الفصل السادس

كوكب أكثر ذكاءً

بدأنا هذا الكتاب بشرح الابتكار في بداية الثورة الصناعية، وها نحن ننهيه بنظرة تأملية لما قد يحمله المستقبل؛ فتحديات وفرص الابتكار هائلة، وكما يوجِد الابتكار مصادر جديدة للثراء من الأفكار، فإنه يُعد ضروريًّا أيضًا إذا كنا نريد التعامل مع تغير المناخ، وتوفير مياه وغذاء أفضل، وتحسين الصحة والتعليم، وإنتاج طاقة مستدامة. وسيكون ضروريًّا أيضًا من أجل استمرار وجودنا المشترك على كوكب يتزايد ازدحامه.

تزايد تعقيد العمليات المتعلقة بالابتكار التي سوف تُستخدم في المستقبل؛ فقد تطورت من أنشطة رواد المشاريع في القرن الثامن عشر، مثل جوسايا وِدجوود، إلى التنظيم الرسمي للأبحاث في القرن التاسع عشر، وأقسام البحث والتطوير الضخمة في الشركات في منتصف القرن العشرين وأواخره، وحتى اشتراك العديد من المساهمين في عصرنا الحالي في شبكات ذائعة من المبتكرين تدعمها تقنيات حديثة.

ستكمن مفاتيح الابتكار المستقبلي في قدرة المؤسسة على رعاية الإبداع، واتخاذ قرارات واختيارات على أساس استعدادها الجيد ومعرفتها واتصالاتها. وسينتج عن مصادر الأفكار المتعددة — الموظفين وأصحاب المشروعات وقسم البحث والتطوير والعملاء والموردين والجامعات — فرص للابتكار باستمرار، ويكمن التحدي في تشجيع أفضلها، وانتقائها وتعديلها. ولاستكشاف كيف يمكن للمؤسسات التعامل في المستقبل مع هذه التحديات، نلجأ إلى مثال شركة آي بي إم، وهي شركة تستخدم عملية ابتكار منتشرة على نطاق واسع، وتتهيأ لإحداث المزيد من التطوير في المستقبل. وقد اخترنا آي بي إم لأنها — على عكس المؤسسات حديثة النشأة، مثل مايكروسوفت وتويوتا، أو شركات تنظيم المشروعات الأصغر حجمًا، مثل آيديو — تتمتع بتاريخ طويل من التغييرات التي أدخلتها على نظامها. فواجهت آي بي إم تحديات مستمرة، بعضها من صنعها، والآخر فُرض عليها، ويعتمد بقاؤها في المستقبل، كما كان في الماضي، على الابتكار. وقد أوضحت آي بي إم كيف يمكنها تغيير عمليات الابتكار لديها حتى تتناسب مع الطلبات على المنتجات والخدمات والتقنيات الجديدة، بل تشكلِّها، وتستجيب للتحديات المستجدة. وعلى الرغم من أننا لا نستطيع التنبؤ بما إذا كانت ستنجح في المستقبل، فإنها تظهر لنا بعض جوانب المبتكر المعاصر متعدد العلاقات؛ في طرق دعمها للخبرة وتشجيعها، وعلاقاتها الداخلية والخارجية، واتخاذ القرارات في مواقف الغموض وعدم اليقين.

(١) التفكير المستقبلي: حالة آي بي إم

عقدت آي بي إم في عام ٢٠٠٦ مؤتمرًا حول «المعالجة المتوازية الكثيفة» تحت عنوان «ملتقى الابتكار»، الذي استلزم إنشاء بوابة إلكترونية ودعوة موظفيها إلى طرح أفكار عن أربعة مجالات مستقبلية محددة بعناية حول التطوير المحتمل. وكانت النتائج رائعة؛ فخلال مرحلتين مدة كل منهما ثلاثة أيام، قدم ١٥٠٠٠٠ فرد من موظفي آي بي إم، وأفراد الأسر، وشركاء العمل، والزبائن، والباحثين الجامعيين من ١٠٤ دول، أكثر من ٤٠٠٠٠ اقتراح. وشهدت إجراءات مؤتمر «الملتقى» التفاعلية مناقشة الأفكار وتعديلها وتصنيفها وإعطاءها درجات، حيث تضاءل عددها إلى ٣٦ وفي النهاية إلى ١٢. ويقول نيك دونوفريو، رئيس قسم الابتكار والتكنولوجيا في آي بي إم في هذا الوقت، إن هذه العملية شهدت تدافعًا للأفكار وتطورها وتحولها إلى شيء مختلف تمامًا، مع تولي المشاركين زمام الأمور وتغييرها. وخُصص أكثر من ٧٠ مليون دولار لتمويل ١٠ مشروعات جديدة نتيجة لمؤتمر «الملتقى» الذي عُقد عام ٢٠٠٦، مما نتج عنه إيرادات بلغت نحو ٣٠٠ مليون دولار في عامين. بهذه الطريقة، تستخدم آي بي إم الإنترنت للاستفادة من إبداع مجتمع ضخم من المبتكرين المحتملين. وتستخدم أيضًا بوابة إلكترونية — بوابة «ثينك بليس» — حيث يمكن للموظفين تحديد اقتراحات مبتكرة ومشاركتها وتلقي المكافأة عليها. وبهذه الوسائل، توصلت آي بي إم إلى طريقة لجذب الأفكار على نحو منهجي من أجل الابتكار وانتقاء الاختيارات بشأنه.

تُستمد العديد من هذه الاقتراحات من علماء ومهندسي الشركة البالغ عددهم ٢٠٠٠٠٠ فرد. ومن أجل تشجيع العلوم والهندسة الإبداعية، ولضمان إقامة علاقات خارجية قوية بين قادتها التكنولوجيين، استحدثت آي بي إم مناصب «المهندس المتميز» و«زميل آي بي إم». ويتقلد حاليًّا نحو ٦٥٠ موظفًا هذه المناصب عالية المكانة داخل المؤسسة. ولكي يصير الفرد «مهندسًا متميزًا»، عليه أن يقدم باستمرار بيان ابتكاراته واختراعاته، وأن يكون ذا قدر عال بين أقرانه داخل وخارج الشركة. أما مركز «زميل آي بي إم»، فيُعد أعلى وسام للإنجاز الفني في الشركة، ويحصل الزملاء على حرية كبيرة في متابعة مجالات أبحاثهم. وتُعد التعيينات في هذه المناصب المرموقة من الحوافز المهمة التي تحث على التطوير المهني، وتُعد أيضًا من دلالات الإنجاز.

وكجزء من جهود آي بي إم للاستمرار في الإضافة إلى خبرتها التكنولوجية، تمتلك الشركة أكاديمية التكنولوجيا التي تأسست عام ١٩٨٩ على غرار الأكاديميات الوطنية الأمريكية للعلوم والهندسة. وهدفها هو تقديم المشورة للمديرين التنفيذيين في آي بي إم بشأن الاتجاهات والتوجيهات والقضايا التقنية، ومن أجل خلق مجتمع تقني لآي بي إم في جميع أنحاء العالم، والربط بين فروعه كافة. وتصدر الأكاديمية تقارير، وتعقد مؤتمرًا سنويًّا، وتلعب دورًا مهمًّا في رفع الوعي بشأن الاتجاهات المستجدة، وبناء المعرفة ومشاركتها.

يمتد بحث الشركة عن الابتكار إلى ما وراء حدودها، وهي تعتبر نفسها جزءًا من «بيئة الابتكار»، في ظل وجود عدد هائل من العلاقات والصلات الخارجية. وتشتمل هذه البيئة على مزودي برامج مستقلين، وهيئات خاصة بالمعايير الفنية، وجامعات، ووكالات حكومية، وعملاء. وتُنتج سلسلة منتظمة من الإصدارات — «إنوفيشن أوتلوكس» — من أجل إظهار قيادة الفكر والمساعدة في الاشتراك مع المجتمعات التي تسهم في تطور آي بي إم واستخدامها للابتكار.

سجلت آي بي إم ٤١٨٦ براءة اختراع أمريكية جديدة في عام ٢٠٠٨، وهو عدد يفوق ما تسجله أي شركة أخرى. وفي الوقت نفسه، وكمؤشر على مدى جهودها للمشاركة في مجتمع الابتكار، أعلنت عن خططها لزيادة نشر ابتكاراتها وإسهاماتها التقنية بنحو ٥٠٪ — أي إلى أكثر من ٣٠٠٠ ابتكار سنويًّا — مما يجعل هذه الأبحاث متاحة مجانًا. وبذلك، فإن الشركة، من خلال «انفتاحها» فيما يتعلق بابتكاراتها وتوفير الملكية الفكرية ليستخدمها الآخرون، تظهر خبرتها وتساعد في زيادة حجم تقنياتها وأسواقها، في حين تطور الأطراف الأخرى منتجات وخدمات جديدة مكملة.

وكمثال على أسلوب المشاركة مع العملاء، تمتلك آي بي إم نظام مستشاري التكنولوجيا فيما يتعلق بقاعدة العملاء؛ فهم يقيمون علاقات طويلة الأمد مع العملاء الرئيسيين، ويقدمون النصيحة، ويتقلدون أدوارًا كمرشدين ثقة للتطورات الاستراتيجية في صناعاتهم. وتستفيد آي بي إم من هذا الأمر عن طريق المساعدة في تشكيل الاستثمارات الجديدة الكبرى في مراحلها المبكرة.

ومن الأمثلة على محاولات شركة آي بي إم تحقيق الريادة في التوصل إلى أفكار جديدة ما نراه واضحًا في مفهوم «علم الخدمات». وظهر هذا المفهوم في عام ٢٠٠٤ كوصف للتحول تجاه خدمات وأنظمة معقدة في العديد من القطاعات والأسواق الصناعية. وتبنى المفهوم عددٌ من عملاء آي بي إم والمتعاونون معها، مثل بي إيه إي سيستمز وإتش بي. وتعمل آي بي إم أيضًا مع المجتمع الأكاديمي، حيث ترعى مشروعات الأبحاث والندوات الجامعية التي تهدف إلى استكشاف ما تأمل أن يصبح فرعًا معرفيًّا جديدًا. وشهد تشجيع آي بي إم للدورات في مبادرة «علم وإدارة وهندسة الخدمات» تدريسها حول العالم في نحو ٤٠٠ جامعة.

من الطرق التي تستخدمها آي بي إم في الاختيار بين فرصها العديدة المحتملة للابتكار؛ عملية «الفرص الناشئة للشركات التجارية». وقد ابتُدعت هذه العملية في عام ٢٠٠٠ من أجل تحسين قدرة الشركة على استكشاف تقنيات جديدة، مثل العوالم الافتراضية، والاستجابة سريعًا إلى فرص الأعمال التجارية الجديدة. وتكون عمليات «الفرص الناشئة للشركات التجارية» محكمة عادةً في الشركات اللامركزية، وتضم فرق عمل صغيرة العدد من أجل تشجيع التركيز، ومن المتوقع منها استدرار عائدات مالية سريعًا، مما يوضح وجود سوق لمنتجاتها وخدماتها. ويعبر بعض هذه الفرص، مثل الحوسبة السحابية — التي تقدم طاقة حوسبة هائلة على الإنترنت على أساس الاحتياجات — عن مبادرات رئيسة تطورت في المؤسسة على نحو مركزي. ويُعد أكبر حافز على تشجيع الأفكار الجديدة هو المثوبة بوضعها محل التنفيذ، وتشير عملية «الفرص الناشئة للأعمال التجارية»، التي تتمتع بدعم مستويات الإدارة العليا، إلى عزم آي بي إم على متابعة أفضلها على نحو منتظم.

مما يتمم جهود آي بي إم التنظيمية لتشييد عملية ابتكارها ودعمها؛ المنهج الذي تتبعه في استخدام التكنولوجيا من أجل إقامة الصلات واتخاذ القرارات. ويُعد هذا واحدًا من السمات الرئيسة لاستراتيجية «الكوكب الذكي» التي تنتهجها الشركة.

(١-١) استراتيجية آي بي إم لكوكب ذكي

تقر هذه الاستراتيجية التي أُطلقت في عام ٢٠٠٨ بأن التعامل مع المشكلات المعقدة والمستجدة، في مجالات مثل الطاقة والصحة والبيئة، يتطلب فهمًا للعلاقات داخل النظم وبينها. ويعتمد هذا على القدرة على مراقبة الأداء واستيعاب قدر هائل من البيانات.

تعتمد الاستراتيجية جزئيًّا على احتمال استخدام البيانات الناتجة عن عدد ضخم من أدوات الاستشعار والمراقبة، من بينها الأجهزة المحمولة. وكمؤشر على انتشار هذه الأدوات، تقدير آي بي إم أن هناك قرابة مليار ترانزستور لكل فرد على الكوكب. وتُعد أجهزة التعرف بترددات الراديو من الأمثلة على هذه الأدوات بعينها. وتقدم هذه الأجهزة مناهج مبتكرة لإدارة سلاسل التوريد والنظم اللوجيستية، من خلال تتبع اللحوم من المزرعة إلى المتجر على سبيل المثال، مما يساعد في ضمان إتاحة الطعام الطازج بسهولة للاستهلاك.

وتتمثل استراتيجية آي بي إم في ربط أدوات الاستشعار هذه، من أجل السماح للنظم والأشياء بالتواصل معًا، فتنشئ ما يعرف باسم «إنترنت الأشياء». ولإنشاء طرق ذكية لإيجاد حلول للمشكلات وتقديمها باستخدام الإنترنت، سيتعين اتخاذ قرارات بشأن كيفية تصميم النظم وضبطها وتشغيلها، باستخدام القدرات التحليلية القوية لأجهزة الكمبيوتر الفائقة والحوسبة السحابية. ويسمح هذا باستخراج البيانات وإدراك الأنماط، مثلما يحدث عندما تعيِّن شركات التأمين النماذج من بين ملايين الادعاءات، أو تقيم الشرطة علاقات متبادلة في الأدلة الشرعية من أجل تحديد أنماط الجريمة. ويمكن أن تؤدي تشخيصاتهم وتحليلاتهم إلى فهم جديد لطرق أداء النظم وتطورها، وإلى إدارة أفضل للموارد. ويمكن أيضًا أن يبشر استخدام تقنيات الابتكار، مثل أساليب المحاكاة وتصور نتائجها، باشتراك صناع القرارات مع عدد كبير من حملة الأسهم في انتقاء الاختيارات.

يمكن العثور على أمثلة على القيمة المحتملة لمنهج «الكوكب الذكي» في مجالات الطاقة والنقل والصحة. ويمكن رؤية حجم التحدي في توفير الطاقة في تقييم آي بي إم، حيث توصلت إلى أن العجز الحالي في إدارة وموازنة العرض والطلب في الكهرباء في الولايات المتحدة ينتج عنه فقدان كم كبير من الكهرباء سنويًّا يكفي لتوفير الطاقة للهند وألمانيا وكندا. ومن خلال استخدام أدوات ذات كثافة استثنائية من أجل القياس والمراقبة، يستطيع الابتكار تحسين العرض والطلب على الطاقة إلى أقصى حد ممكن. إن فرصة الابتكار تكمن في تطوير نظم جديدة يمكن من خلالها تحليل كل شيء وتزويده بأدوات على الفور، بدايةً من العداد في المنزل، مرورًا بشبكة التوزيع، ووصولًا لمصانع الطاقة. وهناك إمكانية لدى هذه «الشبكات الذكية» تسمح بالتوصل إلى قرارات أفضل وجعل تزويد الطاقة أكثر فعالية وموثوقية وتكيفًا مع الاحتياجات المتغيرة.

توجد حالات مماثلة في نظم النقل؛ فوفقًا لشركة آي بي إم، يكلف الازدحام في طرق الولايات المتحدة نحو ٨٠ مليار دولار سنويًّا، مع فقدان أكثر من ٤ مليارات ساعة عمل وإهدار ما يقرب من ٣ مليارات جالون من الوقود، مما يتسبب في انبعاثات هائلة لثاني أكسيد الكربون. ونتج عن الابتكار في استخدام السياسة العامة للأجهزة في نظم المرور حدوث تحسينات في العديد من المدن. فيعتمد مقدار رسوم الازدحام المروري في ميلان، على سبيل المثال، على مستوى التلوث المنبعث من المركبات الفردية. فعندما تدخل مركبة إلى المدينة، ترسل الكاميرات على الفور تقريبًا إشارة إلى قاعدة بيانات تحدد فيها طراز المركبة وشريحة الرسوم ذات الصلة بها. وقد خفَّض نظام ستوكهولم المروري الذكي، الذي يستخدم كاميرات وأجهزة ليزر لتحديد المركبات وفرض الرسوم عليها على أساس أي فترة من اليوم تمر فيها، خفَّض حدة الازدحام بنحو ٢٥٪، والانبعاثات بما يقرب من ١٢٪. ويتضح تعقد المشكلات التي وُجهت في أسلوب عمل آي بي إم مع ٣٠٠ مؤسسة مختلفة في تطوير نظام ستوكهولم.

وهناك مثال آخر يتضح في وسيلة التعامل مع مشاكل المرور المعروفة برداءتها في المدن الصينية. إذ تعمل سيمنز، الشركة الألمانية للإلكترونيات والهندسة، مع باحثين صينيين من أجل تحسين التدفق المروري بناءً على بيانات الموقع التي توفرها آليًّا هواتف السائقين المحمولة.

ويقدم مشروع آي بي إم المشترك مع خدمة «جوجل هيلث» و«تحالف الصحة المستمر» مثالًا على منهج «الكوكب الذكي» في الرعاية الصحية، الذي يهدف إلى إنشاء نظم تطبيب عن بعد تسمح للأفراد والعائلات بتعقب المعلومات الصحية من خلال البيانات الواردة من الأجهزة الطبية. ويستخدم جهاز التعرف بترددات الراديو أيضًا من أجل التأكيد على صحة وموثوقية التجهيزات الطبية، مما يقلل من نسبة حدوث الأخطاء ويحسِّن الامتثال للقوانين والإجراءات الطبية. وقد استخدمت سيمنز هذا النظام من أجل تتبع عدد الضمادات المعقمة المستخدمة في العلميات الجراحية لمنع ترك أي منها داخل جسم المريض، ولمراقبة درجات حرارة إمدادات الدم خلال عملية التبرع وتركيز الخلية والتخزين والاستخدام.

سيتم التعامل مع العديد من تحديات الطاقة والنقل والصحة في المدن. ففي عام ١٩٠٠، كان ١٣٪ من سكان العالم يعيشون في المدن. وبحلول عام ٢٠٠٧، كان الغالبية العظمى من سكان المدن، ويُتوقع أن يزيد هذا إلى ٧٠٪ في عام ٢٠٥٠، حيث سيزيد وقتها سكان العالم من ٦ إلى ٩ مليارات نسمة. وتظهر الصعوبات التي تواجه مخططي المدن وسلطاتها في أن المدن مسئولة عن ٧٥٪ من الاستهلاك العالمي للطاقة وعن ٨٠٪ من انبعاثات غازات الصوبة الزجاجية.

من دلائل عزم شركة آي بي إم على استحداث خدمات تحل المشكلات السائدة في النظم الحضرية؛ إنشاء الشركة لمركز أبحاث تحليلات الأعمال، الذي أعلن عنه سام بالميسانو، رئيس شركة آي بي إم ورئيس مجلس إدارتها ومديرها التنفيذي، في «قمة المدن الأذكى» في برلين في عام ٢٠٠٩. وسيعين المركز الألماني ١٠٠ عالم من أجل البحث في النظم الحضرية. وتُعد أبحاث المركز الدولية، متعددة التخصصات التي تُجرى بين المؤسسات، مثالًا على النماذج الجديدة الذائعة، المطلوبة لمعالجة المشكلات المعاصرة الملحة.

تصف شركة آي بي إم نفسها على أنها مشروع متكامل عالميًّا، ذو نطاق عالمي في العديد من الأنشطة الأساسية، لكنه يركز تقديمه للخدمات على متطلبات السوق المحلي. وتتمتع الشركة بميزة الاعتماد على كم هائل من خبراتها العلمية والتكنولوجية الموجودة في جميع أنحاء العالم. وفي الوقت نفسه، بدلًا من التركيز على البحث والتطوير في الولايات المتحدة الأمريكية أو في بضعة محاور عالمية رئيسية، يُظهر اختيار برلين للمركز الجديد كيف تهدف آي بي إم إلى توزيع خبرتها بالقرب من الأسواق، لا سيما تلك الأسواق الموجودة في أوروبا الشرقية.

من ثم، يعمل المركز بمنزلة محور في شبكة أبحاث منتشرة، حيث يتعاون مع أكثر من ٣٠٠ عالم رياضيات ومستشار ومتخصص برمجة ألمانيين. ويرتبط هذا المركز بمراكز أبحاث آي بي إم العالمية، معتمدًا على الخبرة العريضة الموجودة في التفاعلات المعقدة داخل النظم وبينها. إن نشاط المركز تعاوني، حيث يعتمد على منهج آي بي إم في علم الخدمات، ويستخدم تقنيات الابتكار من أجل إنشاء نماذج رياضية جديدة وتحليلها، ومحاكاة سلوك نظم النظم التي تمثل مدنًا. فعلى سبيل المثال، من أجل فهم متطلبات الطاقة، لا يكفي عمل نموذج لزيادة استخدام السيارات الكهربائية دون فهم الآثار المحتملة لذلك على الإمداد بالكهرباء.

يوضح نموذج الابتكار الجديد عدم امتلاك أي مؤسسة بمفردها، حتى وإن كانت في حجم آي بي إم، القدرة الكاملة على التعامل مع المشكلات التي تواجه النظم الحضرية. فهو يدرك كيف أن حلول مشكلات النمو السكاني والصحة والطاقة والنقل مترابطة ومتشعبة على الصعيد العالمي.

وسيعتمد مدى نجاح استراتيجية «الكوكب الذكي» في المساعدة في حل هذه المشكلات على حل قضايا تقنية وتنظيمية واجتماعية وسياسية مهمة. فهناك حاجة إلى وجود نظم تكنولوجية بسيطة وقوية وآمنة عند التعطل. ويستلزم الأمر أيضًا وجود مهارات جديدة من أجل تحليل القدر الهائل من البيانات، وتفسير الأنماط، وإنتاج رؤى تساعد في صناعة قرارات آنية وقريبة. ويجب التوصل إلى أشكال جديدة من المشاركة لإشراك الأفراد في إنجاز الابتكارات وتطبيقها.

ويمثل منهج «الكوكب الذكي» الذي تتبعه شركة آي بي إم استراتيجية متطورة خاصة بمؤسسة واحدة، ولم يتحقق بعد نجاحها أو فشلها. وقد ارتكبت آي بي إم، كحال كل المؤسسات، أخطاء في الماضي وستفعل ذلك مجددًا في المستقبل، ونحن لم نر بعد سواءٌ أنجحت الاستراتيجية أم لا وكيفية نجاحها أو فشلها. مع ذلك، فإن مفهوم الكوكب الأذكى يصبح لافتًا للنظر، عند التفكير في الدور الأكبر للابتكار في المستقبل، وتعطينا آي بي إم بعض المؤشرات على أي الاتجاهات التي ربما نتحرك فيها. وتوضح الشركة لنا كيف أن الروابط التي تشجع الابتكار تعتمد على الأفراد الموهوبين واسعي الاطلاع والمشاركين بعمق في بيئات الابتكار، وترشدهم الاستراتيجيات المبدعة وتسهل التكنولوجيا عملهم. ويستخدم الكوكب الأذكى الموارد على نحو أكثر كفاءة وفعالية، ويستخدم مناهج وتقنيات تنظيمية جديدة في مؤسسات شديدة الترابط، وعمليات متعلقة بالابتكار، وطرق عمل، وأفضل أداء له يحدث عندما يُخول له التعامل مع التحديات الحالية والمستجدة.

(٢) مؤسسات أكثر ذكاءً

(٢-١) الحكومات

إضافةً إلى تطبيق سياسات الابتكار التي ناقشناها في الفصل الرابع والتي تشجع مخزون الابتكار وتدفقه، تحتاج الحكومات الوطنية أيضًا إلى مستويات عالية من التنسيق فيما بين الحكومات؛ دوليًّا وإقليميًّا ومحليًّا.

يتطلب استخدام الابتكار للتعامل مع العديد من المشكلات المعاصرة المزيد من الموارد والمهارات عما يمكن للدول الفردية حشدها. فبعض التحديات، مثل التحكم في انبعاثات الصوبة الزجاجية، لا يمكن إيجاد حلول مستقلة لها ببساطة، بل يجب التعامل معها في منتديات دولية. وستطرح الموازنة بين المصلحة الشخصية الوطنية والحاجة إلى مناهج دولية تحديًا متزايدًا متعلقًا بسياسة الابتكار. وبما أن الرفاهية الاجتماعية والرخاء الاقتصادي أصبحا مدفوعين أكثر بالاستخدام المثمر للإبداع والمعرفة، فإن هناك آثارًا عميقة للعلاقات والاختلافات بين الدول. وربما تصبح التفاوتات الموجودة بارزة مع بُعد الدول الثرية تكنولوجيًّا ومؤسسيًّا وتنظيميًّا عن الدول الأقل حظًّا. ويجب على المؤسسات الحكومية الدولية مراقبة السياسات وتطويرها من أجل معالجة أي مشكلة من هذا النوع.

هناك العديد من القرارات المهمة التي لا تُتخذ بشأن الابتكار على المستوى الوطني، بل تُتخذ من جانب السلطات المحلية متزايدة القوى والحكومات الإقليمية التي تتنافس بقوة بعضها مع بعض محليًّا ودوليًّا من أجل جذب الاستثمار والموهبة. وتعد الخبرة في التنسيق والتعاون المحلي بين الحكومات ضرورية أيضًا من أجل الوقوف على سياسة ابتكار فعالة.

في العديد من الدول، أدت خصخصة الأصول المملوكة سابقًا للدولة في مجالات الطاقة والنقل والاتصالات إلى استبعاد ذراع مباشر كانت الحكومات تمتلكها من قبل من أجل تحسين الابتكار. وبدلًا من ذلك، أُنشئت سلطات تنظيمية جديدة لا بد من استكشاف أدوارها في دعم الابتكار في القطاع الخاص وتوسيع نطاقها. ويتعقد دور الحكومة بالطريقة التي تصبح بها الحدود بين القطاعين العام والخاص غير واضحة، مع إنشاء شراكات عامة/خاصة. وهناك فوائد متبادلة يمكن تحقيقها من هذا الشكل التنظيمي، منها الوصول إلى الموارد من أجل الاستثمار في الابتكار التي ربما لا تكون متاحة بخلاف ذلك. إلا أنه يمكن تحقيق ملكية أصول الابتكار والمعرفة به والتحكم فيهما بدوافع مختلفة ربما ينتج عنها توترات بين المكسب الخاص والمصلحة العامة. فيجب صياغة سياسة ابتكار حكومية على أساس الانخراط الشديد في مجال الأعمال التجارية، وفهم نقاط القوة والضعف في الإسهامات التي تستطيع القيام بها.

هناك فرص مستقبلية ضخمة للابتكار في الخدمات الحكومية. تشتمل، على سبيل المثال، على التطبيب عن بعد؛ باستخدام أجهزة الكمبيوتر والإنترنت لمساعدة التشخيص الطبي في المنزل. ويُستخدم التطبيب عن بعد في أستراليا من أجل توصيل الخدمات الصحية إلى المجتمعات النائية. ويُستخدم في المملكة المتحدة من أجل تقديم المتابعة للمرضى كبار السن، مما يحول دون حاجتهم إلى الوجود في المستشفى. أما في الهند، فتُوصَّل المعدات المحمولة إلى القرى الفقيرة، حيث يجري التشخيص عبر الاتصال إلكترونيًّا بالمستشفيات في المناطق الحضرية، مما يقدم مستوًى من الرعاية الصحية لم يحظَ به الفقراء الريفيون من قبل.

تمتلك الحكومات، كجزء من إسهاماتها في الابتكار، فرص استخدام التقنيات الجديدة التي تقدم سبلًا لمزيدٍ من الشمولية والمشاركة في صنع القرار، من جانب المواطنين، بشأن تصميم الخدمات التي نطلبها وبشأن توصيلها. فمثلًا، عن طريق إنشاء مراكز صحية جديدة مقترحة في عوالم افتراضية قبل بنائها فعليًّا، يمكن استخراج مدخلات من المهنيين في المجال الصحي والمرضى من أجل إنتاج تصميمات أفضل.

يكمن أحد أكثر الجوانب حيويةً في صنع السياسات في العمليات التي تتخذ بها الحكومات الاختيارات بشأن مكان تركيز استثمار الابتكار من أجل الحفاظ على الازدهار في المستقبل. ولا توجد دولة تمتلك الموارد للابتكار في كل المجالات، ولا بد أن هناك حاجة لإجراء مفاضلات بين الطلبات المتنافسة على الموارد النادرة. ويجب أن تتوصل الحكومات إلى مناهج متطورة لانتقاء الاختيارات، في حين تضمن إجراء قدر كافٍ من الاستثمار في نطاق واسع من المجالات، لإبقاء الخيارات متاحة، والسماح للدول باستيعاب الأفكار المفيدة التي جرى التوصل إليها في أماكن أخرى. ويجب أن تتضمن القرارات، بشأن ما له أولوية وما ليس له، مناقشات شاملة مع المجموعات التجارية والاجتماعية والبيئية، إضافةً إلى نقاش عام ومجدٍ في إطار الجهود المبذولة للتوصل إلى إجماع حول المستقبل.

إن أهمية الابتكار للحكومة، والصعوبات في إقامة العلاقات الضرورية، وانتقاء الاختيارات الجيدة أمورٌ تتطلب مهارات واسعة وعميقة لصنع السياسات. وتوسِّع هذه المهارات نطاق فهم أهمية الابتكار وطبيعته عبر أجهزة الحكومة، وتساعد في تطوير منهج ﻟ «كامل الحكومة». وسيساعد المزيد من تقدير إسهامات الابتكار وصعوباته في التعامل مع النفور الشديد من المخاطر التي يكتنفها القطاع العام. وتتطلب السياسة العامة، تقديرًا لطبيعتها الأكثر انتشارًا وتوزيعًا وشمولًا، أشكالًا أفضل لقياس الابتكار — تنتقل من المؤشرات الجزئية، والمضللة عادةً، على نفقات البحث والتطوير وأداء تسجيل براءات الاختراع — وهناك حاجة أيضًا إلى مناهج ومهارات جديدة في هذا المجال. ويمكن استخدام أدوات، مثل تحليل الشبكة الاجتماعية، على سبيل المثال، في قياس أنماط الاتصال المتغيرة. وينبغي أن تكون صناعة سياسة الابتكار على دراية بأن الابتكار تَحَدٍّ مستمر لا توجد له «حلول» بسيطة. فتظهر مع تطوره قضايا جديدة ويجب أن تتغير السياسات استجابة لذلك.

(٢-٢) الجامعات

لكي تسهم الجامعات على نحو أكثر فعالية في الابتكار، يجب أن تكون أفضل في تشجيع تبادل المعرفة والتدفق الداخلي والخارجي للأفكار. ويجب أن تتجاوز النموذج المقيد لنقل التكنولوجيا في شكل الحماية الرسمية للملكية الفكرية، ومنح التراخيص، والشركات المبتدئة، ويجب أيضًا أن ترحب بالفرص العديدة التي يوفرها التعاون من أجل إنشاء ونقل خدمات تعليمية وبحثية جديدة. وستعثر استراتيجياتها على طرق متعددة للمشاركة مع حملة الأسهم في الأعمال التجارية والحكومة والمجتمع، ومع ذلك تظل مدفوعة بالقيم العلمية. وستعلِّم الجامعات الأفراد القادرين على العمل وستوظفهم بطرق متعددة في مجال الأبحاث والأعمال التجارية والحكومة، وستقيم علاقات بين مختلف أجزاء نظم الابتكار المختلفة، وسيشجعها في ذلك تنقل الخريجين واسعي المهارات، وسيعززها استخدام العلوم الإلكترونية.

يمتلك عدد قليل من الجامعات الموارد التي تساعدها في توفير خدمة عالمية عبر كل الفروع الأكاديمية، وتستفيد معظمها من انتقاء الاختيارات والتخصص على نطاق واسع. وربما تدعم بعض الجامعات مراكزها بتمتعها بطابع محلي، وترى جامعات أخرى أن دورها بمنزلة حلقات وصل في الجهود البحثية والتعليمية العالمية. ويقدم التركيز في مجالات معينة الخبرة العميقة التي تجذب أفضل المتعاونين في الأبحاث والأعمال التجارية، ويمكن للشراكات أن تسد الثغرات عندما تقرر المؤسسات عدم المشاركة.

تلعب الجامعات دورًا مستمرًّا في إنتاج أدوات البحث واسعة النطاق وآلات العلوم والهندسة من أجل تشجيع الاكتشاف، والسماح للأفراد بالاستكشاف في مجالات غير معروفة ورؤية وقياس الأشياء التي لا يستطيع الآخرون رؤيتها وقياسها؛ ربما على نحو متزايد في تصميم الخدمات وتقديمها. وتقدم الجامعات نموذج القيادة في صياغة المعايير المشتركة التي يحتاجها المبتكرون لتساعد في إطلاق منتجات وخدمات جديدة في الصناعات الديناميكية.

يُعد توفير «مساحة للتمرين»، ومختبرات تعاونية من أجل المحادثات العميقة والمتواصلة، والمشاركة في توليد الأفكار واختبارها مع الشركات التجارية والحكومة والمجتمع، أحد أهم أدوار دعم الجامعات للابتكار. وسيستمر الباحثون في العمل بالدقة الأكاديمية واستقلالية فروعهم المعرفية، لكن من خلال هذه المحادثات سيشعر كثير منهم بالرضا بالعمل كأعضاء في فرق منتشرة تستكشف الحدود الفاصلة بين الفروع المعرفية المتداخلة والآثار الاجتماعية والاقتصادية لعملهم. وستحتاج الجامعات البارعة في توفير الهياكل المادية والتنظيمية وحوافز التميز العلمي والتقدم المهني إلى استكشاف مساحات ووسائل أفضل لتشجيع مثل هذه المشاركة والإثابة عليها.

(٢-٣) الشركات

عندما تكون الاقتصاديات والتقنيات سريعة التغير والتقلب، فإن قيمة قدرة الشركات على تقبل الأفكار الراديكالية والمسببة للاضطراب وتطبيقها تعلو وتزداد. وفي مثل هذه الظروف، تكون أفضل الاستراتيجيات هي التجريبية والديناميكية التي تحقق توازنًا حكيمًا بين استغلال الأفكار الحالية واستكشاف أخرى جديدة. وتعتمد هذه الاستراتيجيات على استثمارات مستمرة في رأس المال البشري وفي الأبحاث والتكنولوجيا.

ويحتاج الابتكار — على حد تعبير لو جيرستنر، المدير التنفيذي السابق لشركة آي بي إم — إلى أن يترسخ في هيكل المؤسسة. فكما رأينا في حالة شركة آي بي إم، يجب إثابة أداء المبتكرين والفرق الاستثنائية، على أن تُقدم وتُتاح مسئوليات الابتكار وفرصه لكل فرد.

إن تواصل الاستثمارات في قسم البحث والتطوير، والقدرة على استيعابها التي يتسبب القسم في ظهورها، يُعدان شديدي الأهمية، تمامًا مثل القدرة على التبادل والوساطة المعرفيين داخل بيئات الابتكار. وتتطلب العلاقات المشتركة مع مصادر الأفكار الجديدة وجود شراكات طويلة المدى مع الجامعات في جميع أنحاء العالم، والرسوخ العميق داخل المدن والمناطق المبتكِرة، والإدارة الفعالة لتقنيات الابتكار الداعمة.

يزداد اتساع هذه البيئات مع اختفاء الفروق التقليدية بين الصناعات، حيث تنتقل المعرفة والرؤى والمهارات عبر القطاعات وتُدمج معًا من أجل إنتاج إصدارات جديدة. وهناك قدر كبير من توليد القيمة في مجال التصنيع، على سبيل المثال، يكمن في خدمات التصميم. فتتعاون قطاعات الخدمات والجامعات بطرق مبتكرة، كما في مبادرة «علم وإدارة وهندسة الخدمات» التي أطلقتها شركة آي بي إم. ويُعد الابتكار شرطًا للنجاح في الصناعات الإبداعية — مثل الإعلام الرقمي الجديد والترفيه والنشر — التي يكون محتواها مهمًّا، على سبيل المثال، لشركات المنتجات والخدمات المبتكرة المشاركة في الإرسال التليفوني للهواتف المحمولة. وتعتمد صناعات الموارد، مثل الزراعة والتعدين، على الابتكار من أجل تحسين الكفاءات ومساعدة تحسينات المنتج، ولابتكارات هذه الصناعات في إدارة المياه، على سبيل المثال، تطبيقات واسعة.

fig11
شكل ٦-١: ربما تصاحبنا بعض تحديات الابتكار على الدوام.1

ستأتي أفكار الابتكار في الشركات من مصادر متنوعة وعادةً غير متوقعة، في توليفات جديدة وغير متوقعة.

وسيستغرق الفهم الكامل لتأثير الأزمة المالية العالمية التي حدثت في عام ٢٠٠٨ / ٢٠٠٩ على الصلات بين المبتكرين ومصادر رأس المال عدة سنوات. فعلى المدى القصير، ستتأثر حتمًا استثمارات الابتكار تأثيرًا سلبيًّا، وعلى المدى الطويل، سوف تكون هناك حاجة إلى إعادة بناء الثقة بين القطاعات المالية والإنتاجية. وسنحتاج إلى أشكال جديدة من حوكمة المخاطر من أجل الإشراف على صناعة قرار أكثر اتسامًا بالأخلاق والمسئولية، وتحسين إدارة مخاطر الابتكارات المعقدة.

وربما يتزايد احتمال أن المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هي التي ابتكرت التقنيات المتقدمة في المقام الأول، مستخدمةً ما تتميز به على المؤسسات الأكبر حجمًا من سرعة ومرونة وتركيز. وتستطيع الشركات الصغيرة، مقارنةً بشركات المساهمة الكبرى، القيام بمخاطر غير عادية وتحملها. وبسبب عدم تقيدها الشديد بالصرامة التنظيمية التي تتميز بها الشركات الكبرى، تستطيع تعيين نماذج وعمليات تجارية جديدة وتجربتها بسهولة أكبر. وستدمج المؤسسات الصغيرة والمتوسطة مميزاتها السلوكية مع الموارد الضخمة الموجودة في الشركات الكبرى، مكونةً أشكالًا جديدة من شبكة الابتكار والشراكة التعاونية. وستجري المؤسسات الكبرى التجارب باستمرار، مع محاولة محاكاة بيئات عمل الوحدات الأصغر حجمًا في مجال تنظيم المشروعات، كما رأينا في عملية «الفرص الناشئة للشركات» التي أجرتها شركة آي بي إم.

وكما أدرك إديسون، يجب أن يُنظم الابتكار بطرق مناسبة لأهدافه. فيجب الموازنة بين الفوائد الناتجة عن البحث غير المقيد عن الأفكار — حيث يمكن أن تؤتي الصدفة والمصادفة بالعديد من الثمار — وبين التركيز والتوجيه التنظيميين. وهناك فرص أكثر مما ينبغي، ولذا يجب انتقاء الاختيارات التي تشكل وتوجه المهارات التي تستخدمها المؤسسات والموارد التي تستثمرها. وستصبح المهارات في الإدارة الاستراتيجية للابتكار، التي تساعد في انتقاء هذه الاختيارات، ضمن أكثر ما تعتز به الشركات.

(٣) ابتكار أذكى

مثلما حدث في وقت وِدجوود، سينتج الابتكار عن توليفات من الأفكار، التي تُعد أكثر انتشارًا من ذي قبل في جميع أنحاء العالم، ويمكن أن تساعد التكنولوجيا على نحو متزايد في دمجها. ومثلما فهم وِدجوود جيدًا، يجمع الابتكار بين اعتبارات متعلقة ﺑ «العرض» — وهي مصادر الابتكار مثل الأبحاث والتطورات التكنولوجية — وبين إدراك الطلب في السوق إدراكًا متميزًا. ويستغرق المبتكرون الأذكياء في فهم أنماط الاستهلاك المتبدلة ومعناه المتغير، واستيعاب القيم والمعايير التي تكمن وراء قرارات شراء المنتجات والخدمات المبتكرة. وتتأثر هذه الأنماط بالعولمة، ولذا فهي متغيرة بطبيعتها. فالجيل الذي ينشأ على الاستهلاك الكثيف، أيًّا كانت تكلفته الحقيقية، ربما يزدريه جيل آخر يهتم بالاستدامة. ونظرًا لإدراك قدرات التقنيات الحديثة على ضم أعداد متزايدة من المساهمين إلى الابتكار، بما في ذلك مجتمعات المستخدمين، هناك حاجة لمزيد من التقدير لدوافعها وكيف يمكن استخدام طاقتها ورؤاها على نحو أكثر فعالية.

يجب أن تتجاوز استراتيجية الابتكار في الشركات بجميع الأحجام والقطاعات النماذج المخططة والتسلسلية للعصر الصناعي، وكذلك أشكال مختبرات البحث والتطوير المشتركة التي صدر عنها اكتشاف ستيفاني كوليك. ويجب أن تفسر الاستراتيجية الفرص التي تلوح في أماكن غير متوقعة، وتبرر مستويات الشك العالية، والتعقيد الشديد، حيث يُعد التعلم التنظيمي من خلال التعاون مفتاح البقاء والنمو. أما القياسات والحسابات المالية المحدودة التي استخدمتها الشركات في الماضي، مثل العائد على رأس المال والتقارير ربع السنوية لحملة الأسهم، فإنها يجب أن تكتمل بمؤشرات تحمل معنى أكبر للابتكار والمرونة التنظيمية. فعلى سبيل المثال، ما قيمة خيارات المستقبل التي تمتلكها المؤسسات من خلال إجراء الأبحاث؟ وما الابتكارات التي تُستكشف ويُتوصل إليها وتكون لديها القدرة على تفسير أجزاء أساسية من أجزاء المؤسسة في فترة من ١٠ إلى ٢٠ سنة؟ وكيف تتحسن قدرة المؤسسة على التعلم من خلال الاستثمارات في الأبحاث؟ وما قيمة كون الفرد مشاركًا مؤتمنًا، وصاحب عمل خلوق، ومنتِجًا مستدامًا؟

يستفيد التفكير الاقتصادي من المناهج التطورية التي ترى المخاطر والشك والفشل في الابتكار كأمر طبيعي، وتبعدنا عن النظم الخطية والمخططة إلى النظم المفتوحة والمستجدة وشديدة الترابط. فأصبح يُعترف بقيمة الأفكار والتعلم كأهم دوافع النمو الاقتصادي والإنتاجية، وكذلك أصبحت أهمية استكشاف توليفات جديدة متعددة التخصصات بين العلوم والفنون والهندسة والعلوم الاجتماعية والإنسانية والأعمال التجارية، محل تقدير، إلى جانب التأكيد على الحاجة إلى آليات ومهارات من أجل إقامة علاقات عبر الحدود التنظيمية والمهنية والتخصصية. ويُسترعى الاهتمام بتحسين علاقات نظم وبيئات الابتكار وأدائها. وربما تشكل هذه البيئات توليفات جديدة غير متوقعة؛ فربما تؤثر الأنثروبولوجيا في الإنتاج المحلي للطاقة وتوزيعها، وربما تؤثر الفلسفة في تصميم دوائر أشباه الموصلات، ويُحتمل أن تؤثر دراسة الموسيقى في توفير الخدمات المالية.

تقوِّي تقنيات الابتكار من الابتكار، ويسهم استخدام الأدوات المشتمل عليها في ملايين الأجهزة وأدوات الاستشعار التي تُعَد جزءًا لا يتجزأ من العالم المادي، في التوصل إلى كميات هائلة من البيانات المتاحة لتستخدمها تقنيات التصميم الحديثة في العالم الافتراضي من أجل إنشاء وتحسين المنتجات والخدمات التي نريدها وتعزيز الخبرات التي نرغب فيها.

يجب أن يقدم الابتكار منتجات وعمليات غير مدمرة ومعززة للبيئة، وسوف تكون هناك حاجة إلى أن يصبح الابتكار والتنمية المستدامة وجهين لعملة واحدة. ولا تزال الكثير من تحديات الاستدامة، مثل تغير المناخ، وإدارة الموارد المائية، والزراعة المعدلة وراثيًّا، والتخلص من النفايات، وحماية النظام الإيكولوجي البحري، وفقدان التنوع البيولوجي، لا تزال مستمرة ولا توجد لها حلول كاملة، حيث تفتقد إلى مجموعة واضحة من البدائل، وتتيح مساحة ضئيلة فقط للتجربة والخطأ. فهي تتسم بأفكار يقينية متناقضة بين أنصارها، وتشتمل استراتيجيات التعامل معها على التكيف بدلًا من الحل، والبحث عن الممكن تطبيقه وليس عن الأمثل. ويمكن تطبيق الدروس المستفادة من دراسة الابتكار من أجل التعامل مع هذه المشكلات المستمرة، ومنها تيسير التعاون والترابط وهيكلتهما وإدارتهما، وإدارة المخاطر وتقييم الخيارات، واستخدام أدوات التعاون مثل تقنيات الشبكات الاجتماعية. إضافةً إلى ذلك، يمكن أن يساعد استخدام تقنيات الابتكار في تشكيل ومحاكاة الآثار المحتملة للقرارات، وتساعد قدراتها التصورية في التواصل بين أطراف متنوعة ومشاركتهم الواعية من أجل المساعدة في صناعة القرار التشاركية.

(٤) أفراد أذكى

كيف سنتعامل شخصيًّا مع طريقة تغير الابتكار؟ سواء أكنا نعمل في قطاع خاص أم عام، أو في مجموعات مجتمعية، أو كأعضاء في المجتمع، كيف يمكن أن نكون أكثر ذكاءً في أسلوب تطويرنا للابتكار واستخدامه؟ بالتأكيد، إن المزيد من محو الأمية التكنولوجية سيحسن كفاءتنا في هذا العالم شديد الترابط، إلا أننا يجب أن نصبح أيضًا أكثر مهارة في تشجيع الإبداع، والتعامل مع التغيير، والتواصل عبر الحدود، ووضع الأفكار موضع التنفيذ. فهناك حاجة إلى الحدس والحكمة، والتسامح والمسئولية، وتنوع الاهتمامات والحساسيات الموجودة عبر الثقافات. ويجب أن يوجد توازن في قدراتنا على التفكير في أفكار جديدة، واللهو بها من خلال تعديلها واختبارها وإنشاء النماذج الأولية، وتكرارها وتطبيقها أو تنفيذها. ويجب أن تكون قدراتنا النقدية وقدرتنا على الشك معتادة على التشكيك في: «هذا هو الحال.» وتكون قدراتنا بارزة من أجل توضيح: «هذا ما نريد أن يكون عليه الحال.» وسوف نطالب بالمكافآت التي كان يحصل عليها عمال مختبر إديسون، لكن ربما دون الساعات المرهقة أو الخوف من «جهاز إحياء الجثث». وفي واقع الأمر، مع الثروة التي نشأت من خلال معرفتنا، نتوقع رضى وظيفي في أماكن عمل تحقق الثراء وتؤدي إلى التنوع، وتتلاءم مع أنماط حياتنا وظروفنا واختياراتنا العائلية.

يجب أن نضمن أن يُعترف بالمخترعين والمبتكرين الذين يقدمون إسهامات كثيرة — أمثال ستيفاني كوليك في العالم — بالطريقة التي يُقدر بها نجوم الرياضة والفن في عصرنا الحالي.

يُعد الابتكار عملية متواصلة، تجلب معها الشكوك باستمرار بشأن نجاحها وفشلها. ويمكن أن تكون مهددة كما يمكن أن تكون مجزية، ويعتمد مدى نجاح استجابتنا لها على مدى تفتح عقولنا وتعاوننا، ومدى استعدادنا لتقبل المخاطر وترك مساحة لغير المعتاد، والعمل مع الآخرين أصحاب التفكير المختلف. وسوف يتأثر هذا بثقافة المؤسسات ونوعية القادة الذين يدركون أن الأمان الوظيفي وتحمل الفشل أساسيان من أجل الابتكار، وأنه لا يوجد أحد يملك كل الإجابات، وأن التقدم تعاوني، وأن السمعة تكمن في التواضع في المطالب والحرفية في التقديم.

لا تُعد نتائج الابتكار دائمًا مفيدة، وكذلك لا يمكن التكهن عادةً بعواقبها. فقد حلت إضافة الرصاص إلى البنزين مشكلة صوت الطرق في المحرك، ولكنها تركت نظامًا بيئيًّا كارثيًّا. وقلل عقار الثاليدوميد من حدة الغثيان في الصباح لدى الحوامل، لكنه تسبب في حدوث إعاقات لأطفالهن. وظهر الانفصال الخطير بين الفعل ورد الفعل جليًّا في الأزمة المالية العالمية التي شهدها العالم عام ٢٠٠٨ / ٢٠٠٩، حيث قُدمت الابتكارات المالية دون أي ضوابط وتوازنات رقابية أو اعتبار لآثارها المحتملة. ويجب أن يكون الاهتمام بالآثار المحتملة للابتكارات ذا أهمية قصوى لدى من يسعون إلى تقديمها.

إن الكميات الهائلة من البيانات المتاحة عن الأفراد لغيرهم من الأفراد والشركات والدولة، تزيد أيضًا من مسئوليات أولئك الذين يصممون الابتكار ويديرونه. ويتطلب الابتكار — في استخدام المعلومات ومجالات أخرى مثل علم الوراثة — اعتبارات أخلاقية عميقة، وممارسات واضحة للغاية ومسئولة، وضوابط حذرة ومتجاوبة. وتوفر تقنيات المحاكاة وعمل النماذج والتصور فرصًا ضخمة لتحسين عمليات الابتكار، لكن يعتمد استخدامها المسئول على مهارات وحكمة الأفراد المستغرقين في مهنهم وتجارتهم نظريةً وواقعًا. ويقتضي الابتكار أن يكون الأفراد واعين ويقظين ومسئولين، سواءٌ أكانوا موظفين أم عملاء أم موردين أم مشاركين أم أعضاء في فريق عمل أم مواطنين. قال أندرو جروف، مؤسس شركة إنتل، إنه في عالمنا المليء بالشك، يبقى فقط المصاب بجنون الارتياب، لكن الفطن والواعي، لا المرتاب والخائف، هو من سيدرك الحقيقة. وقال إيمانويل كانط إن العلم معرفة منظمة، والحكمة حياة منظمة. ويكمن مستقبل الابتكار — حيث تتدفق فوائده وتتقلص تكاليفه — في التنظيم الحكيم للمعرفة.

هوامش

(1) © A. Bacall/Cartoonstock.com.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤