المأزق!

كانت رسالة «أحمد» الشفرية تقول: «من المجموعة الأولى ﺑ «إيطاليا» إلى المجموعة الثالثة ﺑ «فرنسا» … نريد الاطمئنان عليكم، هل بدأتم؟! … ماذا عندكم؟! … المجموعة الثانية فقدت الاتصال بكم!»

وانتظر «أحمد» دون جدوى … فكرر الرسالة مرة أخرى … ولم يتلقَّ أيَّ رد!

أخذَت «إلهام» جهاز اللاسلكي وبدأت المحاولات من جديد … وبعد عشر محاولات … نبض جهاز اللاسلكي ودبَّت فيه الروح لتتلقى «زبيدة» الرسالة التالية: «من المجموعة الثالثة ﺑ «فرنسا» إلى المجموعة الأولى ﺑ «إيطاليا» … نحن بخير لكننا لم نتحرك بعد … «لورا» الساحر لا ينوي مقابلتنا … المجموعة الثانية تعقد الآن الصفقة مع «جون بوستر» حسب ما تلقينا آخر رسالة ولكنهم في مأزق حسب رسالتهم!»

انتهت إلى هنا رسالة المجموعة الثالثة بقيادة «عثمان».

قال «أحمد» مخاطبًا «إلهام»: لقد صار من الضروري عقد اجتماع طارئ للمجموعات لتنسيق العمل والمسافة بيننا وبينهم ليست كبيرة، ثم أكمل: ماذا حدث للمجموعة الثانية … لقد كنا قلقين على المجموعة الثالثة … وأصبح الآن القلق على مجموعة «بو عمير»!

قالت «إلهام»: لعلهم لا يستطيعون الآن إرسال أو استقبال أية رسائل.

تدخَّلت «زبيدة» في الحديث قائلة: فلنرسل للمجموعة الثالثة رسالة نستوضح فيها عن المأزق الذي وقعَت فيه المجموعة الثانية.

فوافق «أحمد» على الفور وأمسكَت «هدى» بجهاز اللاسلكي، وأرسلت رسالة إلى المجموعة الثانية، وسرعان ما تلقَّوا الإجابة: «جون بوستر» شكَّ في الأمر، وربما تتعرَّض المجموعة لمتاعب قريبة. كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة مساءً في هذه اللحظة عندما قرر «أحمد» الاتصال ﺑ «باريزي» الذي لم يحضر حسب الاتفاق!

أمسك «أحمد» بسماعة التليفون … وبدأ الاتصال ﺑ «باريزي»، وكان الردُّ دائمًا رنينَ جرس متقطع، ومعناه أن الخط مشغول … وحاول «أحمد» من جديد … دون جدوى! وأخيرًا طلب الرقم وضغط على زر صغير بجهاز التليفون ليكرر طلب المكالمة «أتوماتيكيًّا» … كانت «إلهام» و«زبيدة» في تلك الأثناء تقومان بإعداد طعام العشاء حين تلقَّى «أحمد» مكالمة «باريزي»، كان «باريزي» هو المتحدث … قال ﻟ «أحمد»: المعذرة! لم أستطع الحضور لظروف طارئة … مستر «دونا» في انتظاركم غدًا في الموعد نفسه … جهِّزوا نقودكم ولا تنسوا العمولة … وانتهت المكالمة …

وضع «أحمد» سماعة التليفون … وقد اتسعَت عيناه دهشة لما سمع، فسألته «هدى» وقد لاحظت عليه التغير المفاجئ الذي أصابه بعد إجراء المكالمة!

قال «أحمد»: إن الأمور تسير بسرعة، ومن الواضح أن «باريزي» تعرَّض لمشكلة، وإلا فما معنى جهِّزوا نقودكم ولا تنسوا العمولة؟!

قالت «هدى»: لعل أحدهم كان معه أثناء الاتصال!

قال «أحمد»: وهذا ما استنتجته فعلًا.

تدخَّلت «إلهام» و«زبيدة» في الحديث أثناء تناول العشاء.

فقالت «إلهام»: تُرى هل شك مستر «دونادوني» فينا؟!

قالت «زبيدة»: قد يكون هذا صحيحًا رغم أن كلَّ شيء كان يبدو طبيعيًّا!

قال «أحمد»: على كل حال سنعرف غدًا … سأذهب ومعي «هدى» فقط، على أن تبقى «إلهام» ومعها «زبيدة» هنا، وسنأخذ معنا جهاز اللاسلكي الصغير، ويمكنكم الاتصال بنا ومعرفة ما يحدث لنا أثناء مقابلة «دونادوني».

كان الوقت قد تأخر بالشياطين، فخلد «أحمد» للنوم، بينما ظلت «إلهام» ومعها «هدى» و«زبيدة» بعض الوقت قبل أن يغلبهنَّ النعاس في ساعات الليل المتأخر، فيغطن في نوم عميق.

•••

حمل الصباح الباكر خيوط الشمس الذهبية التي أشرقَت قليلًا من الوقت على نوافذ غرف الشياطين قبل أن تحجبَها السحب فتختفي ومعها الدفء الذي سرَى في أوصال «روما» الباردة في هذا اليوم الذي يُنبئ بهطول الأمطار.

استيقظ «أحمد» في السابعة صباحًا، وأعدَّ لنفسه كوبًا من الشاي، ووقف في شرفة غرفته يراقب بداية الحياة وهي تتحرك عبر الشوارع الواسعة في «روما» عاصمة «إيطاليا» … ورائحة الإسباجيتي وفطائر البيتزا تحيط بالمكان.

استيقظَت «إلهام» بعده وتَبِعتها «زبيدة»، وكانت «هدى» آخر من استيقظ من الشياطين … وحول ساندويتشات الإفطار جلسوا يتناقشون في تفاصيل المقابلة مع «دونادوني» حين سمعوا جهاز اللاسلكي يُصدر ذبذبات والتي تعني أن ثمة رسالة آتية … التقطَت «إلهام» جهاز اللاسلكي وترجمَت الرسالة الشفرية التي تقول: «من المجموعة الثالثة ﺑ «فرنسا» إلى المجموعة الأولى ﺑ «إيطاليا» … الساحر وافق على لقائنا فجأة، وهذا يقلقنا … «رشيد» في الطريق إليكم، لا أخبار من مجموعة «ألمانيا» …» وانتهت الرسالة. قال «أحمد» وهو ينظر إلى ساعته: لقد اقترب موعد لقاء «دونادوني»، ولا أعرف كيف سيكون الاتصال ﺑ «باريزي»! وقبل أن يُكملَ دقَّ رنين الهاتف.

كان المتحدث على الطرف الآخر … «رشيد» قال بكلمات مختصرة: إنني أتحدث من محطة السكة الحديد، وسأكون عندكم بعد ساعتين من الآن، معي أخبار كثيرة … إلى اللقاء!

وضعَت «إلهام» سماعة الهاتف، فدقَّ الجرس مرة أخرى، كان «باريزي» هو المتحدث هذه المرة، قال بلهجة سريعة: مسيو «أحمد» … فناولَت «إلهام» سماعة الهاتف إلى «أحمد» الذي تحدَّث قليلًا في تساؤل: مَن أنت؟!

كان الردُّ: «باريزي». وأكمل: إنني في الطريق إليكم من أجل لقاء مستر «دونا» … بعد نصف ساعة … كونوا مستعدين. وانتهت المكالمة.

قال «أحمد» بعد أن وضع السماعة مكانها: إنني في شدة الحيرة لما يحدث!

قالت «إلهام»: إن الحيرة فقط في انقطاع أخبار المجموعة الثانية، أما من ناحية لقاء مستر «دونا» فلستُ قلقةً وإن استشعرتُ لبعض الوقت أن «دونا» ارتاب في أمرنا رغم أنه ليس هناك ما يدل على ذلك!

قال «أحمد»: سنعرف عندما يصل «باريزي». وأكمل: قد تكون مع «رشيد» بعض الأخبار … كانت الساعة تقترب من العاشرة والنصف صباحًا حين سمع الشياطين طرقاتٍ على باب الغرفة، كان عامل الفندق هو الطارق … قال بلكنة إنجليزية غير سليمة: مستر «باريزي» بانتظاركم أسفل الفندق … ثم أغلق الباب وانصرف.

كان «أحمد» و«هدى» قد أتمَّا الاستعداد للرحيل فهبطَا درجات السلم؛ نظرًا لانشغال المصاعد في هذا الوقت.

كان «باريزي» جالسًا على عجلة القيادة في السيارة «الليموزين» الزرقاء، وقد لاحظ «أحمد» بداية الارتباك الذي ظهر عليه فجأة بمجرد رؤية «أحمد» و«هدى».

قال «أحمد» مخاطبًا «باريزي»: لم يزل هناك متسعٌ من الوقت!

قال «باريزي» وكلماته المرتعشة تزيد حيرة «أحمد»: لقد طلب مستر «دونا» لقاءَكم الآن. ثم همس بصوت خفيض: الوقت متأخر … ثم فتح باب السيارة ﻟ «أحمد»، وقال بصوتٍ عالٍ: أين بقيتكم؟! فقال «أحمد»: أنا صاحب الصفقة، وهذه حارستي الخاصة، وأشار إلى «هدى» … أما الحارستان الأخريان فلم يَحِن موعدُ استلامهما العمل بعدُ …

فأومأ «باريزي» برأسه موافقًا وهو يقول: إن هذا لا يعنيني، فقط أنا أريد عمولتي. وأكمل: أرجو إنهاء الصفقة سريعًا!

صعد «أحمد» السيارة ومعه «هدى» وسرعان ما انطلقَت بسرعة لتخترق شوارع «روما»، و«باريزي» لا يتحدث، بل نظر إلى «أحمد» نظرةً فَهِم منها «أحمد» أن هناك جهازَ تصنتٍ بالعربة و«باريزي» يطلب منه التحدث بحساب.

قال «أحمد»: مسيو «باريزي» … ليس لديَّ وقت، أريد إنهاء الصفقة بسرعة؛ فالرجال ينتظرونني وقد اتصلوا بي لحاجتهم إلى السلاح!

فأجاب «باريزي» بارتياح وقد أحس بأن «أحمد» قد فهم ماذا يقصد: إن مسيو «دونا» سيُنهي الصفقة قريبًا، فقط لا تنسَ أتعابي وعمولتي على كل قطعة.

فقال «أحمد»: هل تشك في أمانتي مسيو «باريزي»؟!

ولم يُجِب «باريزي»، بل نظر إلى «أحمد» نظرةً لها معنًى، وكرَّر نفس النظرة ﻟ «هدى» التي ابتسمَت لتُهدئ من روع «باريزي»!

كانت العربة «الليموزين» قد اقتربَت من كنيسة «العذراء» قبل أن تنحرف يمينًا وتقف أمام مبنى الأثرياء.

وما إن هبط «أحمد» و«هدى» وتَبِعهم «باريزي» حتى شعر «أحمد» بأن هناك سيارة أخرى قد توقفت خلفهما، فعرف على الفور بأن هذه السيارة كانت في أعقابهما.

صعد «أحمد» و«هدى» وبصحبتهما «باريزي» إلى جناح «دونا»؛ حيث كان في انتظارهم. صافح «دونادوني» «أحمد»، وقال: مرحبًا … ثم أكمل متسائلًا: هل أحضرت معك النقود؟

فأجاب «أحمد»: النقود جاهزة وقتما تريد.

فقال «دونا»: لا بأس، سنذهب الآن لرؤية الأسلحة بعدها ستدفع الثمن ولك مطلق الحرية في نقل شحنتك إلى المكان الذي تريده، أو تدفع لنا ثمنَ النقل … وتنتظر الصفقة في المكان الذي تحدده.

قال «أحمد»: وهو كذلك.

نظر «دونادوني» لساعته، وقال وهو ينظر ﻟ «باريزي»: كم ستعطي لهذا السمسار؟

قال «أحمد»: أعتقد أن هذا لا يخصك … أليس كذلك؟!

ابتسم «دونا» وهو يردِّد: وهو كذلك!

قال «أحمد»: الآن هيَّا بنا لنستلم الصفقة!

فأجاب «دونادوني»: بعد لقاء الزعيم.

وشعر «أحمد» برجفة أصابَت بدنَه، ونظر ﻟ «هدى» بسرعة وقد لمعت عيناه ببريق الترقب، ثم سأل «أحمد» «دونادوني» سؤالًا بدَا ساذجًا: ومَن هو الزعيم؟!

ضحك «دونا» بصوتٍ عالٍ، وقال: ستعرفه بعد قليل … استقل «أحمد» و«هدى» سيارة «دونا» المرسيدس الفارهة من طراز «الشبح» الحديثة جدًّا … بينما ارتسم الرعبُ على وجه «باريزي» وهو يشيع «أحمد» بنظرات الوداع … قال «دونادوني» وهو ينظر ﻟ «باريزي»: لا تخف ستصلك عمولتك كاملة. ثم ضحك ضحكة مخيفة شعرت بها «هدى»، فنظرَت ﻟ «أحمد» دون أن تنطق بكلمة واحدة!

انطلقَت السيارة المرسيدس القوية بسرعة لتطوي شوارع «روما» الهادئة في تلك الساعة. كان «دونادوني» هو الذي يقود العربة، وكان من الواضح أيضًا أنه بارع في القيادة … وتركت العربة مدينة «روما» بعد ساعتين من سرعتها القصوى، وبدأت في طريق زراعي طويل زيَّنَته الأشجار على الجانبَين … وأدار «دونا» كاسيت السيارة وانطلقت الموسيقى الصاخبة لتملأ العربة المرسيدس المريحة بنغماتها المتناثرة بلا معنى ظاهر!

وظلت السيارة في السير في الطريق الزراعي الذي بدأ ينحني بشدة يمينًا ويسارًا إلى أن انحرفَت السيارة في طريق ضيق غير ممهد، وبعد ساعة أخرى من السير … هدأ «دونادوني» من سرعة السيارة، فنظر «أحمد» خلفه، فشاهد ما لم يكن في الحسبان؛ فقد رأى ثلاث عربات إحداهما «الليموزين» الزرقاء، وكان «باريزي» جالسًا بجانب رجل آخر كان يقود السيارة، وتوقَّفت سيارة «دونادوني» المرسيدس الحمراء أمام منزل صغير بُنيَ على شكل حدوة الفرس، وسرعان ما لحقت بهما السيارات الثلاث الأخرى.

هبط «أحمد» و«هدى» من السيارة، وتبعهما «دونادوني» الذي رمق «أحمد» بنظرة سريعة سرَت في بدنه بإحساس غريب في الوقت نفسه الذي شعر فيه بدفء جهاز اللاسلكي الصغير المثبت في مكان آمن من جسده.

دخل «دونادوني» المنزل الصغير المحاط بكمٍّ هائل من الحراس المسلحين بأحدث الأسلحة، وما إن شاهد «أحمد» بعض الفتيات المسلحات حتى عرف أنه سيلتقي بأحد الزعماء المهمين في تجارة السلاح، ولكنه عندما دخل إحدى الغرف بناء على أوامر «دونادوني» كان بانتظاره هو و«هدى» مفاجأة لم يتوقعها أحد!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤