الفصل الرابع

خيمة الملك

الجزء الأول

(ريكاردوس – ديفو)
ريكاردوس : الراية تُسرق من مكانها في وسط المعسكر، رايتي أنا تسرق! ما هذا الأمر المنكر؟
ديفو : لا شك يا سيدي أن في الأمر دسيسة وخيانة.
ريكاردوس : أين حامي الراية؟ أين الخائن؟ أين الذي يدعي الأمانة؟
ديفو : لقد أرسلت من يبحث عنه، ولكن اصبر لنرى في هذا الشأن.
ريكاردوس : هذا الخائن قد أقبل، لا أريد أن أسمع شيئًا الآن.

الجزء الثاني

ريكاردوس : تعال يا ناكث العهد، تعال تقدم، أنت الذي أضاع الراية، أنت الذي حلف وأقسم. آه يا كافر، ما لك لا تجيب؟! حقك أن تصمت يا غادر وأن تطرق خجلًا بعد فعلك المريب.
وليم : لا تقل غادرًا يا سيدي، وقل ما تشاء فإن من حقك أن تُعاقب المذنب لا أن تهين الشرفاء، فإن كنت قد أذنبت فعلى رأسي يقع هذا الجرم، ولكن لا أسمح لك أن تهينني بالسب والشتم؛ فإن سلطانك على دمي لا على شرفي فاحكم وأنا أقبل الحكم.
ريكاردوس : أترفع رأسك أيضًا يا قليل الحياء! أتنكث بعهدك وتخون ثم تزعم أنك من الشرفاء! أين أضعت الراية ومن أخذها منك؟ آه يا خائن، من يقدر أن يسمع منك أو يعفو عنك!
وليم : قلتُ لك: لا تهني، واحكم بما تريد، ولا تحسب إذا كنا نخدمكم أننا من العبيد؛ لا فإنما سلطانكم على الأجسام لا على الشرف وإن من كان مثلي …
ريكاردوس : اسكت يا خائنًا مولاه بعد أن حلف، نعم قلت لك خائنًا ولا أزال أقول، ألم أقل لك: إن زالت الراية فإن رأسك يزول؛ إذن فاستعد للموت في الحال؛ فإنك لا بد مقتول.
وليم : الآن نطقت بالصواب وحكمت بالعدل المقبول، فلا تحسب أنني أرتجي عفوك أو أخاف من عقابك، وإذا كنت أجبتك فذلك لأنك أهنت شرفي في خطابك، فإنَّ إهانة الرجل للرجل لا تكون من الصواب إلا إذا التقى السيف بالسيف في موقف الطعن والضراب، وهناك يظهر من يرد الإهانة إلى صاحبها وكيف يكون الجواب.
ريكاردوس : كفى كفى، ألا تزال ترفع رأسك أمامي، آه لو لم أكن أخاف أن أدنس بك حسامي.
وليم : اضرب فلا أمل لي بعد الآن، ولو كنت أريد أن أحيا لما أتيت مع جندك في هذا المكان، اضرب وخلصني من حياتي، وخلص نفسك من الهوان، (لنفسه) ويلاه من داء الغرام، من داء الشرف؛ كلاهما حلو لذيذ وكلاهما يؤدي إلى التلف، والآن بماذا تأمر؟
ريكاردوس : إنني لم أر أجرأ من هذا الرجل في حياتي، قل من أخذ العلم منك؟ قل كيف يؤخذ منك شرف إنكلترا وتظل حيًّا واقفًا؟ دافع عن نفسك وقل إنك قتلت من اللصوص الذين سرقوه واحدًا، قل إنك أهرقت نقطة دم في سبيل الدفاع عنه، ثم أنا أطلقك حرًّا متمتعًا بحياتك، تكلم فإن نقطة دم على سيفك في الوفاء والدفاع تحجب دمك بأسره، وتوجب لك العفو، ما بالك ساكتًا مطرقًا! اعتذر على الأقل وأنا أعفو عنك الآن؛ فإنك فتى شجاع، وأنا أحب الشجاع.
وليم : مولاي، لقد سُرِقَ العلم، سُرِق ولم يُشْهَر في سبيل الدفاع عنه سيف ولم تهرق نقطة دم، ولا تسألني كيف سرق؛ فليس لي عذر ولا جواب، فاعف عني إذا شئت أو عاقبني إذا أردت العقاب.
ريكاردوس (يهم أن يجرد سيفه فيمسكه ديفو) : بل أعاقبك يا خائن فلم يعد للصبر مجال، دعني يا ديفو فلا بد من قتله في الحال.
ديفو : أتدنس سيفك بدمه.
ريكاردوس : لقد دنس شرف إنكلترا من قبل.

الجزء الثالث

(المذكورون – جوليا)
جوليا : مولاي، العفو العفو …
ريكاردوس : من هذا؟
جوليا : مولاي، العدل.
ديفو : الأميرة …
وليم : جوليا!
ريكاردوس : أختي …
جوليا : نعم أختك يا مولاي تركع على قدميك، يا رب، من أين أبدأ، وبماذا أتكلم؛ حتى أرجو العفو منك؟ مولاي، اصبر عليَّ بالله؛ فإن لساني قاصر وقلبي مضطرب حزين.
ريكاردوس : ما ذا الحادث المدهش؟ لماذا أنت هنا؟ لماذا تركعين؟!
جوليا : يا رب، ماذا عساني أن أقول سيدي؟!
وليم : انهضي يا سيدتي؛ فأنا الذي يجبُ عليَّ أن أركع، إنما يركع القتيل أمام قاتله، أمَّا الملك فيركع أمام الله؛ انهضي بالله فأنت ملك شريف، وهذا الموقف لي لا لك، فلماذا تدنسين به ركبتيك؟!
ريكاردوس : أيتها الأميرة، ما هذا العمل؟ ماذا تريدين؟
وليم : اكتمي ودعيني أموت.
ريكاردوس : ماذا يقول؟
جوليا : أنا أكتم وأدعك تموت؟ ولماذا؟ أتموت لأنك بريء مكذوب عليك؟ أتموت البراءة يا مولاي وتكون قاتلها بيدك؟!
ريكاردوس : تكتمين ماذا؟ ما الذي يهمك أنت من كل هذا الشأن؟ أنت تأتين لخلاص أثيم مذنب، وفي مثل هذا الموقف، وبمثل هذا الخضوع تكلمي ماذا تريدين، من قال لك إنه بريء، وما هذا الركوع، من طلب منك خلاصه والشفاعة فيه؟
جوليا : أنا التي أطلب له الخلاص؛ لأنه بسببي يقتل الآن، بل هو بسببي قد وقع في هذه التهمة الشديدة الهوان.
وليم : لا تتكلمي بالله.
ريكاردوس : أي دخل لك في أمره؟ وأية علاقة له بك في خيانته وغدره؟
وليم : مولاي لا تسمع لها.
ريكاردوس : دعها تتكلم، لماذا تمنعها من إظهار السبب إذا كنت تعلم؟
وليم : إنه سبب أشر من الذنب.
جوليا : بل سبب يدل على شرف النفس وسلامة القلب، فلقد خدعوه يا مولاي وسرقوا خاتمي مني، ثم زعموا أنه علامة له، وكذبوا بذلك عني؛ فأقبل مطيعًا لأمري حتى سرقوا منه العلم، وكان الذنب خيانة منهم وهو بريء من التهم.
ريكاردوس : الآن قد بلغت الخيانة الغاية؛ ماذا يقصد بذهابه إليك، وكيف يترك الراية؟
جوليا :
إذن فاسمع فقد برح الخفاء
وعاقب بعد ذاك كما تشاء
أنا أهواه من زمن طويل
لذلك … … … …
ريكاردوس :
… … … … …
… آه ما هذا البلاء!
وما هذه الفضيحة (يسقط على كرسي).
جوليا :
… لا تلمني
فخير أن أموت ولا أُسَاء
أحب نعم فما في الحب عار
ولا عيب بأن تهوى النساء
لذلك قد أتى طوعًا لأمري
وغالبه على العهد الولاء
فخانك كارهًا ووفى بعهدي
على كره فحالانا سواء
فعاقبني أنا واتركه حيًّا
كذا تقضي المروءة والوفاء
أنا سبب الخيانة منه فاضرب
وعاقبني …
وليم :
… … … … …
اسكتي فلي الجزاء
ريكاردوس : صديقي ما الذي ألقاه؟ أختي تحب؟
جوليا :
… … … … …
نعم أحب ولا خفاء
فكن لي راحمًا
… … … … …
ريكاردوس :
… ويل عليه
وويل منك ما هذا الشقاء
لماذا لم أمت
… … … … …
ديفو :
مولاي مهلًا …
… … … …
ريكاردوس :
… … … …
يموت إذن فلا يجدي الرجاء
أتعشق مثلها وتظل حيًّا
أتعشقها ويطمعك البقاء
… … … تهيأ للممات
… … … …
جوليا :
أخي … … …
… … … …
وليم :
… … … … دعيه
فهذا الداء ليس له دواء
جوليا : أخي. اصبر بالله، اسمع إنني أناديك يا أخي، ألا يؤثر فيك هذا النداء؟ ألا تعطفك عليَّ رأفة الشقيق؟ ألا يرق قلبك لاسم الإخاء؟ سيدي، ويلاه ماذا أقول لك؟ أية عبارة تعطف رحمتك عليه، إنه ليس له ذنب ولا جرم سوى الطاعة والإجلال، ألأجل راية مفقودة تفقد نفسًا شريفة؟ أيمكن أن يقتل رجل كريم في راية مسروقة؟! إنَّ الراية تستعاض يا مولاي، أمَّا النفس فلا عوض لها ولا بد.
ريكاردوس : انهضي، يجبُ أن يموت.
جوليا : مولاي اسمع بالله، إنني أعطيك غير هذه الراية.
أنا أحوكها لك من ثيابي، بل أحوكها من غدائر شعري إذا كنت تريد، لا تكن ظالمًا يا أخي، لا تقتل نفسين معًا من غير ذنب، حرام أن يموت بذنب لم يَجْنِه، وحرام أن أموت معه، أتقتل نفسين بنفس واحدة، براية واحدة؟ أبقطعة حرير تنسجها يد إنسان تمزق قلبين لا تنسجهما غير يد الله؟ ألأنني أهواه يجب أن يموت؟! إنني لم أعد أهواه بعد الآن.
ريكاردوس : آه يا ديفو، إنها تمزقُ قلبي، قل لها أن تنهض وإلا قتلتها قبله.
ديفو : انهضي يا سيدتي بالله، فإن الملك لا يزال مريضًا.
وليم : انهضي يا سيدتي، انهضي يا حبيبتي، ولا أخجل أن أقول لك هذه الكلمة؛ فهي آخر وداع في آخر مقام.
ريكاردوس : آه يا خائن، لا بد من قتلك.
جوليا (تنهض) : تمهل، لا يمكن أن تقتله أمامي، بل أنا أموت قبله، اضرب فها أنا أمامك يا ظالم، اضرب يا من يعرف أن يقتل ولا يعرف أن يعفو، إنك تخالف سنة الملوك بفعلك ولا ترحم، وأنا أخالف سنة النساء بفعلي وأقتل نفسي فإنما أنا أختك، انظر إلى هذا الخنجر في كفي، إنه أقرب إلى صدري من سيفك إلى رأسه، اضرب الآن وانظر.
ريكاردوس : إذن تموتين وإياه يا كافرة؛ فلا خير في حياتك.

الجزء الرابع

(المذكورون – الملكة)
الملكة : مولاي ماذا تفعل؟! أشفق على أختك وأشفق عليَّ، يا رب، ما هذا اليوم؟!
ريكاردوس : أنت أيضًا تدخلين إلى هنا؟
الملكة : العفو يا مولاي، إذا دخلت من غير إذنك؛ فإن الموقف والأمر خطير، فعد إلى عدلك ورأفتك؛ وليكن قلب الأسد قلب إحسان ورحمة، مولاي إنها أختك من دمك، أتسفك دمك بيدك؟ أتريد أن أركع على قدميك؟
ريكاردوس : تعالِ، لا تركعي، تعالي إلى صدري يا مليكة قلب الأسد، واطلبي ما تشائين، ولكن لا تطلبي العفو عن خائنين، ولا تدخلي نفسك في الخيانة والجرم.
الملكة : إنه بريء يا مولاي.
ريكاردوس : بريء من الراية نعم؛ ولكن ليس بريئًا من الغرام الفاسد، ألا تعرفين من تجاسر أن يحب؟ أتعلمين أنه رفع أبصار حبه إلى مقام أختي، إلى مقامي أنا؟! هذا الذليل الحقير.
الملكة : يا حبيبي ما لنا ولحبه، أحُكَّام القلوب نحن؟ وهل نمنع النفوس عن أن تميل؟ ألا يحب الإنسان خالقه وهو ربه وإلهه؟
ريكاردوس : بل نحنُ حكام الأفعال أيتها الملكة، ونمنع الأقدام من أن تسير، إنه يقدر أن يحب كما يشاء، ولكنه لا يقدر أن يقول وليس من مقامه أن يزور.
جوليا : أنا التي قُلتُ، وأنا التي بحتُ بالحب، أما زيارته فلم تكن إلا طاعة وخضوعًا.
ريكاردوس : اسكتي، فسأعلمك كيف تجردين الخناجر بعد الآن، أما أنت فاستعد للموت، فإنك من سيفي تموت (يجرد سيفه).
جوليا : أخي …
الملكة : سيدي …
ديفو : مولاي …
وليم : اضرب وكفى، أتساوي حياتي كل هذا؟
ريكاردوس : عجبًا! أتجتمع الدنيا لإنقاذه مني؟! هل بقي أحد ولم يسأل العفو عنه؟ أما والله …

الجزء الخامس

(المذكورون – صلاح الدين)
صلاح الدين : بقيتُ أنا أيها الملك؛ فلا تقسم؛ فإنَّ القسم عندكم حرام، وقد نهى مسيحكم عنه.
وليم : الطبيب أيضًا؟
ريكاردوس : ماذا تريد أيها الطبيب؟
صلاح الدين : إن لكل عمل أجرًا.
ريكاردوس : اطلب ما تريد؛ فإن فضلك لا يُنكر، ثمن درة تاجي إذا كانت ترضيك.
صلاح الدين : لا أطلب شيئًا من ذلك أيها الملك، فإني لم أفعل ما يستحق الذكر.
ريكاردوس : أتنقذ حياتي من الموت وتُسمي ذلك لا يذكر؟
صلاح الدين : أنا أنقذت حياتك من الموت؟!
ريكاردوس : نعم، ومن ينكر ذلك؟
صلاح الدين : إذن فالجزاء الحق من جنس العمل؛ أنت تقول إنني أنقذت حياتك، فأنعم عليَّ مثلها، وإن كانت دونها مقامًا.
ريكاردوس : اطلب أية حياة تريد.
صلاح الدين : حياة هذا الشاب.
ريكاردوس : ويلاه.
صلاح الدين : ما بالك أطرقت برأسك، ألا تريد؟
ريكاردوس : لا. اطلب سواه ولو تاج ملكي.
صلاح الدين : لقد كان تاج ملكك في يد الموت لولا طبي ودوائي، وأنت تعلم أنني عدوك ومن جيش أعدائك، وأنه كان أحب إليَّ أن تموت ويتفرق هذا الجيش عنك، ولكني فضلت حياتك على تاجك، وآثرت شفاء عدوي على مماته؛ إذن فأنا أحب إنقاذ الأرواح لا أخذ التيجان، فلا تغضب إذا سألتك العفو عنه.
ريكاردوس : ولكن أنت يا من يطلب مني العفو عن المذنب، أيعفو سلطانك عن الأثيم الخائن؟
صلاح الدين : أنا من سلطاني تعلمت هذا الطلب، ولو لم أكن أعرفه يعفو عن أشد من هذا الذنب لما تقدمت الآن وطلبته منك، ولكن لا تلمني فأنا أحسب الملوك سواء.
ريكاردوس : قف أيها الطبيب، فأنا لا أخيب ظنك، ولا أجعل سلطانك خيرًا مني، لقد وهبتك حياته؛ فخذه فهو لك، واذهب بأمان.
وليم (لنفسه) : أفارقها وأبعد عنها؟! الموت أولى وأحسن. اتركني يا سيدي، دعني أموت.
جوليا (لنفسها) : وا طرباه، لقد نجا.
صلاح الدين : أنا أعلم أنَّك عاشق، وأعرف من تهوى، فتعال معي وعليَّ تدبير الأمر؛ فأنا رجل أنقذ الحياة كاملة أو لا أنقذها، (لريكاردوس): أشكرك أيها الملك على حسن إنعامك وعدلك؛ فإنك تعرف أن تحيي كما تعرف أن تميت، والآن فهذا الكتاب وردني من مولاي صلاح الدين السلطان جوابًا على كتابك الذي أرسلته إليه، فتفضل بقراءته، وائذن لي بالذهاب.
الملكة : شكرًا لك أيها الطبيب، فكم حياة أنقذت اليوم، وكم عدل أظهرت.
صلاح الدين : لقد فعلت الواجب يا سيدتي، وعلى الله حسن التمام.
ريكاردوس : قل لمولاك إنني شاكر فضله، وقابل ما طلب، فليكن في انتظاري غدًا على ما يروم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤