى وهي التي مات عنها وأحرزت ما جمعه من مال وغيره، ولما بلغ ما لا مزيد عليه من الشهرة وبعد الصيت وعظم القدر والجاه عند الخاص والعام، وكثرت عليه الوفود من ساير الأقطار، وأقبلت عليه الدنيا بحذافيرها من كل ناحية، لزم داره واحتجب عن أصحابه الذين كان يلم بهم قبل ذلك إلا في النادر لغرض من الأغراض، وترك الدروس والإقرا، واعتكف بداخل الحريم وأغلق الباب ورد الهدايا التي تأتيه من أكابر المصريين ظاهرة، وأرسل إليه مرة أيوب بك الدفتردار مع نجله خمسين إردبًّا من البر وأحمالًا من الأرز والسمن والعسل والزيت وخمسماية ريال نقود وبقج كساوي أقمشة هندية وجوخًا وغير ذلك فردها، وكان ذلك في رمضان، وكذلك مصطفى بك الإسكندراني وغيرهما، وحضر إليه فاحتجب عنهما ولم يخرج إليهما ورجعا من غير أن يواجهاه، ولما حضر حسن باشا على الصورة التي حضر فيها إلى مصر لم يذهب إليه، بل حضر هو لزيارته وخلع عليه فروة تليق به، وقدم له حصانًا معدودًا مرختًا بسرج وعباءة قيمته ألف دينار أعده وهيأه قبل ذلك، وكانت شفاعته عنده لا ترد، وإن أرسل إليه إرسالية في شي تلقاها بالقبول والإجلال وقبل الورقة قبل أن يقراها ووضعها على راسه ونفذ ما فيها في الحال، وأرسل مرة إلى أحمد باشا الجزار مكتوبًا وذكر له فيه أنه المهدي المنتظر، وسيكون له شأن عظيم فوقع عنده بموقع الصدق لميل النفوس إلى الأماني، ووضع ذلك المكتوب في حجابه المقلد به مع الأحراز والتمايم، فكان يسر بذلك إلى بعض من يرد عليه ممن يدعي المعارف في الجفور والزايرجات ويعتقد صحته بلا شك، ومن قدم عليه من جهة مصر وسأله عن المترجم، فإن أخبره وعرفه أنه اجتمع به وأخذ عنه وذكره بالمدح والثناء أحبه وأكرمه وأجزل صلته، وإن وقع منه خلاف ذلك قطب منه وأقصاه عنه وأبعده، ومنع عنه بره ولو كان من أهل الفضايل، واشتهر ذلك عنه عند من عرف منه ذلك بالفراسة، ولم يزل على حسن اعتقاده في المترجم حتى انقضى نحبهما، واتفق أن مولاي محمدًا سلطان المغرب — رحمه الله — وصله بصلات قبل انجماعه الأخير وتزهده وهو يقبلها ويقابلها بالحمد والثناء والدعا، فأرسل له في سنة إحدى ومايتين صلة لها قدر فردها وتورع عن قبولها وضاعت ولم ترجع إلى السلطان، وعلم السلطان ذلك من جوابه، فأرسل إليه مكتوبًا قرأته وكان عندي ثم ضاع في الأوراق، ومضمونه العتاب والتوبيخ في رد الصلة.

ويقول له: إنك رددت الصلة التي أرسلناها إليك من بيت مال المسلمين، وليتك حيث تورعت عنها كنت فرقتها على الفقرا والمحتاجين فيكون لنا ولك أجر ذلك، إلا أنك رددتها وضاعت، ويلومه أيضًا على شرحه كتاب الإحيا، ويقول له: كان ينبغي أن تشغل وقتك بشي نافع غير ذلك، ويذكر وجه لومه له في ذلك، وما قاله العلما وكلامًا مفحمًا مختصرًا مفيدًا رحمه الله تعالى.

وللمترجم من المصنفات خلاف شرح القاموس وشرح الإحيا تأليفات كثيرة، منها: كتاب الجواهر المنيفة في أصول أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة — رضي الله عنه — مما وافق فيه الأيمة الستة، وهو كتاب نفيس حافل رتبه ترتيب كتب الحديث من تقديم ما روي عنه في الاعتقاديات، ثم في العمليات على ترتيب كتب الفقه، والنفحة القدسية بواسطة البضعة العيدروسية، جمع فيه أسانيد العيدروس وهي في نحو عشرة كراريس، والعقد الثمين في طرق الإلباس والتلقين، وحكمة الإشراق إلى كتاب الآفاق، وشرح الصدر في شرح أسما أهل بدر في عشرين كراسًا، وألفها لعلي أفندي درويش، وألف باسمه أيضًا التفتيش في معنى لفظ درويش، ورسايل كثيرة جدًّا منها رفع نقاب الخفا عمن انتمى إلى وفا وأبي الوفا، وبلغة الأريب في مصطلح آثار الحبيب وأعلام الأعلام بمناسك حج بيت الله الحرام، وزهر الأكمام المنشق عن جيوب الإلهام بشرح صيغة سيدي عبد السلام، ورشفة المدام المختوم البكري من صفوة زلال صيغ القطب البكري، ورشف سلاف الرحيق في نسب حضرة الصديق، والقول المثبوت في تحقيق لفظ التابوت، وتنسيق قلايد المنن في تحقيق كلام الشاذلي أبي الحسن، ولقط اللآلي من الجوهر الغالي، وهي في أسانيد الأستاذ الحفني، وكتب له إجازته عليه في سنة سبع وستين، وذلك سنة قدومه إلى مصر، والنوافح المكية على الفوايح الكشكية، وجزء في حيث نعم الإدام الخل، وهدية الإخوان في شجرة الدخان، ومنح الفيوضات الوفية فيما في سورة الرحمن من أسرار الصفة الإلهية، وإتحاف سيد الحي بسلاسل بني طي، وبذل المجهود في تخريج حديث شيبتني هود، والمربي الكابلي فيمن روى عن الشمس البابلي، والمقاعد العندية في المشاهد النقشبندية، ورسالة في المناشي والصفين، وشرح على خطبة الشيخ محمد البحيري البرهاني على تفسير سورة يونس وتفسير على سورة يونس مستقل على لسان القوم، وشرح على حزب البر الشاذلي، وتكملة على شرح حزب البكري للفاكهي من أوله، فكمله للشيخ أحمد البكري، ومقامة سماها إسعاف الأشراف، وأرجوزة في الفقه نظمها باسم الشيخ حسن بن عبد اللطيف الحسني المقدسي، وحديقة الصفا في والدي المصطفى، وقرظ عليها الشيخ حسن المدابغي، ورسالة في طبقات الحفاظ، ورسالة في تحقيق قول أبي الحسن الشاذلي، وليس من الكرم إلى آخره، وعقيلة الأتراب في سند الطريقة والأحزاب صنفها للشيخ عبد الوهاب الشربيني، والتعليقة على مسلسلات ابن عقيلة، والمنح العلية في الطريقة النقشبندية، والانتصار لوالدي النبي المختار، وألفية السند ومناقب أصحاب الحديث، وكشف اللئام عن آداب الإيمان والإسلام، ورفع الشكوى لعالم السر والنجوى، وترويح القلوب بذكر ملوك بني أيوب، ورفع الكلل عن العلل، ورسالة سماها قلنسوة التاج ألفها باسم الأستاذ العلامة الصالح الشيخ محمد بن بدير المقدسي، وذلك لما أكمل شرح القاموس المسمى بتاج العروس، فأرسل إليه كراريس من أوله حين كان بمصر، وذلك في سنة اثنتين وثمانين ليطلع عليها شيخه الشيخ عطية الأجهوري، ويكتب عليها تقريظًا ففعل ذلك وكتب إليه يستجيزه، فكتب إليه أسانيده العالية في كراسة، وسماها قلنسوة التاج، وأولها بعد البسملة:

الحمد لله الذي رفع متن العلما وشرح بالعلم صدورهم، وأعلى لهم سندًا وصحح الحسن من حديثهم فصار موصولًا غير مقطوع ولا متروك أبدًا، وحمى قلوبهم عن ضعف اليقين في الدين، فلم تضطرب، ولم تنكر الحق بل صارت لإفادته مقصدًا، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد وآله أئمة الهدى وصحبه نجوم الاهتدا ما اتصل الحديث وتسلسل وسلم من العلل والشذوذ سرمدًا، وبعد …

فهذه قلنسوة التاج صنعت بأفخر ديباج بل غنية المحتاج، وبل صدى المزاج وزهرة الابتهاج، والقصر المشيد بالأبراج والمصباح المغني عن أبي السراج، بل الدرع الموصوف بلآلي عوالي غوالي أحاديث موصولة إلى صاحب الإسرا والمعراج، رصعت باسم الكوكب الوضاح المستنير بأضوا مصباح الفلاح، المتشح بأردية أسرار التحقيق والمتزر بملاءة أنوار التوفيق، المنصف في جدله غير محاب لقريب، والآتي من تقريره بالعجب العجيب، ذي المناقب التي لا يستوعبها البنان واللسان، ولا يبلغ أداء شكره ولو أطلقت اللسان بالثنا عليه على ممر الزمان، صاحبنا الفاضل العلامة الجمال محمد بن بدير الشافعي المقدسي، رحمه الله آمين:

إن الهلال إذا رأيت نموه
أيقنت أن سيصير بدرًا كاملا

أضاء الله بدر كماله، وحرس مجده بجلاله، وهذا أوان الشروع في المقصود بعون الملك المعبود.

وكتب في آخرها ما نصه:

أجزت له أبقاه ربي وحاطه
بكل حديث حاز سمعي بإتقان
وفقهٍ وتاريخ وشعر رويته
وما سمعت أذني وقال لساني
على شرط أصحاب الحديث وضبطهم
بريئًا عن التصحيف من غير نكران
كتبت له خطي واسمي محمد
وبالمرتضى عرفت والله يرعاني
ولدت بعام أرخوا (فك ختمه)
وبالله توفيقي وبالله تكلاني
وكتب معها جواب كتاب ما نصه:

أمعاطف أغصان النقا تترنح أم القلوب بميلانها إلى المحبوب تتروح؟ ورنات أوتار العيدان بأناة أهل الغرام والشوق، أم هيجان البلابل بسجوع البلابل، وتغريد ذات الطوق أم دعوة روح القدس تهتف بميت فيقوم حيًّا، أم مقدم عيس حبيب أحيا تدانيه عشاق معاليه، وحيا ما هذه إلا صدى تشبيب نسيم بث الشوق وأهدى التحيات كلا بل نفحات عبهر الثنا، وإرسال تحف التسليمات إلى ممدماء الحب من ميم مد بحره البسيط، والمفيض للمجتدى من رشحات قاموس بره المحيط من نثر لآلئ القول البديع على مفارق مهارق الصباحة والملاحة، ونشر ملاءة الإحسان على غرة طلعة تاج عروس الفصاحة مردى فارس البراعة في الميدان إذا اقتعدها سلهبا سبوحا الممطر غارب النجابة والإتقان، بجلالة قدر تخضع له من الفلك الأطلس برجا، هو الذي إذا قال أقال عثار الدهر، وقال تحت أفياء ظلال دوحة الفخر، وإذا رقم فصفحة الفلك بالزواهر مرقومة، وإذا رسم فجبهة الأسد بآيات الحرس مرسومة، وشاهدي ما شاهدته في كتابه المنيف الواصل إليَّ، وخطابه الشريف الوارد عليَّ، فعين الله على منشي تلك الفصاحة سلمت من الحصر إلا أن وردها الخصر أعيا البدو والحضر، وقد صدر إليه ما أشار على المحب في ختام خطابه، وعرج عليه هضمًا لنفسه فلم يك إلا كالمسلك يتنافس فيه وراد جنابه، ولو أن فيوضات العلوم والمعارف من غير حماكم لا تستماح وممدات المنح والعوارف من غير حبكم لا تستباح، ولكن رأي الإطاعة في ذلك مغنمًا، وتحقق التباطؤ في مثل ذلك مغرمًا، فأشرق أفق سعد القبول بمقياسه، وسعى قلم الإجازة في الخدمة على كراسه، وعطر بيان الأسانيد العوالي فردوس الإسناد بأنفاسه، وهبت غالية نسايم كمايم اللطايف، وهبت بارقة غمايم المشارق والمراشف، وتمايلت أفنان الاتصال برماح علو الإسناد، وسقى قلم التحرير رياض الإجازة من جريال الإمداد فدونكها إجازة خاصة، على مدارج كمالاتك ناصة، كأنها عروس جليت بالتاج وحليت بأفخر ديباج، ولولا مخافة طول العهد والتماس السعد في الحث على إنجاز الوعد، بتنضد تاج الملفقات لكانت مغلقات الكلم المنفرقات بغيث ذكركم المنسجم مجلدات، فهي بطاقة تحمل في كل كلمة غريدة بان، وتنفث السحر في عقد البيان فامتط غارب سنامها، واهتصر ثمرات نظامها، دمت لذروة المعالي متسمًا، ولأنفاس رياض السعادة متنسمًا آمين.

أقول: والشيخ محمد بدير المذكور هو الآن فريد عصره في الديار المقدسة، يبدي ويعيد، ويدرس ويفيد، بارك الله فيه مدى الأيام، وأمتع بوجوده الأنام آمين.

وللمترجم أشعار كثيرة جوهرية النفتات صحاح وعرايس أبيات ذات وجوه صباح، منها قوله من قصيدة يمدح بها الأستاذ العلامة شمس الدين السيد محمد أبا الأنوار بن وفا — أطال الله بقاه — ويذكر فيها نسبه الشريف منها:

مدحت أبا الأنوار أبغي بمدحه
وفور حظوظي من جليل المآرب
نجيبًا تسامى في المشارق نوره
فلاحت بواديه لأهل المغارب
محمد الباني مشيد افتخاره
بعز المساعي وابتذال المواهب
ربيب العلا المخضل سيب نواله
سما الندى المنهل صوب السحائب
كريم السجايا الغر واسطة العلا
بسيم المحيا الطلق ليس بغاضب
حوى كل عمل واحتوى كل حكمة
ففات مرام المستمر الموارب
به ازدهت الدنيا بهاءً وبهجة
وزانت جمالًا من جميع الجوانب
مخايله تنبيك عما وراءها
وأنواره تهديك سبل المطالب
له نسب يعلو بأكرم والد
تبلج منه عن كريم المناسب

وهي طويلة ذكرها في خاتمة رفع نقاب الخفاء، ومن كلامه في مدح المشار إليه قوله:

زار عن غفلة من الرقباء
في دجا الليل طيف حب نائي
يا لها زورة على غير وعد
نسخت آيها ظلام النائي
بت منها منعمًا في سرور
ومحا نورها دجى الظلماء
وتجلى إشراقها بوصال
مهديًا للقلوب كل هناء

ويقول في مديحها:

عمدة ماجد مكنى أبا الأنـ
ـوار رب الفخار نجل الوفاء
أشرف العالمين أصلًا وفصلًا
مفرد العصر نخبة الأصفياء

ويقول فيها:

أشرقت في قلوبنا من سناه
نيرات بهية الأضواء
هو روح الإله في كل مجلى
هو تاج الجمال للعلياء
هو بدر البدور في كل أوج
هو نجم الهدى وشمس الضحاء
هو باب المنى فتوحًا ونصرًا
منه تمت مظاهر النعماء
هو رجائي وعدتي ونصيري
واعتمادي في شدتي ورخائي

ومدحه صاحبنا يتيمة الدهر وبقية نجباء العصر الناظم الناثر السيد إسماعيل الوهبي الشهير بالخشاب بهذه القصيدة الغراء اللامية، وهي:

ذا المحيا وذاك الفاحم الرجل
باء بلبي وتيك الأعين النجل
وبي غزالًا إذا شمس الضحى أفلت
أراك شمسًا وجنح الليل منسدل
أغن أغيد وضاح الجبين له
خد أسيل وطرف كله كحل
نشوان لم يحتسي صرفًا مشعشعة
لكنه بالذي في ثغره ثمل
أقام في كبدي الوجد المضر به
حتى تحلل فيما تسفح المقل
وفي الجوانح أذكى صده حرقًا
تكاد من حرها الأحشاء تشتعل
حملت فيه الذي تعيا الجبال به
وما لقيس بما قاسيته قبل
كم بت فيه وأشواقي تؤرقني
ودمع عيني على خديَّ ينهمل
وعاذل جاء يلحاني فقلت له
دعني بمدحي إمام العصر أشتغل
محمد المرتضى الراقي ذرى شرف
تلوح من دونه الجوزاء والحمل
السيد السند الثبت الموضح ما
للعجز قد تركت إيضاحه الأول
صدر الشريعة مصباح البرية من
يضيق عن وصفه التفصيل والجمل
أحياء معالم علم كنت أنشدها
إنا محبوك فاسلم أيها الطلل
وقام في للإسلام منتصرًا
وكاد لولاه يصمى الحادث الجلل
أعيا أكف الكرام الحافظين له
في رقم صالح قول إثره عمل
للخط أو لا للخطى راحته
فما له عنهما إلا الندى شغل

ومنها:

ضرائب من معال لم يخص بها
إلاه منها سواه حظه العطل
يا ابن الذي قد غدا جبريل خادمه
وبشرت قومها قدمًا به الرسل
خذها إليك وإن كانت مقصرة
حسبي علا أنها حبلي بكم تصل
ما قالها في بني العباس شاعرهم
أستاذ أهل القريض المادح الغزل
لا زلت مبلغ مثلي ما يؤمله
وللمروع أمنا إن عرا وجل

فأجابه بقوله:

أعقْد لآلٍ أم نجوم ثواقب
أم الروض فيه الورق جاءت تخاطب
وإلا عروس في ملاء محاسن
لها الصون عن عين الحواسد حاجب
وإلا نظام من حبيب ممجد
أخي الفضل من دانت لديه الغوارب

وهي طويلة، وله أيضًا:

إذا ما هب سلطان المريسى
وأبدى الجو وجهًا للعبوس
فزعت بمفرد الكافات يأتي
بجمع حاصل هو كاف كيسي
به أصبحت أرفل في كساء
به أمسيت في كن نفيس
به تجلى من السمراء كاسي
إليَّ على يدي غزلان خيس
فأرشف تارة منها وطورًا
من الثغر الشنيب بلا مقيس

وله في المعنى:

إذا ضم قطر الجو عنا معاشنا
وهبت رياح بالعشية بارده
قصرت على كاف الكتاب مطالعًا
ومقتبسًا منه فوايد شارده

وله أيضًا:

قد عد قوم في الشتاء لذائذًا
كافية تكفي لدى الأنواء
كالكيس والكانون والكن الذي
يأوي له العاني وكاس طلاء
ثم الكباب وسادس الكافات من
شمس تضيء دنت وكاف كساء
ولديَّ أن الكيس يجمع كل ما
ذكروا من الأفراد والأجزاء

وله في المعنى:

لكاف الكيس فضل مستمر
يفوق به على الكافات طرا
إذا ظفرت به كفَّاك يومًا
تسنى سائر الكافات قسرا

وله أيضًا في المعنى:

إذا هب سلطان المريسي غدوة
وجلل آفاق السماء سحاب
وضاق لتحصيل الأماني مذاهب
فنعم جليس الصالحين كتاب

وله أيضًا:

كاف الكياسة مع كيس إذا اجتمعا
يومًا لمرء غدا في العصر سلطانا
بالكيس يصبح مقضيًّا حوائجه
وبالكياسة يولي الكيس إحسانا
والكيس منفردًا مضن بصاحبه
والكيس منفردًا يوليه مجانا

وله في إجازة:

أجزت لمن حوى قصب الفخار
وجلى في العلوم فلا مجاري
رواياتي جميعًا عن شيوخ
ثقات أهل فضل واختبار
لهم بين المَلا صيت ومجد
وفخر واعتماد في اشتهار
ومنظومي ومنثوري جميعًا
وإن لم أك أهلًا لاعتبار
وحسن الظن بالإغضا كفيل
ورعي العهد مع بعد المزار
فأنت المفرد العلم المنادى
ومثلك من أصاخ إلى اعتذار
ولا تغفل محبك من دعاء
بنيل القصد في تلك الديار
ويرجو المرتضى منكم قبولًا
عسى يعطي الرضا عند القرار
بجاه المصطفى خير البرايا
إمام المراسلين المستجار
على عليائه أزكى سلام
وصحب ما أضت شمس النهار

وله في أسماء أهل الكهف بالتركية على الخلاف الوارد فيهم:

بتمليخ مكتليثا مثلين بعده
دبر نوش مرثوش أشدَّا للكهف
وخذ شادنوشا سادس الصحب ذاكرًا
كفشططيوش في رواية ذي العرف
ثوانس سانينوس مع بطنيوشهم
مكر طونش تلك الروايات فاستوفى
وكشفو طط كند سلططنوس هكذا
روينا وارنوش على حسب الخلف
وبنيونس كشفيطط أربطانس
ومرطوكش عند الأجلة في الصحف
وكلبهم قطمير سابع سبعة
فخذ وتوسل يا أخا الكرب والرجف

ومن كلامه أيضًا:

توكل على مولاك واخش عقابه
ودوام على التقوى وحفظ الجوارح
وقدم من البر الذي تستطيعه
ومن عمل يرضاه مولاك صالح
وأقبل على فعل الجميل وبذله
إلى أهله ما اسطعت غير مكالح
ولا تسمع الأقوال من كل جالب
فلا بد من مثن عليك وقادح

ونظمه كثير ونثره بحر غزير، وفضله شهير، وذكره مستطير، وكنت كثيرًا ما أجتلي وجه وداده، وأوقد نار الفكرة بقدح وارى زناده، وأستظل بدوحه المريع، وأستمد من بحره السريع، وأسامره بما يذكرنا عهود الرقمتين، وأتنزه من صفات فضله وذاته في الربيعين كما قيل:

وكانت بالعراق لنا ليال
سرقناهن من ريب الزمان
جعلناهن تاريخ الليالي
وعنوان المسرة والأماني

وبالجملة فإنه كان في جمع المعارف صدرًا لكل ناد، حتى قوض الدهر منه رفيع العماد، وآذنت شمسه بالزوال، وغربت بعد ما طلعت من مشرق الإقبال، كما قيل:

وزهرة الدنيا وإن أينعت
فإنها تسقى بماء الزوال

وقد نعاه الفضل والكرم، وناحت لفراقه حمايم الحرم، وأصيب بالطاعون في شهر شعبان، وذلك أنه صلى الجمعة في مسجد الكردي المواجه لداره فطعن بعد ما فرغ من الصلاة، ودخل إلى البيت واعتقل لسانه تلك الليلة، وتوفي يوم الأحد فأخفت زوجته وأقاربها موته، حتى نقلوا الأشياء النفيسة والمال والذخاير والأمتعة والكتب المكلفة، ثم أشاعوا موته يوم الاثنين، فحضر عثمان بك طبل الإسماعيلي ورضوان كتخدا المجنون، وادعى أن المتوفى أقامه وصيًّا مختارًا وعثمان بك ناظرًا بسبب أن زوج أخت الزوجة من أتباع المجنون يقال له حسين أغا، فلما حضروا وصحبتهما مصطفى أفندي صادق فأخذوا ما أحبوه وانتقوه من المجلس الخارج، وخرجوا بجنازته وصلوا عليه، ودفن بقبر أعده لنفسه بجانب زوجته بالمشهد المعروف بالسيدة رقية، ولم يعلم بموته أهل الأزهر ذلك اليوم، لاشتغال الناس بأمر الطاعون وبعد الخطة، ومن علم منهم وذهب لم يدرك الجنازة.

ومات رضوان كتخدا في إثر ذلك، واشتغل عثمان بك بالإمارة لموت سيده أيضًا، وأهمل أمر تركته فأحرزت زوجته وأقاربها متروكاته ونقلوا الأشيا الثمينة والنفيسة إلى دارهم، ونسي أمره شهورًا، حتى تغيرت الدولة وتملك الأمرا المصريون والذين كانوا بالجهة القبلية، وتزوجت زوجته برجل من الأجناد من أتباعهم، فعند ذلك فتحوا التركة بوصاية الزوجة من طرف القاضي خوفًا من ظهور وارث، وأظهروا ما انتقوه مما انتقوه من الثياب، وبعض الأمتعة والكتب والدشتات، وباعوها بحضرة الجمع، فبلغت نيفًا وماية ألف نصف فضة، فأخذ منها بيت المال شيًّا وأحرز الباقي مع الأول، وكانت مخلفاته شيًّا كثيرًا جدًّا.

أخبرني المرحوم حسن الحريري وكان من خاصته وممن يسعى في خدمته ومهماته، أنه حضر إليه في يوم السبت وطلب الدخول لعيادته، فأدخلوه إليه فوجده راقدًا معتقل اللسان، وزوجته وأصهاره في كبكبة، واجتهاد في إخراج ما في داخل الخبايا والصناديق إلى الليوان، ورأيت كومًا عظيمًا من الأقمشة الهندية والمقصبات والكشميري والفراء من غير تفصيل نحو الحملين وأشيا في ظروف وأكياس، لا أعلم ما فيها، قال: ورأيت عددًا كثيرًا من ساعات العِبِّ الثمينة مبددًا على بساط القاعة، وهي بغلافات بلادها، قال: فجلست عند رأسه حصة، وأمسكت يده، ففتح عينيه ونظر إليَّ وأشار كالمستفهم عما هم فيه، ثم غمض عينيه وذهب في غطوسه، فقمت عنه، قال: ورأيت في الفسحة التي أمام القاعة قدرًا كثيرًا من شمع العسل الكبير والصغير والكافوري المصنوع والخام وغير ذلك مما لم أره ولم ألتفت إليه، ولم يترك ابنًا ولا ابنة ولم يرثه أحد من الشعرا.

وكان صفته ربعة نحيف البدن ذهبي اللون متناسب الأعضا معتدل اللحية قد وخطه الشيب في أكثرها، مترفها في ملبسه ويعتم مثل أهل مكة عمامة منحرفة بشاش أبيض ولها عذبة مرخية على قفاه، ولها حبكة وشراريب حرير طولها قريب من فتر وطرفها الآخر داخل طي العمامة وبعض أطرافه ظاهر، وكان لطيف الذات حسن الصفات بشوشًا بسومًا وقورًا محتشمًا مستحضرًا للنوادر والمناسبات ذكيًّا لوذعيًّا فطنًا ألمعيًّا، روض فضله نضير، وما له في سعة الحفظ نظير، جعل الله مثواه قصور الجنان وضريحه مطاف وفود الرحمة والغفران.

ومات الإمام العلامة والحبر المدقق الفهامة ذو الفضايل الجمة والتحقيقات المهمة الذكي الألمعي النحوي المعقولي الفقيه النبيه الشيخ عمر البابلي الشافعي الأزهري، تفقه على علما العصر وحضر الشيخ عيسى البراوي والشيخ الصعيدي والشيخ أحمد البيلي والشيخ عبد الباسط السنديوني، وتمهر في العلوم وأقرا الدروس وأخذ طريق الخلوتية على شيخنا الشيخ محمود الكردي، ولقنه الأسما ولازمه في مجالسه وأوراده ملازمة كلية، ولوحظ بأنظاره، وتزوج بزوجة الشيخ أحمد أخي الشيخ حسن المقدسي الحنفي وكانت مثرية، فترونق حاله وتجمل بالملابس وعرفته الناس، وماتت زوجته المذكورة لا عن عَصَبَة فحاز ميراثها والتزم بحصة كانت لها بقرية يقال لها دار البقر، فعند ذلك اتسعت عليه الدنيا، وسكن دارًا واسعة واقتنى الجواري والخدم ومواشي وأبقارًا وأغنامًا واستأجر أرضًا قريبة يزرعها بالبرسيم تغدو إليها المواشي وتروح كل يوم من أيام الربيع، ثم تزوج ببنت شيخه الشيخ محمود بعد وفاته وأقام منعمًا معها في رفاهية من العيش، مع ملازمته للإقرا والإفادة، إلى أن أدركه الأجل المحتوم، وتوفي في هذه السنة بالطاعون، وكان إنسانًا حسنًا جم الفرايد والفوايد مهذب الأخلاق لين الطباع حسن المعاشرة جميل الأوصاف، رحمه الله تعالى.

ومات العمدة الفاضل الواعظ عبد الوهاب بن الحسن البوسنوي السري المعروف ببشناق أفندي، قدم مصر سنة تسع وستين وماية وألف، وعظ بمساجدها وأكرمه الأمرا للجنسية، ثم توجه إلى الحرمين وقطن بمكة، ورتب له شي معلوم على الوعظ والتدريس، ومكث مدة ثم حصلت فتنة بين الأشراف والأتراك، فنهب بيته وخرج هاربًا إلى مصر فالتجا إلى علمائها، فكتبوا له عرضًا إلى الدولة بمعرفة ما جرى عليه، فعين له شي في نظير ما ذهب من متاعه، وتوجه إلى الحرمين فلم يقر له بمكة قرار، ولم يمكنه الامتزاج مع رئيس مكة لسلاقة لسانه، واستطالته في كل من دب ودج، فتوجه إلى الروم ومكث بها أيامًا حتى حصل لنفسه شيًّا من معلوم آخر، فأتى إلى مكة وصار يطلع على الكرسي ويتكلم على عادته في الحط على أشراف مكة وذمهم والتشنيع عليهم وعلى أتباعهم، وذكر مساويهم وظلمهم، فأمره شريف مكة بالخروج منها إلى المدينة، فخرج إليها وقد حنق غيظًا على الشريف، فلما استقر بالمدينة لف عليه بعض الأوباش ومن ليس له ميل إلى الشريف فصار يطلع على الكرسي ويستطيل بلسانه عليه ويسبه جهرًا وغره مرافقة أوليك معه، وأن الشريف لا يقدر أن يأتي لهم بحركة، فتعصبوا وزادوا نفورًا وأخرجوا الوزير الذي هو من طرف الشريف، وكاتبوا إلى الدولة برفع يد الشريف عن المدينة مطلقًا وأنه لا يحكم فيهم أبدًا، وإنما يكون الحاكم شيخ الحرم فقط، وأرسلوا بالعروض مفتي المدينة، فكتب لهم على مقتضى طلبهم خطابًا إلى أمير الحاج الشامي وإلى الشريف، ولما أحس الشريف بذلك تنبه لهذه الحادثة، وعرف أن أصلها من أنفار بالمدينة أحدهم المترجم، واستعد للقا أمير الحاج بعسكر جرار على خلاف عادته، ورام مناواته إن برز منه شي خلاف ما عهد منه، فلما رأى أمير الحاج ذلك كتم ما عنده، وأنكر أن يكون عنده شي من الأوامر في حقه ومضى لنسكه حتى إذا رجع إلى المدينة تنمر وتشمر، وكاد أن يأكل على يده من التندم والحسرة، وذهب إلى الشام ولما خلت مكة من الحجوج جرد الشريف عسكرًا على العرب فقاتلوه، وصبر معهم حتى ظفر بهم ودخل المدينة فجأة، ولم يكن ذلك يخطر ببالهم قط، فما وسعهم إلا أنهم خرجوا للقايه فآنسهم وأخبرهم أنه ما أتى إلا لزيارة جده عليه الصلاة والسلام، وليس له غرض سواه، فاطمأنوا بقوله وشق سوق المدينة بعسكره وعبيده حتى دخل من باب السلام، وتملى من الزيارة وأقبلت عليه أرباب الوظايف مسلمين فأكرمهم وكساهم.

فلما آنس منهم الغفلة أمر بإمساك جماعة من المفسدين الذين كانوا يحفرون وراه، فاختفى باقيهم وتسللوا وهرب منهم خفية بالليل جماعة، وكان المترجم أحد من اختفى في بيت ثلاثة أيام ثم غير هيئته وخرج حتى أتى مصر، ومشى على طريقته في الوعظ وعقد له مجلسًا بالمشهد الحسيني، وخالط الأمرا وحضر درسه الأمير يوسف بك ومال إليه وألبسه فروة ودعاه إلى بيته وأكرمه وتردد إليه كثيرًا، وكان يُجِلُّهُ ويرفع منزلته ويسمع كلامه وينصت إلى قوله، ولديه بعض معرفة بالعلم على طريقة بلادهم، واستمر بمصر وسكن بحارة الروم ورتب له بالضربخانة ماية نصف فضة في كل يوم لمصروفه، وصار له وجاهة عند أبناء جنسه إلى أن وقع له ما وقع مع إسماعيل باشا بسبب الوصاية على التركة كما مَرَّ ذلك آنفًا، وحط من قدره وأهانه وحبسه نحو ثلاثة أشهر ثم أفرج عنه بشفاعة علي بك الدفتردار، وانزوى خاملًا في داره إلى أن مات في أوايل شعبان بالطاعون، سامحه الله تعالى.

ومات الجناب المكرم المبجل المعظم جامع المعارف وحاوي اللطايف الأمير حسن أفندي بن عبد الله الملقب بالرشيدي، الرومي الأصل مولى المرحوم علي أغا بشير دار السعادة المكتب المصري اشتراه سيده صغيرًا، وهذَّبه ودرَّبه وشغله بالخط فاجتهد فيه وجوَّده على عبد الله الأنيس، وكان ليوم إجازته محفل نفيس جمع فيه المرءوس والرئيس، ثم زوَّجه ابنته وجعله خليفته، ولم يزل في حال حياة سيده معتكفًا على المشق والتسويد معتنيًا بالتحرير والتجويد، إلى أن فاق أهل عصره في الجودة في الفن وجمع كل مستحسن، ولما توفي شيخ المكتبين المرحوم إسماعيل الوهبي جعل المترجم شيخًا باتفاق منهم لما أعطى من مكارم الشيم، وطيب الأخلاق وتمام المروءة، وحسن تلقي الواردين وجميل الثنا عليه من أهل الدين، وألف من أجله شيخنا السيد محمد مرتضى كتاب حكمة الأشراق إلى كتاب الآفاق جمع فيه ما يتعلق بفنهم مع ذكر أسانيد، وهو غريب في بابه يستوقف الراتع في مربع هضابه، ولم يزل شيخًا ومتكلمًا على جماعة الخطاطين والكتاب وعميدهم الذي يشار إليه عند الأرباب، نسخ بيده عدة مصاحف وأحزاب، وأما نسخ الدلايل فكثرتها لا تدخل تحت الحساب إلى أن طافت به المنية طواف الوداع، ونثرت عقد ذلك الاجتماع، وبموته انقرض نظام هذا الفن.

ومات صاحبنا الأديب الماهر والنبيه الباهر نادرة العصر وقرة عين الدهر عثمان بن محمد بن حسين الشمسي، وهو أحد الإخوة الأربعة أكثرهم معرفة وأغزرهم أدبًا وأغوصهم في استخراج الدقايق واستنتاج الرقايق، وأمهم جميعًا الشريفة رقية بنت السيد طه الحموي الحسيني، ولد المترجم بمصر وربي في حجر أبويه، وتعلق من صغره بمعرفة الفنون الغريبة فنال طرفًا منها حسنًا يليق عند المذاكرة وعرف الفرايض واستخرج منها طرقًا غريبة في استحقاق المواريث في قسم الغرما في شبابيك، وله سليقة شعرية مقبولة، ومما كتبه في عنوان الكتاب:

أدين الله ما لك من نظير
ولا لك في التقى والفضل ثاني
سألت الله أن تبقى بعزم
ولا يثنيك عما شئت ثاني

ثم أتبعه بنثر فقال: حضرة سيدي وقدوتي وعمدتي وعدتي، من أرجو من الله بقاء حياته وأن يعزه بكل حباته، وأن يمن علينا من فضل مزياته خوارق عاداته، آمين يا رب العالمين.

أما بعد فالمتكلم في هذا الجناب كالمهدي للبحر قطره، والمفضل على الشهد قطره، لا زال مولانا معجز أحبابه بمدح أوصافه، ومحفوظًا برعاية الله وأعظم ألطافه، إلى آخر ما قال ومن نظمه:

وأغيدٍ لؤلؤي الجسم ذي هيف
متمم الحسن فيه كم أرى عجبًا
كأنما خاله من نار وجنته
انقض يرشف شهدًا جاوز الشنبا

وقد شطرهما صنوه عثمان الصفائي وسيأتي في ترجمته، رحمهما الله.

وله معرفة باللغة جيدة يطالع كتبها ويحل عقدها، ويسأل عن غرايب الفن، ويغوص بذهنه على كل مستحسن، ولقد نظم فرايض الدين وأسما أهل بدر وغير ذلك.

ومن آثاره قصيدة جيمية في مدح السيد أحمد البدوي قدس الله تعالى سره:

إليك إليك قد زاد احتياجي
ومن نادك يا بدوي فناجي
لقد أعييت مما صاب جسمي
من العصيان واختلف اختلاجي
ذنوب واجترا ليس يحصى
وغير سُو أفعالي مزاجي
وأهواني الهوى فبدا هواني
فهذا الوقت هاو في لجاجي
وقد أسرفت عمري في التلاهي
وضاق بما جنيت له فجاجي
وكم بارزت ربي بالمعاصي
وكان بها التذاذي في هياجي
وكم يومًا أسأت الفعل فيه
وزدت إساءةً جنح الدياجي
فيا أسفي ويا حزني ووجدي
من العصيان قد زاد انزعاجي
ولما قل إسعافي وطبي
ولم ألقى لدائي من علاج
لنحو العيسوي ولعت عيسي
لكي أرجو خلاصي وافتراجي
أنخت ظعون أسقامي وكربي
لباب كم له في الناس راجي
فيا بدوي يا قصدي وسؤلي
ويا حامي الحمى يوم العجاج
دخيل في حماك وأنت غوث
وحاشا أن يخيَّب من يناجي
فأنقذه وسلكه طريقًا
إلى التقوى بعز وابتهاج
فعثمان له حسن اعتقاد
ولم يصغي لقداح وهاجي

وله غير ذلك كثير، وبالجملة إنه كان من محاسن الزمان، توفي — رحمه الله — في أواخر شعبان مطعونًا، وخلف ولديه محمد جربجي وحسين جربجي أحياهما الله حياة طيبة.

ومات الأجل المبجل بقية السلف ونتيجة الخلف الوجيه الصالح النبيه الشيخ عبد الرحمن بن أحمد شيخ سجادة جده سيدي عبد الوهاب الشعراني، مات أبوه الشيخ أحمد في سنة أربع وثمانين، وتركه صغيرًا دون البلوغ فكفلته أمه، فتولى السجادة الشيخ أحمد من أقاربه وتزوج بأمه وسكن بدارهم، ولما شب المترجم وترشد اشترك معه بالمناصفة، ثم توفي الشيخ أحمد المذكور فاستقل بذلك، ونشأ في عز وعفاف وصلاح وحسن حال ومعاشرة ومودة، وعمر البيت حسًّا ومعنًى، وأحيا مآثر أجداده وأسلافه، وكان شديد الحيا والحشمة والتواضع والانكسار والخشية والحلم والتؤدة ومكارم الأخلاق، ولما تم كماله بدا زواله واخترمته في شبابه يد الأجل، فقطعت شمس عمره منطقة الأمل، وخلف ابنًا صغيرًا يسمى سيدي قاسمًا بارك الله فيه.

ومات أعز الإخوان وأخص الأصدقا والخلان النجيب الصالح والأريب الناجح شقيق النفس والروح، وصحبته باب الخير والفتوح، المتفنن النبيه سيدي إبراهيم بن محمد الغزالي بن محمد الدادة الشرايبي، من أجل أهل بيت الثروة والمجد والعز والكرم، وهو كان مسك ختامهم، وبموته انقرض بقية نظامهم، وقد تقدم استطراد بعض أوصافه في ترجمة المرحوم سيدي أحمد رفيق المرحوم رضوان كتخدا الجلفي، ومنها حرصه على فعل الخير ومكارم الأخلاق وتقديم الزاد ليوم المعاد، والصدقات الخفية والأفعال المرضية التي منها تفقد طلبة العلم الفقرا والمنقطعين ومواساتهم ومعونتهم، وكان يشتري المصاحف والألواح الكثيرة، ويفرقها بيد من يثق به على مكاتب أطفال المسلمين الفقرا معونة لهم على حفظ القرآن ويملا الأسبلة للعطاش، ولا يقبل من فلاحينه زيادة على المال المقرر، ويعانون فقراهم ويقرضهم التقاوي واحتياجات الزراعة وغيرها، ويحسب لهم هداياهم من أصل المال، وكان يتفقه على العلامة الشيخ محمد العقاد المالكي ويحضر دروسه في كل يوم، وبعد وفاته لازم حضور الشيخ عبد العليم الفيومي، وكان ينفق عليه وعلى عياله ويكسوهم، ولم يزل سمح السجية بسام العشية إلى أن بغته الطاعون حالًا، وكان موته ارتجالًا فنضبت جداوله واستراحت حساده وعواذله، وكان — رحمه الله — حسنة في صحايف الأيام والليالي، وروضة تنبت الشكر في رياض المعالي.

فلو بعت يومًا منه بالدهر كله
لفكرت دهرًا ثانيًا في ارتجاعه

ومات أيضًا من بيتهم الأجل المكرم أحمد جلبي بن الأمير علي، وكان شابًّا لطيف الذات مليح الصفات مقبول الطباع مهذب الأوضاع.

ومات أيضًا من بيتهم الأمير عثمان بن عبد الله معتوق المرحوم محمد جربجي، وكان من أكابر بيتهم وبقية السلف من طبقتهم ذا وجاهة وعقل وحشمة وجلالة قدر.

ومات أيضًا من بيتهم الأمير رضوان صهر أحمد جلبي المذكور، وكان إنسانًا لا بأس به أيضًا.

ومات من بيتهم عدد كثير من النسا والصبيان والجواري في تلك الأيام المبددة منهم ومن غيرهم عقد النظام.

ومات الصنو الفريد والعقد النضيد الذكي النبيه من ليس له في الفضل شبيه صاحبنا الأكرم وعزيزنا الأفخم إبراهيم جلبي بن أحمد أغا البارودي، نشأ مع أخويه علي ومصطفى في حجر والدهم في رفاهية وعز، ولما مات والدهم في سنة اثنتين وثمانين وماية وألف وتزوجت والدتهم وهي ابنة إبراهيم كتخدا القازدغلي بمحمد خازندار زوجها، وهو محمد أغا الذي اشتهر ذكره بعد ذلك، فكفل أولاد سيده المذكورين، وفتح بيتهم وعانى المترجم تحصيل الفضايل وطلب العلم، ولازم حضور الدروس بالأزهر في كل يوم، وتقيد بحضور الفقه على السيد أحمد الطحطاوي والشيخ أحمد الخانيونسي، وفي المعقول على الشيخ محمد الخشني والشيخ علي الطحان حتى أدرك من ذلك الحظ الأوفر، وصار له ملكة يقتدر بها على استحضار ما يحتاج إليه من المسايل النقلية والعقلية، وترونق بالفضايل وتحلى بالفواضل إلى أن اقتنصه في ليل شبابه صياد المنية، وضرب سورًا بينه وبين الأمنية.

ومات أيضًا بعده بيومين أخوه سيدي علي، وكان جميل الخصايل مليح الشمايل رقيق الطباع، يشنف بحسن ألفاظه الأسماع، اخترمته المنية وحلت بساحة شبابه الرزية.

ومات الصاحب الأمثل والأجل الأفضل حاوي المزايا المنزه عن النقايص والرزايا عبد الرحمن أفندي بن أحمد المعروف بالهلواتي، كاتب كبير باب تفكشيان من أعيان أرباب الأقلام بديوان مصر، كان اشتغل بطلب العلم ولازم حضور الأشياخ وحصل في المعقول والمنقول ما تميز به عن غيره من أهل صناعته، مع حسن الأخلاق وجميل الطباع وحضر على الشيخ مصطفى الطائي كتاب الهداية في الفقه مشاركًا لنا، وأخذ أيضًا الحديث عن السيد مرتضى وسمع معنا عليه كثيرًا من الأجزاء والمسلسلات والصحيحين وغير ذلك، وألف حاشية على مراقي الفلاح واقتنى كتبًا نفيسة، وكان يباحث ويناضل مع عدم الادعا وتهذيب النفس والسكون والتؤدة والإمارة والسيادة إلى أن أجاب الداعي، ونعته النواعي واضمحل حال أبيه بعده وركبته الديون وجفاه الأخدان والمحبون، وصار بحاله يرثي له الشامت، ويبكي حزنًا عليه من يسمع ذكره من الناعت إلى أن توفي بعده بنحو سنتين.

ومات الأمير المبجل والنبيه المفضل علي بن عبد الله الرومي الأصل مولى الأمير أحمد كتخدا صالح، اشتراه سيده صغيرًا فتربى في الحريم، وأقراه القرآن وبعض متون الفقه وتعلم الفروسية ورمي السهام، وترقى حتى عمل خازندار عنده، وكان بيته موردًا للأفاضل فكان يكرمهم ويحترمهم ويتعلم منهم العلم، ثم أعتقه وأنزله حاكمًا في بعض ضياعه، ثم رقاه إلى أن عمله ريسًا في باب المتفرقة، وتوجه أميرًا على طايفته صحبة الخزينة إلى الأبواب السلطانية مع شهامة وصرامة ثم عاد إلى مصر، وكان ممن يعتقد في شيخنا السيد علي المقدسي ويجتمع به كثيرًا، وكان له حافظة جيدة في استخراج الفروع، وأتقن فن رمي النشاب إلى أن صار أستاذًا فيه، وانفرد في وقته في صنعة القسي والسهام والدهانات فلم يلحقه أهل عصره، وأضر بعينيه وعالجهما كثيرًا فلم يفده، فصبر واحتسب، ومع ذلك فيرد عليه أهل فنه ويسألونه فيه ويعتمدون على قوله، ويجيد القسي تركيبًا وشدًّا ولقد أتاه وهو في هذه الضرارة رجل من أهل الروم اسمه حسن، فأنزله في بيته وعلمه هذه الصنعة حتى فاق في زمن قليل أقرانه وسلم له أهل عصره، وحينئذ طلب منه أن يأذن له فيها واجتمع أهل الصنعة في منزله لحضور هذا المجلس، فأرسل إلى شيخنا السيد مرتضى وطلب منه شيًّا يناسب المجلس، فكتب عن لسانه ما نصه:

الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، وهدى بفيض فضله إلى الطريق الأقوم، والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي الأكرم، الناصر لدين الحق بالسيف والسنان المقوم، وعلى آله وصحبه ما رمى مجاهد في سبيل الله سهمًا وإلى الجنة تقدم.

أما بعد …

فيقول الفقير إلى الله تعالى علي بن عبد الله مولى المرحوم أحمد كتخذا صالح غفر الله ذنوبه وستر عيوبه، ورحم من مضى من سلفه وجعل البركة في عقبه وخلفه: اعلموا إخواني في الله ورسوله أن كل صنعة لها شيخ وأستاذ، وقد قالوا: صنعة بلا أستاذ يدركها الفساد، وأن صنعة القوس والنشاب بين الأقران والأصحاب على ممر الأحقاب شريفة وطريقة بين السلف والخلف مقبولة منيفة، إذ بها تعمير باب الجهاد وفتح قلاع أهل الكفر والعناد، وقد أمر الله نبيه في الكتاب بإعداد القوة وفسر ذلك برمي النشاب، حيث قال جل ذكره: وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ.

وروى مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر الجُهَني — رضي الله عنه — قال: سمعت رسول الله يقول في تفسير هذه الآية: ألا إن القوة الرمي، فكرره ثلاث مرات، وذلك زيادة لبيانه وتفخيمًا لشأنه، والأمر من الله يقتضي الوجوب، وهو فرض كفاية على المسلمين لنكاية أعداء الدين، وثبت أن رسول الله رمى بالقوس وركب الخيل وتقلد بالسيف وطعن بالرمح، وكانت عنده ثلاث قسي: قوس معقبة تدعى بالروحاء، وقوس من شوحط تدعى البيضاء، وأخرى تسمى الصفرا، وثبت أن كل شي يلهو به المؤمن باطل إلا ثلاثًا فذكر إحداهن الرومي بالقوس، وفي الأخبار الصحيحة أن الله تعالى ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه المحتسب فيه الخير، والرامي به والممد له ومنبله، فارموا واركبوا ولأن ترموا أحب إليَّ من أن تركبوا.

وروى البخاري عن سلمة بن الأكوع — رضي الله عنه — أن رسول الله مر على نفر من أسلم ينتصلون، فقال: ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان راميًا.

وورد في فضل الرمي أحاديث كثيرة منها في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر الجهني — رضي الله عنه — قال: قال رسول الله: «من تعلم الرمي ثم تركه فليس منا وقد عصى».

وعن أبي هريرة — رضي الله عنه — قال: سمعت رسول الله يقول: «من تعلم الرمي ثم نسيه فهي نعمة سلبها».

وروى النسائي عن عمرو بن عقبة — رضي الله عنه — قال: سمعت رسول الله يقول: «من رمى بسهم في سبيل الله بلغ العدو أو لم يبلغ كان له كعتق رقبة».

وصح أن النبي كان يخطب وهو متكي على قوس، وجا جبريل — عليه السلام — يوم أحد وهو متقلد قوسًا عربية، ويروى عن أنس — رضي الله عنه — قال: قال رسول الله: «من اتخذ قوسًا عربية نفى الله عنه الفقر»، والأحاديث في ذلك كثيرة، وفي الكتب شهيرة.

وقد ثبت أن أول من رمى بالقوس العربية آدم — عليه السلام — نزل جبريل — عليه السلام — من الجنة وبيده قوس ووتر وسهمان، فأعطاها له وعلمه الرمي بها ثم صار إلى إبراهيم — عليه السلام — ثم صار إلى ولده إسماعيل — عليه السلام — وإليه ينتهي إسناد شيوخ هذا الفن.

ولما كان الأمر كذلك رغب الراغبون في صنعة القسي، واجتهدوا في تركيبها وأبدعوا في إتقان السهام التي يرمى بها؛ امتثالًا لأمر الله تعالى، وأمر رسوله، وإسعافًا لإخوانهم المسلمين من الغزاة والمجاهدين، وكان من بينهم الرجل الكامل الحسن السمت والشمايل حسن بن عبد الله مولى علي، قد طال اجتهاده في هذه الصنعة من مد القوس وإطلاقها والاختلاس وحمل الأوتار والجلة والكشتوان، وفرض سية القوس من ساير أنواعها العربية المعقبية والواسطية والخرسانية والشامية، وما يتعلق بها من تنجر الخشب وبتركيبه، ونشر اللجام وتوقيعه، والتوقيع والحزم والرقع والتنوير والدهان، مما عليه عمل الأستاذين من سالف الزمان، فلما رأيت من هذا الإتقان في صنعته، والإذعان بحسن معرفته والإحكام مع التفقه في ساير الأوقات لأصول صناعته، صدرت منى هذه الإجازة الخاصة له بشهادة الإخوان في هذه الصنعة الشريفة البيان، كما أجازني به الشيخ الصالح الكامل الماهر البارع المرحوم عبد الله أفندي بن محمد البستوي بحق أخذه لذلك عن شيخه المرحوم الحاج علي الألباني، عن شيخه محمد الأسطنبولي بإسناده المتصل إلى عبد الرحمن الفزاري والإمام صاحب الاختيار مولف الإيضاح المعروف بالطبري، بحق أخذها عن أيمة هذا الفن المشهورين طاهر البلخي وإسحاق الرفا وأبي هاشم البارودي، بأسانيدهم المتصلة عن شيخ إلى شيخ إلى أن ينتهي ذلك إلى سيدنا إسماعيل — عليه الصلاة والسلام — وحسبك من علو سند ينتهي إلى هذا الإمام، وأوصيه كما أوصي إخواني ونفسي المخالطة بالأدب الجميل وتواضع النفس، وحملها على مكارم الأخلاق، وأن لا يرفع نفسه على أحد وأن لا يحقر أحدًا من خلق الله، وأن يجعل دأبه لزوم الصمت والإدمان والقناعة بالقليل مع المداومة على ذكر الله بالسكينة والوقار، وأن يسمي الله في أول مسكه في صنعته ويستمد من الله القوة والحول، ولا يضجر ولا ييأس من روح الله ولا يسب نفسه ولا قوسه ولا سهامه، ولا يحدث نفسه بالعجز فإنه يصل إلى ما وصل إليه غيره، فإن الرجال بالهمم، ففي الحديث «المؤمن القوي أحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير»، وأن يديم النظر إلى معرفة العيوب العارضة للقسي والسهام وعقد الأوتار ويتعاهد لذلك، وكيفية إزالة العيب إن حدث ويعرف من أي حدث وأن لا يبيع سلاح الجهاد لكافر، ويفتش دين من يشتري إن كان رجلًا أو صبيًّا فيحتاج ذلك إلى إذن والده، فإذا علم إسلامه ووثق فيأخذ عليه العهد أن لا يرمي به مسلمًا ولا معاهدًا ولا كلبًا ولا شيًّا من ذوات الأرواح إلا أن يكون صيدًا أو ما يجب قتله، وأن لا يعلم صنعته إلا لأهله الذي يثق بدينه، فقد روي أنه لا يحل منع العلم من مستحقه، ويجب إعطاؤه بحقه ولا سيما إن كان عارفًا بقدر العلم راغبًا فيه طالبًا لوجه الله تعالى لا للمباهاة والمفاخرة، ويجب عليه أن يروض تلامذته ويؤلف بينهم ويحرضهم على العمل ولا يعاتبهم إلا في خلوة، وهو مع ذلك لازم الهيبة كثير السكوت متأن في الأمور غير عجول للجواب، والتقوى أصل كل شي وهو رأس مال الإنسان، ونختم الكلام بالحمد والثناء للرب المالك المنان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد ولد عدنان، وعلى آله وصحبه الأعيان.

وسمع المترجم على شيخنا المذكور أكثر الصحيح بقراءة كل من الشريفين الفاضلين: سليمان بن طه الأكراشي وعلي بن عبد الله بن أحمد، وذلك بمنزله المطل على بركة الفيل، وكذلك سمع عليه المسلسل بالعيد بشرطه وحديثين مسلسلين بيوم عاشورا، تخريج السيد المذكور وأشياء أخر ضبطت عند كاتب الأسما، وأخذ الإجازة من الشيخ إسماعيل بن أبي المواهب الحلبي، وكان عنده كتب نفيسة في كل فن، رحمه الله.

ومات الشاب اللطيف المهذب الظريف الذي يحكى بأدبه سنا الملك أو ابن العفيف محمد بن الحسن بن عبد الله الطيب، أبوه مولى للقاسم الشرايبي مات أبوه في حداثته، وكان مولده سنة أربع وستين وماية وألف، وكفله صهره سليمان بن محمد الكاتب أحد كتاب المقاطعة بالديوان، ونشأ في الرفاهية والنعم، وعانى طلب العلم فنال منه ما أخرجه من ربقة الجهل، وتعلق بالعروض وأخذه عنه الشيخ محمد بن إبراهيم العوفي المالكي فبرع فيه، ونظم الشعر إلا أنه كان يعرض شعره للذم بالتزامه فيه ما لا يلزم، كتب إليه صاحبنا المتقن العلامة السيد إسماعيل بن سعد بن إسماعيل الوهبي المعروف بالخشاب على ديوانه.

قل للرئيس أبي الحسين محمد
خدن المعالي والسري الأمجد
والحاذق الفطن اللبيب أخي الذكا
اللوذعي الألمعي الأوحد
ألزمت نفسك في القريض مذاهبًا
ذهبت بشعرك في الحضيض الأوهد
وتركت ما قد كان فيه لازمًا
هلا عكست فجئت بالقول السدي
كدرت منه بما صنعت بحوره
فغدت مشارع ليس يمحوها الصدي
فإذا نظمت فكن لنظمك ناقدًا
نقد البصير بذهنك المتوقد
أو لا فدع تكليف نفسك واسترح
من قولهم: ما شعره بالجيد
ولئن عنفت عليك فيما قلته
فلقد بذلت النصح للمسترشد

فلما قرأها ضحك ولم يزد على أن قال له: أنت في حل، وكان — رحمه الله — قد علق غلامًا من أبناء الكتاب، فكتب إليه أيضًا السيد إسماعيل:

إني أجلك أن تصبو بمبتذل
على تسنمك العلياء من صغر
أمسك عليك وحاذر من إخاء فتًى
قميصه مذ نشا ينقد من دبر

وكتب إليه الأديب الماهر طه بن عرفة مقرظًا على ديوانه بيتين في غاية الحسن:

لك لفظ كأنه الدر نظما
صدف القلب عن سواه مليَّا
لو تجلى منه الجمال الإناثي
لترضاك للفؤاد صفيَّا

فكتب إليهما بيتًا واحدًا:

إن إسماعيل عندي
مثل أنثى بل وطه

ومن شعره رحمه الله تعالى:

نار الخليل إذا بدت في مهجتي
ورشفت ذاك الثغر برد حرها

ومات الصنو الفريد، والنادرة الوحيد، النبيه اللبيب، والمفرد العجيب الفاضل الناظم الناثر سيدي عثمان بن أحمد الصفائي المصري، تقدم ذكره في ترجمة والده أحمد أفندي، كاتب الروزنامة بديوان مصر، ونشأ هو في ظل النعمة والرفاهية، وقرا النحو والمنطق على كل من الشيخ علي الطحان، والشيخ مصطفى المرحومي حتى مهر فيهما، وكان يباحث ويناضل ويناقش أهل العلم في المسائل العقلية والنقلية، وقرأ علم العروض، وأتقن بحوره ونظم الشعر وجمع الظرف، وكان فيه نوع من الخلاعة واللهو، وله تخميس على البردة جيد، وأشعار كثيرة وله شعر رقيق منه قوله:

نظرت إلى حبي وكنت مفلسًا
فلم أرَ فيه للفلوس سوى السوى
فقلت له: أين الدراهم؟ قال لي:
على أنني راض بأن أحمل الهوى

ومن نظمه تشطير بيتين لعثمان الشمسي وهو:

(وأغيدٍ لؤلؤي الجسم ذي هيف)
بوجنة أشرقت منها الفؤاد صبا
البدر طرته والغصن قامته
(متمم الحسن فيه كم أرى عجبا)
(كأنما خاله من نار وجنته)
قد زاد حسنًا ومن أعلى الخدود ربا
وحين خاف اللظى في الخد يحرقه
(انقض يرشف شهدًا جاوز الشنبا

ورأيت له أبياتًا على القصيدة السلملمكية المشهورة وهي:

ليس لي في القريض يا قوم رغبهْ
بعد هذا الذي كساني رعبهْ
أشهد الله أنني تبت عنه
توبة حرمت على المحبه
حيثما فيه شعر نائب قاض
أبعد الناس بالفصاحة نسبه
كان فيه جزاؤه صفع وجه
أو قفًا أو كان قتلًا بحربه
لا جزاه الإله في الناس خيرًا
لا ولا فرج المهيمن كربه
حيث أهدى إلى البرية داء
مستمرًّا أعيا فُحول الأطبه
يا عديم الآراء ما أنت إلا
آدمي برؤية البغل أشبه
كيفما تدعي الفصاحة جهلًا
أوما تدري أنها دار غربه
عش جهولًا أو مت بجهلك حتفًا
يا خبيثًا بأخبث الأرض تربه
فلعمري ما قلته ليس شعرًا
بل نباح وأنت كلبُ ابن كلبه
ثم إني أستغفر الله مما
قد جناه اللسان إن كان سبه

وله في إسماعيل أنفدي الكسار:

يا خليلي أفديك من كدار
كوسج الذقن عاري الذقن شعرا
من يكن قرنه كقرنك هذا
فليكن بيته كإيوان كسرى

ولم يزل رافلًا في حلل السعادة حتى حلت بساحة شبابه الشهادة، وتوفي مطعونًا بمليج وهو ذاهب لموسم المولد الأحمدي بطندتا في شهر رجب، وقد ناهز الأربعين وحضروا به إلى مصر محمولًا على بعير فغسل وكفن ودفن عند والده، رحمه الله.

ومات الخواجا المعظم والتاجر المكرم السيد أحمد بن السيد عبد السلام المغربي الفاسي، نشأ في حجر والده وتربى في العز والرفاهية حتى كبر وترشد، وأخذ وأعطى وباع واشترى وشارك وعامل، واشتهر ذكره وعرف بين التجار، ومات أبوه واستقر مكانه في التجارة، وعرفته الناس زيادة عن أبيه، وصار يسافر إلى الحجاز في كل سنة مقومًا مثل أبيه، وبنى داره ووسعها وأضاف إليها دكة الحسبة التي بجوار الفحامين، وأنشا دارًا عظيمة أيضًا بخط الساكت بالأزبكية، وانضوى إليه السيد أحمد المحروقي وأحبه واتحد به اتحادًا كليًّا، وكان له أخ من أبيه بالحجاز يعرف بالعرايشي من أكابر التجار ووكلايهم المشهورين ذو ثروة عظيمة، فتوفي وصادف وصول المترجم حينئذ إلى الحجاز فوضع يده على ماله ودفاتره وشركاته، وتزوج بزوجته وأخذ جواره وعبيده ورجع إلى مصر، واتسع حاله زيادة على ما كان عليه، وعظم صيته وصار عظيم التجار وشاه البندر، وسلم قياده وزمامه في الأخذ والعطا وحساب الشركا إلى السيد أحمد المحروقي، وارتاح إليه لحذقه ونباهته ونجابته، وسعادة جده ولم يزل على ذلك حتى اخترمته المنية وحالت بينه وبين الأمنية، وتوفي في شعبان مطعونًا وغسل وكفن وصُلي عليه بالمشهد الحسيني في مشهد حافل بعد العشاء الأخيرة في المشاعل، ودفن عند أبيه بزاوية العربي بالقرب من الفحامين.

والتجأ السيد أحمد المحروقي إلى السيد محمد البارودي كتخدا إسماعيل بك، فسعى إليه وأقره مكانه وأقامه عوضه في كل شيء، وتزوج بزوجاته وسكن داره، واستولى على حواصله وبضايعه وأمواله ونما أمره من حينئذ وأخذ وأعطى ووهب وصانع الأمرا، وأصحاب الحل والعقد، حتى وصل إلى ما وصل إليه وأدرك ما لم يدركه غيره فيما سمعنا ورأينا كما قيل:

وإذا السعادة لاحظتك عيونها
نم فالمخاوف كلهن أمان

ومات الأمير الكبير إسماعيل بك وأصله من مماليك إبراهيم كتخدا، وانضوى إلى علي بك بلوط قبان فجعله إشراقه وأقره ونوه بشأنه وقلده الصنجقية بعد موت سيدهم، وزوجه بهانم ابنة إبراهيم كتدخا، وعمل لهما مهمًا عظيمًا ببركة الفيل شهرًا كاملًا في سنة أربع وسبعين كما تقدم ذكر ذلك، وكان من المهمات الجسيمة والمواسم العظيمة التي لم يتفق نظيرها بعده بمصر، ولم يزل منظورًا إليه في الإمارة مدة علي بك، وأرسله في سرياته واعتمده في مهماته، وبعثه إلى سويلم بن حبيب بتجريدة، فلم يزل يحاربه حتى هزمه وفر إلى البحيرة فلحقه هناك، ولم يزل يتبعه ويرصده حتى قتله وحضر برأسه إلى مخدومه، وذلك في أواخر سنة اثنتين وثمانين وماية وألف.

وسافر إلى الشام صحبة محمد بك أبي الدهب لمقاتلة عثمان باشا بن العظم، وأغاروا على البلاد الشامية وحاربوا على يافا أربعة أشهر حتى ملكوها، وسافر قبل ذلك في تجاريد الصعيد وحضر غالب مواقف الحروب مع محمد بك ومستقلًّا إلى أن بدت الوحشة بين محمد بك وسيده علي بك، وخرج مع محمد بك إلى الصعيد وجرى بينهما الدم بقتله أيوب بك، فأخرج إليه علي بك جردة عظيمة احتفل بها احتفالًا زايدًا، وأميرها المترجم فلما التقى الجمعان ألقى عصاه وخامر على مولاه، وانضم بمن معه إلى محمد بك فشد عضده وخان مخدومه وحصل ما حصل من تقلبهم واستيلايهم كما ذكر، واستمر مع محمد بك يراعي حرمته ويقدمه على نفسه ولا يبرم أمرًا إلا بعد مشاورته ومراجعته، وتقلد الدفتردارية وأميرًا على الحج سنتين بشهامة وسير حسن، ولما مات محمد بك لم تطمح نفسه للتصدر في الرياسة والإمارة، بل تركها لأتباعه وقنع بحاله وإقطاعه، ولزم داره التي عمرها بالأزبكية، فناكدوه وطمعوا فيما لديه، وقصد مراد بك اغتياله فخرج إلى خارج وتبعه المغرضون له ويوسف بك وغيره وحصل ما هو مسطر ومشروح في محله من تملكه وقتله يوسف بك وإسماعيل بك الصغير بمساعدة العلوية، ثم غدروا به حتى آل الأمر به إلى الخروج إلى البلاد الشامية وافتراق جمعه، ثم سافر إلى الروم مع بعض أتباعه ومماليكه وذهب منه غالب ما اجتمع لديه من الأموال، وذهب إلى إسلامبول فأقام بها مدة ثم نفوه إلى شنق قلعة، وخرج منها بحيلة تحيلها على حاكمها ثم ركب البحر إلى درنة، ووصل خبر ذلك إلى الأمرا بمصر فخرج مراد بك ليقطع عليه الطريق الموصلة إلى قبلي وأرصد له عيونًا ينتظرونه بالطريق، وأقام على ذلك شهورًا فلم يقفوا له على خبر، وهو يتنقل عند العربان حتى إنه اختفى عند بعضهم نيفًا وأربعين يومًا في مغارة، ثم إنه تحيل وأرسل من ألقى إلى مراد بك أنه مر من الجهة الفلانية بمعرفة الرصد المقيمين، فحنق مراد بك وركب في الحال ليقطع عليه الطريق وتفرَّق الجمع من ذلك المكان، فعند ذلك اجتاز إسماعيل بك ذلك الموضع وعداه في زي بعض العربان وخلص إلى الفضاء الموصل للبلاد القبلية، وذهب مراد بك في نهاية مشواره فلم ير أثرًا لذلك الخبر.

فرجع إلى المكان الذي عرفوه سلوكه فوجد المرابطين على ما هم عليه من التيقُّظ إلى أن تحقق عنده أنه تحيل بذلك، ومرَّ وقت ارتحال مراد بك من ذلك الموضع فرجع بخُفَّيْ حُنَيْنٍ، ولم يَزَلْ حتى كان ما كان، ووصل حسن باشا على الصورة المتقدمة، ورجع إلى مصر وتملَّكها واستقل بإمارتها بعد تغرُّبه تسع سنين ومقاساته الشدايد، وظن أن الوقت قد صفا له واستكثر من شراء المماليك واحترقت داره وبناها أحسن مما كانت عليه، وحصَّن المدينة وسورها من عند طرا والجيزة وحصنها تحصينًا عظيمًا من الجبل إلى البحر من الجهتين، حتى إنه لما أصيب بالطاعون أحضر أمراه، وقال لعثمان بك طبل بحضرتهم: أنت كبير القوم الباقية فافتح عينك وشد حيلك، فإني حصنت لكم البلد وصيرتها بحيث لو ملكتها امرأة لم يقدر عليها عدو، وتمرض يومين ومات في الثالث، سادس عشر شعبان من السنة، وكان أميرًا جليلًا كفؤًا للإمارة جهوري الصوت عظيم الهمة بعيد الغور كبير التدبير، يحب الصلحا والعلما ويتأدب معهم ويواسيهم ويقبل شفاعتهم ويكرمهم، وله فيهم اعتقاد عظيم حسن، ولما مات غسل وكفن وصُلي عليه في مصلى المؤمنين، ودفن بتربة علي بك مع سيدهما إبراهيم كتخدا بالقرب من ضريح الإمام الشافعي بالقرافة ولم يفلح بعده خليفته عثمان بك، وأضاع مملكته وسلمها لأخصامه وأخصام سيده.

ومات الأمير رضوان بك وهو ابن أخت علي بك الكبير، وأمره وقلده الصنجقية وجعله من الأمرا الكبار، فلما مات خاله واستقل بالمملكة محمد بك انزوى وارتفعت عنه الإمرية وأقام بطالًا هو وحسن بك الجداوي مدة أيام محمد بك، فلما مات محمد بك وظهر بالإمارة إبراهيم بك ومراد بك لم يزل على خموله إلى أن وقع التفاقم بينهم وبين إسماعيل بك، فانضم هو وحسن بك إلى إسماعيل بك وساعداه فرد لهما إمرياتهما ونوه بشأنهما، ثم نافقا عليه وخذلاه عندما سافر معهما إلى قبلي وكانا هما السبب في غربته المدة الطويلة كما ذكر، ثم وقع لهما ما وقع مع المحمدية وذهبا إلى الجهة القبلية وأقاما هناك، فلما رجع إسماعيل بك من غيبته انضم إليهما ثانيًا، ولم يزل معهما وافترق منهما المترجم وحضر إلى مصر وانضم إلى المحمدية، ولما حضر حسن باشا وخرج معهم رجع ثانيًا بأمان، واستمر بمصر حتى حضر إسماعيل بك وحسن بك فأقام معهم أميرًا ومتكلمًا وتصادق مع علي بك كتخدا الجاويشية وعقد معه المؤاخاة، ونزل مارًّا إلى الأقاليم وعسف بالبلاد، ولما سافر حسن باشا وخلا لهما الجو فجر وتجبر، وصار يخطف الناس ويحبسهم ويصادرهم في أموالهم، وتعدى شره لكثير من الفقرا، ولم يزل هذا شأنه حتى أطفأ صرصر الموت شعلته وحل بساحته الطاعون ولم يفلته، وأراح الله منه العباد وكان أشقر خبيثًا.

ومات الأمير الأصيل رضوان بك بن خليل بن إبراهيم بك بلفيا من بيت المجد والعز والسيادة والرياسة، وبيتهم من البيوت الجليلة القديمة الشهيرة بمصر، ولم يكن بمصر بيت عريق في الإمارة والسيادة إلا بيتهم وبيت قصبة رضوان، وجميع أمرا مصر تنتهي سلسلتهم إليهما، وبيت القازدغلية أصل منشئهم ومغرس سيادتهم من بيت بلفيا كما تقدم؛ لأن إبراهيم بك بلفيا جد المترجم مملوك مصطفى بك ومصطفى بك مملوك حسن أغا بلفيا، وهو سيد مصطفى كتخدا القازدغلي ومصطفى هذا كان سراجًا عند حسن أغا ورقاه وأمَّره حتى جعله كتخذا باب مستحفظان، ونما أمره وعظم شانه وباض وأفرخ فجميع طايفة القازدغلية تنتهي نسبتهم إليه كما ذكر ذلك غير مرة، ولما توفي خليل بك والد المترجم في سنة خمس وثمانين بالحجاز في إمارته على الحج وترك أخاه عبد الرحمن أغا وولده رضوان هذا ورجع بالحج عبد الرحمن أغا المذكور، وبعد استقرارهم اجتمعت أعيان بيتهم وأرادوا تقليد عبد الرحمن أغا صنجقًا عوضًا عن أخيه فأبى ذلك، فاتفقوا على تقليد ابن أخيه رضوان المذكور فكان كذلك، وقلدوه الإمارة وفتح بيتهم وأحيا مآثرهم وانضم إليه أتباعهم وسار سيرًا حسنًا بعقل ورياسة لولا لثغة في لسانه، وتقلد أمير الحج سنة اثنتين وتسعين وماية وألف، وكان كفؤًا لها وطلع ورجع في أمن وراحة ورخا، ولم يزل في سيادته حتى توفي في هذه السنة واضمحل بيتهم بموته وماتت أعيانهم وعظماهم وخرب البيت بالكلية، وانمحت آثارهم وانطفأت أنوارهم، وبطلت خيراتهم وخمدت حركاتهم، ومن جملة ما رأيته من خيراتهم في أيام رضوان بك هذا ماية قاري من الحفظة يقرون القرآن كل يوم في الأوقات الخمسة في كل وقت عشرون قارئًا، وقس على ذلك.

وَأَمُرُّ بالأوطان والسكن الذي
قد كنت أعهده بخير وافر
لم ألق غير البوم فيها ساكنًا
تبًّا لها من نحس طير واكر

ومات الأمير سليمان بك المعروف بالشابوري، وأصله من مماليك سليمان جاويش القازدغلي فهو خشداش حسن كتخدا الشعراوي، تقلد الإمارة والصنجقية سنة تسع وستين، ونفي مع حسن كتخدا المذكور وأحمد جاويش المجنون كما تقدم في سنة ثلاث وسبعين، فلما كانت أيام علي بك وورد من الديار الرومية طلب الإمداد من مصر للغزو، وأرسل علي بك فأحضر المترجم وقلده إمارة السفر فخرج بالعسكر في موكب على العادة القديمة، وسافر بهم إلى الديار الرومية وذلك سنة ثلاث وثمانين، ورجع بعد مدة وأقام بطالًا محترمًا مرعي الجانب وينافق كبار الدولة، وانضم إلى مراد بك فكان يجالسه ويسامره ويكرمه المذكور، فلما حضر حسن باشا كان هو من جملة المتآمرين، فلما استقر إسماعيل بك في إمارة مصر اعتنى به وقدمه ونظمه في عداد الأمرا لكبر سنة وأقدميته، وكان رجلًا سليم الباطن لا بأس به، توفي بالطاعون في هذه السنة.

ومات الأمير الجليل عبد الرحمن بك عثمان، وهو مملوك عثمان بك الجرجاوي الذي قتل في واقعة قراميدان أيام حمزة باشا سنة تسع وسبعين كما تقدم، فقلدوا عبد الرحمن هذا عوضه في الصنجقية فكان كفوًا لها، وكان متزوجًا ببنت الخواجا عثمان حسون التاجر العظيم المشهور المتوفى في أيام الأمير عثمان بك ذي الفقار، وخلف منها ولده حسن بك وكان المترجم حسن السيرة سليم الباطن والعقيدة محبوب الطباع جميل الصورة وجيه الطلعة، وكان محمد بك أبو الذهب يحبه ويجله ويعظمه ويقبل قوله ولا يرد شفاعته، وكان يميل بطبعه إلى المعارف ويحب أهل العلم والفضائل، ويجيد لعب الشطرنج.

(ومن مآثره) أنه عمر جامع أبي هريرة الذي بالجيزة على الصفة التي هو عليها الآن، وبنى بجانبه قصرًا وذلك في سنة ثمان وثمانين، ولما أتمه وبيضه عمل به وليمة عظيمة وجمع علما الأزهر في يوم الجمعة، وبعد انقضاء الصلاة صعد شيخنا الشيخ علي الصعيدي على كرسي وأملى حديث: من بنى لله مسجدًا بحضرة الجمع، وكان شيخنا السيد محمد مرتضى حاضرًا وباقي العلما والمشايخ والحقير في جملتهم، وكنت حررت له المحراب على انحراف القبلة ثم انتقلنا إلى القصر ومدت الأسمطة وبعدها الشربات، والطيب وكان يومًا سلطانيًّا، توفي — رحمه الله — في شعبان بمنزله الذي بقيسون جوار بيت الشابوري، ودفن عند سيده بالقرافة.

ومات في أثره ولده حسن بك المذكور، وكان فطنًا نجيبًا ويكتب الخط الجيد ويميل بطبعه إلى الفضايل وذويها، منزهًا عما لا يعنيه من النقايص والرذايل، عوض الله شبابه الجنة.

ومات الأمير سليم بك الإسماعيلي عن مماليك إسماعيل بك قلده الإمارة في سنة إحدى وتسعين، وخرج مع سيده إلى الشام ثم رجع إلى مصر بعد سفر سيده إلى الروم، وأقام بها بطالًا في بيته بجوار المشهد الحسيني ببعض خدم قليلة، ويذهب إلى المسجد في الأوقات الخمسة فيصلي مع الجماعة، ويتنقل كثيرًا ولم يزل على ذلك حتى رجع سيده إلى مصر فرد له إمارته، ورجع إلى داره الكبيرة، وتقلد إمارة الحج في سنة اثنتين ونزل إلى إقليم المنوفية، وجمع المال والجمال ورجع وطلع بالحج وعاد في أمن وأمان، ولم يزل في إمارته حتى توفي بالطاعون في هذه السنة، وكان طوالًا جسيمًا خيره أقرب من شره.

ومات الأمير علي بك المعروف بجركس الإسماعيلي، وهو من مماليك إسماعيل بك أيضًا، وقلده الإمارة في مدته السابقة وأسكنه ببيت صالح بك الذي بالكبش، ولما تغرب سيده حضر إلى مصر وأقام خاملًا وسكن بالكعكيين، وكان لطيفًا مهذبًا خفيف الروح ضحوك السن يحب العلما والصلحا ويتأدب معهم ويكرمهم، ولما مات خشداشه إبراهيم بك قشطة، تزوج بعده بزوجته بنت إسماعيل بك، ولم يزل حتى توفي بعد سيده بأيام قليلة.

ومات الأمير غيطاس بك، وهو من بيت صالح بك تابع مصطفى بك القرد، وكان يعرف أولًا بغيطاس كاشف، تقلد الإمارة في سنة مايتين وتولى إمارة الحج في سنة إحدى ومايتين، فسار فيها سيرًا حسنًا، وطلع بالحج ورجع مستورًا، واستمر أميرًا إلى أن مات على فراشه بالطاعون في بيته بخط باب اللوق فقلدوا بعده مملوكه صالح إمارته، وهو موجود إلى الآن في الأحيا وكان المترجم أميرًا جليلًا محتشمًا قليل التبسم، من رآه ظنه متكبرًا لسكون جأشه وكان لا بأس به في الجملة.

ومات الأمير علي بك الحسيني وهو من مماليك حسن بك الجداوي قلده الإمارة في أيام حسن باشا، وتزوج بزوجة مصطفى بك الداودية المعروف بالإسكندراني، وكان لطيف الذات جميل الطباع سهل الانقياد قليل العناد، توفي في رجب من السنة بالطاعون، ودفن بالمشهد الحسيني بمدفن القضاة، ووجدت عليه زوجته وجدًا كثيرًا.

ومات الأمير رضوان كتخدا وهو من مماليك أحمد كتخدا المجنون تنقل في المناصب حتى تولى كتخداية الباب بحشمة وشهامة، وعقل وسكون، ولما استقل إسماعيل بك في إمارة مصر نوه بشأنه وأحبه، وصار في تلك الأيام أحد المتكلمين المشار إليهم في الأمر والنهي، ونفاذ الكلمة والرياسة وكان قريبًا إلى الخير، واشتهر أكثر من سيده، وصار له أولاد وعزوة وأتباع ومماليك، وبنى لأكبر أولاده دارًا بدرب سعادة، وسكن هو في بيت أستاذه، توفي في أواخر شهر شعبان، وكذلك أولاده وجواريه ومماليكه وخربت بيوتهم في أقل من شهر.

ومات الأمير عثمان أغا مستحفظان الجلفي، وأصله من مماليك رضوان كتخدا الجلفي، وتربى عند خليل بك شيخ البلد القازدغلي، ولم يزل يتنقل في خدم الأمرا ومعاشرتهم حتى تقلد الأغاوية في أيام إسماعيل بك ثم عزل عنها، وتولاها ثانيًا أيامًا قليلة، ومات أيضًا بالطاعون، وخلف شيئًا كثيرًا من المال والنوال، أخذه جميعه حسن بك الجداوي؛ لأنه كان منضويًا إليه، وفي طريقتهم أنهم يرثون من يكون منتسبًا إليهم أو جارًا لهم، وكان إنسانًا لا بأس به ومحضره خير، ويحب اقتناء الكتب والمسامرة في الأخبار والنوادر مع ما فيه من نوع البلادة.

ومات الأمير المبجل حسن أفندي شقبون كاتب الحوالة، وأصله مملوك أحمد أفندي مملوك مصطفى أفندي شقبون، نشأ في الرياسة وخدمة الوزرا والأكابر، وحاز شيًّا كثيرًا من الكتب النفيسة والتي بخط الأعاجم والفارسية والخطوط التعليق المكلفة والمذهبة والمصورة مثل كليلة ودمنة وشاهنامه وديوان حافظ، والتواريخ التي من هذا القبيل المصور بها صور الملوك البديعة الصنعة والإتقان الغالية الثمن النادرة الوجود، وكان قريبًا إلى الخير محتشمًا في نفسه، توفي أيضًا بالطاعون وتبددت كتبه وذخائره.

ومات الأمير محمد أغا البارودي، وهو مملوك أحمد أغا مملوك إبراهيم كتخدا القازدغلي، رباه سيده وجعله خازنداره، وعقد له على ابنته، فلما توفي سيده في سنة ثمان وثمانين طلقها وتزوج بزوجة سيده هانم بنت إبراهيم كتخدا من الست البارودية، وهي أم أولاده إبراهيم وعلي ومصطفى الذين تقدم ذكرهم، والتي كان عقد عليها كانت من غيرها، فتزوجها حسن كاشف من أتباعهم.

تنبه المترجم وتداخل في الأمرا والأكابر، وانضوى إلى حسن كتخدا الجربان عندما كان كتخدا مراد بك، فقلده في الخدم والقضايا وأعجبه سياسته وحسن سعيه فارتاح إليه، وكان حسن كتخدا المذكور تعتريه النوازل فينقطع بسببها أيامًا بمنزله فينوب عنه المترجم في الكتخداية عند مراد بك، فيحسن الخدمة والسياسة وتنميق الأمور ويستجلب له المصالح، فأحبه وأعجب به وقلده الأمور الجسيمة، وجعله أمين الشون فعند ذلك اشتهر ذكره ونما أمره واتسع حاله وانفتح بيته، وقصدته الناس وتردد إليه الأعيان في قضا الحوايج، ووقفت ببابه الحجاب، واتخذ له ندما وجلسا من اللطفا وأولاد البلد يجلس معهم حصة من الليل ينادمونه ويسامرونه ويضاحكونه ويشرب معهم.

وماتت زوجته ابنة سيد سيده من بنت البارودي فزوجه مراد بك أكبر محاظيه أم ولده أيوب، وأتت إلى بيته بجهاز عظيم، وصار بذلك صهرًا لمراد بك وزادت شهرته ورفعته، فلما حصلت الحوادث ووصل حسن باشا وخرج مراد بك من مصر فلم يخرج معه، واستمر بمصر وقبض عليه إسماعيل بك وحبسه مع عمر كاشف ببيته، ثم نقلهما إلى القلعة بباب مستحفظان مدة، فلم يزل المترجم حتى صالح عن نفسه وأفرج عنه وتقيد بخدمة إسماعيل بك وتداخل معه حتى نصبه في كتخدايته، وأحبه واحتوى على عقله، فسلم إليه قياده في جميع أشغاله وارتاح إليه وجعله أمين الشون والضربخانة وغيرهما، فعظم شأنه وارتفع قدره وطار صيته بالأقاليم المصرية، وكثر الازدحام ببابه وجبيت إليه الأموال وصار الإيراد إليه والمصرف من يده فيصرف جماكي العسكر، ولوازم الدولة وهداياهم ومصاريف العماير والتجاريد واحتياجات أمير الحاج وغير ذلك بتؤدة وزياقة وحسن طريقة من غير جلبة ولا عسف ولا شعور لأحد من الناس بشي من ذلك، وكل شي سأل عنه مخدومه أو أشار بطلبه أو فعله وجده حاضرًا.

ولم يشتغل أمرا الحاج في زمن إسماعيل بك بشي من لوازم الحج، بل كان هو يقضي جميع اللوازم من الجمال والأرحال والقرب والخيش والعليق والذخيرة التي تسافر في البحر والبر وعوايد العرب وكساويهم والهجن والبغال وأرباب الصيت وغير ذلك ليلًا ونهارًا في أماكن بعيدة عن داره، تحت أيدي مباشريه الذين وظفهم وأقامهم في ذلك، بحيث إذا اقتضى لأحدهم شيًّا أتاه وأسرَّ له في أذنه فيوجهه بطرف كلمة، ولا يشعر أحد من الجالسين معه بشي، وإذا كان وقت خروج المحمل فلا يرى أمير الحاج إلا جميع احتياجاته ولوازمه حاضرة مهيأة على أتم ما يكون وأكمله، وزوج ابنة سيده لخازنداره علي أغا وعمل لهما مهمًّا عظيمًا عدة أيام، وحضر إسماعيل بك والأمرا والأعيان وأرسلوا إليه الهدايا العظيمة، وكذلك جميع التجار والنصارى والكتاب القبط ومشايخ البلدان.

وبعد تمام أيام العرس ولياليه بالسماعات والآلات والملاعيب والنقوط، عملوا للعروس زفة بهيئة لم يسبق نظيرها، ومشى جميع أرباب الحرف وأرباب الصنايع من كل طايفة عربة وفيها هيئة صناعتهم، ومن يشتغل فيها مثل القهوجي بآلته وكانونه، والحلواني والفطاطري، والحباك والقزاز بنوله حتى مبيض النحاس والحيطان والمعاجيني وبياعي البز، وأرباب الملاهي والنسا المغاني وغيرهم، كل طايفة في عربة، وكان مجموعها نيفًا وسبعين حرفة، وذلك خلاف الملاعيب والبهالوين والرقاصين والجنك، ثم الموكب وبعده الأغوات والحريم والملازمون والسعاة والجاويشية، وبعدها عربة العروس من صناعة الإفرنج بديعة الشكل، وبعدها مماليك الخزنة والملبسون الزروخ وبعدهم النوبة التركية والنفيرات.

وكانت زفة غريبة الوضع لم يتفق مثلها بعدها، وبلغ المترجم في هذه الأيام من العظمة ما لم يبلغ أحد من نظرايه، وكان إذا توجهت همته إلى أي شي أتمه على الوجه الذي يريد، ويقبل الرشوة وإذا أحب إنسانًا قضى له أشغاله كاينة ما كانت من غير شي، فلما مات مخدومه إسماعيل بك، وتعين في الإمارة بعده عثمان بك طبل استوزره أيضًا، وسلمه قياده في جميع أموره، وهو الذي أشار عليه بممالأته الأمرا القبليين عندما تضايق خناقه من حسن بك الجداوي ومناكدته له، فكاتبهم سرًّا بسفارته وأطمعهم في الحضور وتمكينهم من مصر، ومات المترجم في أثناء ذلك في غرة رمضان، وذلك بعد إسماعيل بك بأربعة عشر يومًا، وبموته ارتفع الطاعون وقيل شعر:

وإذا كان منتهى العمر موتًا
فسواء طويله والقصير

ومات الصنو الوحيد والفريد النبيه محمد أفندي بن سليمان أفندي بن عبد الرحمن أفندي بن مصطفى أفندي ككليويان، ويقال لها في اللغة العامية جمليان، نشأ في عفة وصلاح وخير وطلب العلم، وعانى الجزئيات والرياضيات، ولازم الشيخ المرحوم الوالد وقرا عليه كثيرًا من الحسابيات والفلكيات والهيئة والتقويم، ومهر في ذلك وانتظم في عداد أرباب المعارف واشترى كتبًا كثيرة في الفن، واستكتب وكتب بخطه الحسن واقتنى الآلات والمستظرفات وحسب وقوم الدساتير السنوية عشرة أعوام مستقبلة بأهلتها وتواريخها وتواقيعها، ورسم كثيرًا من الآلات الغريبة والمنحرفات، وكان شغله وحسابه في غاية الضبط والصحة والحسن، وكان لطيف الذات مهذب الأخلاق قليل الادعاء، جميل الصحبة وقورًا، مات أيضًا بالطاعون في شعبان وتبددت كتبه وآلاته.

ومات أيضًا الخدن الشقيق والمحب الشفيق النجيب الأريب الأمير رضوان الطويل، وهو من مماليك علي كتخدا الطويل، وكان من هذا القبيل متولعًا من صغره بهذا الفن، وقرأ على الشيخ المتقن الشيخ عثمان الورداني وغيره، وأنجب وحسب ورسم واشتغل فكره بذلك ليلًا ونهارًا، ورسم الأرباع الصحيحة المتقنة الكبيرة والصغيرة والمزاول والمنحرفات وغير ذلك من الآلات المبتكرة والرسميات الدقيقة واتسع باعه في ذلك، واشتهر ذكره إلى أن قطفت يد الأجل نواره، وأطفأت رياح المنية أنواره.

ومات الجناب المكرم والاختيار المعظم الأمير إسماعيل أفندي الخلوتي اختيار جاووشان، كان رجلًا من أعيان الاختيارية في وقته، معروفًا صاحب حشمة ووقار ومعرفة بالسياسة وأمور الرياسة، ولم يزل حتى توفي في شهر شعبان سنة خمس ومايتين وألف بالطاعون.

ومات أيضًا الجناب المكرم محمد أفندي باشقلفة، وهو مملوك يوسف أفندي باشقلفة وخشداش محمد أفندي ثاني قلفة، وعبد الرحمن أفندي وكان مليح الذات جميل الصفات، تقلد كتابة هذا القلم عندما تلبس السيد محمد باشقلفة بكتابة الروزنامة، فسار فيها سيرًا حسنًا وحمدت مساعيه إلى أن وافاه الحمام وسارت نواعيه.

ومات أيضًا النبيه اللطيف والمفرد العفيف، أحمد أفندي الوزان بالضربخانة وكان إنسانًا حسنًا جميل الأوضاع مترهف الطباع، محتشمًا وقورًا ودودًا ومحبوبًا لجميع الناس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤