سنة تسع وتسعين وماية وألف (١٧٨٤م)

استهل العام بيوم الاثنين المبارك وأرخه أديب العصر الشيخ قاسم بقوله:

يا أهل مصر استشبروا
فالله فرج كل هم
وأتى الرخاء مؤرخًا
عام بفضل الله عم

فكان الفال بالمنطق، وأخذت الأشيا في الانحلال قليلًا.

(وفي سابعه) جاءت الأخبار بأن الجماعة المتوجهين لإبراهيم بك في شأن الصلح وهم: الشيخ الدردير وسليمان بك الأغا ومرزوق جلبي اجتمعوا بإبراهيم بك فتكلموا معه في شأن ذلك، فأجاب بشروط منها أن يكون هو على عادته أمير البلد وعلي أغا كتخدا الجاويشية على منصبه.

فلما وصل الرسول بالمكاتبة جمع مراد بك الأمرا، وعرفهم ذلك فأجابوا بالسمع والطاعة وكتبوا جواب الرسالة وأرسلوها صحبة الذي حضر بها، وسافر أيضًا أحمد بك الكلارجي وسليم أغا أمين البحرين في حادي عشره.

وفي عشرينه وصلت الأخبار بأن إبراهيم بك نقض الصلح الذي حصل، وقيل إن صلحه كان مداهنة لأغراض لا تتم له بدون ذلك فلما تمت احتج بأشيا أخر ونقض ذلك.

وفي سادس صفر حضر الشيخ الدردير وأخبر بما ذكر وأن سليمان بك وسليم أغا استمروا معه.

وفي منتصفه وصل الحجاج مع أمير الحاج مصطفى بك، وحصل للحجاج في هذه السنة مشقة عظيمة من الغلا وقيام العربان بسبب عوايدهم القديمة والجديدة ولم يزوروا المدينة المنورة — على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى السلام — لمنع السبل، وهلك عالم كثير من الناس والبهايم من الجوع، وانقطع منهم جانب عظيم.

ومنهم من نزل في المراكب إلى القلزم وحضر من السويس إلى القصير، ولم يبق إلا أمير الحج وأتباعه، ووقفت العربان لحجاج المغاربة في سطح العقبة وحصروهم هناك ونهبوهم وقتلوهم عن آخرهم ولم ينج منهم إلا نحو عشرة أنفار.

وفي أثناء نزول الحج وخروج الأمرا لملاقاة أمير الحج هرب إبراهيم بك الوالي وهو أخو سليمان بك الأغا وذهب إلى أخيه بالمنية، وذهب صحبته من كان بمصر من أتباع أخيه وسكن الحال أيامًا.

وفي أواخر شهر صفر سافر أيوب بك الكبير وأيوب بك الصغير بسبب تجديد الصلح، فلما وصلوا إلى بني سويف حضر إليهم سليمان بك الأغا وعثمان بك الأشقر باستدعا منهم، ثم أجاب إبراهيم بك إلى الصلح ورجعوا جميعًا إلى المنية.

وفي أوايل ربيع الأول حضر حسن أغا بيت المال بمكاتبات بذلك وفي إثر ذلك حضر أيوب بك الصغير وعثمان بك الأشقر فقابلا مراد بك، وقدم مراد بك لعثمان بك تقادم ثم رجع أيوب بك إلى المنية ثانيًا.

وفي يوم الاثنين رابع ربيع الثاني وصل إبراهيم بك الكبير ومن معه من الأمرا إلى معادي الخبيري بالبر الغربي، فعدى إليه مراد بك وباقي الأمرا والوجاقلية والمشايخ وسلموا عليه ورجعوا إلى مصر، وعدى في إثرهم إبراهيم بك ثم حضر إبراهيم بك في يوم الثلاثا إلى مصر، ودخل إلى بيته وحضر إليه في عصريتها مراد بك في بيته وجلس معه حصة طويلة.

وفي يوم الأحد عاشره عمل الديوان وحضرت لإبراهيم بك الخلع من الباشا فلبسها بحضرة مراد بك والأمرا والمشايخ، وعند ذلك قام مراد بك وقبل يده وكذلك بقية الأمرا، وتقلد علي أغا كتخدا الجاويشية كما كان، وتقلد علي أغا أغات مستحفظان كما كان، فاغتاظ لذلك قايد أغا الذي كان ولاه مراد بك وحصل له قلق عظيم وسار يترامى على الأمرا ويقع عليهم في رجوع منصبه، وصار يقول: إن لم يردوا إليّ منصبي وإلا قتلت علي أغا.

وصمم إبراهيم بك على عدم عزل علي أغا واستوحش علي أغا وخاف على نفسه من قايد أغا، ثم إن إبراهيم بك قال: إن عزل علي أغا لا يتولاها قايد أغا أبدًا. ثم إنهم لبسوا سليم أغا أمين البحرين وقطعوا أمل قايد أغا وما وسعه إلا السكوت.

وفي أوايل شهر جمادى الآخرة طلب عثمان بك الشرقاوي ولاية جرجا فلم يرض إبراهيم بك وقال له: نحن نعطيك كذا من المال واترك ذلك فإن البلاد خراب وأهلها ماتوا من الجوع.

وفي منتصفه خرج عثمان بك المذكور بمماليكه وأجناده مسافرًا إلى الصعيد بنفسه ولم يسمع لقولهم، ولم يلبس تقليدًا لذلك على العادة فأرسلوا له جماعة ليردوه فأبى من الرجوع.

وفيه كثر الموتان بالطاعون وكذلك الحميات ونسي الناس أمر الغلا.

وفي يوم الخميس مات علي بك أباظة الإبراهيمي فانزعج عليه إبراهيم بك، وكان الأمرا خرجوا بأجمعهم إلى ناحية قصر العيني ومصر القديمة خوفًا من ذلك، فلما مات علي بك وكثير من مماليكهم داخلهم الرعب ورجعوا إلى بيوتهم.

وفي يوم الأحد طلعوا إلى القلعة وخلعوا علي لاجين بك وجعلوه حاكم جرجًا، ورجع إبراهيم بك إلى بيته أيضًا وكان إبراهيم بك إذ ذاك قايمقام.

وفيه مات أيضًا سليمان بك أبو نبوت بالطاعون.

وفي منتصف رجب خف أمر الطاعون.

وفي منتصف شعبان ورد الخبر بوصول باشا مصر الجديد إلى ثغر سكندرية وكذلك باشا جدة، ووقع قبل ورودهما بأيام فتنة بالإسكندرية بين أهل البلد وأغات القلعة والسردار بسبب قتيل من أهل البلد قتله بعض أتباع السردار، فثار العامة وقبضوا على السردار وأهانوه وجرسوه على حمار وحلقوا نصف لحيته، وطافوا به البلد وهو مكشوف الرأس وهم يضربونه ويصفعونه بالنعالات.

وفيه أيضًا وقعت فتنة بين عربان البحيرة وحضر منهم جماعة إلى إبراهيم بك وطلبوا منه الإعانة على أخصامهم، فكلم مراد بك في ذلك فركب مراد بك وأخذهم صحبته ونزل إلى البحيرة فتواطأ معه الأخصام وأرشوه سرًّا فركب ليلًا وهجم على المستعينين به وهم في غفلة مطمئنين، فقتل منهم جماعة كثيرة ونهب مواشيهم وإبلهم وأغنامهم ثم رجع إلى مصر بالغنايم.

في غاية شعبان حضر باشة جدة إلى ساحل بولاق، فركب علي أغا كتخدا الجاويشية وأرباب العكاكيز وقابلوه وركبوا صحبته إلى العادلية ليسافر إلى السويس.

وفي غرة رمضان ثار فقرا المجاورين والقاطنين بالأزهر وقفلوا أبواب الجامع ومنعوا منه الصلوات، وكان ذلك يوم الجمعة فلم يصل فيه ذلك اليوم، وكذلك أغلقوا مدرسة محمد بك المجاورة له ومسجد المشهد الحسيني وخرج العميان والمجاورون يرمحون بالأسواق، ويخطفون ما يجدونه من الخبز وغيره، وتبعهم في ذلك الجعدية وأراذل السوقة، وسبب ذلك قطع رواتبهم وأخبازهم المعتادة، واستمروا على ذلك إلى بعد العشا فحضر سليم أغا أغات مستحفظان إلى مدرسة الأشرفية، وأرسل إلى مشايخ الأروقة والمشار إليهم في السفاهة وتكلم معهم ووعدهم والتزم لهم بإجراء رواتبهم، فقبلوا منه ذلك وفتحوا المساجد.

وفي يوم الأحد ثامن شهر شوال الموافق لتاسع مسرى القبطي كان وفا النيل المبارك وكانت زيادته كلها في هذه التسعة أيام فقط ولم يزد قبل ذلك شيًّا واستمر بطول شهر أبيب وماؤه أخضر، فلما كان أول شهر مسرى زاد في ليلة واحدة أكثر من ثلاثة أذراع، واستمرت دفعات الزيادة حتى أوفى أذراع الوفا يوم التاسع، وفيه وقع جسر بحر أبي المنجا بالقليوبية فعينوا له أميرًا فأخذ معه جملة أخشاب ونزل وصحبته ابن أبي الشوارب شيخ قليوب، وجمعوا الفلاحين ودقوا له أوتادًا عظيمة وغرقوا به نحو خمسة مراكب واستمروا في معالجة سده مدة أيام فلم ينجع من ذلك شي، وكذلك وقع ببحر مويس بالفيوم.

وفي يوم الخميس خرج أمين الحاج مصطفى بك بالمحمل والحجاج وذلك ثاني عشر شوال.

وفي يوم الاثنين ثامن عشر القعدة سافر كتخدا الجاويشية وصحبته أرباب الخدم إلى الإسكندرية لملاقاة الباشا، والله تعالى أعلم.

ذكر من مات في هذه السنة

وأما من مات في هذه السنة ممن له ذكر:

توفي الشيخ الإمام العارف المتفنن المقري المجود الضابط الماهر المعمر الشيخ محمد بن حسن بن محمد بن أحمد جمال الدين بن بدر الدين الشافعي الأحمدي ثم الخلوتي السمنودي الأزهري المعروف بالمنير، ولد بسمنود سنة تسع وتسعين وألف، وحفظ القرآن وبعض المتون وقدم الجامع الأزهر وعمره عشرون سنة، فجود القرآن على الإمام المقري علي بن محسن الرملي، وتفقه على جماعة، منهم: الشيخ شمس الدين محمد السحيمي والشيخ علي أبي الصفا الشنواني، وسمع الحديث على أبي حامد البديري وأبي عبد الله محمد بن محمد الخليلي، وأجازه في سنة اثنتين وثلاثين وماية وألف، وأجازه كذلك الشيخ محمد عقيلة في آخرين، وأخذ الطريقة ببلده على سيدي علي زنفل الأحمدي، ولما ورد مصر اجتمع بالسيد مصطفى البكري فلقنه طريقة الخلوتية وانضوى إلى الشيخ شمس الدين محمد الحفني فقصر نظره عليه واستقام به عهده، فأحياه ونور قلبه واستفاض منه فلم يكن ينتسب في التصوف إلا إليه.

وحصل جملة من الفنون الغريبة كالزايرجة والأوفاق على عدة من الرجال، وكان ينزل وفق الماية في الماية وهو المعروف بالمثيني ويتنافس الأمرا والملوك لأخذه منه وأحدث فيه طرقًا غريبة غير ما ذكره أهل الفن، وقد أقرا القرآن مدة وانتفع به الطلبة وأقرا الحديث، وكان سنده عاليًا فتنبه بعض الطلبة في الأواخر فأكثروا الأخذ عنه.

وكان صعبًا في الإجازة لا يجيز أحدًا إلا إذا قرا عليه الكتاب الذي يطلب الإجازة فيه بتمامه، ولا يرى الإجازة المطلقة ولا المراسلة حتى أن جماعة من أهالي البلاد البعيدة أرسلوا يطلبون منه الإجازة فلم يرض بذلك، وهذه الطريقة في مثل هذه الأزمان عسرة جدًّا.

وفي أواخره انتهى إليه الشأن وأشير إليه بالبنان، وذهبت شهرته في الآفاق وأتته الهدايا من الروم والشام والعراق، وكف بصره وانقطع إلى الذكر والتدريس في منزله بالقرب من قنطرة الموسكي داخل العطفة بسويقة الصاحب، ولازم الصوم نحو ستين عامًا ووفدت عليه الناس من كل جهة وعمر حتى ألحق الأحفاد بالأجداد وأجاز وخلف، وربما كتب الإجازات نظمًا على هيئة إجازات الصوفية لتلامذتهم في الطريق، ولم يزل يبدي ويعيد ويعقد حلق الذكر ويفيد إلى أن وافاه الأجل المحتوم في هذه السنة وجهز وكفن وصلي عليه بالأزهر في مشهد حافل، وأعيد إلى الزاوية الملاصقة لمنزله، وكثر عليه الأسف ولم يخلف في مجموع الفضايل مثله، ومن مدايح الشيخ حسن المكي فيه:

لذ بالكرام حماة الحي والتزم
فهم مصابيح داجي الوقت والظلم
واخلع لنعليك إن وافيت طورهم
مكلمًا واقتبس من نور حيهم
وشمرنْ ذيل تجريد لحبهم
وغص على الدر في تيار بحرهم
وقم على قدم الإخلاص مرتشفًا
صرف السلافة من كاسات خمرهم
واحفظ عهودهم والبس لخرقتهم
وانهج على نهجهم واكتم لسرهم
هم الهداة وأعلام الوجود وهم
أهل التصوف والتصريف والشيم
من أمهم نال ما يرجو ويأمله
وعاد في رتبه الإسعاد كالعلم
شم الأنوف أسود الدين أضبعه
بيض المحيا بحار العلم والحكم
قد آذن الله من عاداهم كرمًا
بالحرب طوبى لمن يسمو بحبهم
فاحرص على حبهم مع حب خادمهم
ومن يلوذ بهم من ساير الأمم
واخضع لدى سدة قام الكمال بها
وطف بكعبة رب المجد والكرم
بحر المعارف من فاضت عجايبه
فيض الغمامة من سيل لها عرم
كهف الولاية شمس الصدق دون خفا
بدر العناية سور الفضل والعظم
الماجد العلم الفرد الذي ضربت
بحمد سيرته الأمثال في الكلم
بشرى سمانود قد فازت بما افتخرت
بواصل خيرة هذا من القدم
يحيي الليالي بذكر الله ما سمحت
بمثله حقب في العرب والعجم
هذا التقي فأنَّى مثله أحد
وفي الحنيفية السمحا على قدم
له عكوف على الخيرات من صغر
ومن يكن هكذا لم يخش من سقم
مشمرًا دايمًا عن جد طاعته
من شدة الحزم لا من شدة الحزم
قد حرم النوم أن يومي لمقلته
لطاعة الله منشينا من العدم
منير الوقت بل مهديه مصلحه
ذو همة في الورى فاقت على الهمم
يا واحد الفضل يا فرد الشهود ويا
نور الوجود بلا ريب ولا وهم
لم لا وقد منحتك السر أجمعه
أيدي السعادة في بدء ومختتم
إذلاحظتك عيون أسكرتك من الصـ
ـرف القديم زلال بارد شبم
من صاحب الوقت من طابت مناهله
حفني وقت وسيع الفيض والنعم
دارك بوصلك مشتاق الجناب فقد
أودى به البعد في جهد وفي ندم
عودتنا عودة والعود شأنك يا
سامى الفتوة لا تحتاج للرتم
عليك أزكى سلام فاح عبهره
ينهل صيِّبه لا زال كالديم
ثم الصلاة مع التسليم يتبعها
على المطهر خير الخلق كلهم
والآل والصحب ما غنت مطوقة
أوهام عان بذاك البان والعلم
أو ما شدا حسن المكي وهو شج
لذ بالكرام حماة الحي والتزم

ومات الشيخ الإمام الفاضل الصالح علي بن علي بن علي بن علي بن مطاوع العزيزي الشافعي الأزهري، أدرك الطبقة الأولى من المشايخ كالشيخ مصطفى العزيزي والشيخ محمد السحيمي والدفري والملوي وأضرابهم، وتفقه عليهم ودرس بالجامع الأزهر وانتفع به الطلبة، وأقرا دروسًا بمشهد شمس الدين الحنفي، وكان يسكن في بولاق ويأتي كل يوم إلى مصر لإلقاء الدروس، وكان إنسانًا حسنًا صبورًا محتسبًا فصيحًا مفوهًا له اعتقاد في أهل الله، توفي تاسع ربيع الثاني سنة تسع وتسعين هذه.

ومات الإمام الصالح الناسك المجود السيد علي بن محمد العوضي البدري الرفاعي المعروف بالقرا وهو والد صاحبنا العلامة السيد حسن البدري، ولد بمصر وحفظ القرآن وجوده على شيخ القراء شهاب الدين أحمد بن عمر الإسقاطي وبه تخرج، وأقرأ القرآن بالسبعة كثيرًا بالجامع الأزهر وبرواق الأروام وانتفع به الطلبة طبقة بعد طبقة، وكان له معرفة ببعض الأسرار والروحانيات وغير ذلك.

ومات الاختيار المفضل المبجل علي بن عبد الله الرومي الأصل مولى درويش أغا المعروف الآن بمحرم أفندي باشا اختيار وجاق الجاويشية، كان لكونه خدم عنده وهو صغير اشتغل بالخط وجوده على المرحوم حسن الضيائي وعبد الله الأنيس وأدرك الطبقة منهم ومهر فيه وأنجب، ولم يكن له إجازة فعمل له مجلسًا في منزل المرحوم علي أغا وكيل لدار السعادة، واجتمع فيه أرباب الفن من الخطاطين وأجازه حسن أفندي الرشدي مولى علي أغا المشار إليه وكان يومًا مشهودًا، ولقب بدرويش، وكتب بخطه كثير، وحج سنة إحدى وسبعين وماية وألف، واجتمع بالحرمين على الأفاضل وتلقى منهم أشيا، وعاد إلى مصر واجتمع بأديب عصره محمد بن عمر الخوانكي أحد تلامذة الشهاب الخفاجي فتعلق بعنايته بالأدب وصار في محفوظته جملة من أشعاره وقصايده، وجملة من قصايد الأرجاني، وجملة من المقامات الحريرية وعني بحفظ القرآن فحفظه على كبره وتعب فيه، وحفظ أسماء أهل بدر وكان دايمًا يتلوها.

ولأجله ألف شيخنًا السيد محمد مرتضى شرح الصدر في شرح أسماء أهل بدر في عشرين كراسًا، والتفتيش في معنى لفظ درويش كراسًا.

ولازم المذكور منذ قدم مصر وسمع عليه مجالس من الصحيح والمسلسل (من مصطلحات الحديث النبوي) بالأسودين وبالعيد والشمايل والأمالي وجود عليه شيخنا المذكور في الخط، وقد صاهرت المترجم وتزوجت بربيبته في أواخر سنة خمس وتسعين برغبة منه وهي أم الولد خليل فتح الله عليه، ولما حصلت النسابة والمصاهرة حولته بعياله إلى منزلي لتعب الوقت وتعطيل أسباب المعايش.

ولما عاشرته بلوت منه خيرًا ودينًا وصلاحًا، وكان لا ينام من الليل إلا قليلًا ويتبتل إلى مولاه تبتيلًا فيصلي ما تيسر من النوافل ثم يكمل الليل بتلاوة القرآن المرتلة مع التدبر لمعاني الآيات المنزلة، وكان حسن السمت نظيف الثياب عظيم الشيبة منور الوجه وجيه الطلعة مهيب الشكل سليم الطوية مقبول الروحانية ملازمًا على حضور الجماعة حريصًا على إدراك الفضايل.

توفي في جمادى الأولى عن نيف وتسعين سنة، ولم تهن قواه ولم يسقط له سن ويكسر اللوز بأسنانه، ودفناه بجوار الإمام أبي جعفر الطحاوي؛ لأنه كان ناظرًا عليه، رحمه الله.

ومات الأستاذ الفاضل والمستعد الكامل ذو النفحات والإشارات السيد علي بن عبد الله بن أحمد العلوي الحنفي سبط آل عمر صاحبنا ومرشدنا ووالده أصله من توقاد، وولد هو في مصر سنة ثلاث وسبعين وماية وألف، وعانى الفنون ومهر وأنجب في كل شي عاناه في أقل زمن، بحيث إنه إذا توجهت همته لعلم من العلوم الصعبة وطالع فيه أدركه وأظهر مخبآته وثمراته وألف فيه وأظهر عجايب أسراره ومعانيه في زمن قليل، وكان حاد الذهن جدًّا دراكًا أقوى الحافظة يحفظ كل شي سمعه أو مر عليه ببصره.

ولازم في مبتدأ أمره شيخنا السيد محمد مرتضى كثيرًا، وقرا عليه الفصيح لثعلب وفقه اللغة للثعالبي وأدب الكاتب لابن قتيبة في مجالس دراية وسمع منه كثيرًا من شرحه على القاموس، وكتب عنه بيده أجزاء كثيرة، وقرا عليه الصحيح في اثني عشر مجلسًا في رمضان سنة ثمان وثمانين، وسمع عليه أيضًا الصحيح مرة ثانية مشاركًا مع الجماعة مناوبة في القراءة في أربع مجالس، ومدة القراءة من طلوع الشمس إلى بعد كل عصر، وصحيح مسلم في ستة مجالس مناوبة بمنزل الشيخ بخان الصاغة.

وكتب الأمالي والطباق وضبط الأسما وقلد خط الصلاح الصفدي في وضعه فأدركه، وقرا عليه أيضًا المقامات الحريرية ورسايل في التصريف وغير ذلك مما لا يدخل تحت الضبط لكثرته، وسمع المسلسل بالعيد وبالأسودين التمر والماء.

ويقول: كل راو كتبته وها هو في جيبي، وبالمحبة، وألبسه خرقة الصوفية وسمع عليه أوايل الكتب الستة والمعاجم والمسانيد في سنة تسعين بمنهل شيخه مع الجماعة، وجزء نبيط بن شريط الأشجعي وبلدانيات السلفي وبلدانيات ابن عساكر وأحاديث عاشورا تخريج المنذري، وأحاديث يوم عرفة تخريج ابن فهد وعوالي بن مالك وثلاثيات البخاري والدارمي وجزء فيه أخبار الصبيان والخلعيات بتمامها وهي عشرون جزءًا، وعرف المترجم العالي من النازل واجتمع بشخينا السيد العيدروس وقربه وأدناه ولازمه وقرا عليه أشيا من كتب الصوفية ومال إليه، وصار ينطق بالشعر وأقبل على الأدب والتصوف ولا زال كذلك حتى صار يتكلم بكلام عال.

وألف كتابًا في علم الأوفاق في كراريس لطيفة على نسق عجيب مفيد، وامتزج بالروحانية حتى أني رأيته ينزل الوفق في الكاغد ويضعه على راحة كفه فيرتعش ويلتف ببعضه ثم ينبسط بنفسه كما كان، وإذا أخذه غيره ووضعه على مثل وضعه لا يتحرك أبدًا.

ومارس في علم الرمل أيامًا فأدرك منتهاه، واستخرج منه ما لا يستخرج الممارس فيه سنين من الضمير والمدة وغير ذلك في أسرع وقت، وألف فيه كتابًا لخص فيه قواعده من غير مشقة.

ومارس في الفلكيات مع سليمان أفندي كنياذ وصنف فيه وفي غيره، وله شرح على قصيدة ابن رزيق الكاتب البغدادي التي أولها:

لا تعذليه فإن العذل يولعه
قد قلت قولًا ولكن ليس ينفعه

وهو شرح بديع سماه إشارات التحقيق الفيضية إلى خبايا القصيدة الزريقية، وكان عندي بخطه، وبآخره أعرض عن جميع ذلك، وجمع تآليفه وتصانيفه ونظمه وأحرقه جميعه، وطلب مني ذلك الشرح فأعطيته له، ولم أعلم مراده ما عدا الكراس الأول فإني لم أجده في ذلك الوقت وهو باق عندي بخطه، وانجمع عن خلطة الناس وأقبل على ربه، وكان قد تزوج بامرأة وكانت تؤذيه وتشتمه وربما كانت تضربه وهو صابر عليها مقبل على شأنه، وألف أورادًا وأحزابًا وأسماءً على طريقة الأسماء السهروردية عجيبة المشرب بنفس عال غريب، وصار يتكلم بكلام لا يطرق الأسماع نظيره، وأنكر عليه بعض أهل العصر بعض أقواله:

ولو يذوق عاذلي صبابتي
صبا لها لكنه ما ذاقها

ولم يزل على ذلك حتى تعلل ولحق بربه، وتوفي في سادس ربيع الأول من السنة، وأعقب ولدًا من تلك المرأة التي كان تزوج بها، وبالجملة والإنصاف إنه كان من آيات الله الباهرة، ودفن بالقرافة بتربة علي أغا صالح، رضي الله عنا وعنه ورحمنا أجمعين.

ومات الشيخ الفقيه الدراكة العلامة السيد سليمان بن طه بن أبي العباس الحريثي الشافعي المقري الشهير بالأكراشي وهي قرية شرقي مصر، وحفظ القرآن وقدم الجامع الأزهر وطلب العلم وحضر الأشياخ وجود القرآن على الشيخ مصطفى العزيزي خادم النعال بمشهد السيدة سكينة، وأعاده بالعشر على الشيخ عبد الرحمن الأجهوري المقري وأجازه في محفل عظيم في جامع الماس، وسمع وحضر دروس فضلا وقته ومهر في فقه المذهب ودرس في جامع الماس وغيره، وسمع من شيخنا السيد مرتضى المسلسل بالأولية بشرطه والمسلسل بالعيد وبالمحبة وبالقسم وبقراءة الفاتحة في نفس واحد وبالإلباس والتحكيم وسمع الصحيحين بطرفيهما في جماعة بجامع شيخون بالصليبة، وسمع أجزاء البلدانيات للحافظ أبي طاهر السلفي وجزء النيل وجزء عرفة ويوم عاشورا وغير ذلك.

وله تآليف وجمعيات ورسايل في علوم شتى، ولما اجتمع بشيخنا المذكور، ورأى ملازمة السيد علي المترجم آنفًا به في أكثر أوقاته ونظر نجابته وما فيه من قوة الفهم والاستعداد؛ لامه على ملازمته للسيد وانقطاعه عن بقية العلوم، وقال له: هذا شي سهل يمكن تحصيله في زمن قليل وقد قرأت وحصلت ما فيه الكفاية والأَوْلَى أن تشغل بعض الزمن بتحصيل المعقولات وغيرها، فإن مثلك لا يقتصر على فن من الفنون والاقتصار ضياع.

فقبل منه واشتغل عليه وعلى غيره، وانقطع بسبب الاشتغال عن كثرة الترداد على الشيخ كعادته، وعلم ذلك فانحرف على كل منهما وبالخصوص على السيد علي وصعب عليه جدًّا، وأدَّى ذلك إلى الانقطاع الكلي.

ولما مات الشيخ العزيزي تنزل المترجم في مشيخة القراء بمقام السيدة نفيسة — رضي الله عنها — وكان إنسانًا حسنًا جامعًا للفضايل، وحضر معنا الهداية في فقه الحنفية على شيخنا المرحوم العلامة الشيخ مصطفى الطائي الحنفي وكان يناقش في بعض المسايل المخالفة لمذهبه إلى أن وافاه الحِمَام في هذه السنة، رحمه الله.

ومات أوحد الفضلا وأعظم النبلا العلامة المحقق والفهَّامة المدقق الفقيه النبيه الأصولي المعقولي المنطقي الشيخ أبو الحسن بن عمر القلعي بن علي المغربي المالكي، قدم إلى مصر في سنة أربع وخمسين وماية وألف، وكان لديه استعداد وقابلية وحضر أشياخ الوقت مثل البليدي والملوي والجوهري والحفني والشيخ الصعيدي، واتحد بالشيخ الوالد وزوجه زوجة مملوكه مصطفى بعد وفاته وهي خديجة معتوقة المرحوم الخواجا المعروف بمدينة، وأقامت معه نحو الأربعين سنة حتى كبر سنها وهرمت وتسرى عليها مرتين، ولما حضر المرحوم محمد باشا الراغب واليًا على مصر اجتمع به ومارسه وأحبه وشرح رسالته التي ألفها في علم العروض والقوافي، ولما عزل الراغب وذهب إلى دار السلطنة وتولى الصدارة سافر إليه المترجم فأجلَّه وأكرمه ورتب له جامكية بالضربخانة بمصر، ورجع إلى مصر وتولى مشيخة رواق المغاربة مرتين أو ثلاثة بشهامة وصرامة زايدة.

وسبب عزله في المرة الوسطى أن بعض المغاربة تشاجر مع الشيخ علي الشنويهي، وانتصر هو للمغاربة لحمية الجنسية ونهر الشيخ علي فذهب الشيخ علي واشتكاه إلى علي بك في أيام إمارته، فأحضره علي بك فتطاول على الشيخ علي بحضرة الأمير وادعى الشيخ علي أنه لطمه على وجهه في الجامع، فكذبه المترجم فحلف الشيخ علي بالله على ذلك، فقال له المترجم: احلف بالطلاق. فاغتاظ منه الأمير علي بك وصرفهما، وأرسل في الحال وأحضر الشيخ عبد الرحمن البناني وولاه مشيخة الرواق وعزل الشيخ أبا الحسن وانكسف باله لذلك، ثم أعيد بعد مدة إلى المشيخة، وكان وافر الحرمة نافذ الكلمة معدودًا من المشايخ الكبار مهاب الشكل منور الشيبة مترفهًا في ملبسه ومأكله يعلوه حشمة وجلالة ووقار، إذا مر راكبًا أو ماشيًا قام الناس إليه وبادروا إلى تقبيل يده حتى صار ذلك لهم عادة وطبيعة لازمة يرون وجوبها عليهم.

وللمترجم تأليفات وتقييدات وحواسن نافعة، منها حاشية الأخضري على السلم وحاشية على رسالة العلامة محمد أفندي الكرماني في علم الكلام في غاية الدقة تدل على رسوخه في علم المنطق والجدل والمعاني والبيان والمعقولات، وشرح على ديباجة شرح العقيدة المسماة بأم البراهين للإمام السنوسي، وله كتاب ذيل الفوايد وفرايد الزوايد على كتاب الفوايد والصلات والعوايد وخواص الآيات والمجربات التي تلقاها من أفواه الأشياخ، وكتاب في خواص سورة يس وغير ذلك.

وأخذ عن المرحوم الوالد كثيرًا من الحكميات والمواقف والهداية للأبهري والهيئة والهندسة، ولم يزل مواظبًا على تردده عليه وزيارته في الجمعة مرتين أو ثلاثة، ويراعي له حق المشيخة والصحبة في حياته وبعدها، وكان سليم الباطن مع ما فيه من الحدة إلى أن توفي في ربيع الأول من هذه السنة، رحمه الله.

ومات الشيخ المعتقد عبد الله بن إبراهيم ابن أخي الشيخ الكبير المعروف بالموافي الشافعي السندوبي الرفاعي نزيل المنصورة، ولد ببلدة منية سندوب سنة أربعين وماية وألف، وحفظ القرآن وبعض المتون، وقدم المنصورة فمكث تحت حيازة عمه في عفة وصلاح، وحضر دروس الشيخ أحمد الجالي وأخيه محمد الجالي وانتفع بهما في فقه المذهب، فلما توفي عمه في سنة إحدى وستين أُجلس مكانه في زاويته التي أنشاها عمه في موخر الجامع الكبير بالمنصورة، وسلك على نهجه في إحيا الليالي بالذكر وتلاوة القرآن وكان يختم في كل يوم وليلة مرة، وربى التلاميذ وصارت له شهرة زايدة مع الانجماع عن الناس، لا يقوم لأحد ولا يدخل دار أحد وفيه الاستيناس، وعنده فوايد يذاكر بها ويشتغل دايمًا بالمطالعة والمذاكرة، واعتقده الخاص والعام، ولما سافرنا إلى دمياط سنة تسع وثمانين وجزنا بالمنصورة وطلعناها ذهبنا إلى جامعها الكبير ودخلنا إليه في حجرته فوجدته جالسًا على فراش عال بمفرده بجانب ضريح عمه، وهو رجل نير بشوش فرحب بنا وفرح بقدومنا وأحضر لنا طبقًا فيه قراقيش وكعك وشريك وخبز يابس ولبن وبوسطه دقة وجبن فأكلنا ما تيسر وسقانا قهوة في فنجان كبير، وتحدث معنا ساعة ودعا لنا بخير وودعناه وسافرنا في الوقت، ولم أره غير هذه المرة، وهو إنسان حسن جامع للفضايل، توفي في السنة ولم يخلف بعده مثله.

ومات السيد الإمام العلامة الفقيه النبيه السيد مصطفى بن أحمد بن محمد البنوفري الحنفي، أخذ الفقه عن والده وعن السيد محمد أبي السعود والشيخ محمد الدلجي والشيخ الزيادي وغيرهم، وحضر المعقول على علما العصر كالشيخ عيسى البراوي وغيره، ودرس في محل والده بالقرب من رواق الشوام إلا أنه لم يكن له حظ في الطلبة، فكان يأتي كل يوم الجامع ويجلس وحده ساعة ثم يقوم، ويذهب إلى بيته بسويقة العزى، وكان لا يعرف التصنع وفيه جذب ويعود المرضى كثيرًا الأغنيا والفقرا، توفي في السنة، رحمه الله.

ومات العلامة المتقن والفهامة المتفنن أحد الأعلام الرواسخ وشيخ المشايخ الفقيه النحوي الأصولي المعقولي المنطقي ذو المعاني والبيان وحلال المشكلات بإتقان الصالح القانع الورع الزاهد الشيخ محمد بن محمد بن محمد بن محمد بن مصطفى بن خاطر الفرماوي الأزهري الشافعي البهوتي، نسبة إلى قبيلة البهتة جهة الشرق، ولد بمصر ورباه والده وحفظ القرآن والمتون، وحضر على أشياخ العصر الملوي والجوهري والطحلاوي والبراوي والبليدي والصعيدي والشيخ علي قايتباي والمدابغي والأجهوري، وأنجب في الفقه والمعقول ودرس وأفاد الطلبة واشتهر بالفتوح على كل من أخذ عنه حتى صار له المشيخة على غالب أهل العلم من الطبقة الثانية.

وكان مهذب النفس جدًّا لين الجانب متواضعًا منكسر النفس لا يرى لنفسه مقامًا، يجلس حيث ينتهي به المجلس ولا يتداخل فيما لا يعنيه مقبلًا على شأنه ملازمًا على الاشتغال والإفادة والمطالعة.

ومما اتفق له أنه قرا البخاري والمنهج صبيحة النهار والقطب على الشمسية في الضحوة والأشموني وقت الظهر وابن عقيل بعد العصر والشنشوري بعد المغرب كل ذلك في آن واحد، ويحضره في ذلك جل الأفاضل وهذا لم يتفق لغيره من أقرانه، ولم يزل على حالته حتى توفي في آخر يوم من رجب من السنة، وخلف ولده العمدة الفاضل الصالح الشيخ مصطفى على قدم والده وأسلافه من الإفادة وملازمة الإقرار، أعانه الله على وقته ونفع به.

ومات الشيخ الإمام العلامة والنحرير الفهامة محمد بن عبد ربه بن العزيزي الشهير بابن الست، ولد سنة خمس عشرة وقيل ثماني عشرة وماية وألف بمصر، وسبب تسميته بابن الست أن والدته كانت سرية رومية اشتراها أبوه وأولدها إياه وكان قد تزوج بحراير كثيرة فلم يلدن إلا الإناث حتى قيل إنه ولد له نحو ثمانين بنتًا فاشترى أم ولده هذا فولدته ذكرًا ولم تلد غيره ففرح به كثيرًا ورباه في عز ورفاهية، وقرأ القرآن مع الشيخ علي العدوي في مكتب واحد فلذلك اعتشر بالمالكية وصار مالكي المذهب.

ولما ترعرع أراد الانتقال إلى مذهب الإمام الشافعي — رضي الله عنه — فرأى الشافعي في المنام وأشار عليه بعدم الانتقال فاستمر مالكي المذهب، وتفقه على الشيخ سالم النفراوي واللقاني والشبراملسي، وسمع على الشيخ عيد بن علي النمرسي المسلسل بالأولية وأوايل الكتب الستة وسنن النسائي الصغرى المسماة بالمجتبي والمسلسل بالمصافحة والمشابكة والسبحة وغير ذلك، وأخذ عليه أيضًا ملا عصام على السمرقندية وشرح رسالة الوضع وشرح الجزرية لشيخ الإسلام وأوايل تفسير القاضي البيضاوي مع البحث والتدقيق، وأجازه بما يجوز له وعند روايته بشرطه، وأخذ المعقول عن الشيخ أحمد الملوي والشيخ عبده الديوي والشيخ الإطفيحي والخليفي وأخذ طريق الشاذلية عن الشيخ أحمد الجوهري والشيخ الملوي، وهما أخذاها عن سيدي عبد الله بن محمد المغربي القصري الكنكسي.

وكان المترجم على قدم السلف لا يتداخل في أمور الدنيا ولا يتفاخر في ملبس ولا يركب دابة ولا يدخل بيت أمير ولا يشتغل بغير العلم ومدارسته، ويشهد له معاصروه بالفضل وإتقان العلوم والديانة.

وسمعت منه المسلسل بالأولية وأجازني بمسموعاته ومروياته وتلقيت عنه دايرة الشاذلية، وأجازني بوضعها ورسمها ونقطة مركزها كل ذلك في مجلس واحد بمنزلي ببولاق بشاطي النيل سنة تسعين وماية وألف.

وكان يجيني ويودني ويقول لي: أنت ابن خالتي لكون والدتي ووالدته من السراري.

وصنف حاشية علي الزرقاني على العزية وهي مستعملة بأيدي الطلبة وديباجة، وخاتمة على أبي الحسن على الرسالة، وخاتمة على شرح الخرشي، وديباجة على إيساغوجي في المنطق، وحاشية علي الحفيد على العصام، وتكملة على العشماوية، وشرحًا على آية الكرسي، وشرحًا على الحوضية في التوحيد، ولم يزل مقبلًا على شأنه وحاله حتى توفي في هذه السنة عن أربع وثمانين سنة، رحمه الله تعالى.

ومات السيد الأجل المبجل السيد أحمد بن عبد الفتاح بن طه بن عبد الرزاق الحسيني الحموي القادري، ولد أبوه السيد عبد المفتاح بحماة، وارتحل بكريمته رقية وفاطمة ابنة السيد طه فزوج الأولى بأحد أعيان مصر محمد بن حسين الشيمي وهي أم أولاده حسن وحسين وعثمان ومحمود ورضوان، وتزوجت السيدة فاطمة بعلي أفندي البكري أخي سيدي بكري الصديقي فأولدها محمد أفندي نقيب السادة الأشراف، وهو والد محمد أفندي الأخير، وأقام والده السيد عبد الفتاح بمصر مدة وتنزل في بعض المناصب ثم توجه إلى ملك الروم، فأكرمه ووجه له بعناية بعض الأعيان ونقابة الأشراف بمصر، وحضر إلى مصر وقري المرسوم الوارد بذلك، وكاد أن يتم له الأمر فلم يمكن من ذلك بتقوية بعض الأمرا وحنقوا عليه، حيث توجه من مصر إلى الروم خفية ولم يأخذ منهم عرضًا وجعل له شي معلوم من بيت النقابة وبقي ممنوعًا عنها.

وكان سيدًا محتشمًا فصيح اللسان بهي الشكل، وتزوج ببنت سيدي مكي الوراثي وولد له منها السيد أحمد المترجم وتربى في العز والرفاهية ببيتهم المعروف بهم بالأزبكية بخط الساكت، وكان إنسانًا حسنًا مترفهًا في مأكله وملبسه منجمعًا عن الناس إلا لمقتضيات لا بد له منها، توفي — رحمه الله — في هذه السنة ولم يعقب.

ومات الشيخ الصالح الماهر الموفق علي بن خليل شيخ القبان بمصر، وكان ماهرًا في علم الحساب ومعرفة الموازين والقرسطون المعروف بالقبان ودقايقه وصناعته، ولما عني المرحوم الوالد بأمر الموازين وتصحيحها وتحريرها في سنة اثنتين وسبعين وصنف في ذلك العقد الثمين فيما يتعلق بالموازين، فطالعه عليه وتلقاه عنه مع مشاركة الشيخ حسن بن ربيع البولاقي وأتقنا ذلك وتميزا به دون أهل فنهما.

وكان المترجم إنسانًا بشوشًا منور الشيبة ولديه آداب ونوادر ومناسبات، وحج مرارًا وأثري وتمول ثم تقهقر حاله ولزم بيته إلى أن توفي في هذا العام ولم يخلف بعده مثله.

ومات الشريف الحسيب النسيب السيد مصطفى بن السيد عبد الرحمن العيدروس وهو مقتبل الشبيبة، وصلي عليه بالأزهر ودفن عند والده بمقام العتريس تجاه مشهد السيدة زينب وكانت وفاته رابع عشرين ربيع الأول من السنة، رحمه الله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤