سنة ثلاث وتسعين وماية وألف (١٧٧٩م)

(في يوم السبت خامس المحرم) وصل إلى مصر إسماعيل باشا والي مصر وبات ببر إنبابة ليلة السبت المذكور، وركب الأمرا في صبحتها وقابلوه ورجعوا، وعدى الآخر وركب إلى العادلية وجلس بالقصر وتولى أمر السماط مصطفى بك الصغير.

(وفي يوم الثلاثا ثامن المحرم) ركب الباشا بالموكب ودخل من باب النصر، وشق القاهرة وطلع إلى القلعة، وعملوا له شنكًا ومدافع، ووصل الخبر بنزول إسماعيل بك إلى البحر وسفره من الشام إلى الروم وغاب أمره.

(وفي أواخر شهر ربيع الأول) وقعت حادثة بالجامع الأزهر بين طايفة الشوام وطايفة الأتراك بين المغرب والعشا، فهجم الشوام على الأتراك وضربوهم فقتلوا منهم شخصًا وجرحوا منهم جماعة، فلما أصبحوا ذهب الأتراك إلى إبراهيم بك وأخبروه بذلك فطلب الشيخ عبد الرحمن العريشي مفتي الحنفية والمتكلم على طايفة الشوام وسأله عن ذلك، فأخبره عن أسماء جماعة وكتبهم في ورقة وعرفه أن القاتلين تغيبوا وهربوا ومتى ظهروا أحضرهم إليه، ولما توجه من عنده تفحص إبراهيم بك عن مسميات الأسما فلم يجد لهم حقيقة، فأرسل إلى الشيخ أحمد العروسي شيخ الأزهر وأحضر بقية المشايخ وطلب الشيخ عبد الرحمن فتغيب ولم يجده؛ فاغتاظ إبراهيم بك ومراد بك وعزلوه عن الإفتا، وأحضروا الشيخ محمد الحريري وألبسوه خلعة ليكون مفتي الحنفية عوضًا عن الشيخ عبد الرحمن، وحثوا خلفه بالطلب ليخرجوه من البلدة منفيًّا فشفع فيه شيخ السادات، وهرب طايفة الشوام بأجمعهم وسمر الأغا رواقهم ونادوا عليهم، واستمر الأمر على ذلك أيامًا، ثم منعوا المجادلة والطبرية من دخول الرواق، ويقطع من خبزهم ماية رغيف تعطى للأتراك دية المقتولين، وكتب بذلك محضر باتفاق المشايخ والأمرا وفتحوا الرواق، ومرض الشيخ العريشي من قهره وتوفي رابع جمادى الأولى.

وفي أواخر شهر جمادى الثانية توفي الشيخ محمد عبادة المالكي.

وفيه جاءت الأخبار بأن حسن بك ورضوان بك قوي أمرهم وجمعوا جموعًا وحضروا إلى دجرجا، والتف عليهم أولاد همام والجعافرة وإسماعيل أبو علي فتجهز مراد بك وسافر قبله أيوب بك الصغير، ثم سافر هو أيضًا فلما قربوا من دجرجا ولى القبالي وصعدوا إلى فوق، فأقام مراد بك في دجرجا إلى أوايل رجب، وقبض على إسماعيل أبي علي وقتله ونهب ماله وعبيده وفرق بلاده على كشافه وجماعته.

وفي منتصف شهر رجب ظهر بمصر وضواحيها مرض سموه بأبي الركب وفشا في الناس قاطبة حتى الأطفال، وهو عبارة عن حمى ومقدار شدته ثلاثة أيام وقد يزيد على ذلك وينقص بحسب اختلاف الأمزجة، ويحدث وجعًا في المفاصل والركب والأطراف ويوقف حركة الأصابع وبعض ورم ويبقى أثره أكثر من شهر، ويأتي الشخص على غفلة فيسخن البدن ويضرب على الإنسان دماغه وركبه ويذهب بالعرق والحمام وهو من الحوادث الغريبة.

(وفي عشرين رجب) وصل مراد بك من ناحية قبلي وصحبته منهوبات وأبقار وأغنام كثيرة.

وفي يوم الجمعة ثاني عشرينه الموافق لثاني شهر مسري القبطي أوفَى النيل المبارك ثم زاد في ليلتها زيادة كثيرة حتى علا على السد وجرى الماء في الخليج بنفسه، وأصبح الناس فوجدوا الخليج جاريًا وفيه المراكب فلم تحصل الجمعية ولم ينزل الباشا على العادة.

(وفي أواخر شهر شعبان) وصل إلى مصر قابجي باشا وبيده أوامر بعزل إسماعيل باشا عن مصر ويتوجه إلى جدة، وأن إبراهيم باشا والي جدة يأتي إلى مصر، وفرمان آخر بطلب الخزينة.

(وفي شهر شوال) وصلت الأخبار بموت علي بك السروجي وحسن بك سوق السلاح بغزة.

(وفي يوم الخميس ثامن عشر شوال) عمل موكب المحمل وخرج الحجاج، وأمير الحاج مراد بك وخرج في موكب عظيم وطلب كثير وتفاخر، وماجت مصر وهاجت في أيام خروج الحج بسبب الأطلاب وجمع الأموال وطلب الجمال والبغال والحمير، وغصبوا بغال الناس ومن وجدوه راكبًا على بغلة أنزلوه عنها وأخذوها منه قهرًا، فإن كان من الناس المعتبرين أعطوه ثمنها وإلا فلا، وغلت أسعارها جدًّا ولم يعهد حج مثل هذه السنة في كل شيء، وسافر فيه خلايق كثير من ساير الأجناس، وسافر صحبة مراد بك أربع صناجق وهم: عبد الرحمن بك عثمان، وسليمان بك الشابوري، وعلي بك المالطي، وذو الفقار بك، وأمرا وأغوات، وغير ذلك أكابر كثيرة وأعيان وتجار.

وفيه حضر واحد أغا وعلى يده تقرير لإسماعيل باشا على مصر كما كان، وكان لما أتاه العزل نزل من القلعة في غرة رمضان وصام رمضان في مصر العتيقة، ولما انقضى رمضان تحول إلى العادلية ليتوجه إلى السويس ويذهب إلى جدة حسب الأوامر السابقة؛ فقدر الله بموت إبراهيم باشا وحضر التقرير له بالولاية ثانيًا، فركب في يوم الاثنين سادس القعدة وطلع إلى القلعة من باب الجبل.

وأما من مات في هذه السنة من الأعيان ١١٩٣ (١٧٧٩م)

مات الشيخ الفقيه الإمام الفاضل شيخنا الشيخ عبد الرحمن بن عمر العريشي الحنفي الأزهري، ولد بقلعة العريش من أعمال غزة، وبها نشأ وحفظ بعض المتون، ولما مر عليه الشيخ العارف السيد منصور السرميني في بلده وجده متيقظًا نبيهًا وفيه قوة استعدادية وحافظة جيدة، فأخذه صحبته في صورة معين في الخدمة وورد معه مصر فكان ملازمًا له لا يفارقه، وأذن له بالحضور في الأزهر فكان يحضر دروس الشيخ أحمد البيلي وغيره في النحو والمعقول، ولما توجه السيد المشار إليه إلى البلاد تركه ليشتغل بالعلم فلازم الشيخ أحمد السليماني ملازمة جيدة، وحضر عليه غالب الكتب المستعلمة في المذهب، وحضر دروس الشيخ الصعيدي والشيخ الحفني، ولقنه الذكر وأجازه وألبسه التاج الخلوتي، ثم اجتمع بالمرحوم الوالد حسن الجبرتي ولازمه ملازمة كلية ودرجه في الفتوى ومراجع الأصول والفروع، وأعانه على ذلك وجدان الكتب الغريبة عند المرحوم؛ فترونق ونوه بشأنه وعرفه الناس، وتولى مشيخة رواق الشوام وبه تخرج الحقير في الفقه، فأول ما حضرت عليه متن نور الإيضاح للعلامة الشرنبلالي، ثم متن الكنز وشرحه لملا مسكين، والدر المختار شرح تنوير الأبصار، ومقدار النصف من الدرر، وشرح السيد علي السراجية في الفرايض، وكان له قوة حافظة وجودة فهم وحسن ناطقة فيقرر ما يطالعه من المواد عن ظهر قلبه من حفظه بفصاحة من غير تلعثم ولا تركيز، وحج في سنة تسع وسبعين من القلزم منفردًا متقشفًا، وأدرك بالحرمين الأخيار، وعاد إلى مصر وحصلت له جذبة في سنة ست وثمانين، وترك عياله وانسلخ عن حاله وصار يأوي إلى الزوايا والمساجد ويلقي دروسًا من الشفا وطرق القوم وكلام سيدي محيي الدين والغزالي، ثم تراجع قليلًا وعاد إلى حالته الأولى.

ولما توفي مفتي الحنفية الشيخ أحمد الحماقي تعين المترجم في الإفتا وعظم صيته وتميز على أقرانه، واشترى دارًا حسنة بالقرب من الجامع الأزهر، وهي التي كانت سكن الشيخ الحفني في السابق وتعرف بدار القطرسي، وتردد الأكابر والأعيان إليه وانكبت عليه أصحاب الدعاوى والمستفتون، وصار له خدم وأتباع وفراشون وغير ذلك، وسافر إلى إسلامبول بعد موت الأمير محمد بك لقضا بعض الأغراض، وقرا هناك كتاب الشفا ورجع إلى مصر، وكان كريم النفس سمحًا بما في يده يحب إطعام الطعام ويعمل عزايم للأمرا ويخلع عليهم الخلع، ولما زاد انحطاط الشيخ أحمد الدمنهوري وتبين قرب وفاته وفراغ أجله تاقت نفس المترجم لمشيخة الأزهر إذ هي أعظم مناصب العلما، فأحب الاستيلا عليها والتوصل إليها بكيفية وطريقة، فحضر مع شيخ البلد إبراهيم بك إلى الجامع الأزهر وجمع الفقها والمشايخ وعرفهم أن الشيخ أحمد الدمنهوري أقامه وكيلًا عنه.

وبعد أيام توفي الشيخ الدمنهوري فتعين هو للمشيخة بتلك الطريقة وساعده استمالة الأمرا وكبار الأشياخ والشيخ أبو الأنوار السادات وما مهده معهم في تلك الأيام وكاد يتم الأمر، فانتدب لنقض ذلك بعض الشافعية الخاملين وذهبوا إلى الشيخ محمد الجوهري وساعدهم وركب معهم إلى بيت الشيخ البكري، وجمعوا عليهم جملة من أكابر الشافعية مثل: الشيخ أحمد العروسي والشيخ أحمد السمنودي والشيخ حسن الكفراوي وغيرهم، وكتبوا عرضحال إلى الأمرا مضمونه أن مشيخة الأزهر من مناصب الشافعية وليس للحنفية فيها قديم عهد أبدًا، وخصوصًا إذا كان أفاقيًّا وليس من أهل البلدة، فإن الشيخ عبد الرحمن كذلك، وموجود في العلما الشافعية من هو أهل لذلك في العلم والسن، وأنهم اتفقوا على أن يكون المتعين لذلك الشيخ أحمد العروسي، وختم الحاضرون على ذلك العرضحال وأرسلوه إلى إبراهيم بك ومراد بم فتوقفوا وأبوا، وقال إبراهيم بك: أي شيء هذا الكلام؟! أمر فعله الكبار يبطله الصغار، ولأي شي أن الحنفية لا يتقدمون في المشيخة على الشافعية الحنفية؟! أليسوا مسلمين ومذهب النعمان أقدم المذاهب، والأمرا حنفية والقاضي حنفي والوزير حنفي والسلطان حنفي؟!

وثارت فيهم العصبية وشددوا في عدم النقض، ورجع الجواب للمشايخ بذلك فقاموا على ساق وشدد الشيخ محمد الجوهري في ذلك وركبوا بأجمعهم وخرجوا إلى القرافة وجلسوا بجامع الإمام الشافعي وباتوا به، وكان ذلك ليلة الجمعة واجتماع الناس للزيارة، فهرعت الناس واجتمع الكثير من العامة ينظرون فيما يئول إليه هذا الأمر، وكان للأمرا اعتقاد وميل للشيخ محمد بن الجوهري وكذلك نساهم وأغواتهم بسبب تعففه عنهم وعدم دخول بيوتهم ورد صلاتهم، وتميز بذلك عن جميع المتعممين؛ فسعى أكثرهم في إنفاذ غرضه وراجعوا مراد بك وأوهموه حصول العطب له ولهم أو ثوران فتنة في البلد، وحضر إليهم علي أغا كتخدا الجاويشية وحاججهم وحاججوه، ثم قام وتوجه وحضر مراد بك أيضًا للزيارة فكلمه الشيخ محمد وقال: لا بد من فروة نلبسها للشيخ العروسي وهو يكون شيخًا على الشافعية وذاك شيخًا على الحنفية، كما أن الشيخ أحمد الدردير شيخ المالكية والبلد بلد الإمام الشافعي، وقد جينا إليه وهو يأمرك بذلك، وإن خالفت يخشى عليك.

فما وسعه إلا أنه أحضر فروة وألبسها للشيخ العروسي عند باب المقصورة، وركب مراد بك متوجهًا وركب المشايخ وبينهم الشيخ العروسي وذهبوا إلى إبراهيم بك، ولم يكن الأمرا رأوا الشيخ العروسي ولا عرفوه قبل ذلك، فجلسوا مقدار مسافة شرب القهوة وقاموا متوجهين ولم يتكلم إبراهيم بك بكلمة، فذهب الشيخ العروسي إلى بيته وهو بيت نسيبه الشيخ أحمد العريان واجتمع عليه الناس وأخذ شأنه في الظهور. واحتد العريشي وذهب إلى الشيخ السادات والأمرا فألبسوه فروة أيضًا فتفاقم الأمر وصاروا حزبين، وتعصب للمترجم طايفة الشوام للجنسية وطايفة المغاربة لانضمام شيخهم الشيخ أبي الحسن القلعي معه من أول الأمر، وتوعدوا من كان مع الفرقة الأخرى وحذروهم ووقفوا لمنعهم من دخول الجامع، وابن الجوهري يسوس القضية ويستميل الأمرا وكبار المشايخ الذين كانوا مع العريشي مثل الشيخ الدردير والشيخ أحمد يونس وغيرهم.

واستمر الأمر على ذلك نحو سبعة أشهر إلى أن أسعفت العروسي العناية ووقعت الحادثة المذكورة بين الشوام والأتراك، واحتد الأمرا للأتراك الجنسية وأكدوا في طلب المحاققة، وتصدى العريشي للشوام للذب عنهم وحصل منه ما حصل لأجل خلاصهم، فعند ذلك انطلقت عليه الألسن وأصبح الصديق عدوًّا وانحرف عنه الأمرا وطلبوه فاختفى وعين لطلبه الوالي وأتباع الشرطة وعزلوه من الإفتا أيضًا، وحضر الأغا وصحبته الشيخ العروسي إلى الجامع للقبض على الشوام فاختفوا وفروا وغابوا عن الأعين، فأغلقوا رواقهم وسمروه أيامًا ثم اصطلحوا على الكيفية المذكورة آنفًا، وظهر العروسي من ذلك اليوم وثبتت مشيخته ورياسته، وخمل العريشي وأمروه بلزوم بيته ولا يقارش في شيء ولا يتداخل في أمر فعند ذلك اختلى بنفسه وقال: الآن عرفت ربي. وأقبل على العبادة والذكر وقراءة القرآن، ونزلت له نزلة في أنثييه من القهر فأشاروا عليه بالفصد وفصدوه فازداد تألمه، وتوفي ليلة الخميس سابع جمادى الأولى من السنة، وجهز بصباحه وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل، وحضره مراد بك وكثير من الأمرا وعلي أغا كتخدا الجاويشية، ودفن برحاب السادة الوفائية وذلك بعد الحادثة بتسعة وثلاثين يومًا، رحمه الله تعالى.

ومن آثاره رسالة ألفها في سر الكنى باسم السيد أبي الأنوار بن وفا أجاد فيها ووصلت إلى زبيد، وكتب عليها الشيخ عبد الخالق بن الزين حاشية وقرظ عليها الشيخ العروسي والشيخ الصبان، وله غير ذلك.

ومات الشريف السيد قاسم بن محمد التونسي، كان إمامًا في الفنون وله يد طولى في العلوم الخارجية مثل الطب والحرف، وكان معه وظيفة تدريس الطب بالبيمارستان المنصوري، وتولى مشيخة رواق المغاربة مرتين، الأولى استمر فيها مدة وفي تلك المدة حصلت الفتن ثم عزل منها، وأعاد الدروس في مدرسة السيوفيين المعروفة الآن بالشيخ مطهر، وله تقريظ على المدايح الرضوانية جمع الشيخ الإدكاوي أحسن فيه، وكان ذا شهامة وصرامة في الدين، صعبًا في خلقه، وربما أهان بعض طايفة النصارى عند معارضتهم له في الطريق، وأهين بسبب ذلك من طرف بعض الأمرا وتحزبت له العلما، وكادت أن تكون فتنة عظيمة ولكن الله سلم. توفي بعد أن تعلل كثيرًا وهو متولي مشيخة رواقهم وهي المرة الثانية، وكان له باع في النظم والنثر، فمنها مدايحه في الأمير رضوان كتخدا الجلفي، له فيه عدة قصايد فرايد مذكورة في الفوايح الجنانية.

ومات الإمام الفهامة الألمعي الأديب واللوذعي النجيب الشيخ محمد الهلباوي الشهير بالدمنهوري، واشتغل بالعلم حتى صار إمامًا يقتدى به، ثم اشتغل بالطريق وتلقن الأسما وأخذت عليه العهود وصار خليفة مجازًا بالتلقين والتسليك وحصل به النفع، وكان فقيهًا دراكًا فصيحًا مفوهًا أديبًا شاعرًا له باع طويل في النظم والنثر والإنشا، ولما تملك علي بك بعد موت شيخه الحفني طلبه إليه وجعله كاتب إنشائه ومراسلاته، وأكرمه إكرامًا كثيرًا ومدحه بقصايد، ولم يزل منضويًا إليه مدة دولته، ومن كلامه مدحًا في شيخه المشار إليه:

تبارك الله ما أحلاك من بشر
يحن سمعي إلى رؤياك مع بشري
ما الشمس وقت ضحاها إن ظهرت لنا
في حلة السر لا في حلة القمر
تهدي نفايس أنفاس وتخطف أر
واح الملاح بأسنى مشهد عطر
أفديك بالنفس بل بالروح يا أملي
يا لب قلبي ويا سمعي ويا بصري
يا محكم الذكر إن الفكر أتعبني
في حسنك الكامل السامي عن النظر
يا درة في خبايا الغيب قد سترت
عن العيون وغابت عن فؤاد سري
سبحانك الله ما الحفني ذا بشر
لكنه ملك قد جاء للبشر
محجب عن عيون الواصلين فما
بال الخليين من سر ومن ثمر
يا نفس إن تصلحي وقتًا لحضرته
لكن عسى توجد الأشيا على قدر
هذا الفريد الذي نادى الزمان به
فسار كل أسير نحو مقتدر
جلت محاسنه عن كل ما وصفوا
فليس يحصرها لب من الغرر
فكيف وهو وحيد الدهر شافعه
والحال يغنيك يا خالي عن الخبر
وهو الذي ورثته الأنبيا رتبًا
فضلًا من الله لا بالجد والسهر
علمًا وحلمًا وتوفيقًا ومكرمة
وحسن حال مع التسليم للقدر
ورحمة وشفاء للأنام كذا
مزيد شكر وإكرام لمقتتر
به توسلت للرحمن في كرب
قد أوقعت مهجتي في لجة الخطر
وبت في شدة لم تدر غايتها
مقلب القلب والأعضاء في سقر
صحيح وجد ضعيف القلب منقطعًا
عن حسن ما رمت موقوفًا على الخطر
مسلسل الحزن دمعي مرسل أبدًا
موضوع قدر ومتروكًا بلا وطر
ودبج الدمع لما بات متصلًا
بمهجة أدرجت في السقم والضرر
مفكر الذهن مع تدليسه عقلًا
حظي ولحظي وصفوي عاد في كدر
ولم أجد غير مرفوع المقام عز
يز الجاه مولى الندى في البدو والحضر
مشهور آلائه كم أنقذت مهجًا
عن مبهم الخطب والأسواء وهو حري
وحسن أخلاقه في الكون متفق
عليه مؤتلف للروح والبصر
فارحم غريبًا من الآمال يا سندي
بالمصطفى المجتبى المختار من مضر
صلى عليه إله العرش ما سجعت
ورقاء فوق غصون البان في السحر
والآل والصحب ما شمس النهار بدت
وزينت قامة الأغصان بالزهر
أو ما الذليل الدمنهوري فيك شدا
تبارك الله ما أحلاك من بشر!

ومن كلامه مدحًا في مخدومه علي بك:

أقسم صدقًا بالكتاب المجيد
بأن حامي مصر فرد سعيد
للحكم بالعدل غدًا راجعًا
ولا تقل: ذلك رجع بعيد
ذكراه في الأقطار قد أنبتت
جنات إسعاف وحب الحصيد
مليك إحسان لمن يرتجي
صاف لورد أحرارهم والعبيد
أغاث ملهوفًا أعان الذي
عانده الدهر بعزم شديد
يصغي إلى المظلوم حتى إذا
تم مقالًا مده ما يريد
كم أوقعت أحكامه ظالمًا
في لجة الذل وحق الوعيد
أمن أهل الفقر من خيفة
فأصبحوا في طيب عيش رغيد
أراحهم من كل شر كما
أبعد عنهم كل باغ مريد
أمسى معاديه شقيًّا ومن
ولاه بالإخلاص فهو السعيد
لو كان للسيف مضي عزمه
ما كانت النار تذيب الحديد
أو كان يحكي السهم آراءه
لم يخطئ الأغراض رامي البعيد
حاز كمالات فلم يحصها
نطق وقد فاز بوصف حميد
لطفًا وإسعافًا ندى سطوة
وهمة عالية وقصد سديد
أضحى به دين الهدى عاليًا
مؤيدًا شرعًا مجيدًا مفيد
بعزمه مستنصرًا قاطعًا
بسيفه أمال باغ عنيد
يا حافظ الوادي الحجازي قد
دان لك الأقصى فسل ما تريد
أنت مليك العصر لا شك في
قولي وقولي ما عليه شهيد
وباسمك الأقطار قد شرفت
فأنت بين الناس بدر وحيد
سيرتك الحسنا بها سرت الـ
ـرُّكبان في الدنيا فدم في مزيد
وافتك أعياد تسر الورى
شرقًا وغربًا قربها والبعيد
وألسن الأنس لقد أرخت
ذكر على الجاه عيد جديد

ومات السيد قاسم بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد بن عامر بن عبد الله بن جبريل بن كامل بن حسن بن عبد الرحمن بن عثمان بن رمضان بن شعبان بن أحمد بن رمضان بن محمد بن القطب أبي الحسن علي بن محمد بن أبي تراب علي بن أبي عبد الله الحسين بن إبراهيم بن محمد بن أحمد بن محمد بن محمد بن أبي جعفر محمد بن الحسن بن الحسن بن إسماعيل الديباج بن إبراهيم بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب، أحد الأشراف الصحيحي النسب بمصر فجده أبو جعفر يعرف بالثج لثجثجة في لسانه، وحفيده الحسين بن إبراهيم يعرف بابن بنت الرويدى، وحفيده علي بن محمد مدفون بالصعيد في بلد يقال له دمشا وباشم، والمترجم هو والد السيدين الجليلين إسماعيل وإبراهيم المتقدم ذكرهما، صحَّح هذا النسب شيخنا السيد محمد مرتضى كما ترى، وكان حمام البابا في ملكه ممَّا خلفه له سلفه فكان يجلس فيه، وكان شيخًا مهيبًا معمرًا منور الشيبة كريمَ الأخلاق متعففًا مُقْبِلًا على شأنه، رحمه الله تعالى.

ومات الإمام العارف الصوفي الزاهد أحمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن سعيد بن حم الكتاني السوسي ثم التونسي، ولد بتونس ونشأ في حجر والده في عفة وصلاح وعفاف وديانة، وقرأ عليه وعلى شيخ الجماعة سيدي محمد الغرباوي وعلى آخرين، وتكمل في العلوم والمعارف مع صفاء ذهنه وسرعة إدراكه وتوقد خاطره وكمال حافظته، وكان والده يحبه ويعتمد على ما يقوله في تحرير نقله، ويصرح بذلك في أثناء درسه ويقول: أخبرني أحمد بكذا وكذا، وقال لي كذا وكذا. وقد بلغ المترجم من الصلاح والتقوى إلى الغاية، واشتهر أمره في بلاد إفريقية اشتهارًا كليًّا حتى أحبه الصغير والكبير، وكان منفرِدًا عن الناس منقبضًا عن مجالسهم فلا يخرج عن محله إلا لزيارة ولي أو في العيدين لزيارة والده، وكان للمرحوم علي باشا والي تونس فيه اعتقاد عظيم، وعرض عليه الدنيا مرارًا فلم يقبلها، وعرضت عليه تولية المدارس التي كانت بيد والده فأعرض عنها وتركها لمن يتولاها، وعكف نفسه على مذاكرة العلوم مع خواصِّ أصحابه، ومطالعة الكتب الغريبة، واجتمع عنده منها شيء كثير، وكان يرسل في كل سنة قايمة إلى شيخنا السيد مرتضى فيشتري له مطلوبه، وكان يكاتبه ويراسله كثيرًا، ورأيت في بعض مراسلاته استشهادات كثيرة منها:

شكوت وما الشكوى لمثلي عادة
ولكن تفيض القدر عند امتلاها

ومنها:

أصبحت فيهم غريب الشكل منفردًا
كبيت حسان في ديوان سحنون

ومنها:

أمد كفي لحمل الكاس من رشا
وحاجتي كلها في حامل الكاس

ومات الفقيه الأديب الماهر أحمد بن عبد الله بن سلامة الإدكاوي نزيل الإسكندرية، وأمه شريفة من ذرية السيد عيسى بن نجم خفير بحر البرلس، كان حسن المحاورة ولديه فضل ويحفظ كثيرًا من الأشيا منها المقامات الحريرية وغيرها من دواوين الشعر، وناب عن القضا في الثغر مدة، وكان يتردد إلى مصر أحيانًا وجمع عدة دواوين شعرية من المتقدمين والمتأخرين نحو المايتين وطالع كثيرًا منها مما لم يملكه، ولم يزل على حالة مرضية حتى توفي بالثغر سنة تاريخه.

ومات الشيخ الصالح المعمر خالد أفندي بن يوسف الديار بكري الواعظ، كان يعظ الأتراك بمكة على الكرسي، ثم ورد مصر ولازم حضور الأشياخ بمصر والوعظ للأتراك، وحضر معنا كثيرًا على شيخنا السيد محمد مرتضى في دروس الصحيح بجامع شيخون في سنة ألف وماية وتسعين، وفي الأمالي والشمايل في جامع أبي محمود الحنفي، وأخبر أنه دخل دمشق وحضر دروس الشيخ إسماعيل العجلوني وأجازه، وأدرك جلة الأشياخ بديار بكر والرها وأرزوم، وكان رجلًا صالحًا منكسرًا وله مرأى حسن، ولا زال على طريقته في الحب والملازمة حتى مرض أيامًا وانقطع في بيته، ومات في رابع جمادى الأولى.

ومات الشيخ الفقيه الكامل والنجيب الفاضل أحد العلما الأعلام وأوحد فضلا الأنام الشيخ محمد بن عبادة بن بري العدوي، ينتهي نسبه إلى علي أبي صالح المدفون بالعلوة في بني عدي، قدم إلى مصر سنة أربع وستين وماية وألف، وجاور بالأزهر وحفظ المتون، ثم حضر شيوخ الوقت ولازم دروس علما العصر، ومهر في الفنون وتفقه على علما مذهبه من المالكية، مثل: الشيخ علي العدوي، والشيخ عمر الطحلاوي، والشيخ خليل، والشيخ الدردير، والبيلي، وأخذ المعقولات عن شيخه الشيخ علي العدوي الصعيدي وغيره، ولازمه ملازمة كلية، وانتسب إليه حسًّا ومعنى وصار من نجبا تلامذته، ودرس الكتب الكبار في الفقه والمعقول، ونوه الشيخ بفضله وأمر الطلبة بالأخذ عنه، وصار له باع طويل وذهن وقَّاد وقلم سيال وفصاحة في اللسان والتقرير وصواب في التحرير وقوة استعداد واستحضار وسليقة. ومن تآليفه: حاشية على شذور الذهب لابن هشام متداولة بأيدي الطلبة نافعة، وحاشية على مولد النبي للغيطي وابن حجر والهدهدي، وحاشية على شرح ابن جماعة في مصطلح الحديث، وحاشية عجيبة على جمع الجوامع وعلى السعد والقطب وعلى أبي الحسن، وحاشية على شرح الخرشي وعلى فضايل رمضان، وكتابة محررة على الورقات والرسالة العضدية، وعلى آداب البحث والاستعارات. ولم يزل يملي ويقري ويفيد ويحرر ويجيد حتى وافاه الحمام، وتوفي في أواخر شهر جمادى الثانية من السنة بعد أن تعلل بعلة الاستسقا سنينًا، وكان يقرأ ليالي المواسم مثل نصف شعبان والمعراج وفضايل رمضان وغير ذلك نيابة عن شيخه الشيخ علي الصعيدي العدوي، ويجتمع بدرسه الجم الكثير من طلبة العلم والعامة، رحمه الله.

ومات الأمير علي بك السروجي وهو من مماليك إبراهيم كتخدا وإشراقات علي بك، أمَّره وقلده الصنجقية بعد موت سيدهم، ولقب بالسروجي لكونه كان ساكنًا بخط السروجية، ولما أمره علي بك هو وأيوب بك مملوكه ركب معمها إلى بيت خليل بك بلفيا، وخطب لعلي بك هذا أخت خليل بك وهي ابنة إبراهيم بلفيا الكبير وعقد عقده عليها، ثم خطب لأيوب بك ابنة خليل بك فقال له خليل بك: اعفني يا بك. فقال: لا بد من ذلك. فقال: تريد تخرب دياري فإني لا قدرة لي على تشهيل الاثنتين في آن واحد. فقال: أنا أساعدك فلا يضيق صدرك من شي، وعقد للأخرى على أيوب بك في ذلك المجلس، وشربوا الشربات وفرقوا المحارم والهدايا وانصرفوا وعملوا العرس بعد أن جهزهما بما يليق بأمثالهما وزفوا واحدة بعد أخرى إلى الزوج، ولما حصلت الوحشة بين المحمدية وإسماعيل بك انضم إلى إسماعيل بك لكونه خشداشه وخرج إلى الشام صحبته، فلما سافر إسماعيل بك إلى الديار الرومية تخلف المترجم مع من تخلف، ومات ببعض ضياع الشام كما ذكر.

ومات أيضًا الأمير حسن بك المعروف بسوق السلاح لسكنه في تلك الخطة ببيت الست البدوية، وأصله مملوك صفية جارية الشيخ أبي المواهب البكري، وكان ابن أخيها فاشترته واستمر في خدمة الشيخ أبي المواهب إلى أن مات فسلك في طريق الأجناد، وخدم علي بك إلى أن جعله كاشفًا في جهة من الجهات القبلية، فأقام بها إلى أن خالف محمد بك على سيده علي بك، وذهب إلى قبلي واجتمعت عليه الكشاف والأجناد، وكان حسن هذا من جملة من حضر إليه بماله ونواله وخيامه، وحضر محمد بك إلى مصر وملكها من سيده علي بك، ولم يزل حسن هذا في خدمة محمد بك أبي الدهب فرقاه في الخدم والمناصب وصنجقه، ولم يزل في الإمارة مدة محمد بك وأتباعه إلى أن خرج مع من خرج صحبة إسماعيل بك، ومات ببعض ضياع الشام، والله الموفق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤