فاجعة حب

شهدتُ فيما مضى حوادث كثيرة لستُ أذكر الآن منها إلَّا حادثة واحدة ليس إلى نسيانها من سبيل، فلا مرور الزمان وتقادم العهد، ولا شواغل الفكر واضطرابات الحياة تمكَّنت أو تتمكن من محوها من نفسي، مع ذلك فالواقعة بسيطة خالية من الشئون الغريبة الباهرة التي تبدو في هذه الحياة شئونًا غير عادية، ولكن مَن يدري؟ فلعلها ليست بسيطة بهذا المقدار، أو لعل في بساطتها شيئًا غير عاديٍّ جعلها ترسخ في نفسي، ويدفعني الآن إلى روايتها وفي نفسي ألمٌ وأسًى؛ لأنها انتهت بفقْد صديق حميم لي على كيفية تجعل قلب كل إنسان رقيق الإحساس يتفطَّر حزنًا.

كان صديقي سليم مولعًا بدراسة الموسيقى، وكنت أنتظر أنْ يخرج ناظمًا موسيقيًّا مجيدًا لما كنت أعهده فيه من شدة العواطف، وسلامة الذوق، وقوة الشعور، وما كان هو عليه من سمو الإدراك وتعمق في الفهم، كانت نفسه كبيرة حتى كأنها تسَع الكون، وكان يُحب أنْ يرى شعبَه آخذًا قسطه من الموسيقى العالية؛ أي: إنَّه كان يريد أنْ يرى في شعبه موسيقى سامية تستطيع أنْ تُعبِّر حقًّا عما في القلب من شعور، وما في العقل من تأملات أدبية وفلسفية، ولا أزال أذكر حديثًا له حين كان قلبه طافحًا بالعواطف القوية، ونفسه مترعة بالآمال الكبيرة، وهو حديث لا يكاد يُمثِّل ما كان عليه سليم، ولكنه يجعل الذين يسمعونه أو يقرءونه يشعرون أنَّ ما كان يجول في فكر المحدث شيء سامٍ، لو أنه تحقَّق لانتشل حياة شعبه انتشالًا تامًّا من الجمود والخمول اللذين لا يزالان يرافقانها، من أجل ذلك رأيتُ أنْ أُثبِته فيما يلي كما يحضرني، وأظن أنه لا يكاد يفوتني شيء منه:

كنا مرة مجتمعين في حلقة من الأصحاب فأخذنا نتحدث في كل علم وفنٍّ حتى تطرَّقْنا أخيرًا إلى الموسيقى، وكان بيننا مَن شبَّ ولم يسمع سوى الألحان الشرقية الشائعة عندنا التي يسمونها خطأً «الألحان العربية»، وإذا كان قد سمع بعض الأنغام الغربية، فهو لم يعبأ بها ولم يحاول فهمها، وكان آخرون ممن سمعوا الألحان الشرقية والأنغام الغربية ووقفوا على ما في هذين النوعين من الموسيقى من فنٍّ وافتنان، فقدَّم هؤلاء الأنغام الغربية على الألحان الشرقية لرُقِيِّ تلك وغناها في التعبير عن الحياة العاطفية، ولفقر هذه من هذه الوجهة ووقوفها عند حدِّ التعبير عن الحالات الأولية، وتعصب أولئك — ولعل تعصبهم من باب الشعور القومي غير الناضج وغير الواضح، والتمسك بمبدأ المحافظة — للألحان الشرقية، وهذا شيءٌ طبيعيٌّ، فالذين يفهمون لحنًا موسيقيًّا واحدًا فقط يُفضِّلونه على كل لحن ونغم غيره.

وكان من وراء ذلك أنَّ الجدل في هذا الموضوع احتدم بين الفريقين وطال أمره، حتى خشيتُ أنْ يئول إلى تباغُض وشحناء، كما جرت العادة عندنا — نحن السوريين — إلى هذا اليوم، فإننا قليلًا ما نتناقش في أمر بقصد التوسع في المعرفة والفهم، وتبيُّن وجه الصواب ووجه الخطأ، إلَّا أننا لم نبلغ هذا الحد في هذه المرة؛ لأن الفريقين المتجادلين قرَّرا أنْ يستفتيا سليمًا في الأمر بصفة كونه خبيرًا في نوعَيِ الموسيقى؛ الشرقي والغربي، ومحبًّا للإنصاف والحقيقة، فسأل سليم أحدَ المُتشبِّثين بأفضلية الموسيقى الشرقية المحافظة، واسمه بهيج، قائلًا: «أتدري — يا صاحبي — لماذا وُجدت الموسيقى؟»

فأجاب بهيج بلهجة الموقن: «أجلْ، وجدتِ الموسيقى لتكون لغة العواطف.»

قال سليم: «لو كنتَ خبيرًا بالموسيقى لما جزمتَ بهذا التحديد الذي يُجرِّد الموسيقى من ثُلُثَيْ مزاياها على الأقل.»

فهتف أربعة دفعة واحدة: «ثلثي مزاياها؟!»

سليم : نعم، ثلثي مزاياها.
بهيج : إذن، كيف تُحدِّدها أنت؟
سليم : إني أحددها بإطلاقها من كل تحديد، فإنك تستطيع أنْ تعرف الكثير من مزايا الموسيقى، ولكنك لا تتمكن من حصرها، ليست الموسيقى لغة العواطف فحسب، بل هي لغة الفكر والفهم أيضًا، إنها لغة النفس الإنسانية بكل ظواهرها وبواطنها، وإنْ شئتَ فقلْ: إنَّ الموسيقى تتناول العواطف الأولية والحالات النفسية على أنواعها، والأصوات على اختلافها، والشعر والأدب والفلسفة، ومن هذه الوجهة لا يمكنك أنْ تقسم الموسيقى إلى قسمين، شرقي وغربي، وإنما يمكنك أنْ تُميِّز بين الأساليب الشرقية والأساليب الغربية في التعبير عن المعاني النفسية المقصودة من الموسيقى، وبين أصناف هذه المعاني عينها، فمتى كانت الموسيقى الغربية تعبر عن العواطف والحالات النفسية التي تُعبِّر عنها الموسيقى الشرقية عينها، أمكنك فهمها بكل سهولة وإنْ اختلف أسلوبها، فيتضح لك مما تقدم أن وجه الفرق فيما تسمُّونه الموسيقى الشرقية أو العربية والموسيقى الغربية ليس في أساس الموسيقى، فلا يوجد نزاع قط من هذا القبيل، بل في المعاني التي يُقصد التعبير عنها عند الشرقيين وعند الغربيين، وفي الأساليب المتخذة لبلوغ هذا الغرض، وإنَّ الفرق الذي تجده بين أساليب الموسيقى الشرقية ونظائرها الغربية ليس إلَّا مجرد تنوُّع يتبع حالات نفسية خاصة، ويمكنك أنْ تجد البرهان القاطع على صحة هذه النظرية في العلوم الطبيعية والنفسية وفروعها، فإن هذه العلوم تُثبِت بما لا يَقبَل الرد أنَّ الطبيعة البشرية واحدة في جميع العناصر والشعوب وإنْ تعددت الأمزجة.
إنَّ عواطف الحب والبغض والرقة والقساوة والسرور والحزن، وبواعث الطرب والتأمل واللهو والتفكير والطموح والقناعة، وما ينتج عنها جميعها من ثورات وانفعالات وتصورات نفسية، تقصر الكلمات عن وصفها، كل هذه واحدة في جميع الأمم في الشرق والغرب، ولا فرق بينها إلَّا بمقدار تنبُّه النفوس وارتقائها، وشدة شعورها أو خمولها وانحطاطها وعدم شعورها، فالقوم الذين لا تزال نفسيتهم في دورها الابتدائي أو كانت محجوزًا عليها بحكم العادات والتقاليد العتيقة الناتجة عن تلك النفسية، كانت موسيقاهم ابتدائية أيضًا، وهي في هذه الحال لا تعبِّر إلَّا عن العواطف التي هي شيء مشترك بين الإنسان والحيوان، كالشهوات الجنسية التي تُمثِّل معظم عواطف هؤلاء القوم، وبعكس ذلك القوم الذين تحررت نفسيتهم وارتقت، فإن موسيقاهم تعبر عن عواطف تسمو على الشهوات الجنسية، وتخيلات تعلو عن الأغراض الحيوانية الدانية، إذ لم يعد مطلبهم في الدنيا مقتصرًا على «وصال الحبيب»، بل أصبح مطلبًا أعلى يرفع الحب نفوسهم إليه، ويشحذ عزائمهم لتحقيقه مولدًا في نفوسهم من العواطف السامية والأفكار والتخيلات الكبيرة، مالا يستطيع فهمَه مَن همُّه وصال الحبيب وعلى الدنيا السلام، هذه هي العواطف والتصورات والأفكار التي تعبر عنها موسيقى أمثال بيتهوفن، الذي بلغ في الفن الموسيقي حدَّ الألوهية؛ لأن معزوفاتِه استغرقتْ أسمى ما تصبو إليه النفس البشرية في الحياة، إنه كان يشعر بعواطف وآمال وأميال جميع إخوانه البشر، حتى كأن نفسه كانت مؤلَّفة من كل النفوس، وهذه هي صفة النابغة كما هي صفة الشاعر والأديب النابغة، انظر إلى ما تعبر عنه معزوفات هذا الموسيقي الخالد: خذْ مثلًا سنفونيته السابعة التي أجاب بها على مدافع السفاح نابليون بتيار من الأنغام، تحوَّل إلى تيار من العواطف البشرية الطالبة الحرية، الثائرة على الظلم والاستبداد، لا يزال جاريًا وسيظل جاريًا أبد الدهر! انظر إلى معزوفاته الأخرى كسنفونيته الخامسة المعبِّرة عن الصراع بين عوامل الفناء وعوامل البقاء، بين الموت والحياة وانتصار هذه بفتوتها على ذاك بهرمه، ومعزوفات غيره من الموسيقيين الخالدين فهي لا تقف عند رفع العواطف الروحية فحسب إلى مراتب السمو، بل تتعدَّاه إلى رفع الأفكار والتصورات العقلية أيضًا، لا، يا صاحبي، لم توجد الموسيقى لتكون لغة العواطف الأولية التي وقفت عندها الموسيقى التقليدية الشائعة بيننا، بل لغة النفس بجميع ما فيها من عواطف وأفكار.»

(بينما كان سليم يتكلم كان الأصحاب جميعهم مصغين كل الإصغاء، فقد كانت هذه المرة الأولى التي يسمعون فيها حديثًا من هذا النوع، وبعد صمت ظهر في أثنائه أنَّ الرفقاء كانوا يجتهدون في فهم خطاب سليم، ويحاولون إدراك المدى البعيد الذي بلغه قال بهيج: «ما رأيك إذن في موسيقانا؟»)

سليم : الحقيقة — يا صديقي — أنه ليس لنا موسيقى تُعَدُّ نَتَاجَ نفسيتنا — نحن السوريين — من حيث إننا قومٌ لنا مزايا خاصة بنا، أمَّا الألحان الشائعة بيننا فليست — باستثناء ألحان شعبية معينة — مما نشأ من نفسيتنا، بل هي مزيج من نفسيات أقوام مختلفة، وإذا كان فيها ما يعبر عن جزء يسير من عواطفنا ومزاجنا، فهي تُقصِّر تقصيرًا كبيرًا عن استيعاب ما في أعماق نفوسنا من شعور يستغرق ما في الكون من عوامل ومؤثرات نفسية، وما في صميم عقولنا من تصورات وتأملات تظهر فيها حقيقة طبائعنا ومواهبنا، إنَّ الألحان التي تسمعها كل يوم ليست خارجة من نفسيتنا، بل هي مما دخل على تقاليدنا وعاداتنا، إنها ألحان تقليدية فحسب.
بهيج : إذن، أنت تفضِّل الموسيقى الغربية.
سليم : قلتُ: إنه لا تفضيل في الموسيقى، إنما إذا كنتَ تريد معرفة رأيي في الفرق بين موقفنا من الموسيقى، وموقف أهل الغرب منها، فإني أصارحك أنَّ شعوب الشرق — خلا الروسيين إذا كانوا يُحسَبون شرقيين — قد عدَلَت عن الأسس الموسيقية إلى الألحان الموضوعة، أو هي قد اقتصرت في الموسيقى على طائفة من الألحان لا تجد عنها محيدًا، وهذا كان شأن أهل الغرب أيضًا، إلَّا أنه لما ارتقتْ نفسيات البشر وعقلياتهم، اضطرت الموسيقى إلى مجاراة هذا الارتقاء؛ لكي تعطي المَثَل الصحيح للعواطف والأفكار الجديدة التي لم تعد الألحان الموضوعة تكفي للتعبير عنها، وقد سبق الغربيون أهل الشرق إلى إدراك ذلك فأحدثوا في الموسيقى تطورًا خطيرًا، إذ إنهم عدلوا عن الألحان إلى الأصوات المفردة التي هي أساس الموسيقى، فرتَّبوها، وأدخلوا على الموسيقى الأدب والفلسفة، فضلًا عن الشعر، وهكذا استتبَّ لهم إظهار مكنونات النفس الراقية بواسطتها، وهذا ما يجب أنْ يحدث في سوريا وفي كل قُطْر فيه شعبٌ حيٌّ في نفسيته وعقليته.
إنَّ التقاليد القديمة المستعارة قيدت نفوسنا بألحان محدودة ابتدائية، قد أصبحت حائلًا بيننا وبين الارتقاء النفسي، إنَّ في فطرتنا ونفوسنا شيئًا أسمى مما تعبر عنه هذه الألحان الجامدة، شيئًا أسمى من الشهوات أو العواطف الأولية، إنَّ في أنفسنا فكرًا عاطفيًّا وفهمًا عاطفيًّا يتناولان التأملات العميقة في الحياة، والرغبة الشديدة في تحسينها من وجوه متعددة: اجتماعي، قومي، روحي، إنساني، ويدفعاننا نحو مطلب أعلى أليق بوجودنا، يحتاج تحقيقه إلى أنواع من الموسيقى غير الألحان المستعارة الموضوعة لحالة أو حالات نفسية محدودة معينة؛ كحالة الحزن أو حالة التدلُّه في الغرام، فإن نغمًا وضع لحالة من هذا النوع لا يصح أنْ يستعمل في حالة أخرى تختلف عنها كل الاختلاف، كحالة غضب النفس وثورتها على الاستبداد والظلم، أو حالة الجذل والابتهاج، أو حالة التأمل، بل إنَّ لحنًا وضع لحالة نفسية منذ نحو ألفَيْ سنة لا يمكنه أنْ يعبر عن هذه الحالة بعد مرور زمن طويل اكتسبت فيه النفس من الاختبارات ما رقَّى شعورَها، وأكسبَ الحالة النفسية المقصودة معانيَ جديدة تحتاج إلى أنغام جديدة لوصفها، فإذا كنا نريد أنْ تحيا نفسيتنا حياة راقية تُقرِّبنا من أكناف السعادة، وجب علينا أن نُحرِّرها من ربقة الألحان التقليدية التي لا تُغذِّي إلَّا العواطف الدنيا، وأنْ نعود إلى الأصوات نفسها فنسلط عليها فكرنا العاطفي وفهمنا العاطفي، ونستخرج منها موسيقى تغذي كل عواطفنا وكل تصوراتنا، وتَظهَر بواسطتها قوةُ نفسيتها وجمالُها.

لما أتمَّ سليمٌ عبارته التفتُّ إلى الرفقاء، فوجدت بهيجًا وأصحابه قد وقفوا عند أفكار جديدة لم يكونوا قد سمعوا مثلها من قبل، ثم إنَّ أحدهم نظر إليَّ وخاطبني قائلًا: «ما رأيك يا سيد، فيما يقوله السيد سليم؟»

قلت: إني أوافق على جميع ما قال، وأتخذ من حكمه في الموسيقى حكمًا في الأدب، انظر إلى شعرائنا كيف يَحْدُون العِيسَ في منظوماتهم، وما هم في ذلك إلَّا مقلدين؛ لأن حَدْوَ العيس ليس من شئون شعبهم ولا من مظاهر تمدنهم، وإلى كُتَّابنا كيف يتكلمون عن الغبراء والبطحاء وبلادهم جبلية خضراء، إنَّ التقليد قد أعمى بصائرهم عن الحقيقة، وإني أعتقد أنه لا بُدَّ من القيام بجهود جبارة قبل أنْ تصبح النهضة الأدبية معبرة عن حياتنا القومية، ولكني موقن بأنه سيجيء اليوم الذي يتحقق فيه ذلك، وتصير النفسية والعقلية السوريتان الغنيتان بمواهبهما الطبيعية مَعِينين ينهل منهما الأدباء، وأهل الفنون والعلماء والفلاسفة الذين يخرجون من صميم الشعب السوري.»

وبعد صمت قصير انصرفنا، وقد رسخ حديث سليم في ذهني، ولم تزده الأيام إلَّا رسوخًا.

إنَّ الحديث المتقدم يوضح روح التجدد التي ملأت حياة صديقي سليم، وأرادت أن تتناول عصرًا وأمة، والذي أعلمه أنَّ سليمًا كان قد ابتدأ ينظم سنفونية في انتهاء عهد الخمول، وبزوغ شمس يقظة الشعب السوري، والصدق يوجب عليَّ أنْ أروي أنَّ سليمًا كان يعتقد أنَّ نهضة الشعب السوري ضرورية للتمدن؛ لأنه كان موقنًا من مزايا الحرية والسلام والمحبة المتأصلة في قومه، وهو لم يكن يرمي من وراء ذلك إلى غرض سياسيٍّ، بل إلى ما هو أعظم شأنًا وأكثر فائدة من الغرض السياسي، إنه كان يرى الفورة السياسية أمرًا تافهًا، إذا لم تكن مرتكزة على نفسية متينة يُثبِّتها في قلب كل فرد، سواء أكان رجلًا أم امرأة، شابًّا أم شابة، أدبٌ حيٌّ وفنٌّ موسيقيٌّ يوحِّد العواطف ويجمعها حول مطلب أعلى حتى تصبح، ولها إيمانٌ اجتماعيٌّ واحد قائم على المحبة؛ المحبة التي إذا وجدت في نفوس شعب بكامله، أوجدت في وسطه تعاونًا خالصًا وتعاطفًا جميلًا يملأ الحياة آمالًا ونشاطًا، حينئذٍ يُصبح الجهاد السياسي شيئًا قابل الإنتاج، وأمَّا الوطنية القائمة على تقاليد رجعية رثَّة، فهي شيء عقيم ولو أدَّت إلى الحرية السياسية.

هذه خلاصة نظرية سليم في تجديد حياة قوم، وهي نظرية الرجل الفني الذي يريد أنْ يبتدئ في القلوب والأفهام، ولستُ أشك أنه على صواب، وأن نظريته قريبة جدًّا من نظرية الاجتماعيين الشعوبيين الذين ينظرون في حياة الشعب الداخلية، ولا يأبهون كثيرًا للمجد السياسي، أو يعدونه شيئًا لا يتقدم على الحياة الحرة في العقل والنفس، ويرون أنَّ حرية النفس أساس كل الحريات، وهي من هذه الجهة لا تتضارب ونظرية السياسيين الشعوبيين، ولكن السياسيين كثيرًا ما يقصرون عن فهمها، لا تتضارب النظرية المتقدمة ونظرية السياسيين الذين يعملون للحرية، ولكنها تختلف عن نظريتهم اختلافًا كبيرًا، ففي حين أنها لا تنكر أهمية الحرية السياسية لا ترى أنَّ الحياة السياسية أساس الحياة القومية، أو أنها هي الوطنية الكاملة كما يدعي السياسيون.

أما وقد شرحت شيئًا من خصال سليم وأفكاره في الفن والحياة، فيجب عليَّ أن أذكر شيئًا من أطواره الفريدة؛ لأقرِّب شخصيته من مخيلة القارئ بقدر الإمكان، ولا شك عندي في أنَّ أطواره نتيجة طبيعية لأخلاقه وعواطفه القوية وإحساسه الشديد، فهو إذا تأثَّر لشيء كان تأثُّره شديدًا عميقًا تامًّا، لا يكاد يبدو منه شيء في الحال، ولكنه لا يلبث أنْ يبدو أثره بعد مدة من الزمن؛ لذلك كان من الصعب تتبع حالاته النفسية وفهم عواطفه ومزاجه، ولا أظن أنَّ أحدًا غيري تمكَّن من فهمه ومعرفة كُنْه أمره؛ لأني كنتُ الصديقَ الوحيد الذي لازَمه وصحبه في أكثر رَوْحاته وغَدَوَاته، ووقف على الحوادث التي كانت تنطبع في ذهنه وهو هادئ ساكن كأنه لا يشعر بشيء مما يجري، وكان سليم يدرك أني واقف على حاله، فكان إذا نظر إليَّ تبسَّم تبسُّم الفاهم الخبير، ولكنه مع ذلك كله لم يكن يُحدِّثني في حادثة واحدة قط، ولا أنا حاولتُ استطلاع رأيِه وسبر غور عواطفه، بل قليلًا ما كنا نتبادل النظر في مجرى الحوادث، كأن الواحد منا لم يكن يريد أنْ يُظهِر للآخر شعورًا يُشابِه شعوره!

مع كل ذلك ومع عظم المودة التي كانت بيننا كان سليم يُخفي في نفسه حبًّا قويًّا لفتاة كنت لا أعرفها لذلك الحين، ولكن الحظَّ أتاح لي التعرُّف إليها فيما بعد، فإذا بي أرى آنسة ذات نفس جمة اللطف وأخلاق وافرة، وكانت حين تعرفتُ إليها مكتئبة اكتئابًا داخليًّا عميقًا، فكانت كآبتها ستارًا يحجب نفسيتها وأطوارها.

لم يطلعني سليم على أمر حبه، ولكني كنت أشعر أنَّ قوة خفية كانت تغذي عواطفه وتوحي إليه أنغامه الموسيقية، ومع كل التكتم الذي أحاط نفسه به، فإن الناس ما لبثوا أنْ شرعوا يتهامسون بشأنه، ولقد دخلتُ عليه ذات يوم في غرفته فوجدته طافحًا جَذَلًا وحُبُورًا، فابتدرني بقوله: «أظن أني قد قاربتُ أسعد أوقاتي، وأعظمها شأنًا في حياتي الخاصة وحياتي العملية العامة، تعال يا أ. اسمع هذا النغم الذي أوحاه إليَّ شعوري، إنه عبارة عن قطعة صغيرة بسيطة.»

وجلس إلى البيانو، وجعل يُوقِّع قطعة لم تستغرق أكثر من عشر دقائق، فسمعتُ أنغامًا لطيفة تضاهي أرق الأنغام التي سمعتها في حياتي، ووجدت فيها شعورًا جديدًا لم أجد في غيرها من الأنغام ما يفوقه قوة وجمالًا، فهنأتُ نفسي بهذا الصديق الذي جاء ليوجد لنا محلًّا رفيعًا في عالم الموسيقى، وأيقنت أنَّ مجهوداته في هذا السبيل غير ذاهبة عبثًا.

فلما انتهى التفتَ إليَّ وقال: «كيف رأيت؟» قلت: «إني أهنئك من صميم قلبي؛ فإنك قد أجدتَ النظم والنثر والشعر والأدب.»

وفيما نحن كذلك إذا بالباب يطرق ويدخل السيد ك. فسلَّم وقال: «جئتُ أدعو السيد سليمًا إلى مائدة شاي، ولكن ما دمتَ أنت أيضًا يا سيد أ. هنا، فاسمح لي أنْ أدعوك إلى مشاركتنا.» فقبلنا الدعوة وخرجنا معًا.

ولما بلغنا منزل السيد ك. استقبلتْنا ربتُه، فلاحظتُ أنها تهتم كثيرًا لهذه الزيارة، بل بدا لي أنها تُعلِّق عليها أهمية غير اعتيادية، وأن لها من ورائها غاية، فرحبتْ بنا ترحيبًا كثيرًا، وأظهرتْ سرورًا وابتهاجًا زائدين.

لم يكن السيد ك. وزوجه سوريين بل أجنبيين، وكان لهما معارف في دائرة معينة من المجتمع السوري، والسيدة ك. تتكلم العربية بلهجة سورية وبدون تكلف، إلا أنَّ أغلاطها غير قليلة ولفظها غير صحيح، وكان عندها في البيت ساعة مجيئنا زائرتان هما الآنسة السورية أسما والسيدة الأجنبية و. وهذه الأخيرة كانت متزوجة رجلًا سوريًّا، ولم يكن قد مضى على وجودها في سورية زمن طويل، فقامت السيدة ك. بتقديمنا إلى هاتين الزائرتين، ثم جلسنا وجعلنا نتحدث والحديث ذو شجون.

وكان من قسمتي أن أستقل والآنسة أسما بحديث طويل، تناول البحث في شئون المرأة العصرية ومركزها في محيطنا.

وأخذت السيدة ك. في مجادلة زوجها في بعض الشئون جدالًا حادًّا، وبقي سليم في مركز لا سبيل معه إلى الاختيار، ولا حظتُ أنه مرتبك قليلًا؛ لأن السيدة و. كانت تُطيل النظر إليه وتنتظر أنْ يُحدِّثها، وكانت إذا تحدث تميل إليه بكليتها، وتُظهِر بصورة مخصوصة أنها تسمع كل نبرة من نبرات صوته.

أرى أنه لا غنى لي عن وصف هذه الأجنبية السيدة و. الرقيقة العود، اللدنة القوام، المعتدلة القامة، والتي لها وجه صبيح وبشرة بيضاء ناعمة وحاجبان ظاهرة العناية في تزجيجهما حتى صارا كقوسين، ولها في قيامها وقعودها تأنُّق ودلال، ومع كل أوصاف هذه السيدة الجميلة لم يظهر لي أنَّ سليمًا شُغف بها، ولكنه كان مضطرًّا اضطرارًا إلى مجالستها ومحادثتها.

ولقد علمتُ فيما بعد أنَّ هذه السيدة كانت غير سعيدة مع زوجها، فهو كان ممن لا تزال تقاليد التربية القديمة تجعل لتصرفه نوعًا من الخشونة والفظاظة مستترًا وراء حجاب التهذب والرجولة الذي اكتسبه في أثناء وجوده في أوروبا؛ فكان يختلف من هذا القبيل اختلافًا كبيرًا عن زوجه التي كانت قد رُبِّيت في محيط أوروبيٍّ، ارتفعت فيه أساليب المودة وتكلف اللطافة إلى مستوًى عالٍ.

إذن، كانت السيدة و. غير سعيدة، وكانت تتوق إلى السعادة في هذا المحيط الجديد المتراوح بين ما هو عريق في التقاليد وما هو جديد في التمدن، ولكن هذه حقيقة لم أكن أدري بها في هذا الاجتماع، على أني كنت أشعر أنَّ لهذه السيدة ميولًا غريزية قوية تملك قيادها وتتسلط على إرادتها.

وبعد مدة قصيرة فرغتِ السيدة ك. من مناقشة زوجها، والأصح أنها لم تفرغ قط، ولكن زوجها كان يريد الذهاب لبعض أغراضه، فاعتذر إلينا واستأذن وانصرف، وما كاد يخرج من الباب حتى تحولت السيدة ك. إليَّ وإلى الآنسة أسما، ولم تلتفت إلى السيدة و. وسليم، بل إنها تجاهلت وجودهما بالمرة، فأيقظ عملُها هذا فطنتي، ليس لأنه غريب فلا غرابة قط فيه، بل لأن سليمًا لم يكن من الرجال الذين يميلون إلى التحدث، وكنت أعرف أنه يحتقر الأحاديث الاعتصابية التي لا تدور حول موضوع معين ينتظر الفراغ منه، فهو لم يكن يتحدث لمجرد قتل الوقت بتجاذب الحديث.

وبينما فكري يتراوح بين هذه الظنون والأحاديث التي كانت دائرة بيني وبين الآنسة أسما، إذا بالسيدة ك. تدعوني وهذه الآنسة لمشاهدة مجموعة الملونات التي عنيت بجمعها.

وكنت مشغوفًا بالصور الملونة حتى أني كنت أقف وقتًا طويلًا أمام الصورة الواحدة الهامة، مطيلًا النظر إليها كأني أحاول طبع ما فيها من دلائل الحياة وعظمة الفن في ذهني بحيث لا تعود تبرحه، فتبعتُ السيدتين إلى الغرفة المجاورة حيث كانت مجموعة الصور، فوجدتها مؤلفة من نحو عشرة أطر، تتضمن كلها صورًا لملونين عصريين بينها ثلاث صور أعجبتني كثيرًا: الأولى رأس قروي، والثانية برية جبلية، والثالثة منظر وردة على نور شمعة.

لا أدري كم دقيقة استغرق وجودنا في الغرفة المجاورة، ولكني أدري أننا عدنا لنرى سليمًا والسيدة و. كما تركناهما ورأتِ السيدة ك. أن تغيِّر مجرى اجتماعنا، فأدارت الغرامفون ولم يبقَ عن الرقص من محيد؛ لأن عدمه يعتبر إهانة لا سبيل إلى التكفير عنها عند السيدات المتأنِّقات، وأشارتْ إليَّ ربة البيت أنْ أدعو الآنسة أسما للرقص ففعلت، أما سليم فظل في مكانه لا يتحرك، فحضَّتْه السيدة ك. على الرقص، ولكنه اعتذر بأنه لا يحسنه، فلم يلقَ اعتذاره القبول، وتبرعت السيدة و. بأن تُعلِّمه قليلًا، وكان سليم خجولًا جدًّا فقبِلَ خوفًا من أنْ يُسيء التصرف، فجعلنا نرقص والتهت السيدة ك. بتدبير بعض الشئون.

ولم ينته الرقص الأول حتى وضعت السيدة ك. قرصًا آخر موسومًا: «إني أحبك»، ولاحظت أثناء رقص هذا الدور أنَّ السيدة و. جعلت ذراعها حول عنق سليم بدلًا من أنْ تضع يدها على كتفه، وأنها كانت تضغط عنقه كلما صاح المغني: «إني أحبك.»

فلما انتهت هذه الرقصة رأيت سليمًا قد تبدَّل كثيرًا، رأيتُه منفعلًا أيما انفعال، وهو ما لبث أنْ التفتَ إليَّ وقال: «هلم نذهب يا صديقي؛ فإنهم ينتظروننا.»

ولم ينتظر أنْ أجيبه، بل إنه أسرع إلى السيدة ك. فشكرها وودعها، ثم تحول إلى السيدة و. فودعها، وودع الآنسة أسما، وخرج تاركًا السيدة و. مبهوتة جدًّا، وفعلتُ أنا مثل فعله، وتبعته مهرولًا، وقطعنا الطريق كلها صامتين حتى بلغنا منزل سليم، ودخلنا غرفته، فذهب سليم لتوِّه إلى البيانو، وشرع يوقع ألحان قطعته التي كان قد أسمعنيها، ولكنه أكسبها هذه المرة قوة مؤثرة شديدة، وقد خُيِّل إليَّ أنه بدَّل فيها أو زاد عليها، فاقتربتُ من البيانو، ونظرت في وجهه، فوجدت عينيه محمرَّتين والدموع تجول فيهما.

كانت المرة هذه الأولى التي لاحظت فيها ظاهرة غريبة من هذا النوع، لم أكن أعهدها في صديقي سليم من قبل، وانتهت القصيدة الموسيقية، ولكن يدي سليم ظلتا ضاغطتين على المواقع الأخيرة، بينما كان هو يحدق في الأفق من النافذة، وكأني به سها عن وجودي معه في الغرفة؛ لشدة ما هو فيه، فرفع يديه عن مواقع البيانو، وأخرج من جيبه محفظة فتحها وأخذ منها صورة جعل يتأملها، ويزيد التأمل كأنه يبحث فيها عن شيء جديد، أو يتفقد شيئًا قديمًا عزيزًا، وبعد أنْ أطال النظر إليها أدناها إلى شفتيه، وطبع عليها قبلة طويلة، ثم أخرج من جيبه منديلًا مسح به الدموع التي أخذت تتدفق من عينيه تدفقًا.

في هذه اللحظة انكشف لي سر الانفعال الشديد الذي استولى عليه على أثر تطويق السيدة و. عنقه بذراعها البضَّة، وضمها إياه إلى صدرها أثناء الرقص، وتأكَّد لي أنَّ حبًّا خالصًا قويًّا يفعم نفسه، ورأيت أنَّ سليمًا في حاجة إلى الاختلاء، وأن وجودي معه لا يخفف شيئًا مما به، فانسللت من الغرفة، وعدت إلى منزلي، وقد عقدتُ النية على أنْ أزوره في الغد، فلما زرته في اليوم التالي وجدته أميل إلى الهدوء، وإن كان في مظاهره ما ينم عن بقية جزع.

مرت على أثر ذلك أيام، عاد بعدها إلى سليم صفوه، وعاوده جذله ونشاطه، فعكف على عمله الموسيقي بارتياحٍ نفسيٍّ جليٍّ، وتفاءلتُ أنا خيرًا إلى أنْ كان ذات يوم زرتُه فيه فوجدته جالسًا إلى البيانو على عادته، وأمامه أوراق السلم الموسيقية ينظم عليها أنغامه الجديدة، ويُجرِّبها ثم يمحو ويغير ويبدل حتى يستقيم له النغم الذي يريد، فجلست حذاءه، وأخذت في مطالعة كتاب أدبي كان بيدي وتابع هو عمله، وبينا نحن كذلك إذا بالباب قد طرق، ودخلت خادمة البيت وفي يدها كتاب دفعته إلى سليم ففتحه وقرأ وفكر قليلًا، ثم دفعه إليَّ فتناولته وقرأت:

عزيزي سليم

لقد مرت الأيام، وكادت تكِرُّ الأعوام على اجتماعنا في منزل السيدة ك. وكنتُ كل هذه المدة أتردد إلى هذه السيدة مُعلِّلة النفس بالحظوة بلقياك، ولكن على غير طائل، قد تستغرب هذا الأمر مني، ولكن هو الواقع الذي لم يبقَ لي سبيل إلى كتمانه عنك، فإنك قد وقعتَ من نفسي موقع الحبيب الذي أصبو إليه، وأشتهي مَرْآه بل إنَّ حبك قد تملَّكني حتى لم يعد في قوس صبري منزع، وأنا التي كنت من الهيام مناط الثريا، فلم يُجرِّب رجل أن يستهويني إلا كانت الخيبة نصيبه، ولكني وجدتك رجلًا لا كالرجال، بل لا أبالغ إذا قلت: إنه ليس لك مثيل في هذه البلاد العجيبة الغريبة، وإني كلما رأيتك مرة في الشارع عدت إلى البيت وفي نفسي ثورة لا تستكن.

إني ترددت كثيرًا في كتابة هذه الرسالة إليك، ولكن العاطفة كانت أقوى من الإرادة، وقد دفعني الحب فاندفعت، فإذا بلغتْك هذه الرسالة فاعلم أني بانتظارك كل يوم بعد الظهر في منزل السيدة ك. ولا أراك إلا مُلبِّيًا نداء الغرام، ولك مني الآن قبلة حارة أطبعها على توقيعي.

و.
ولما فرغت من قراءة هذا الرقيم تبادلت وسليمًا نظرًا طويلًا ثم نهض سليم من مجلسه كمن تنبَّه لأمر خطير وذهب إلى طاولة صغيرة واقفة في زاوية من زوايا الغرفة، وكان يتخذها مكتبة له فجلس إليها وتناول ورقًا وقلمًا وكتب رسالة إلى السيدة و. أطلعني عليها فإذا هي كما يلي:

أيتها السيدة العزيزة

لقد جمعتْنا الصدفة في بيت السيد ك. للمرة الأولى، وإنه ليؤسفني أنْ يكون ذاك الاجتماع قد أوجد في قلبك مثل العواطف القوية التي تتحدثين عنها، يؤسفني ذلك جدًّا؛ لأني أشعر بما تُعانِين في حياتك من الآلام الداخلية دون أنْ يكون في إمكاني تخفيف شيء منها، وإني لو حاولتُ ذلك لكنت كاذبًا فيما أقول أو أفعل، وقلبي لا يطاوعني على الكذب، وضميري لا يرتاح إلى الخيانة، فإن حبًّا حقيقيًّا يملأ نفسي، ومتى وُجد الحب الحقيقي فلا سبيل إلى التبديل، وكل محاولة من هذا القبيل تكون بلا شكٍّ محاولة فاسدة فاشلة، ولا أظنك ترضين الفشل لنفسك ولي، فتحملي آلامك بصبر، فذلك فضيلة يندر مثلها، ولا تَدْعِي رجلًا ينغمس في الإثم، ثقي بأنني أشعر بالألم الذي تشعرين، ولكن لتكن آلامنا عبرة لا نكبة، وإذا كانت نكبة فمن الخير أنْ تبقى فينا، ومن الشر أنْ تنتقل إلى غيرنا.

أشكر لك مدحك إياي، ولكنك أخطأتِ في وضعي فوق أبناء قومي، فما أنا إلا واحد منهم، وأرجو أنْ تحملي كلامي هذا على محمل الإخلاص، وإذا كانت العواطف التي في قلبك حقيقية، فهي ولا شك تعينك على فهم ما أغلق على الآخرين، والفهم يحولك عن طلب العزاء الخاص الذي قد يكون مصدرًا للضرر إلى طلب العزاء العام، فكلنا يحتاج إلى العزاء، وتكرمي بقبول سلامي واحترامي.

سليم

وكان هذا الكتاب آخر العهد بالسيدة و.

•••

ومرت بعد ذلك الأيام تباعًا، ومضى سليم في توقيعه وتأليفه، وكنت أجيء إليه كل يوم أطَّلع على تقدمه في عمله، وأسمع ما يُجرِّبه من الأنغام الجديدة التي تمثل عواطف قلبه القوية وأفكار دماغه السامية، وأُبدي له ما يحدثه توقيعه فيَّ من التأثير العميق، ثم أعود وقد تولَّاني جذل لا مزيد عليه، وكان أني انقطعت عن زيارته خمسة أيام متوالية، كنت فيها مشغولًا بالبحث عن العصر الذي عاش فيه الشاعر السوري الأكليركي القديم الذي ذكر تاريخ الأدب الألماني لمؤلفه ألفرد بيزي١ أنَّ قصائده الإلهية تُرْجمت إلى اللاتينية، ومن هذه إلى الألمانية وغيرها، وأنها سبَّبتْ نهضة شعرية في كل أوروبا، فلما زرتُه بُعيدها لم أجده جالسًا إلى البيانو كعادته، بل ألفيتُه طريح الفراش في حال لا أخشى التصريح بأنها هالتْني، فإن الأيام الخمسة الماضية كانت قد بدَّلتْه تبديلًا غريبًا، فاصفرَّ وجهه ونحل، وذبلت عيناه وهزل جسمه، ومال إلى السقم، ونمَّت نظراته عن ألمٍ نفسيٍّ عظيم، أثَّر بي منظره وهو على هذه الكيفية تأثيرًا عميقًا، وشعرت عين شعور الملون الفني الذي يعرف قيمة التلوين حين يرى ملونة بديعة جديرة بالخلود قد تمزقت، أو متحفًا فنيًّا فخمًا قد التهمته النيران، أو شعور الإنسان الذي يشاهد مدينة ضخمة عظيمة قد طغى عليها بركان هائل، وأخذها على حين غرة، ولكن في الناس أنانيين شديدي التمسك بأنانيتهم حتى إنهم لو شاهدوا تهدم مدينة عظيمة زاهرة، أو تلاشِي شعلة الشباب والحياة من جسد إنسان لما شعروا بغير ما يشعرون حين ينظرون إلى شمعة تذوب احتراقًا، أو إلى زهرة تذوي لانقطاع الماء عن جذورها والطل عن أوراقها، وهل يشعر الأناني بشيء حين يرى ذوبان شمعة أو ذبول زهرة؟ أنى للأناني أن يفقه شيئًا من هذه الرموز وهو منصرف بكليته إلى لذَّاته ومصالحه؟!

وقفت عند السرير أتفقد حال صديقي بلهفة وجزع، ولكن سليمًا أجابني على نظراتي بتبسُّم وضح لي فيه معنى السخرية من كل شئون الحياة، وكان وسط ما هو فيه من عواطف وزعازع داخلية يتمسك برباطة جأش نادرة المثال، فلم أتمالك عن الإعجاب به لهذه الخلة إعجابًا فاق ما كنت أضمره له من الإعجاب بأخلاقه وفنه، ثم إنه لم يلبث أن خاطبني قائلًا: «ما بالك واقفًا والكرسي إلى جانبك؟ اجلس لنتحدث قليلًا، أين كنت كل هذه المدة؟»

فجلست على الكرسي الذي أشار إليه وقلت: «كنت أنقب عن العصر الذي عاش فيه تاتيان العظيم.»

– «تاتيان؟ ومَن تاتيان هذا؟»

– «يذكر المؤرخ الأدبي الألماني ألفرد بيزي أن تاتيان شاعر سوري أكليركي مجيد، نظم قصائد روحية كان لها تأثير عظيم في تطور الشعر الأوروبي عامة، والشعر الألماني خاصة.»

فزفر سليم، ثم قال: «هل توفقتَ في تنقيبك أو هل عثرت على شيء من قصائد هذا الشاعر؟»

– «كلا، فالوقت لم يكن متسعًا بهذا المقدار، ولا يخفى عليك أنَّ آثارنا الأدبية مبعثرة تبعثرًا لا مثيل له، وليس في البلاد معاهد أو مكاتب عامة أو خاصة تهتم بجمع شتات الآثار الأدبية السورية، والمؤسف أنْ يكون جُلُّ أدبائنا — إنْ لم يكن كلهم — جاهلين تاريخ أدبهم القومي جهلًا فاضحًا، حتى إنه لا يكاد يوجد بينهم من يشعر بوجوب التوقف عن ثرثرته ولو فترة قصيرة لينظر في حياته الأدبية نظرًا أعمق من النظر السطحي، الذي تعوَّد أنْ يُلقِيه على الأدب والحياة جميعًا، إنَّ معظمهم يسيرون في قافلة الأدب التقليدي.»

وما كدت أنتهي إلى هذا الحد حتى رأيت وجه سليم قد جفَّ وتجهم دليلًا على زيادة آلامه النفسية، فصمتُّ وكنت راغبًا كل الرغبة في معرفة السبب الذي ألقاه في الفراش لغير مرض، ولكني أشفقت عليه، وصبرت على مضض، وبعد هنيهة قال سليم: «إنَّ آلامًا عظيمة، آلامًا لم يسبق لها مثيل، تنتظر كل ذي نفس كبيرة فينا؛ إذ ليس على الواحد منا أنْ يُنكِر ذاته فحسب، بل عليه أنْ يسير وحيدًا بلا أمل ولا عزاء؛ لأن حياتنا الاجتماعية والروحية فاسدة، فكيفما قلَّبْتَ طرفك رأيت حولك نفوسًا صغيرة متذمرة من الظلمة التي هي فيها، ولكنها لا تجرؤ على الخروج إلى النور، وإذا وجدتَ نفسًا تمد يدها إليك مريدة أن ترافقك في سيرك نحو النور وجدتَ ألف يد أخرى قد امتدت إليها لتُبقِيها في الظلمة، ليس لابن النور صديق بين أبناء الظلمة، وبقدر ما يبذل لهم من المحبة، يبذلون له من البغض.» وزفر صديقي زفرة حارة، وتابع ذلك بلهجة ساخرة: «ولأهل الظلمة مقاييس للأخلاق والشرف والخصال! والويل لمن يتخطى حدود هذه المقاييس! ولهم أيضًا حدود للعواطف البشرية، مَن تجاوزها كان معرضًا للسخط والانتقاد الشديدين، فإذا وجدت فيك عواطف تحملك على ترك المطالب الأنانية والأغراض الهزيلة وترفعك نحو مطلب أعلى يسمو على الشئون الدنية، فأنت معذب عذابًا أليمًا بين أبناء الجيل في هذا الوطن السيئ الطالع.»

قلت: «إنك تتكلم الآن بمرارة نفس شديدة، فهلا زدتَ ثقتك بي، وأطلعتَني على ما دهاك لعلِّي أجد رأيًا فيه الخير.»

– «لا حدَّ لثقتي بك، ولكني أُشفق أنْ تتحمل فوق ما أنت متحمل.»

– «لا تشفق، فليس العلم بالسوء أعظم وطأة من الشعور به.»

فنظر إليَّ نظرًا طويلًا، ثم تناول مِن تحت وسادته كتابًا دفعه إليَّ فقرأت:

صديقي العزيز

أخشى أنْ يكون الليل الذي لا صبح بعده قد أقبل، فإني أكتب إليك هذه الكلمات القليلة لأسألك ألَّا تأتي إلينا بعد اليوم، وهذا أخير لك ولي، ثِقْ بأني قد فكرت مليًّا قبل أنْ أقدمت على هذا السؤال، وإذا كان لي في قلبك شيء من الاحترام فاحسبني صديقة ميتة، لا تكتب ولا تجتهد في أنْ تراني، واعلم أنَّ أحد هذين الأمرين يسبب لي آلامًا شديدة.

أستودعك الله، وإياه أسأل أنْ يشجعك، ويمدك بالصبر في حياتك.

صديقتك
أعدت قراءة هذا الكتاب باعتناء زائد، ثم رفعت رأسي، وقد تجلَّتْ لي خطورته وخطره، فقال سليم: «ليس هذا كل شيء، اقرأ هذا أيضًا.» وناولني كتابًا آخر، تاريخُه بعد تاريخ الكتاب المتقدم وعبارته كما يلي:

حضرة السيد الأكرم

بعد السلام، أبدي أنه بالنظر إلى الصداقة التي تربطني وامرأتي بعائلة الآنسة دعد، فإن أم هذه الآنسة قد كلفتني وامرأتي بمخاطبتكم في قضية ابنتها، تلك القضية التي طال أمرها وتشعبت، حتى لم يعد يحسن السكوت عنها، فإذا أحببتم فتفضلوا بزيارتنا في منزلنا الكائن في شارع م. لنتباحث وإياكم بهذا الشأن؛ إتمامًا لرغبة السيدة الفاضلة سلمى ودمتم.

حاشية: إذا قبلتم الدعوة، فأرجو أنْ يكون حضوركم الساعة الثامنة مساء الجمعة أو السبت القادم.

ج.

وما كدت أنتهي من تلاوة هذا الكتاب حتى أدركت أنَّ صراعًا شديدًا يجري بين نفسيتين؛ الواحدة تنظر إلى مثال أعلى تريد تحقيقه، والأخرى تنظر إلى المادة، ولا تهمها مطالب النفس، وقد استوقف نظري في هذا الكتاب عبارتان، أولاهما قول المرسل: «تلك القضية التي طال أمرها وتشعبت حتى لم يعد يحسن السكوت عنها.» ففي هذه العبارة خشونة هي أقرب شيء إلى الوقاحة، ناهيك باستعمال لفظة: «قضية» استعمالًا قزَّتْ منه نفسي، وأحسست أنَّ الرجل يتكلم كلام من يريد القيام بمساومة تجارية مادية، أما العبارة الثانية فهي قوله: «ودمتم»!

أثار فيَّ هذا الكتاب عاصفة شديدة من الغضب، وأخذت الخواطر تتوالى على مخيلتي، فأعدت الكتابين إلى سليم، ونهضتُ من مجلسي، وشرعت أتمشى في الغرفة، وأخاطب صديقي، فقلت له: «إني أفهم الكتاب الأول تمام الفهم، فإن عبارته المقتضبة تدلني على أنَّ صاحبته كتبته في ساعة انفعال شديد، أما الكتاب الثاني ففيه ما ليس يشهد لصاحبه بصفاء السريرة، وأعترف أني لا أفهم السبب الذي حمله على تسمية الأمر «قضية»، وقوله «حتى لم يعد يحسن السكوت عنها» يدل على وقاحة وخروج عن التفويض الذي يزعمه، لا أدري كيف أُعلِّله؟»

فتبسم سليم ببرودة وقال: «أما أنا فلستُ أرى فيه شذوذًا عظيمًا عن القاعدة المتبعة في هذا المحيط وهذا الزمان، أفلم تختبر كيف أنَّ الناس هنا لا يتركون كبيرة ولا صغيرة مما لا يعنيهم إلا وتدخلوا فيها، فهم إذا اجتمعوا بأحد الناس لم يكفهم أنْ يتعرفوا إلى شخصيته، بل اندفعوا يبحثون عن جميع شئونه العامة والخاصة، وهم لا يتوَانَوْن حتى يقفوا على كيفية معيشته بجميع دقائقها؛ كساعات أكله وشربه، ونومه واستيقاظه، ومقدار أرباحه وخسائره، وكل ما له علاقة بحياته الخاصة، ولست أدري كيف اكتسب قومنا هذه الصفة اليهودية الذميمة، التي تجعل حياتهم منحطة انحطاطًا كبيرًا، يذهب باحترام النفس وسائر المزايا الشريفة التابعة له.»

– «وماذا أجبت السيد ج.؟»

– «لم أجبه بشيء، فغد الجمعة، وقد عزمت على الذهاب إليه غدًا في الموعد المضروب.»

– «أعزمت حقيقة أنْ تذهب إليه؟»

– «عزمت، ولكن ليس من أجلي أنا نفسي.» ونظر إليَّ طويلًا ثم تابع: «ولا أرى مانعًا من ذهابك معي إذا أحببت.»

فأطرقت هنيهة ثم قلت: «قد قبلتُ اقتراحك.»

فمد يده إليَّ وقال: «إذن سأكون بانتظارك.»

فصافحته بحرارة، ووعدته بالمجيء، ثم ودعته وانطلقت وكلي أفكار وهواجس؛ لأني أشفقت عليه من مقابلة الغد التي تطيَّرتُ منها.

في اليوم التالي كنت عند سليم الساعة السابعة والنصف تمامًا، وفي الساعة الثامنة تمامًا نزلنا من العجلة أمام منزل السيد ج. في شارع م. … فاستقبلنا الرجل في الباب، وأدخلنا مسكنه الذي كان بسيطًا جدًّا، وقادنا إلى غرفة داخلية كانت امرأته جالسة فيها، فقدمني سليم إلى السيد ج. وامرأته وجلسنا، وزاد سليم على تعريفه إياي قوله: «إنَّ السيد أ. صديقي الحميم وموضع سري.» فكأنه أراد بذلك أنْ يطمئن صاحب الدعوة وامرأته، فلا يمتنعا عن التحدث في الغرض من الاجتماع.

فلما استقر بنا المقام أخذنا في حديث عامٍّ في بعض الشئون السياسية والاجتماعية، وظهر أثناء الحديث أنَّ السيد ج. يتسرع في الفهم وفي الجزم بالأمور التي يتسع فيها مجال الدرس والاستقصاء، ولا بأس بأن أصفه وصفًا موجزًا؛ فهو ليس من ذوي القامات الطويلة، ولكنه يعلو عن متوسطيها قليلًا، أسمر البشرة، مستطيل الوجه، أنفه دقيق، متقلص الجانبين قليلًا، تعلوه نظارتان مشدودتان عليه ورأسه كبير، ولكنه أكثر بروزًا في القحف منه في الجبهة، وعلماء الحيوان يستدلون ببروز القحف على قوة المراكز الغريزية الحيوانية، فهو على عكس بروز الجبهة وسعتها الدالين على قوة مراكز الذكاء والفهم، أما علماء التشريح فيضربون صفحًا عن كبر الرأس وشكله، ويؤكدون أن دليل مقدار الذكاء والفهم والقوى المدركة يجب أنْ يكون في تعاريج الدماغ وتلافيفه، ولكن لما كان الوصول إلى معرفة مبلغ تعاريج الدماغ أمرًا شاقًّا؛ لأنه يقتضي عملية جراحية خطرة، وجب علينا أنْ نكتفي بالبراهين التي يقدمها لنا علماء الحيوان والإنسان في حكمنا على الأشخاص الذين نتعرف إليهم، وليس في نظر السيد ج. استقرار وإمعان يُستدل منهما على تعمق ونضج، ولا يوجد في وجهه تجعُّدات تنم عن اختبارات شاقة في الحياة وهموم تابعة لها، أما زوجه فكانت أقصر منه قليلًا مخروطة الوجه دقيقة الشبح، بسيطة الهندام، وليس في مظهرها شيء غير عادي، والاثنان يتكلمان بلهجة الخبير المحنك.

وتطرقنا في الحديث إلى ذكر بعض شئوننا القومية، فاندفع السيد ج. في الكلام على «السوريين»! هذه الكلمة: «السوريون» كم نلوكها وكم نمضغها في كل مجتمع وكل حديث؟! آهِ، كم نحن مغرمون بالكلام على قوميتنا السورية، فكل واحد منا يتكلم عن السوريين يصير فيلسوفًا، وكل واحد منا يحاول أنْ يرقى إلى الفلسفة بنقد السوريين وإظهار مواطن ضعفهم، وقليلون هم الذين يعرفون قيمة الرصانة في هذا الموضوع، وأقل منهم الذين يدركون أنَّ تحسين حياتهم وتقويم أخلاقهم أفضل كثيرًا وأعظم نتيجة من الإكثار من نقد المجموع والإنحاء عليه باللائمة! ولعل القارئ تعب من كثرة ما سمع من الكلام في هذا الموضوع الدائم في حياته اليومية، ولكن لما كنت أريد أنْ أكون أمينًا في روايتي لم أرَ بُدًّا من تسجيل ما فاه به السيد ج. بهذا الصدد قال: «السوريون فاسدون؛ فهم لا يُقدمون على أمر إلا ظهر فيه فسادهم وعجزهم.» ووضع لفافة التبغ في فيه، وبعد أن دخَّن حاجته تابع: «الدليل على فساد حياة السوريين أنهم خالون من الفنون الجميلة، ولا يعرفون قيمة المبادئ، ولولا ذلك لما كانوا قصروا عن بلوغ المراتب التي بلغتها الأمم الأخرى، لقد قلتُ هذا الكلام في مواقف متعددة، وجميع الذين سمعوني، كانوا يقولون: إنَّ الحق معي.» وعاد إلى تدخين لفافته وهو يبتسم ابتسام المسرور من نفسه لوقوعه على اكتشاف خطير، وبريق عينيه يدل على ارتياحه الشديد إلى ما يقول.

قلت: «لا أعتقد أنَّ شعبنا عند ما تذكرون من الفساد، أَجَلْ، يُوجَد فينا عيوب تهذيبية كثيرة، ولكن نهضة إصلاحية مخلصة تكفل إزالتها.»

قال: «ومن أين يأتي الإصلاح؟ أين رجال الإصلاح؟ أين رجال الإخلاص؟ أين النوابغ؟ أين أهل العزيمة والإقدام؟ بل أين رجال التضحية؟ إنَّ ما تقولون رأي جميل، ولكن الأمر عبث، عبث.»

فأدركت الدرك الذي تحوم حوله أفكار الرجل، ورأيت أنَّ عدم الكلام خيرٌ وأبقى، فصمتُّ وصبرتُ حتى بلغ السيد ج. منتهى ارتياحه.

وأخيرًا انتهى هذا الحديث التمهيدي الذي كنت قد ابتدأت أشعر بملل منه، وجاء دور البحث في «القضية»، فقال السيد ج. يخاطب سليمًا: «بما أننا أصدقاء عائلة الآنسة دعد، ويهمنا مصير هذه الفتاة، وبما أنَّ والدها المتغيب في أميركا يعتمد علينا، فقد أحبَّتْ أمها السيدة سلمى أنْ تستعين بنا في قضية العلاقات التي بينكم وبين ابنتها، وكلفتْني أنا وزوجي بمخابرتكم في هذا الصدد، وهذا هو القصد من دعوتكم إلى هذا الاجتماع كما تعلمون، فأرجوكم أنْ تكونوا صريحين معنا في الحديث الذي يدور بيننا لكي نصل إلى حلٍّ نهائيٍّ لهذه المسألة، ولا تسهُوا عن أنَّ السيدة سلمى تريد معرفة الحقيقة بكاملها؛ لأن ابنتها عزيزة عليها جدًّا، وهي حريصة جدًّا على مستقبلها وسعادتها.»

فقلت في نفسي: إنَّ الرجل يتكلم بأسلوب وعناية، وقد بدا لي أنه يريد أنْ يظهر الآن بغير مظهره في كتابه حين ذكر: «تلك القضية التي طال أمرها وتشعبت حتى لم يعد يحسن السكوت عنها.»

أما سليم فأجابه: «وحقيقةَ أيِّ أمرٍ تريد السيدة سلمى أنْ تعرف؟»

– «إنها تريد أنْ تعرف مركزكم بالتمام ومقدرتكم المادية.»

– «إذن الأمر بسيط وقريب المتناول، فالسيدة سلمى تعلم وأنتم أيضًا تعلمون أني موسيقيٌّ أشتغل في نظم الألحان وصوغ الأنغام، وعدا ذلك أعطي دروسًا في الموسيقى وموردي الحالي يكفي لمعيشة عائلة بسيطة، ولي أملاك قليلة في غير هذه المدينة، وآمل أنْ ينتج عملي الموسيقي خيرًا في المستقبل، ولا أظن السيدة سلمى تجهل الغاية من علاقاتي بابنتها، فهي تعلم أمر حبنا، ويمكنها أنْ تعلم الآن أني مستعدٌّ لعقد خطبتنا والتأهب للزواج.»

فقالت السيدة ج: «مَن يعرفكم في هذه المدينة؟»

فبادلني سليم النظر، ثم قال: «لا يعرفني جيِّدًا هنا سوى صديقي السيد أ. وعائلة صديقي السيد حسني وعائلتان أخريان؛ فلست هنا بين أهلي.»

وقلت أنا: «إنَّ عائلة السيد سليم مشهورة بخدمة العلم والفن، ولأفرادها ذكر في التاريخ، وصديقي سليم يبذل من نفسه في سبيل فنٍّ جميل كبير الشأن في الهيئة الاجتماعية.»

قالت تخاطب سليمًا: «لقد سألتُ الكثيرين عنكم، فكان الجواب واحدًا، وهو أنهم لا يعرفونكم، ولكنهم يعرفون أنكم غريبو الأطوار!»

فقال سليم: «أيجوز لي أنْ أسأل مَن هم الذين تفضلتِ بسؤالهم؟»

«سألتُ عائلةَ السيد ر. وعائلة السيد ح. وعائلة السيد س. وعددًا من الرجال الذين نعرفهم.»

– «ومن هم السادة المذكورون؟»

– «السيد ر. تاجر معروف في البلد، والسيد ح. ماسك دفاتر في محلٍّ كبيرٍ ومركزه حسن، والسيد س. تاجر آخر.»

سليم : إني أجهل هذه العائلات تمام الجهل، ومِن البديهي ألَّا تكون أهلًا لإعطاء معلومات عني، ولا أكتمك أيتها السيدة أنه بلغني أنَّ الناس هنا يتقوَّلون كثيرًا عني وعن غرابة أطواري، فهم يرون في وجودي في هذه المدينة بعيدًا عن أهلي حالة لا يمكنهم أنْ يعللوها إلا بالسوء، ولكن الإنسان الحكيم لا يأخذ بظنون الناس، والناس إذا ساءت فعالهم ساءت ظنونهم، أما أنا فلم أحفل بأقاويل هؤلاء الجماعة الذين يتحدثون عن غرابة أطواري؛ لأني أعرف طباعهم، وأعلم أنَّ الناس في أكثر الأحيان أعداء لما جهلوا، وإني مرتاح إلى أنَّ أطواري تخالف أطوار هؤلاء الجماعة، والحياة التي أحياها تخالف الحياة التي تعوَّدوها.

– «ولكن الناس يقولون: إنه لم تكن بينكم وبين والدكم مراسلة في بادئ الأمر، وأن المراسلة بينكما قد ابتدأتْ منذ عهد قريب.»

فنظر سليم إليَّ نظرة ذكرتني حديثه السابق الذي ذكر لي فيه تدخل القوم هنا في شئون الفرد الخصوصية، ثم التفتَ إلى السيدة ج. وقال: «وما معنى ذلك؟» ورأيتُ أنَّ صبره كاد ينفد.

قالت: «يجب ألَّا تغضبوا؛ لأننا أحببنا الاستقصاء لمعرفة حقيقة أمركم، فالذي دفعنا إلى ذلك حرصنا نحن أيضًا على مستقبل دعد.»

– «إذن، حضرتك تعتمدين على كلام الناس.»

– «إننا لا نعرفكم كثيرًا؛ ولذلك نحن مضطرون إلى الاعتماد على ما نسمع.»

– «حتى ولو كان ما تسمعينه مما لا يوثق به؟»

ورأيتُ أنَّ الحال صائرة إلى ما لا تحمد عُقباه، ولكن السيد ج. تدارك الأمر وقال: «الذي أراه يا سيد سليم، أنَّ مركزكم لا يضمن مستقبل الفتاة التي تريدونها زوجًا لكم، ولما كانت السيدة سلمى تريد أنْ تضمن سعادة ابنتها الوحيدة، فلا أعتقد أنها تسلِّم لكم بعقد الزواج، ولست أقول: إنَّ السيدة سلمى لا تفقه معنى العشق والغرام والهيام؛ إنها تعلم كل ذلك، ولكنها تريد الدليل على أنَّ مركز مَن يتزوج ابنتها يكفي لإسعادها.»

سليم : ومَن يضمن المستقبل؟ بل مَن يضمن أنَّ السعادة مقرونة بالمراكز؟!

فقالت السيدة: «أما أنا فأرى أنَّ الفن ليس عملًا ثابتًا كالوظيفة أو أكيدًا كالتجارة.»

فقال سليم: «أرى أنَّ الحديث قد شطَّ بنا عن الغاية، ويحسن بنا أنْ نقف عند هذا الحد، وتكرموا بإبلاغ السيدة سلمى هذا الحديث، وهي تتخذ الموقف الذي تراه أفضل.»

وعلى أثر هذا الكلام ودعنا الزوجين وانصرفنا، فلما صرنا خارج المنزل تنفس سليم الصعداء، أما أنا فأقبلتُ عليه ألومه على صراحته مع السيد ج. وزوجه، وأبديت له اعتقادي بأني لا أرى مبررًا لكثرة الكلام الذي قالاه فقال: «لا تزد عليَّ ما بي، فقد كفاني ما لاقيته من هذه المساومة التجارية، وإذا كنتُ قد لبيتُ دعوة السيد ج. فالمسؤولية ليست واقعة علي.»

قلت: «أرى الأمور صائرة إلى شؤم.»

– «إني بريء مما يفعل الناس، فهذان الزوجان يريدان أنْ يقيسا العواطف وشئون الحياة الجديدة بمقاييس التقاليد القديمة، أو لم تسمع السيد ج. يردد كلمات العشق والغرام والهيام؛ لأنه لا يفقه شيئًا من معاني الحب النفسي، الذي يربط قلبين على طول الحياة من أجل ما هو أسمى من جميع ما يتصوره هو والذين في دائرته، إنه ينظر إلى الحب من وراء شهوات الجسد، لا من وراء عواطف النفس، ويفهمه بعقله الغريزي، لا بعقله الوجداني، انظر إليه وإلى زوجه كيف يحكمان عليَّ؛ لأني بعيد عن والديَّ أو لأنهما بعيدان عني، إنهما يريان فيَّ شذوذًا عن عادة الشبان المتربين على التقاليد العتيقة، الذين يعيشون في أحضان والديهم، يرتكبون ضروب الخلاعة والموبقات في الخارج، ثم يعودون إلى حمى عائلاتهم يتحصنون وراءه، فلو عاش هذان الشخصان الشريفان في سيرهما على التقاليد الرثة البالية في عصر الموسيقيِّ الخالد شوبرت، فبماذا كانا يحكمان عليه يا ترى؟!»

– «وما هي حكاية هذا الموسيقيِّ الذي تخفق لأنغامه العذبة ملايين القلوب؟»

فاستجمع صديقي فكره وقال: «كان شوبرت ابن رئيس مدرسة، فخرَّجه أبوه في العلوم الابتدائية والثانوية، ثم أرسله إلى الجامعة للتخصص في أحد فروع العلم، ولكن شوبرت الصغير كان يميل إلى الموسيقى ميلًا شديدًا، وكانت نفسه مملوءة عواطف قوية، فلم يجد لنفسه مهربًا من هذا الفن، فتابع في الجامعة دروسه العلمية إكرامًا لأبيه، وعكف في نفس الوقت على دروسه الموسيقية، ثم عاد إلى أبيه الذي عينه أستاذًا في مدرسته، ولم يشأ أنْ يكترث لميول ابنه الموسيقية، فنشأ عن ذلك أنَّ الدروس التي كان يلقيها الأستاذ شوبرت الصغير كانت تتحول من دروس في العلم إلى دروس في الفن، وصار يُلقِّن تلاميذه مبادئ الموسيقى بدلًا من مبادئ العلوم، فاغتاظ أبوه من تصرفه هذا، وطرده من مدرسته وبيته، وخرج شوبرت الصغير إلى ساحة الحياة وحيدًا، ليس له من معين إلا فنُّه، وكان لذلك العهد خامل الذكر، مجهولًا بين أهل الفنون، وكان مضطرًّا إلى تحصيل قوته اليومي، فأخذ في بادئ أمره يشتغل ضاربًا على البيانو في بعض الحانات، ومرت به أيام مرة وصعوبات شاقة، وذاق من العذاب ألوانًا، ولكنه انتصر أخيرًا بمنظوماته الموسيقية التي تحول القلوب الحجرية إلى قلوب من لحم ودم، وأصبح شوبرت الطريد شوبرت المحبوب الخالد، إنَّ في حكاية شوبرت لَعظةً لقوم يعقلون، ولكن الناس الخاملين تعوَّدوا أنْ يقيسوا غيرهم بمقياس خمولهم، والنتيجة تكون دائمًا وأبدًا غير ما يتوقعون.»

لما بلغ سليم هذا الحد من الكلام كنا قد بلغنا ساحة المدينة الكبرى وهي محاطة «بالكبريهات»، التي يرقص في كلٍّ منها عدد من الراقصات اللواتي اتخذن الخلاعة، لا الرقص فنًّا، فقال لي سليم: «تعالَ معي.» فتبعته ودخلنا أحد هذه الكبريهات، فإذا المكان مكتظٌّ بالشبان المجتمعين حول موائد صُفَّتْ عليها الأقداح والكئوس، وجوُّه مفعم بالدخان المتصاعد من لفافات التبغ العديدة وهواؤه فاسد سامٌّ، فقادني سليم إلى زاوية فيها مائدة غير مشغولة، فجلسنا إليها، وجعلنا نراقب ما يجري، وإذا بشابٍّ قد وقف بين جماعة من رفقائه كانوا جالسين بالقرب منا، وهو يحمل بيده كأسًا ملآنة خمرًا وصاح برفقائه: «يا رفقاء، اشربوا ولا تحسبوا! فأنتم اليوم مدعوِّيَّ لأن الحسناء «غاري» ستكون لي الليلة!»

وتأملت الشاب فوجدته مضرَّج الخدين وعيناه محمرَّتان من تأثير الخمر والدخان ولباسه يدل على أنه من الذين أحوالهم المادية حسنة وكذلك كان رفقاؤه، ثم رأيته يأخذ ذراع فتاة كانت جالسة إلى جانبه، ويقودها إلى ساحة الرقص التي في وسط المكان ووجهه يطفح حبورًا، فلما عاد من الرقص ملأ كأس الفتاة وكأسه، وجلس يشرب ويسقيها، فقلت لسليم: «بئس الشباب شبابًا هذا.» فأجابني: «لا يا صديقي، لا تجدِّف؛ فإن هؤلاء جميعًا من القوم المعروفين في المدينة، سل مَن تشاء يُجبْك أنهم من أخيار الناس، فلو كنتُ رفيقًا لهؤلاء في مثل هذه الليالي وعشيرًا لهم؛ لكانوا هم وعائلاتهم يشهدون لي لنيل رضا السيد ج. وزوجه! هلم نذهب، فلستُ أطيق ضوضاء الجاز.»

فرافقت سليمًا إلى منزله حيث ودعته وعدت إلى غرفتي، فكتبت مذكراتي اليومية، وجلست أفكر فيما صار إليه صديقي من الضنى والنحول وما يكابده من الألم النفسي، ثم اضطجعت في سريري، ونمت بعد هواجس جمة، وكنت في اليوم التالي مدعوًّا لحضور حفلة في بعض الأندية الاجتماعية، فزرت سليمًا أولًا، فألفيتُه أسوأ حالًا مما كان بالأمس، ولكنه كان هذه المرة جالسًا إلى البيانو مكبًّا على عمله الموسيقي، فحادثته قليلًا وخليته وذهبت لحضور الاجتماع.

وكان النادي حافلًا بالعائلات، وأكثر المجتمعين من الشبان والفتيات، وكانت هؤلاء مُقرَّطات مُسوَّرات يَرْفُلْنَ بحُلَلِهن المتنوعة الأزياء، ولكن كان في وجوههن وعيونهن جمود غير طبيعي، جمود صيَّرهن شبيهات بالتماثيل الرخامية الباردة، الخالية من دلائل الحياة، وأكثرهن من اللائي ارتوت مفاصلهن، وامتلأتْ أذرعهن وسوقهن، واسترخت جسومهن وترهَّلت حتى انعدمت فيهن دلائل النشاط ورشاقة الحركة ولطافة الجلسة، أما الشبان «أبناء العائلات» فأكثرهم ممن نال حظًّا وافرًا من السمن والبدانة وبطء الحركة وبلادة الفهم، وكانوا مقسمين إلى جماعات، يتهامس أفرادها كثيرًا، وهم يحدجون الفتيات الفاترات العيون بأنظارهم المتقدة، وما لبثتُ أنْ تبيَّنتُ بينهم ذلك الشاب الذي كان بالأمس يشرب نخب الراقصة الحسناء «غاري» في كبريه … وهو في ثياب المساء، وألحاظه متجهة نحو إحدى الفتيات اللواتي عليهن مسحة من الجمال، وكانت هذه جالسة في حلقة من أترابها تشعر بنظراته وتتكلف التيهَ والدلال.

وما كدت أفرغ من تبيُّن وجوه الجماعة والاطلاع على أحوالهم، حتى رأيت السيد ج. وزوجه داخلين، ورأيت أحد الشبان يسرع إلى ملاقاتهما، وكان هذا الشاب في العقد الثالث من العمر، بدينًا، بطينًا، متداخل الخلق، لا تقل قامته عن قامة السيد ج. طولًا، ووقعت عين السيد ج. عليَّ، فلم يبقَ لي من محيد عن السلام، فأقبلتُ عليه وصافحتُه وامرأتَه، وعرَّفاني بالشاب الذي لاقاهما وهو يدعى السيد ميخائيل، ثم جلسنا معًا، فأخذ الشاب في محادثتي فقال: «لقد سبق لي أنْ سمعت باسمكم، وإذا لم تخُنِّي الذاكرة كنتم قادمين من أميركا.»

– «نعم.»

– «ماذا كنتم تعملون في أميركا؟» ثم أردف: «ليس من شأني أنْ أوجه إليكم مثل هذا السؤال، ولكن اسمحوا لي بذلك؛ فإني أسألكم كما أسأل صديقًا لي.»

فقلت في نفسي: «إنَّ الرجل يوليني نعمة زائدة.» وكدتُ أُجيبه بما تستحقه الوقاحة الظاهرة في سؤاله، ولكني كظمت غيظي مراعاة للموقف وأجبته: «كنت أبحث عن الألماس!»

– «وهل وجدتم كثيرًا منه؟»

– «كثيرًا!»

– «وماذا فعلتم به؟»

– «أخزنه لحين الحاجة.»

– «ولماذا لا تبيعونه؟»

– «لأني انتظر ارتفاع ثمنه.»

– «أتعجب كثيرًا من أمركم! فلماذا عدتم إلى هذه الديار؟»

– «إنَّ في ذلك لسرًا!»

– «لا بد أن يكون الأمر كذلك؛ إذ لا أجد مسوغًا لرجوعكم، وماذا تتعاطون هنا؟»

– «أثقب اللؤلؤ وأجمع الفراش؟»

على أثر هذا الجواب رأيتُ وجه الرجل يحمرُّ ثم يمتقع، وأخذ يُجيل عينيه محملقًا كالحائر، وظهر أنه ابتدأ يدرك عبثي به، والظاهر أنَّ السيدة ج. أدركتْ هي أيضًا معنى أجوبتي، فتدخلت في الحديث وخاطبتني: «ولكن الحقيقة يا سيد أ. أنَّ المرء ليحار في أمر وجودكم هنا، فلقد سئلت وسألت أنا بدوري عن سبب ذلك، ولكن الحقيقة ظلت مجهولة، فهلا صدقتني وأطلعتني على ما حدا بك إلى ترك تلك الأمصار الغنية الواسعة، والتخلي عن كل ما فيها من أسباب الراحة والسرور والعودة إلى هذه البلاد المسكينة؟»

فوجدت في هذا السؤال سذاجة وبلادة يقف المرء أمامها حائرًا مبهوتًا، ولكني تذكرت أنَّ المرأة التي تكلمني هي إحدى بنات قومي، فكان ذلك كافيًا لحملي على احترامها، فتغلبتُ على سأمي من هذا الحديث الذي يمس كرامة الإنسان في حريته الشخصية وحياته النفسية ومبادئه الفكرية، وأجبت السيدة بصراحة: «إنَّ هذه البلاد المسكينة هي بلادي، وإن لي فيها مطلبًا أعلى قد عدت لتحقيقه.»

فصاحت السيدة ج. وزوجها والشاب ميخائيل بصوت واحد: «آه! مطلبًا أعلى؟!» وبعد أنْ تبادلوا فيما بينهم نظرات تدل على الاستغراب، قالت السيدة بلهجة فاترة: «أمِن أجل مطلب أعلى عدتم؟!»

– «نعم يا سيدتي من أجل مطلب أعلى.»

وعاد الثلاثة إلى تبادل نظرات تنم عن الاستخفاف، فندمتُ على صراحتي، وعقدت النية على أنْ أعود أدراجي في الحال، وزاد في مللي ذلك الجمود القسري الذي أَلقى على الاجتماع ظلًّا من البلادة ثقيلًا، فاستسنحتُ الفرصة، وتركتُ القوم في لهوهم المُمِلِّ، ورجعتُ من حيث أتيت، فلما أمسيت في غرفتي، واستلقيت على سريري، عادت الخواطر تزدحم في مخيلتي، وفكرت مليًّا في أحاديثي مع صديقي سليم وفي الآمال التي عقدناها معًا على نشوء روح جديدة في الأمة تجدد حياتها، وتقوِّي حيويتها، وتنصرها على عوامل الخمول والجمود، وفيما أنا كذلك إذا بي أسمع ذلك الصوت النسائي الفاتر مقتربًا متكررًا: «أَمِن أجل مطلب أعلى عدتم؟!»

فصممت أذنيَّ لكيلا أسمع، ولكن الكلمات ارتسمت أحرفًا بارزة أمام عينيَّ، فأطبقتهما، وبعد عراك داخليٍّ عنيف استولى عليَّ الوسن، ولم أعد أعي شيئًا.

وعندما استيقظت في صباح اليوم التالي شعرت بصداع شديد لما ساورني من الأحلام المقلقة أثناء هجوعي، ولكني ذكرت سليمًا فجزعت عليه، ورغبت في أن أعرف حاله، فنهضت وتحممت بالماء البارد، على جاري عادتي، وروَّقتُ ضَيْقَة النفس بكوبة شاي، وأسرعت بالذهاب إلى منزل صديقي، وكانت الساعة نحو الثامنة، فوجدته جالسًا إلى طاولته الصغيرة، وأمامه وريقات يكتب عليها، ولاحظت أنه في هذه المرة أكثر سكونًا وأشد نحولًا من ذي قبل، فحييته واقتربت منه، ووضعت يدي على كتفه، فلم تقع إلا على عظام، فوجف قلبي، والتفتُّ إلى البيانو، فوجدتُ الأوراق كما كانت منذ يومين، فقلت: «هل تكتب رسائل الآن؟»

– «لا.»

– «ماذا تكتب إذن؟»

فقال: «لا أدري ماذا تسمِّي هذا النوع من الكتابة؟»

وأشار إلى وريقتين أمامه، فتناولتهما، فإذا عليهما شعر منثور هذا نصه:

إذا انبثق الفجر وبزغتِ الغزالة
وفتحتِ عينيك للنور
ورأيتِ الأزهار تنشقُّ عنها أكمامها
وتنشر في الفضاء عبَقَ أريجها
فاذكري زمنًا كان لنا ربيعه
إذ نركض ونقفز وفي قلوبنا اختلاج!

•••

لقد مضى ذياك الربيع وهذا الربيع ليس لنا
فأزهاره غير أزهار ربيعنا
وفجره غير فجرنا
أما المرح والددن فشيء كان
لا، لا تذكري شيئًا مما مضى!
لا تنبهي الأحلام!

•••

الحب وهم
هكذا يقولون
فإذا اضمحل الحب، فماذا يبقى من الحقيقة؟
حب يَذهَب مع المساء، وآخر يجيء من الصباح
فيجب ألَّا يقام للحب عهد
كذا يقول الجاهلون
لأنهم لا يعرفون
أنَّ
في الحب الجديد
بقية مرة
من حلاوة الحب القديم!
اللهم
إلا إذا كان القلب حجرًا
والجسم طينًا
فحينذاك لا فرق
بين حبٍّ قديم
وحبٍّ جديد!

هذا هو الحد الذي كان سليم قد بلغه قبل قدومي، ولعله كان يريد أنْ يسترسل في إنفاق عواطفه عن هذه الطريق بدلًا من طريق الموسيقى، فقمت إلى البيانو وأخذت عنه ورقة السلالم الموسيقية، التي كان سليم قد سجَّل عليها بعض ما ابتكره من الأنغام ليضيفها إلى الأوراق الأخرى المفروغ منها تتمة للقصيدة الموسيقية، التي كان عاكفًا على نظمها، وبعد أنْ تمعَّنت في الأنغام المسجلة عليها قلت: «إنك في شعرك كثير الرقة والشجو، ولكنك في موسيقاك أرقُّ وأشجى، فإذا عدلت الآن عن نظم الموسيقى إلى إنشاء الشعر، فمَن ذا يقوم بإنجاز ما بدأته؟ وماذا يكون شأن المطلب الأعلى الذي نظرنا إليه جميعًا؟»

فزفر زفرة كادت تكون زحيرًا وقال: «إنما أردت من هذه الكلمات التي كتبتُها أنْ أجعلها أساسًا أدبيًّا لشجوية موسيقية أروم نظمها؛ لتعبر عن العواطف التي تتضمنها.»

قلت: «ولكني أراك نحيلًا جدًّا، وأعتقد أنك تحتاج إلى الراحة واستبدال الإقليم.»

قال: «وماذا يفيد استبدال المكان والانقطاع عن العمل، والمسألة ليست مسألة جسم بل مسألة نفس؟ فالنفس لا تحيا باعتدال الإقليم، ولا بتبديل الهواء، ولا بإراحة الجسد، إنَّ النفس تحيا بالعواطف، فإذا قتلتَ العواطف فكأنك قتلتَ النفس ذاتها ولا يقتصر ذلك على الأفراد، بل يتناول الأمم أيضًا، فإذا عدمت الأمةُ الشعورَ الحي فكأنها عدمت وجودَها، والشعب الذي يقتل شعور بنيه يقتلهم قتلًا، انظر إلى هؤلاء الجماعة الذين يبحثون عن حياة الجسد ويهملون حياة النفس، وقل لي ماذا ترى في حياتهم؟ أترى شيئًا غير الخمول يفضلونه على تحمل مشقة النهوض، وغير الجبن يحتمون وراءه لكي يجابهوا مطالب الحياة العليا، وما يصحبها من جهاد يضني الجسد؟ هل لا تراهم يقتلون أنفسهم خوفًا على أجسادهم؟ أوَيعني الحب عندهم شيئًا يعلو على حاجة الجسد؟ جرِّدْهم من كل كرامة أخلاقية، ومن كل محبة نفسية، ومن كل عاطفة سامية، فذلك أهون عليهم من أنْ تُهان جسومهم، آهٍ كم تؤلمني هذه الحقيقة!»

فأعدت ورقة السلالم الموسيقية إلى مكانها ولزمت الصمت؛ لأن عبارات صديقي كانت كأنها صدى أفكاري وشعوري، ورأيت أنه يحتاج إلى ما يُنعِش قوَّته فقلت: «هل تأمر لي بكوبة شاي؟» فقال: «بطيبة خاطر.» وأرسل يأتي بذلك، فلما جاء الشاي جلسنا نشرب، وشرعت أحدثه في أمور من شأنها أنْ تُسرِّي عنه، وبعد أنْ انتهينا ودعتُه وتركته ليعود إلى تأملاته التي تمليها عليه نفس شديدة الإحساس، عظيمة الشعور، وعدت إلى منزلي كسيف الوجه جزعًا.

وفيما أنا جالس في غرفتي أتأمل في حال صديقي خطر لي أنْ أزور السيدة سلمى أم الفتاة دعد؛ لأعرف موقفها من «القضية»، فانتظرت إلى المساء ثم ذهبتُ إلى منزل سليم أولًا ودخلت عليه فوجدته يبدل ثوبًا بثوب ويستعد للخروج، فسألته إلى أين يقصد فقال: «إلى بيت دعد؛ لأن أمها تريد محادثتي.» فقلت: «ألا سبيل للذهاب معك؟»

فقال: «نعم، لا سبيل إلى ذلك.»

– «إذن؛ أستحلفك أنْ تطلعني على ما تقوله الأم.»

– «سأفعل.» وخرج على الأثر.

وفي اليوم التالي قصَّ عليَّ سليم ما قالته الأم، ومفاده أنها تريد سعادة ابنتها وأنها لهذا السبب لا تقبل أنْ يكون زوج ابنتها موسيقيًا ليس له منصب ثابت! وأنه إذا كان يريد ابنتها زوجًا له فعليه أنْ يتخلى عن عمله الموسيقي، ويوجد لنفسه عملًا يزيد أرباحه.

قلت: «إنَّ الأم تُردِّد أقوال السيد ج. وزوجه.» فقال: «لا بُدَّ أنهم تشاوروا وقرروا «إسعاد» دعد كما يفهمون من السعادة، ولا بُدَّ أنْ يكون السيد ج. وزوجه قد أظهرا للسيدة سلمى سخافة عقولنا، نحن معشر النفسيين ذوي المطالب العليا، وأطلعاها على حكمتهما البالغة القائلة: إنَّ الحب مجرد عشق وغرام، وإنَّ العشق والغرام فورة عارضة تزول سريعًا، إلى آخر ما لهما من آراء تدل على مبلغ ما يعرفانه من الأهواء الجسدية، ومبلغ ما يجهلانه من العواطف النفسية، وهذان هما الصديقان الوحيدان اللذان تعتمد عليهما أم دعد.» ثم أردف: «ولكن يجب ألَّا يلوم المرء السيدة سلمى فهي تجهل نفسيتي، ولا تعرف إلَّا ما يقوله له صديقاها الوحيدان، وهي فوق ذلك أمٌّ، ومتى كان حولها قوم هم لحسبان الشر أولًا، وحسبان الخير آخرًا؛ فقلبها لا يقوى على مقاومة سعايات الناس.»

قلت: «ودعد؟»

فوجم وأطرق هنيهة ثم قال: «أخشى أنْ أحمِّلها فوق ما تحمل، ولا شك في أنها تتألَّم من جميع ما حدث لي، ومن الكتاب الذي أرسلتْه طالبة إليَّ ألَّا أعود إلى زيارتها، وما أظن أنها أرسلته إلَّا مرضاة لأمها التي هي وحيدتها، وإني لا يخامرني أدنى شكٍّ في محبتها وإخلاصها لي، وقد مضت كل هذه المدة دون أنْ أحظى بلقياها حتى صرتُ أخشى أنْ تكون مريضة، أو أن تكون أُرسِلت إلى مدينة أخرى ظنًّا بأنها تسلو وتنسى، وهل تعلم أنَّ شابًّا يُدعَى ميخائيل يصبو إلى طلب يدها وأنَّ السيد ج. وزوجه يهرفان كثيرًا به وبمركزه الحسن عند أمها؟»

فقلت: «نعم أدري.» ولم أشأ أنْ أخبره بخبر الشاب ميخائيل وعائلة السيد ج. في حفلة النادي؛ لئلا أزيده ألمًا على ألم، فتحوَّل عني إلى البيانو، ورأيت أنه يريد أنْ يخلو بنفسه فودعته وخرجت مسرعًا، وما كدت أبلغ الشارع حتى طرقت أذني أنغام موسيقية رقيقة خارجة من غرفته.

ومنذ ذلك اليوم صرت أجيء إليه كلما فرغت من عملي، فأصرف عنده بضع دقائق أحادثه وأحاول تسليتَه، ولكني كنت كل مرة أتيتُه أجده أضنى جسمًا من المرة السابقة؛ لأنه كان لا يطلب الطعام وإذا جيء به إليه تذوقه تذوقًا فقط، كان يذوي كما تذوي الزهرة منع عنها الماء، فبذلت أقصى جهدي لمعرفة مقر الآنسة دعد؛ لأني كنت على يقين من أنَّ كتابًا ترسله إليه يكفي لإحياء ميتِ آمالِه وإنعاش قلبه، ولكن محاولاتي ذهبت أدراج الرياح.

وحدث ذات يوم أني زرته فألفيته صريعَ حُمَّى شديدة، فاستحضرت له نُطُسَ الأطباء الذين لم يَأْلُوا جهدًا في معالجته، ولكنهم لم يوفَّقوا إلى شفائه، وبينما هو في غيبوبة، إذ ورد كتاب مرسل إليه فأخذت الكتاب وقلبته بين يدي وتمعَّنت في خطه، فعلمت أنه خط نسواني وتبيَّنتُ أنه آتٍ من مدينة ب. ورأيتُ أنْ أفتحه لأعلم ما فيه؛ لأني كنت الوحيد الباقي بقرب سليم، والوحيد الذي يجوز له إتيان مثل هذا الأمر ففتحت الكتاب وقرأت:

عزيزي سليم

أكتب إليك الآن من هذه المدينة التي أُرسِلت إليها بقصد إبعادي عنك؛ لكي أسألك الصفح عن الإساءة العظيمة التي وجهتُها إليك في كتابي الأخير، فقد بلغني ما تُكابده الآن رغم أنَّ أهلي والدائرة المحيطة بي يحاولون جهدهم لمنعي من تنسُّم أخبارك، ومعرفة ما هو جارٍ لك، آهٍ لو تدري كم عانيتُ من الآلام بسبب الكتاب الذي اضطررتُ إلى إرساله إليك، وكم أعاني الآن من أجل ما أنت فيه.

علمت أنك زرتَ السيد ج. وأنا موقنة بأنك إنما فعلت ذلك من أجلي، ومن أجل المطلب الأعلى الذي جمع قلبينا ووحَّدهما في سبيل مبدأ يسمو على جميع ما يعتقدون وما يوقنون، ولكن تشجَّعْ! فإنهم لن يحولوا بين أعيننا والنور؛ فالنور لا تمنعه الظلمة، إنهم يريدوننا أنْ نكون مجرد أجسام؛ مادة لا تطلب إلَّا مادة، أمَّا نحن فنشعر أن لنا أنفسًا ونحس ما تصبو إليه نفسانا، فإذا اضمحل هذا الشيء الذي نشعر به فما هي السعادة التي تبقى لنا؟ إنهم لا يدرون إنَّ تعب النفس لَأعظمُ كثيرًا من تعب الجسد؛ لذلك يبحثون عن راحة جسدي، أمَّا راحة نفسي فلا يأبهون لها.

سليمي العزيز، اصفح عني لما أكون قد سببته لك من الآلام، وثِقْ بأني لم أقصد شيئًا من ذلك، وإنَّ كل قصدي كان أنْ أَحُول دون حدوث ما قد حدث، وأنْ أتحمل الآلام وحدي؛ لأني أعلم كمْ تحتاج إلى راحة البال في عملك الشاقِّ، تشجَّعْ! فقريبًا أكون قريبة منك، أمَّا الآن فلك سلام محبتك.

دعد

كنت أقرأ وأنا أشعر بأني أكاد أطير فرحًا لورود هذا الكتاب الترياقي العبارة، ولكن لما فرغت منه وتحوَّلت إلى السرير لإيصال البُشرَى إلى صديقي، انقبضتْ نفسي أيما انقباض؛ لأني وجدته قد زَهَف إلى التَّلَف ولم يبقَ منه إلَّا رمقٌ ضعيف وذَمَاءٌ قصير، فطويت الكتاب ووضعته في جيبي، وبعد قليل قضى سليم، وانتهى ذلك العراك الهائل الذي كان ثائرًا في داخله بين مثاله الأعلى وأغراض الناس الأولية المنحطة، بين مرامي نفس كبيرة ومرامي نفوس صغيرة، بين المطلب الإنساني الأعلى والمطلب الحيواني الأدنى.

فلما أُعلِنتْ وفاتُه أقبل نَفَرٌ من الأصحاب الذين عرفوه واتصلوا به في حياته، وكانوا قلائل، وبعض تلاميذه الذين كانوا يدرسون الموسيقى عليه، في الوقت المعين لدفنه، وقبل أنْ نخرج به إلى الجَبَّانة جاءت فتاة ترتدي ثوبًا أسود بسيطًا، وذهبتْ تَوًّا إلى السرير ووقفتْ تنظر إلى جثمانه بعينين مغرورقتين، ثم مدَّتْ يدها وأمرَّتها على جبينه ووجهه، وفاضت من عينيها دموع سخينة، كانت هذه الفتاة دعد وكان الحاضرون أثناء هذا المشهد واقفين صامتين كأن على رءوسهم الطير.

أخيرًا هدَّأتْ دعد رَوْعَها ومسحتْ عينيها بمنديلها، وتحولت عن السرير وجعلت تجيل نظرها في الحضور حتى استقر أخيرًا عليَّ فتقدمتُ إليها وخرجنا من الغرفة، فقالت: «اصدقني كيف كانت أيامه الأخيرة وكيف مات؟»

– «كانت أيامه الأخيرة أيام شؤم وعذاب أليم، إنَّ الصدمة كانت عنيفة جدًّا لنفسه الرقيقة الشعور، فقد خُيِّل إليه أنَّ مطلبه الأعلى قد اضمحل، وكان تأثُّره عظيمًا جدًّا، وزاد في عذابه أنَّ بعض الناس هنا أضرموا جحيمًا ماديًّا حول نفسه حتى ضاق ذرعًا، واستولت عليه من جرَّاء ذلك حُمَّى مُطبِقة قضَتْ عليه.»

– «أَوَلَمْ يَرِدْه كتابي؟»

– «كان ورود الكتاب ساعة دخوله في طور النزع وهذا هو.» ودفعتُ الكتابَ إليها فتناولته وهطلت من عينيها دموع غزيرة مسحتها بمنديلها ووضعت الكتاب في حقيبتها.

وكان الجثمان قد وُضع في التابوت، فسرنا إلى الجَبَّانة وواريناه التراب وسط صمت تام، ثم انفرط عِقْد الجماعة وتفرَّقوا، ولزمتُ أنا الآنسة دعد فقالت لي في الطريق: «هل يمكنني أنْ أعتمد عليك؟»

– «بكل تأكيد.»

– «إذن؛ أريد أنْ أذهب برفقتك إلى غرفة سليم؛ لأني أريد أنْ أقف على ما ترك من آثار موسيقية.»

فقلت: «كما تريدين.» وذهبنا معًا إلى الغرفة وقُدتُها إلى البيانو، فوجدنا عليه أوراق سلالم موسيقية تتضمن شجوية صغيرة كاملة، وإلى جانبها ذلك الشعر المنثور الذي ذكرته فيما تقدم، فتناولتْ دعد المنظومة الموسيقية أولًا وفحصتها، وللحال أدركتْ رقة أنغامها، وظهر عليها أثر انفعال نفسي شديد، ولكنها تجلَّدتْ وتناولت الورقتين المكتوب عليهما الشعر، فما قرأتْه إلى آخره حتى تأثرتْ تأثرًا لم تعُد تقوى معه ركبتاها على الثبات، وكادت تهوي إلى الأرض لولا أني أسرعتُ إلى إسنادها واقتيادها إلى المقعد بجانب البيانو، فمددتُها عليه وبادرتُ فأتيتُها بكأس ماء بارد فسقيتُها منها، ورششتُ الباقي على وجهها، فساعدها ذلك على مقاومة الإغماء، ولما عادت إليها قواها نهضتْ وعادتْ إلى الأوراق، فجمعتْها وفتحتْ درج الطاولة الصغيرة الذي كان سليم يحفظ منظوماته الموسيقية فيه، فأخذتْ دعد الأوراق التي كانت فيه وهي تشتمل على القسم الأول من منظومته الكبرى، وجعلت الجميع رزمة واحدة وقالت: «سآخذ هذه الأوراق جميعها.»

قلت: «لك ما تريدين؛ فليس مَن يطالب أو يعتني بها.»

قالت: «أشكرك كثيرًا، والآن أودعك، وقد نلتقي فيما بعد.» فمددتُ يدي فصافحتْني بشدة المُمْتَنِّ وشيعتُها إلى الباب فانطلقتْ مسرعة لا تلوي على شيء، أمَّا أنا فعدتُ إلى داخل المنزل وقلت لربة البيت: إنه يمكنها أنْ تستولي على كل المقتنيات التي خلَّفها الراحل؛ لأنه ليس له وارث، ثم ألقيتُ نظرة أخيرة على الغرفة التي كان يشغلها صديقي، والبيانو الذي كان يضرب عليه أنغامه وانصرفتُ من ذلك المكان، ولم أعُد إليه منذ ذلك اليوم.

رجعتُ بطريقة آلية توًّا إلى غرفتي، وانطرحتُ على سريري مُعَيَّى، وأخذت أفكر في أيام صديقي الأخيرة والنهاية التي صار إليها، فذكرت حديثه لي عن الموسيقى وشأنها في حياة الأمم والبشرية جمعاء، وحكاية شوبرت، واستعدت في ذهني جميع تصرفاته السابقة واللاحقة، منذ أول يوم عرفته إلى آخر يوم، فشعرت أني خسرت صديقًا يندر مثيله، وأنَّ الأمة فقدت رجلًا تمثلت روحها في روحه، وجمعتْ عواطفُه أدقَّ وأجمل عواطفها، وهو لو عاش لأتمَّ فعلَ ما لم يفعله شخص آخر من أبناء هذه الأمة ألَا وهو إحياء نفسها.

وانتقل بي الفكر إلى دعد، تلك الفتاة الجميلة النفس الكبيرتها، فقلت في نفسي: أتُرى يفقه السيد ج. وزوجه شيئًا مما في نفسها العميقة؟!

•••

لقد مرَّتْ على وفاة صديقي سليم عدة سنوات، وقد قضيتُ هذه المدة مغتربًا في أوروبا وأميركا، وأول عمل قمتُ به بُعَيْد عودتي أني نزلت مساء اليوم الأول لوصولي إلى العاصمة، إلى ساحة المدينة المركزية، وأخذت أتنقَّل بين كبريهاتها؛ لأرى هل طرأَ تغيُّرٌ ما على حياة القوم؟ فوجدتهم كأني لم أفارقهم إلَّا ليلة أمس، ولكني رأيتُ هذه المرَّة وجوهًا جديدة لم أكن قد رأيتها من قبل.

دخلت أحد هذه الكبريهات عند الساعة الحادية عشرة واتخذت لنفسي مجلسًا منفردًا، أستطيع أن أرى منه كل مكان وأراقب جميع ما يجري، وبينما أنا مهتمٌّ بمراقبة حركات بعض الشبان في إحدى الزوايا، إذا برَهْط من الرجال تقدَّموا إلى المكان الذي كنت فيه واتخذوا مائدة محاذية لمائدتي، فتفرَّسْتُ في أوجههم من حيث لا يشعرون، وكدتُ لعجبي لا أصدق ما أرى حين تبيَّنتُ بينهم وجه ميخائيل صديق عائلة السيد ج. فوجدته قد تغيَّرتْ سحنتُه قليلًا وازداد سمنًا، وكان من حُسن حظي أنَّ ميخائيل جلس منحرفًا قليلًا، وصار من الصعب أنْ يلتفت نحوي ويرى وجهي فأخذت أدرسه من حيث لا يدري، وكان يدفعني إلى العناية بدرسه رغبتي الشديدة في درس حالات الأشخاص النفسية وتطوراتهم العقلية، وفي معرفة ما طرأ على هذا الرجل من التغيرات الأخلاقية بعد غيابي عنه كل هذه المدة الطويلة.

دار حديث ميخائيل وزمرته حول الراقصات وجمال كل واحدة منهن وصفاتها، وتاريخ حياتها فعدُّوا لا أقلَّ من عشرين راقصة في مدة لا تتجاوز خمس عشرة دقيقة!

فلما بلغوا الحادية والعشرين قال أحدهم لميخائيل: «إنك كنتَ سعيدَ الجَدِّ يا ميخائيل، فلم ينَلْ تلك الفتاةَ أحدٌ سواك، وهي — والحق يقال — كانتْ من أجمل الراقصات اللواتي أَمَمْنَ بلادنا، قل لي كم من الزمن صرفتَ معها؟»

فقال ميخائيل، وهو يَتِيهُ عُجْبًا بنفسه ويُلقِي الكلام كمن يلقي على مَن حوله دُرَرًا ثمينة دون أنْ يكترث لها: «ثلاث سنوات بكاملها، ولو أني قدرتُ أنْ أحتفظ بها أكثر لفعلت، إنَّ برتا الفتاة الوحيدة التي أحببتُها حقيقة أو تدري يا حسني، إنَّ برتا كلفتْني خمسماية ليرة عثمانية ذهبًا؟»

فقال ثالث: «ماذا أسمع؟ قلْ لي بأبيك يا ميخائيل مِن أين جاءك الوحيُ الآن لتتكلم عن الحب؟»

فأجاب: «الصحيح أني عشقت برتا حتى إني قاومتُ بنفوذي دائرة التحري بأمها وأبيها، من أجلها.» قال ذلك بلهجة ملؤها الخيلاء والإعجاب بالنفس وأردف: «أنتم لا تدرون، يا صحاب أنَّ برتا لم تكن ككثيرات من هؤلاء الراقصات، إنها لم تكن قد أحبَّتْ أحدًا قط، وأنا أول رجل أحبته.» ودقَّ على صدره توكيدًا لما يقول: «إنها أحبتني كثيرًا ولا تزال تحبني؛ فقد كتبتْ إليَّ مؤخرًا تقول: إنها لو تمكَّنتْ من جمع أجرة السفر لما تأخرت عن المجيء إليَّ، وقد شكت ما هي عليه بلادها من الفاقة وقلة العمل، ومما يدلني على حبها الشديد لي أنها أرسلت إليَّ في عيد ميلادي زرين من الذهب مرصَّعَيْن بحجرين كريمين، فكم تكون اشتغلتْ وقتَّرتْ على نفسها في مثل هذه الأحوال لتقدم لي هذا التذكار؟»

فقهقه رابع وقال: «طبعًا إنَّ خمسماية ليرة عثمانية ذهبًا تستحق حبًّا شديدًا في مثل هذه الأيام، ولا غَرْوَ إنْ تكن برتا مشتاقة جدًّا إلى العودة إليك!»

وقال خامس، وكان كل هذه المدة صامتًا هادئًا: «إذا كنتَ عشقتَ برتا، وكان الأمر كما تقول فلماذا لم تتزوجها؟»

فأجاب ميخائيل بحدة: «أتزوجها؟ ها، ها، اسمعوا ولماذا أتزوجها؟»

– «لأنك كنتَ أول من استولى على قلبها، وأنت تعترف بذلك، والإنسان الشهم لا يستولي على قلب امرأة ليقذف بها إلى الحمأة.»

– «قد كنت أحسبك فتًى عاقلًا يا فريد، فما بالك تهذي هذا الهذيان؟ أتريد مني وأنا ابن عائلة معروفة في المدينة أنْ أتزوج برتا الراقصة؟ نعم، إني أعترف بجريمتي؛ فقد أجرمتُ وانتهى الأمر، ولكن مَن كان مثلي ابن عائلة لا يتزوَّج مثلها، ولا تنسَ أن لي أخواتٍ في البيت.»

– «أعتقد أنَّ وجود أخواتك سبب قويٌّ يكفي لحملك على تزوج برتا، وما يدريك أنَّ هذه الفتاة ليست ابنة عائلة أناخ عليها الدهر؟»

فحملق ميخائيل بعينيه كثيرًا وأدار رأسه يمينًا وشمالًا، ثم استجمع ماله من حِدَّة ذهن وأجاب: «أنت لا تعرف مركزي جيدًا، فأنا إنما أشتغل لحسابي الخاص باسم عائلتي، فلو تزوجت برتا لنقم عليَّ أهلي وخسرت تأييدهم المعنوي، وخسارة هذا التأييد تعني خسارة ثقة مالية بي، توازي ثلاثة آلاف عثمانية ذهبًا، وفوق ذلك أعلم أنَّ الحب غشاوة رقيقة لا تلبث أنْ تتخرق وتتبدد، فخيرٌ لي أنْ أتزوج ابنة عائلة معروفة هنا.»

فرأيت الشاب المدعو فريدًا يَهِمُّ بالإجابة على خطاب ميخائيل، ولكن ضجة عظيمة علت في هذه اللحظة في الزاوية التي كنت أراقبها أولًا، واستلفتَتْ أنظار الحضور ومن جملتهم ميخائيل ورفقائه، فلما وجدتُ الحديث قد انقطع ولم تبقَ لي حاجة إلى زيادة، دفعتُ ثمن مشروبي وخرجت، وأنا أفكر في ابن العائلة هذا، وفي أبناء العائلات الذين على شاكلته.

أمَّا دعد فقد التقيتُ بها بعد أيام فإذا هي لا تزال كما عرفتُها أولًا: تسير في الشارع غير ملتفتة إلى أحد، ولا مُلْوِيةٍ على شيء، تقوم بعملها بكل دقة وترتيب، إلَّا أنها تتجنَّب الاجتماعات، وإذا اتفق أنْ حضرتْ بعضها فإنها تحضرها بوجهٍ جافٍّ وهيئة جدية، فلم يرها أحد قطُّ ابتسمتْ في اجتماع، والناس يقولون: إنه لولا عبوستها وجفاف وجهها لكانت فازت بعروس!

وأمَّا السيد ج. وزوجه فقد علمتُ أنهما حَنَقَا حنقًا عظيمًا على دعد؛ لأنهما لم يكونا يتوقعان منها هذه الأطوار الغريبة التي خالفت نظريتهما في الحياة، وخيَّبتْ آمالهما والجهود الكبيرة التي بذلاها لحملها على قبول ميخائيل التاجر المعروف بعلًا لها، ولأنها أنكرتْ جميلهما لاجتهادهما في إنقاذها من حب شابٍّ موسيقيٍّ مات سريعًا على أثر إصابته بحُمَّى مُطبِقة!

١  A. Biese, Deutsche Literaturgeschichte B. 1.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤