الفصل الأول

المنظر الأول

(في معسكر صلاح الدين)

الجزء الأول

صلاح الدين :
إن لم أصن بمهندي ويميني
ملكي فلستُ إذًا صلاح الدين
تحمي الممالك ربها أما أنا
فأُريد أحمي الملك لا يحميني
زعم الفرنج بأنني أعنو لهم
كرهًا وأرضى صفقة المغبون
وأعود عنهم تاركًا ملكي الذي
أهداه لي ربي الذي يهديني
قد غرهم ماضي انتصارهم الذي
عرفوه قدمًا قبلما عرفوني
حتى كأنهم نسوا ما كان في الإسكـ
ـندرية عندما شهدوني
لما رددت الخيل دامية الطلى
وهزمتهم مثل الظباء العين
وفتحت ما قد أغلقوا وحللت
ما قد أوثقوا وعدلتُ إذ ظلموني
وأخذت غزة والشآم وساحت الـ
ـبيت الحرام الطاهر الميمون
بيت له أسرى الرسول فكان لي
بيتًا أقيه من العدى ويقيني
ملك وصلت إلى ذراه مجاهدًا
فيه بنصر كالصباح مبين
مارسته وأنا ابن عشرين وقد
نافت سني به على الخمسين
لكنني ما زلت صاحب عزمة
أرمي بها الغارات إذ ترميني
ليس المشيبُ بخافض العالي ولا
سن الشباب برافع للدون
أنا مثل نصل السيف أخلق غمده
من طول ما صقلته كف قيون
هادنتهم كرمًا لحقن دمائهم
طوعًا لشرع إلهي المسنون
مع ذاك لستُ بمنكر أبطالهم
وشديد بأسهم ولو نكروني
فلقد رأيت لهم بساحات الوغى
هجمات ليث دون باب عرين
رهنًا تكون شجاعة الأبطال إذ
يبدو قرين منهم لقرين
لا خير في نصر الشجاع إذا بدا
منه على ذا الضعف أو ذي الهون
لكنما فخر الشجاع بنصره
قهرًا على ذي عزة مأمون
وأنا بهذا أزدهي وستظهر الـ
أيام من منا يقول خذوني

الجزء الثاني

(صلاح الدين – عماد الدين)
صلاح الدين : ما وراءك يا عماد الدين؟
عماد الدين : جيش يا مولاي يهدر كالبحر الزاخر وقد ملَّ من هذه الهدنة حتى اشتاق إلى القتال، وأمره معقود بلفظة من ألفاظك فمتى تأمر به؟
صلاح الدين : تعلم يا عماد الدين أنَّ الإفرنج هم الذين طلبوا الهدنة فهم الذين يجب أن يبدأوا بقطعها، وفوق ذلك فماذا تنفع الحرب ونحن قد حاربناهم حتى مللنا وملوا؛ وذهب من رجالنا ورجالهم عدد كثير سالت نفوسهم على شرفات السيوف وظبى الرماح في سبيل الله وجهاده؟ ألا تعلم أنني أُفضل هذه الهدنة على القتال؟
عماد الدين : وكيف ذلك يا مولاي؟
صلاح الدين : ذلك أَنَّني أرجو أن يعقبها صلح وسلام ترجع به السيوف إلى أغمادها، أو أن يطول أمرها فيقع الشقاق بينهم فيختلفوا؛ فيكون لنا من اختلافهم تمام النصر غير أن نسفك دماء الرجال؛ لأنك تَعْلَم أنهم قوم كثير والملوك والرؤساء وكل منهم يدعي السيادة لنفسه، ويُنازعها أخاه، ومن كان ذلك أمرهم فإن القتال إليهم أقرب من نصال سيوفهم إلى أغمادها، ولعلهم لا يطول شأنهم حتى يثور فيهم الشقاق؛ فينهض بعضهم على بعض، ويكفينا العدو حرب العدو.
عماد الدين : إنها سياسة حسنة يا مولاي، وبها بلغت الملك لا بالسيف وحده، ولكنني أرى أنهم متفقون على رئيس قد جعلوه سيد أمورهم ووليَّ شئونهم، وهو قلب الأسد صاحب جيش الإنكليز؛ لأنَّه أشدهم بأسًا وأصدقهم عزيمة، وله قوة هائلة وشأن خطير.
صلاح الدين : طالما سمعت عن بأس هذا الملك، وطالما رأيته في ساحة الوغى غارقًا في حديد درعه وهو يضرب بسيفه الطويل حتى لقد أحببته، وملت إليه، وودت أن يجري لي معه حديث، وأن أرى وجهه في مقابلة بيني وبينه.
عماد الدين : أنت يا مولاي تميل إلى مثله؟
صلاح الدين : نعم. فما يُحب الشجاع إلا الشجاع، ولا يميل إلى العظيم إلا العظيم؛ فخلِّ الغيرة والحسد إلى قلوب النساء، فما نحن إلا رجال، ومع ذلك فكيف تحسبني أميل إليه؟ ألا تعلم أنني أحبُّ أن أراه خصمي في ساحة الحرب، ومنازلي في معترك الخيل، وإنني إذا أردت النصر فعليه، وإذا رغبت فخرًا في قتال فلكي أنال ذلك في قتاله؟ وإلا فأي فخر لصلاح الدين إذا لم يقهر أبطالًا ولم تنازله أبطال؟ وفوق ذلك فإنهم إذا كانوا قد جعلوا هذا الملك رأسًا لهم؛ فإنه لا يمنع اختلاف أحوالهم واضطراب أمورهم، وما هي إلا نار يُغطيها رماد، وسينكشف لك لظاها متى نسفت ريح الحسد رمادها عن قلب ملك فرنسا وملك النمسا وغيرهما من ملوك هذا الجيش الذي لم أرَ أحدًا منهم رضيَ بقلب الأسد إلا بلسانه، ولا سلم بإقامته رئيسًا إلا خجلًا من إخوانه، وأقل كلمة بينهم تظهر الحقد من خباياه؛ فيكشف بها كل واحد منهم عن دخائل لبه، وباطل نياته، بل هم ليسوا على اتفاق إلا في ساعة الصدام، ولكنهم متى رجعوا إلى أنفسهم فكل واحد منهم الملك الهمام؛ فلا يغرنك منهم هذا السكون الآن، فيا ويل القتال من القتال.
عماد الدين : ولكن ألا يعلم مولاي السلطان أسباب هذه الهدنة؟
صلاح الدين : ذلك ما لم أعرفه إلى الآن، ولا بُدَّ أن يكون له سر خفي ستظهره لنا الأيام، ومهما يكن من أمر هذه الهدنة فلا خوف علينا منها؛ لأننا في بلادنا، ومنازلنا بين قومنا وعشائرنا، ولكن الخوف عليهم لأنهم غرباء، ولكل ملك منهم مملكة تدعوه شئونها وأحكامها، بل لكل رجل منهم أهل وأوطان يشتاقها ويصبو إليها، ولا بُدَّ من أن ينتهي أمرهم إلى ما قلتُ لك من الشقاق والنفور … ولكن من بالباب.

الجزء الثالث

(صلاح الدين – عماد الدين – خادم)
خادم : الشعراء يا مولاي ومعهم مدائح السلطان.
عماد الدين : أفي مقام قصائد نحن؟ وهل هذا موضع الشعراء؟!
صلاح الدين : إن السلطان سلطان يا عماد الدين في السلم والحرب، والشعراء شعراء في كل حال، فلا ينبغي أن يشغلنا عنهم زمان ولا مكان؛ فإنما هم ناشرو فضلنا، وألسن مدائحنا، والمخلِّدُون لتذكارنا على أعقابنا، وكفى من فضلهم علينا أنهم لا يذكرون لنا إلا الحسنات، وما ظنك بهرم لولا سنانه؟ والرشيد لولا أبو نواسه؟ بل ما ظنك بسيف الدولة لولا متنبيه وأبو فراسه؟! الشعراء يا عماد الدين زينة مجالسنا، ومؤرخو أعمالنا، وفاكهة ندمائنا، وأدلاء فضلنا ومآثرنا، وحكماء عصورنا وممالكنا، وقد وصفهم رسولنا وامتدح شعرهم فقال: «إنَّ مِنَ الشِّعْرِ لَحِكْمَةٌ» وقصارانا أو نقتدي برسول الله ونعم المقتدى.
يا غلام، قُم بواجب إكرامهم إلى أن أحضر، وقل للوزراء والقواد أن يدخلوا (يخرج الخادم) وأنت أيُّها الصديق فاكتم ما دار بيني وبينك من أمر الهدنة والأمل بانشقاق العدو وخلافه؛ فإني أخشى أن يفشو ذلك في الجيش فتوهن عزائمهم ويتولاهم الغرور والانخداع في نفوسهم، ويتكلوا في أمرهم على هذا الأمل من عدم القتال، وقد لا تصدق الآمال فتسوء العقبى وينقلب المصير.

الجزء الرابع

(صلاح الدين – عماد الدين – بكر – عامر – خالد – زيد – حسان)
صلاح الدين : لقد دعوتكم لأسألكم عما في أيديكم من أمر الجيش، وأمر الرعية، وأنا واثق من أنكم قائمون في شئونكم قيامًا تشكرون عليه، وتُؤجرون من بعده، ولكنني أُريد أن أزيد في حضكم على الزِّيادة في أعمالكم، فكيف حال الجيش يا بكر؟
بكر : بخير يدعون لمولانا السلطان، وكلهم رهن أمره وإشارته.
صلاح الدين : لقد جلت فيهم أمس متنكرًا فسمعت أحدهم يشتمني ويندد بي.
عامر : يشتم السلطان؟!
صلاح الدين : نعم، ويزعم أنهُ ذو عيلة وأن راتبه قليل لا يكفيه.
خالد : إنه يستحق الموت.
صلاح الدين : لم تصب أيها الوزير، بل هو يستحق إجابة طلبه وإمساك لسانه عنا؛ فإنما نُريد أن ينقاد إلينا الجند عن محبة لنا لا عن خوف منا، فابحث عنه أيها القائد، وزد في أُجرته، فإنَّه يُدعى سالم بن حسان، ولا تخبره أَنَّ ذلك كان من قِبَلي؛ وأنني علمت بالأمر لئلا يكبر ذلك عليه، وأنت أيها الوزير، قد أمسكت أمس رجلًا كان يحاول قتلي، فأطلق الآن سراحه؛ فإنني أعفو عنه وقُل له ذلك عني، وأنت قد سلمت إليك أمر الرجل الذي شكا إليَّ من خصمه، فأنصف بينهما فالعدل أساس الملك.
حسان : ما هذا الملك العظيم الماجد؟ أيُعطي ويعفو ويعدل في حين واحد؟!
زيد : لا تعجبنَّ فكم له من مثلها، والشيء من مأتاه لا يستغرب.
صلاح الدين : ماذا تقول يا زيد، ويا حسان؟
حسان : نذكر ما رأينا من العدل.
زيد : نمدح أعمال السلطان.
صلاح الدين : لا مدح على الواجب؛ فكلنا في قضاء الحق أعوان، ولعمري إذا لم يكن الملك مصدر العدل والعفو والإحسان؛ فمن يقدر أن يفعل ذلك ومن يرجو الخير من الإنسان!
الخادم : مولاي بالباب رسول من قبل الإفرنج.
صلاح الدين : قُل له أن يدخل، ماذا عساه أن يحمل إليَّ؟
الخادم : إنه أبى أن ينزع سيفه كما هي العادة.
صلاح الدين : خل سيفه عليه؛ فنحن لا نخاف السيوف (يدخل وليم).

الجزء الخامس

(المذكور – وليم)
وليم : السلام عليك أيها السلطان ورحمة الله وبركاته.
صلاح الدين : وعليك السلام أيها الرسول، إنني أراك تحسن العربية.
وليم : قد درستها يا مولاي حق دراستها؛ فوجدتها من أتم لغات الدنيا وأكملها إتقانًا في أنواع البلاغات، لو لم يكن فيها إلا قرآنكم الشريف لكفاها فخرًا في الفصاحة على كل اللغات.
صلاح الدين : يسرني أنْ أَرَى فيكم ذلك معاشر الإفرنج، فإنكم تعرفون الصواب، والآن فماذا تريد؟
وليم : إنَّ مولاي قلب الأسد مريض بالحمى.
صلاح الدين (بنفسه) : قد عرفت الآن سبب الهدنة.
وليم : وقد أرسلتني امرأته الملكة، وأخته الأميرة جوليا أستأذنك بالسماح لهما بزيارة دير هنا وراء معسكركم؛ تسألان الله فيه شفاء المريض.
صلاح الدين : قد أذنتُ لهما، فاذهب يا بكر مع الرسول، ورافقهما إلى حيثُ تُريدان، وإذا مسَّهُما سوء فأنت مسئول عنه؛ فإن الضيف يجبُ أن يكرم.
وليم : وقد أرسل لك سيدي الملك هذا الكتاب.
صلاح الدين : سأنظر فيه. اخرجوا عنا الآن (يخرج الجميع إلا عماد الدين).

الجزء السادس

(صلاح الدين – عماد الدين)
صلاح الدين (بعد أن يقرأ الكتاب) : ما بالك لم تخرج معهم؟
عماد الدين : أنا خارج عن هذا الأمر.
صلاح الدين : إذن أنت تدري أنني أحبك يا عماد الدين.
عماد الدين : نعم يا مولاي؛ لأنني أحبك أنا أيضًا، والقلب دليل على القلب؛ ولكنني خائف من أن يكون في زيارة هذه الملكة سرٌّ يعودُ إلينا بالشر؛ فكيف ترى؟
صلاح الدين :
إننا لا نخاف منهم رجالًا
أترانا نخاف منهم نساء
قد رأوا من قتالنا ما ثناهم
عن لقانا أو أن يعيدوا اللقاء
يفعل الله ما يشاء فلا تجـ
ـزع وكن شاكرًا لما قد شاء
إنني قد عزمت عزمًا ستدريـ
ـه وأرجو أن لا تزيل الخفاء
وسألقي عليك ما قد حوى الـ
ـقرطاس فاذهب لنسمع الشعراء

المنظر الثاني

(في ساحة أمام دير)

الجزء السابع

(جوليا – أوجين)
أوجين : سيدتي ما بالك حزينة واقفة في هذا المكان، ألا تتبعين الملكة إلى الهيكل، وتطلبين شفاء الملك كما تفعل الآن؟
جوليا : آه يا أوجين، إنك لا تعرفين سبب أحزاني، ولو علمت لعذرتني على مصابي وأشجاني، بل رأيت أنني أحق بالبكاء من أخي قلب الأسد، لأنني مريضة القلب يا أوجين، وما هو إلا مريض الجسد، ولا يبعد أن يزول مرضه ويشفى من هذا الداء، أمَّا أنا فهيهات أن يكون لي دواء، وإن كان فهيهات أن يكون لي منه شفاء.
أوجين : سيدتي لقد مضت عليك شهور، وأنت تكتمين أمرك عني، ألست أنا رفيقة صباك، فما بالك تخدعينني، وأنت كأنك تخافين مني؟
جوليا : هل قلت لهذا الفارس الذي أوصلنا أنني أريد أن يأتي وأن أراه هنا؟
أوجين : نعم قد أمرته بحسب أمرك، ولكن ما معنى هذه المقابلة وما أدخل هذا الفارس في سرك؟
جوليا : إنَّ عليه يتوقف هنائي أو مصابي، وهو وحده سبب سروري بل سبب حزني واكتئابي، فإنني لا أكتم عنك ولا أخجل إذا بحت بالغرام؛ فأنا أحبه يا أوجين وليس الحب بحرام.
أوجين : أنت تحبينه …؟
جوليا : نعم، فإنَّ جوليا ابنة الملك العظيم، وأُخت الملك القادر، قد أحبت هذا الفارس الجميل وخضعت لأوامر حُسنه الباهر، فاعجبي من سلطان الغرام، واعلمي أن الحب هو الحاكم الآمر.
أوجين : سيدتي، ما هذا الكلام؟! بل ما هذا الغرام؟ أنت تتنازلين عن مقامك إلى مثل هذا المقام، ألا تعلمين أنك ابنة ملك وأخت أمير، فكيف تعشقين أحد أصاغر النبلاء، ومن يسمح لك بذلك؟
جوليا : إني أعرفُ ذلك يا أوجين، ولكن ليس في الحب سلطان ولا نبيل؛ بل إنَّ السُّلطان فيه من كان كريمًا جميلًا، وهو ذلك الفارس الجميل، ولا تحسبي أنني غير نادمة على حبي إياه، بل أنا أعلمُ أَنَّني مجرمة في كوني أحبه وأهواه؛ لأن نسل المقام له مقام لا يجب أن يدانيه أحد، فكيف بمن كانت مثلي ابنة ملك إنكلترا وأخوها قلب الأسد! آه يا أوجين، لو تعلمين كم أتمنى ألَّا أكون قد عرفت هذا الإنسان، بل كم أتمنى أن أكون في أبعد دركات الذل، وأدنى حالات الهوان؛ حتى لا يمنعني عنه رعية، ولا يمنعه عني سلطان، بل كم تمنيتُ أن أفقد سنين من عمري، وأن أنحط بمقدارها درجات من رفعة قدري، ولكن كل هذه أماني باطلة لا تنال، والحقيقة أنَّني عاشقة لا أمل لها، وأشد الحالات قطع الآمال. يا رب، لماذا لا تكون الناس طبقة واحدة في المقام؟ بل لماذا لا يكونون طبقات متفاوتة في القلوب والغرام؟ فقد كان يجبُ أن تكون القلوب على حسب المراتب والشأن؛ حتى لا يعشق الوضيع إلا الوضيع ولا السلطان إلا السلطان.
أوجين : كم أشفق عليك يا سيدتي من هذه الأحزان، ولكن إذ لم يكن لك به أمل فما هذه المقابلة الآن.
جوليا : هي تعلة ساعة يا أوجين، أعلِّل بها قلبي الولهان، وما أدري لعل الدهر يرفع الناس على حسب الاستحقاق؛ فيكون حبيبي أميرًا عظيمًا بما حواه من حسن الصفات ومكارم الأخلاق.
أوجين : أنا ذاهبة عنك يا سيدتي؛ فإنني أسمع وقع خطاه.
جوليا : اذهبي وأخبريني بقدوم الملكة، حتى لا تراني وإياه.

الجزء الثامن

(جوليا – وليم)
جوليا : هل بلغك أمري أيها الفارس أني أريد أن أراك؟
وليم :
إني أتيت إليك طوع غرامي
فهو الذي يقتادني بزمام
حب أطيع لأمره متسترًا
بالطوع خوف ملامة اللوام
فأنا مطيع طاعتين لأمرك العالي
وللسن البديع السامي
فمري بأيهما أردتِ فإنني
عبد إن عبد هوى وعبد مقام
جوليا :
إني دعوتك كي أراك فلا تزد
فيما تقول عن الهوى آلامي
فأنا أحبك لست أخشى اللوم من
نفسي فخذ حبي ودع إكرامي
واكتم غرامي فهو شؤم أمره
ولقد يعود عليك بالإعدام
وليم :
يا حبذا الإعدام لكن ما ترى
أرجو فعيشي الآن مثل حمامي
عيشي إذا أبعدت عنكِ منيتي
ومنيتي في أن أراكِ مرامي
إن لم يكن ما بيننا نسب فلا
بدع فلي قلبي وحد حسامي
قلب حويتُ به هواكِ وصارم
سأنال منه رئاسة الأقوام
يكفي فؤادي أنه لك عاشق
شرفًا ويكفيني المقام غرامي
جوليا : ويلاه ما أمرَّ الشرف الذي يبعدني عنك، بل ما أحلى الحب الذي يقربني منك، ولكن ما لنا ولهذا الشرف؛ فهو وهم باطل، ولندع كل شيء غير الوداد، فهو الصحيح الحاصل، ويكفيني إذا لم تجمع الأيام بيننا بعقد القران أن يجمع الحب بين قلبينا وأن يكون حبيبي فارس الفرسان.
وليم : لا تجزعي أيتها الحبيبة؛ فغدًا تدور رحى الحرب، وإذا لم أقدر على أخذكِ في ميدان الشرف، فأنا آخذك في معترك الطعن والضرب.
جوليا : بالله أيها الحبيب لا تعرض نفسك للخطر، واصرف عن فؤادك أميرة حزينة حكم عليها القدر، وعش سعيدًا بالبعد عني؛ فإنه يكفيني أنك تهواني، وقد كفاني أنك شاركتني في فؤادي، فلا تكُن شريكي في أحزاني.
وليم : لا يا سيدتي بل اتركي الحزن والتعاسة عليَّ؛ لأنَّه شتان بين أن أنظر إليكِ وأن تنظري إليَّ؛ أنا أنظر إليكِ نظرة طامع يمد طرفه إلى الشمس في علائها، وأنت تنظرين إليَّ نظرة الراحم كما تشرق الشمس على الأرض من سمائها، فابقي في مقامكِ وعزكِ، ودعيني في حزني وذلي، فإنَّ لك أسوة بالملكات قبلك ولي أسوة بالعاشقين قبلي، وقصارى القول أني أركع على قدميك وأضع على يدك قلبي وودادي، هذه أول مرة لمست يدكِ …
جوليا : ولكنها ليست أول مرة لمست بها فؤادي.
وليم : آه، ما أجمل هذه اليد، وما ألطف هذا الخاتم فيها، إنَّ مهجتي مثله في يدك، وهي رهن أمرك فمتى شئتِ فاطلبيها.
جوليا : أنت أسد يا حبيبي في ملابس الفرسان.
وليم : وأنتِ ملك يا حبيبتي في صورة إنسان.
جوليا : آه، كيف يفرق الشرف الجسمين وما هذا الوهم؟
وليم : ويلاه، كيف يجمع الغرام القلبين وما هذا الحكم؟
جوليا (تُشير إلى الهيكل) : إني أقسم بهذا الهيكل المقدس أنَّ الشرف لا يفرق بين قلبينا.
وليم (يُشير إلى جسمها) : وأنا أقسم بهذا الهيكل الشريف أنَّ هذا السيف يجمع بين جسمينا.
جوليا : لماذا لا نهرب معًا أيها الحبيب، ونُفارق هذه البلاد؟
وليم : ماذا؟ … أنا أهرب بكِ وأترك هذه الحرب وهذا الجهاد! لا يا سيدتي، فإني قد نذرت أن أجاهد في سبيل الله، وها أنا أجاهد في سبيله، وفي سبيل من أهواه، أنتِ تدرين أني من إيكوسيا ولا أمر لأخيك عليَّ، ولكنني قد أويتُ إلى لوائه لأجلك، فإنَّ أخا الحبيب حبيب لديَّ، فكيف أتركه وأترك رجاله الأمناء، ولم يسئ أحد منهم إليَّ. فاصبري يا سيدتي فكل حال لا بد أن تتحول، ولا بد أن يصل القدر إلى الأخير كما وصل إلى الأول …
ولكن من أرى، هذا صلاح الدين السلطان، فادخلي يا سيدتي إلى الهيكل، وأنا أتوارى عن هذا المكان.

الجزء التاسع

(صلاح الدين – عماد الدين)
صلاح الدين : هذا هو الهيكل الذي دخلته الملكة، ولننظرها لنؤدي لها واجب الإكرام والضيافة؛ وقد قيل لي: إن معها أخت الملك، وأنا أريد أن أراها.
عماد الدين : وأي دخل يا مولاي لأخته في هذا الشأن؟
صلاح الدين : ألا تذكر الكتاب الذي أتاني من أخيها، ألا فهو قد كتب لي فيه أنه مريض في حالة الخطر، وأنه يريد أن يضع حدًّا لهذه الحرب التي لم تبقِ ولم تذرْ، وأنه يودُّ أن تكون نهايتها بسلم، وأن يكون ذلك بقضائي، وهو يعرض عليَّ لتأكيدها أن آخذ أخته لتكون من نسائي.
عماد الدين : أتأخذ أخته يا مولاي، أتأخذ نصرانية؟
صلاح الدين : وأي مانع في ذلك، وهي لا كافرة ولا وثنية؟! ألا تعلم أنَّ النصارى أقرب الناس إلينا، وأننا إذا دخلنا معهم في شأن كان لهم ما لنا، وعليهم ما علينا؟ أَوَلم تسمع ما قاله الله في كتابه الكريم: وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُم مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَىۚ ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ وفوق ذلك فما هم إلا جيراننا المقربين، تجمعنا بهم وحدة المكان إن لم تجمعنا وحدة الدين، ولا عبرة بهذه العداوة الحاضرة؛ فإنها حرب ستنقضي بعد حين، وإننا وإياهم جيرة، وإنما نحنُ كلنا من ماء وطين، والآن فقد عزمت على أن أرى في أمر السلام، وسواء أخذت أخت الملك أم لم آخذها؛ فقد آن لنا ولهم أن نكف عن الصدام، وفي قصدي أن أزور هذا الملك المريض فأداوي سقامه، فإن دام السلام كان صديقي، وإن ثارت الحرب قابلت فيها حسامه؛ لأنه يعز عليَّ أن يموت هذا البطل من غير طعني وضربي، كما يعز عليَّ أن يسلم من غير دوائي وطبي؛ فأبق هذا في سرك الآن؛ فإني أرى الملكة مُقبلة بأتباعها إلى هذا المكان.

الجزء العاشر

(صلاح الدين – عماد الدين – الملكة جوليا – أوجين – وليم – أتباع حراس من نساء ورجال)
صلاح الدين : إنه يسرُّ صلاح الدين يا سيدتي أن يستقبلك في هذا المقام، وأن يُقَدِّم لك في ملكه ما يجب لملكك من التعظيم والإكرام، فإننا كما حاربنا زوجك الملك في معترك النزال، نقدر أن نقوم بواجب حقك في موقف الاحترام والإجلال؛ فإنَّ النساء جديرات بإكرام الوفادة في مواطن الاستقبال، كما أن الرجال جديرون بضرب الصوارم في ساحات القتال، فمُري أيتها الملكة بما تشائين؛ فأنتِ صاحبة الأمر في هذا المكان، كما أرجو أن يكون لي مثل ذلك إذا سمح لي بزيارتكم الزمان.
الملكة : يعجبني يا سيدي، أن أرى في ملوك المسلمين مثل هذه الشهامة؛ فإنني لم أكن أنتظر منك هذه التجلة والكرامة.
فأنت بالعدل قد أصبحت سلطان هذه البلاد، وعسى أن تنقضي هذه الحرب بيننا فنرجع إلى الصلح والوداد.
صلاح الدين : وأنا أرجو أن تبلغا الملك سلامي؛ فإن مرضه قد ساءني كما ساء سراة أقوامي؛ لأننا نحبُّ أبطال الرجال لأجل الهدنة والمسالمة، مثلما نحبُّ أن ننال الفخر بقتالهم في ساحات الفتنة والمصادمة. (لوليم) وأنت أيها الفارس، فقل له: إنني سأجيبه على كتابه، وإنني سأنظر فيما عرضه عليَّ، ولا يبعد أن يرجع بيننا السيف إلى قرابه، ولعلَّ الدهر لا يبخل عليَّ فأراه بعد حين، فاذهبوا الآن بالسلامة؛ فأنتم في ذمام صلاح الدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤