التصدير

بقلم  سوزان باسنيت

نشأت فكرة وضع هذا الكتاب من سلسلة حلقات النقاش مع طلاب الدراسات العليا في جامعة واريك في التسعينيات. وكان أندريه ليفيفير أستاذًا فخريًّا في تلك الجامعة؛ إذ كان يزور إنجلترا كل عام قادمًا من مدينته أوستن، بولاية تكساس، لِيُحادث الطلاب ويناقشهم في التطورات التي جدَّتْ في مبحث «دراسات الترجمة». وكان قد أرسل إليَّ — قُبَيل وفاته الفاجعة المفاجِئة بمرض سرطان الدم في عام ١٩٩٦م — المقالات المنشورة له في هذا الكتاب في شكل مسوَّدات؛ أي إننا لم تُتَحْ لنا فرصة النقاش حولها. وعلى الرغم من أنه كان قد استمع إلى الصور الأولى لمقالاتي في شكل محاضرات، فلم يتسنَّ له قطُّ أن يُبديَ أية تعليقاتٍ نقدية على أيٍّ منها.

وتُعتبر الترجمة في المقام الأول «عملية حوارية». ولقد كان منهجنا في العمل على امتداد سنواتٍ طويلة حواريًّا أيضًا. وكان المفترض أن يشهد هذا الكتاب «تحويرات» أكثر مما شهد، في غضون قراءة كلٍّ منا لما كتبه الآخر، وإعادة قراءته، ثم إعادة كتابته على ضوء ما يُبديه كلٌّ منا من تعليقات. ولكن هذا الكتاب لا يُمثِّل، مع الأسف إلا «لغةً واحدة»، وإلى حدٍّ أكبر مما ينبغي، وإن كان معنى هذا أنني يجب أن أتحمَّل وحدي، قطعًا، مسئولية أية نقائص فيه.

ويزخر مبحث «دراسات الترجمة» في الوقت الحالي بالكثير من الأفكار المبتكَرة المثيرة، من بعد أن بلغ المبحث سِنَّ الرشد، وتعددت مداخله المختلفة، ومدارسة المنوَّعة، ومنظوراته المتفاوتة، وهو ما ينبغي أن يكون، وإن لم تكن تلك جميعًا ملائمةً لكل من يهتم بهذا المجال، ولكن حقيقة التنوع نفسها تشهد على نجاح انتشار الآراء والأفكار في مجالٍ بَيْنِيٍّ؛ أي مشترَك بين التخصصات، وهو الذي لم يُثَبِّتْ موقع أقدامه بصورةٍ جادَّة في العالم الأكاديمي إلا في الآونة الأخيرة.

وقد بدأتُ العمل مع أندريه ليفيفير بسبب أوجه الشبه بين مدخل كلٍّ منا في هذا المجال، وكنا قد دخلنا أصلًا مبحث دراسات الترجمة لعدة أسباب، فعلى المستوى الشخصي، تلقَّى كلٌّ منا تعليمه باعتباره «ثنائيَّ اللغة» وكانت تُبهِرنا، مثل كل من يتكلم لغتين، الفوارقُ اللغوية والثقافية بينهما، كما أن كلًّا منا قد اكتسب الخبرة في الترجمة التحريرية والفورية؛ ومن ثَمَّ فقد كان مدخلنا إلى المسائل النظرية ينطلق من قاعدة عملية، وإلى جانب هذا كان شغلنا الشاغل دومًا تقريب المفاهيم النظرية إلى القارئ؛ لأننا رأينا أن تقريب الأفكار وسيلة لسد الفجوة بين من يقولون إنهم باحثون في الترجمة ومن يقولون إنهم مترجمون وحسب. والواقع أن وجود هذه الفجوة بين أصحاب النظريات وبين ممارسي الترجمة هذه الفترة الطويلة مُضِرٌّ لجميع الأطراف.

وأما أهم نقطة اتصال بيننا فكانت نظرتنا إلى دراسة الترجمة الأدبية (وأقول دون خجل إننا كنا على الدوام نهتم بالترجمة الأدبية أساسًا) إذ كنا نرى أن دراسة الترجمة الأدبية ذات صلةٍ وثيقة بدراسة الأدب المقارن، كما كنا نرى أن دراسة الأدب ترتبط بِعُرًى لا تنفصم بالتاريخ. وانتهى كلٌّ منا وحدَه إلى أن العلاقة بين الأدب المقارن ودراسات الترجمة قد أضرَّتْ بالمبحث الأخير، فنَشَدْنا تغيير المنظور، قائلين إن دراسات الترجمة ينبغي أن تُعتبر المبحث الذي قد يُوضَع الأدب المقارن في إطاره، لا العكس.

ويتجلَّى في المجموعة الحالية من المقالات اهتمامُنا المشترَك بالأدب المقارن وبالتاريخ الأدبي والثقافي. وجميع هذه المقالات تستند إلى محاضرات أُلقِيَت على الطلاب في كل مكان في العالم، ونَوَدُّ الإعراب عن امتناننا لجميع المناقشات التي ساعدت على تشكيل أفكارنا، كما نُعرِب عن امتناننا بصفةٍ خاصَّة لجميع الزملاء الذين ساعدوا على وضع هذا الكتاب، وخصوصا روجر بِلْ، وإدوين جنزلر، وبيوتر كوهيشاك، وماريا تيموشكو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤