الكلام في منافع الحصون وأضرارها
لأجل أن يأمن الأمراء على ملكهم تراهم يلجئون لطرق شتى، منهم من نزعوا سلاح رعاياهم، وبعضهم قسم الملك إلى ولايات شتى، وبعضهم سبب عداء الشعب له، وبعضهم حاول جذب من ارتاب في إخلاصهم في أول عهده، وبعضهم شاد الحصون وبعضهم خربها، وحيث إن المجال لا يسع الكلام بإسهاب عن كل تلك المسائل، فسأقول بإجمال ما يعنُّ لي عنها: لم يُعرف عن أمير جديد أنه نزع سلاح رعيته، بل بالعكس فإنه إذا وجدها عزلاء سلحها؛ لأنه بتسليحها تصبح الأسلحة له، ومن كان غير مخلص له أخلص، ومن كان مخلصًا يبقى على إخلاصه، ومن كان في عداد الرعية يصبح في عداد الأنصار.
وحيث إنه لا يمكن تسليح الرعية كلها فإن انتفاع الأمير بالمسلحين يضمن له السيادة على العزل، فإن المسلحين يزداد تعلقهم بك، ويعذرك من بقوا عزلًّا ظنًّا بأن المسلحين أكثر كفاية منهم، ولكنك إذا نزعت سلاح رعيتك فهذا بداية هوانهم؛ لأن فيه وصمة الجبن أو الخيانة، وهذا يسبب عداءهم لك وبغضهم إياك.
وحيث إنه لا يمكن للأمير أن يبقى بدون جيش فهو يضطر لاستخدام الجنود المأجورة التي سبق الكلام على قدرها، ولو فرضنا قدرتها فإنها لا شك تعجز عن حمايتك من عدو قوي وشعب مرتاب، ولكن التاريخ يثبت أن الأمراء المحدثين يسلحون رعيتهم دوامًا، وإذا حصل الأمير على ولاية جديدة بجانب إمارته القديمة فمن الضروري عليه إذن نزع السلاح من هذه الولاية الجديدة عدا الذين عضدوه في الحصول على الولايات الجديدة من أهلها، وهؤلاء كذلك ينبغي للأمير عند سنوح الفرصة أن يضعفهم ويخنثهم بحيث تصبح القوة المحاربة في الولايات الجديدة في أيدي جنودك المقيمين بجوارك في إمارتك.
كان أجدادنا العقلاء يقولون: إن «بيستويا» يتمكن منها بالانقسام وبيزا بالحصون، فكانوا يسببون القلاقل بين أهل بعض المدن الخاضعة لهم ليتمكنوا منها تمام التمكن، وقد كانت هذه السياسة «التفريق للسيادة» صالحة في الزمن الغابر، إذ كانت إيطاليا مقسمة تقسيمًا عادلًا، ولكن لا يظهر حسنها في هذا الزمن؛ لأن مثل هذه الانقسامات لا يعود على أحد بالنفع، بل نتيجته معكوسة؛ لأنه إذا قرب العدو من بلد انضم إليه الحزب الضعيف فيسقط الحزب القوي، وقد اتخذ أهل البندقية تلك السياسة في البلاد التي كانت خاضعة لحكمهم، فكانوا يشجعون حزبي «جولف» و«غبلين» دون أن يمكنوا الحزبين من المحاربة، واستطاعوا بذلك من إشغال أهل المدن عن مقاومتهم وألهوهم بمشاكلهم الذاتية، ولكن هذه السياسة لم تُجْدهم نفعًا كثيرًا، فإنه بعد هزيمة «فايلا» تشجع فريق من الرعية واستولوا على سائر الولاية، ثم إن مثل هذه الطريقة تدل على ضعف الأمير؛ لأن الحكومات القوية لا تسمح بمثل تلك الانقسامات التي لا تفيد إلا في وقت السلم؛ لأنه بواسطتها يمكن للحاكم أن يحكم رعاياه، فإذا جاء الحرب يظهر حالًا خرق تلك السياسة.
إنما يعظم الأمراء عندما يتغلبون على العقبات ويقمعون المعارضة، لذا كان الحظ الحسن إذا أسعف أميرًا غير وراثي خلق له أعداء، ويرغمه على محاربتهم فيقهرهم، وبذا يصل إلى ذروة المجد على أعناق أعدائه، لذا يوجد كثيرون يرون أن الأمير العاقل ينبغي له — إذا سنحت الفرصة — أن يسبب عداوة ما ليرتفع قدره بالتغلب على عدوه، وقد وجد الأمراء — لا سيما المحدثون منهم — أمانة وثقة في الرجال الذين ارتابوا فيهم لأول عهدهم أكثر مما وجدوا فيمن ائتمنوهم لأول وهلة، فإن «باندولفو بتروتشي» أمير سينا استعمل على ولايته من ارتاب فيهم، ولكن لا يمكننا الإسهاب في هذا البحث، وأكتفي بالقول بأن الرجال الذين كانوا في أول عهد الحكم أعداء لكونهم في حاجة إلى تعضيد الأمير لتثبيت مواقفهم، فقد سهل عليه بذلك الاستيلاء عليهم، وتزداد غيرتهم في العمل ليمحوا من ذهن الأمير ما علق به في أول الأمر من الارتياب فيهم، فينتفع بهم أكثر من انتفاعه بمن يخدمونه بإخلاص ويكتفون بإخلاصهم عن خدمة مصلحته.
وإني أذكر الأمير الذي استولى على ولايته بمساعدة سرية من أهلها، أن ينظر في السبب الذي دعاهم إلى ذلك، فإن كان غير حبهم الطبيعي له كأن كان ذلك لسخطهم على الحكم القديم، فإنه سيلاقي الصعاب في الحصول على صداقتهم؛ لأن مثل هؤلاء لا يرضيهم شيء مطلقًا، وقد دلت خبرة التاريخ القديم والحديث على أنه أسهل على الأمير القائم أن يحصل على صداقة الشعب الذي كان راضيًا بالحال السابقة، وكانوا بذلك أعداء له في أول الأمر من الحصول على صداقة الشعب الذي كان ناقمًا، وصافى الأمير سرًّا وساعده على امتلاك البلد.
تعوَّد الأمراء من قديم الزمان تشييد الحصون للتمكن من أملاكهم وإرهاب العدو المهاجم والالتجاء إليها في وقت الشدة، وإنني أستحسن هذه الطريقة؛ لأنها قديمة العهد، ومع هذا فقد رأينا المستر «نيكولا فيتلي» يهدم حصنين في مدينة «كاستلو» ليسهل له التولي على هذا البلد، كذلك «جويد أوبالدو دوق أربينو» لما عاد إلى وطنه الذي طرده منه سيزار بورجيا هدم سائر الحصون قائلًا: إنه بدونها يمكنه أن يدافع عن الوطن خير دفاع.
ثم استعمل هذه الطريقة أهل «بنتيفولي» لما عادوا إلى «بولونيا» فينتج من هذا أن الحصون قد تكون نافعة أو ضارة حسب أحوال الزمان والمكان، فإذا أفادت في حال فقد تضر في آخر، وهذا هو شكل المسألة: الأمير الذي يخشى شعبه أكثر من العدو عليه أن يبني حصونًا، أما من يخشى العدو أكثر من شعبه فلا حاجة له بها، فإن برج ميلانو الذي شاده «فرنسيسكو سفورزا» سيجلب على أسرة سفورزا من المتاعب ما لا تجلبه أشد الثورات.
لذلك أحسن الحصون ما كان مشادًا في قلوب الرجال، سُداه المحبة، ولُحمته الإخلاص، فإن الأمير ذا الحصون قد لا ينجو إذا كان الشعب ناقمًا عليه، ولم نرَ في زماننا أن الحصون أفادت سوى «الكونيسة دي فورلي» لدى وفاة زوجها الكونت «جيرولامو»؛ فإنها فرت من وجه الشعب الناقم، ولجأت إلى الحصن ريثما جاءها المدد من ميلانو فاستعادت ملكها، وقد كانت الأحوال لا تسمح بتدخل الأجنبي لتعضيد الشعب ضد الأميرة، ولكن بعد ذلك ذهب نفع تلك الحصون، فإنه لما هاجمها «سيزار بورجيا» وكان الشعب معاديًا لها تألب معه عليها، وكان الأنفع لها قبل هجوم العدو الأجنبي وبعده الحصول على حب الشعب فإنه أمنع الحصون.
ومجمل القول: إن تشييد الحصون وعدمه سيَّان، ولكن اللوم على من يحسبها تحميه لدى سخط الأمة.