كيف يبعد صيت الأمير
فلجأ إلى القسوة الدينية، وطرد العرب من مملكتهم بعد أن سلب أملاكهم، وليس يوجد في التاريخ أعجب وأبهر من عمله هذا! ثم إنه للعلة ذاتها هاجم أفريقية وحارب في إيطاليا وفرنسا، فكان على الدوام يفكر في الأعمال الكبرى ويعمل لتحقيقها، وقد حارت لتلك الأعمال عقول شعبه، فبقوا باهتين ينتظرون نتائجها، والمتأمل في هذه الأعمال يرى أنها نتجت بعضها عن بعض، فلم يترك الملك لأحد وقت الإمعان للعمل ضده، ثم إنه مما يعود بالنفع على الأمير أن يعطي مثالًا حسنًا عن نفسه في الإدارة الداخلية كما روي عن مستر «برنابو دي ميلانو» عندما كان أحد الرعية يقوم بعمل عظيم أو يقترف عملًا سيئًا، فيقوم الأمير بمكافأته أو عقابه، وهذا مما يدعو الناس إلى التحدث بأعمال الأمير، وفوق هذا كله فواجب الأمير أن يقوم بأعمال تكسبه شهرة الفخار والعظمة، إن الأمير يُحترم عندما يُعرف عنه أنه إما صديق صادق وإما عدو ثابت؛ لأن هذه السياسة أفضل من البقاء على الحياد؛ لأنه إذا تحارب جاران فإما يعود عليك نفع من انتصار أحدهما وإما لا، وفي كلتا الحالين الأنفع لك أن تُظهر رأيك وتعلن الحرب، فإذا لم تفعل وقعت فريسة الظافر؛ فيسر عدوك المخذول، وبذا تفقد النصير؛ لأن المنصور لا يحب صديقًا مرتابًا في أمره لم يناصره في الشدة، وكذلك المخذول لن يفتح لك صدره؛ لأنك لم تمده بتعضيدك فقد ذهب «أنطيوكوس» إلى إغريقيا، بعثه «إيتولي» ليطرد الرومان، فبعث إلى «آشاي» وأهلها أصدقاء الرومان خطباء ينصحون إليها أن يبقى أهلها على الحياد، ثم إن الرومان أوعزوا إلى آشاي أن يمدوهم بسيوفهم، فعرضت المسألة على مجلس آشاي للمناقشة فيها، وقد تناظر سفراء «أنطيوكوس» وسفراء الرومان فقال سفير الرومان: «أما ما قيل عن عود النفع عليكم إذا لم تتداخلوا في حربنا، فهو أبعد الأشياء عن الصحة؛ لأنكم إن بقيتم على الحياد فستكونون فريسة الظافر» وأنه يحدث على الدوام أن من ليس صديقك يطلب إليك أن تكون على الحياد، كما أن صديقك يطلب منك أن تساعده في الحرب وتناصره، ولذا كان الأمراء ضعاف الرأي يلجئون إلى الحياد للابتعاد عن الخطر الواقع، وهذا يؤدي دوامًا إلى خرابهم، أما إذا أظهر الأمير رأيه، وأعلن الحرب فإنه إذا فاز الذي ناصره لا يمكنه أن يوقع به، وإن كان تحت رحمته؛ لأن الصداقة قد استوثقت عروتها، ولم تصل الدناءة بالرجال إلى الإساءة إلى من أحسنوا إليهم لهذه الدرجة، وإذا فشل من ناصرته فإنه يحميك ويساعدك ما استطاع لذلك سبيلًا فتبقى شريكًا له في حظه الذي إن ساء اليوم فقد يحسن غدًا.
أما في الحال الثانية عندما تكون نتيجة الحرب بين الطرفين لا تنالك، فإنه كذلك أحكم لك أن تناصر أحد الطرفين؛ لأنك تسعى في خراب أحدهما بمساعدة الآخر، وكان الأنفع لهما أن يبقي عليه، فإذا فاز فإنه يبقى تحت رحمتك، ومن المستحيل أنه لا يفوز إذا كنت تساعده، وهنا أذكر أنه لا ينبغي للأمير أن يساعد من هو أقوى منه ليؤذي غيره إلا في حال الضرورة، لأنه إذا فاز بقيت تحت رحمته، وواجب الأمراء هو أن يتقوا جهد طاقتهم الوقوع تحت رحمة الغير.
فإن أهل البندقية اتحدوا مع فرنسا ضد دوق ميلانو، وكان في استطاعتهم الابتعاد عن هذا الاتفاق، وقد نتج عنه خرابهم، ولكن إذا كان اتقاء الاتحاد مستحيلًا مثل ما حدث في حال أهل «فلورنسا» لما هاجم البابا وإسبانيا بلاد «لومبارديا» فالأمير مضطر للاتحاد مع غيره على النمط الذي سبق بيانه، ولا تدعن حكومة تعتقد بسلامة عاقبة السياسة التي اتبعتها بل لتحسبن حساب الخطر في كل شيء؛ فإنه من طبيعة الأشياء استحالة الخلاص من صعوبة دون الوقوع في أخرى، إلا أن الحذر يمكِّن الرجل من التمييز والمقارنة فيختار أخف الضررين، كذلك ينبغي للأمير أن يظهر بمظهر حب العبقرية، وصفات الاقتدار والكفاية بتشريف من يمتازون في الفنون والصنائع، كذلك عليه أن يشجع الصناعات والمتاجر والمشروعات الكبرى، فلا يخشى تاجر أن ينمي تجارته خشية سلب ثروته بعد جمعها، ولا يرهب صانع أن يحسن صنعته لئلا يوضع على كاهله من الضرائب والمكوس ما يعجزه عن العمل والنهوض، بل واجب على الأمير أن يعضد المتاجر والمصانع بالمكافآت ليتنافس الأفراد في رفع شأن الوطن الذي يرجع إليه فضله، والواجب عليه أيضًا إشغال الشعب خلال العام بالمواسم والأعياد، ومخالطة أهل سائر الحرف والصناعات مقدمًا لكلٍّ مثالًا من مجده وحبه للإنسانية.