التمهيد

بقلم  إدوين جنزلر

دَأَبَ الباحثان سوزان باسنيت وأندريه ليفيفير في عملهما على امتداد السنوات العشرين الماضية على بناء الجسور داخل مجال دراسات الترجمة، وإقامة روابط بَيْنيَّة تُقيم الصلة بين هذا المبحث ومجالات الدرس خارج إطاره. ففي عام ١٩٩٠م كانا أول من اقترح أن تتخذ دراسات الترجمة «التوجُّه الثقافي» وتتجه إلى عمل الباحثين في الدراسات الثقافية، وفي كتابهما الجديد بناء الثقافات يُقدِّمان حُجَّةً قوية على ضرورة التقريب بين الدراسات الثقافية ودراسات الترجمة؛ إذ إن الاستراتيجيات الجديدة المستنبَطة من ضروب تاريخ الترجمة — وهو ما نجده في مناقشة ليفيفير لترجمات ملحمة الإنيادة ومناقشات باسنيت التي تتلوها لترجمة الجحيم [في الكوميديا الإلهية لدانتي] — لا تقتصر على مساعدة المترجمين على تعميق نظرتهم إلى الممارسة العملية للترجمة، بل تُقدِّم للنُّقَّاد الباحثين في الدراسات الثقافية نظراتٍ ثاقبةً جديدة في التلاعب الثقافي الذي يمارسه أصحاب السُّلطة. وقد استرشد المترجمون بكتابات باسنيت وليفيفير فازدادت قوتهم وتضاءل إنكارهم لذواتهم، وهو التطور الذي أتاح للمُنظِّرين رؤيةً أوضح للقيام بالوساطة ما بين الثقافات و/أو تقديم كلمات وأشكال وظلال دلالات ثقافية ومعانٍ في ثقافاتهم المختلفة، وبناءً على حُجَّة باسنيت وليفيفير في بناء الثقافات تُعتبر دراسة الترجمة في ذاتها دراسةً للتفاعل الثقافي، ومن هنا تنبع أهمية هذا الكتاب للباحثين في مجال الدراسات الثقافية، وأصحاب النظريات الأدبية، وعلماء الأنثروبولوجيا، وعلماء الأعراق البشرية، ودارسي علم اللغة الاجتماعي، وفلاسفة اللغة، وكل من يهتم بالنظر في أوجه الاندماج الاجتماعي في إطار تعدُّد الثقافات.

ويقوم بناء الثقافات على الأُسُس التي وضعَتْها سلسلةٌ من النصوص التي شارك في وضْعِها المؤلِّفان — باسنيت وليفيفير — وأصبحت علاماتٍ بارزةً على هذا الطريق؛ إذ يُنسَب إليهما، ربما أكثر من غيرهما من الباحثين في هذا المجال، فضل وضع دراسات الترجمة على الخريطة الأكاديمية، فقد حضرا معًا المؤتمر التاريخي الذي عُقد عام ١٩٧٦م في لوفان، بلجيكا، وهو المؤتمر الذي يتفق معظم الباحثين على أنه قد شهد تأسيس مبحث دراسات الترجمة. وفي الكتاب الذي يضمُّ أبحاث ذلك المؤتمر بعنوان الأدب والترجمة (والذي نُشِر عام ١٩٧٨م من تحرير هومز وغيره) نشر ليفيفير مقالًا عنوانه «الترجمة: مركز نمو المعرفة الأدبية»، ويرصد فيه العناصر اللغوية والأدبية والثقافية لدراسات الترجمة، وهي موضوعاتٌ زادت المقالات المنشورة في ذلك الكتاب من تحليل تفصيلاتها. وأما مقاله المهم، والذي يكثر الاستشهاد به، وعنوانه «دراسات الترجمة: هدف المبحث»، والمنشور أيضًا في الكتاب المذكور عام ١٩٧٨م، فيقول: إن ممارسة الترجمة يجب أن تغزو نظريات الترجمة، مثلما يجب على الأخيرة أن تغزو الممارسة. وهي الدينامية التي أتاحت لهذا المبحث أن ينمو ويؤتي ثماره الكثيرة، ونشرت باسنيت في الكتاب نفسه مقالًا بعنوان «ترجمة الشعر المكاني: فحص النصوص المسرحية التي تُقدَّم على خشبة المسرح»، وهي تُوسِّع فيه من حدود المنهجيات اللغوية والأدبية البحتة المُطبَّقة في الدراسة بحيث تتضمَّن عوامل التناصِّ والتداخل السيميوطيقي، وهي كذلك من الموضوعات التي يزيد بحثها التفصيلي في المقالات المُدرَجة في هذا الكتاب، وكتبَتْ باسنيت بعد ذلك كتابًا بعنوان «دراسات الترجمة» (١٩٨٠م) وهو الذي لا يزال النصَّ القاطع في هذا المجال؛ فإن باسنيت تُقدِّم للباحثين فيه مسحًا تاريخيًّا للتطورات النظرية إلى جانب نماذج توضيحية من التحليل المقارن، كما تُناقِش الاستراتيجيات اللازمة لمن يقومون بترجمة الشعر والدراما والقصص، وبهذا تُثبِت من جديد كيف يمكن أن تستفيد الممارسة من نظريات الترجمة ومن التحليل المقارن.

وفي عام ١٩٨٥م ظهرت علامةٌ بارزة أخرى على طريق التطور في مجال دراسات الترجمة؛ ألا وهي كتابٌ بعنوان التلاعب بالأدب (١٩٨٥م) من تحرير ثيو هير مانز. وكان عنوان هذه المجموعة من المقالات سببًا في إطلاق كُنْية على الباحثين الذين كتبوها. وكان من بينهم باسنيت وليفيفير؛ ألا وهي «مدرسة التلاعب». وقد عارض بعض المشاركين في المبحث الجديد هذه الكُنْية، ولكنها كنية مناسبة من بعض الوجوه؛ إذ إن الباحثين في دراسات الترجمة كانوا قد بدءوا يُبيِّنون أن الترجمات ليست نوعًا أدبيًّا ثانويًّا مشتقًّا من غيره، بل كانت أدواتٍ أدبيةً أولية استعانت بها كُبرَى المؤسسات الاجتماعية — مثل النُّظُم التربوية، ومجالس الفنون، ودور النشر؛ بل والحكومات — في «التلاعب» بمجتمع معيَّن حتى «تبني» نوع «الثقافة» التي تَنشُدها، فكانت الكنائس تُكلِّف المترجمين بترجمة الكتاب المقدس؛ والحكومات تدعم ترجمة الملاحم القومية؛ والمدارس تقوم بتدريس ترجمات الكتب الشامخة؛ والملوك يرعَون ترجمات الفتوحات البطولية؛ ونُظُم الحكم الاشتراكية تَكْفُل ترجمات الواقعية الاشتراكية. وهكذا تحوَّلَتْ قضية «التلاعب» التي طُرحت عام ١٩٨٥م فأصبحت «البناء الثقافي» الذي تجده في هذا الكتاب. وإذا كان التحليل هنا يتميز بمزيدٍ من العمق والتركيب عمَّا اتَّسمت به بعض الأفكار الأولى، فإن تلك الأفكار قد أثبتَتْ صحتها عند فحصها أكاديميًّا وثقافيًّا.

وكان كتاب التلاعب بالأدب يتضمَّن دراسات مهمة كتبها المؤلفان، باسنيت وليفيفير؛ إذ إن باسنيت في دراستها «دروبٌ داخل التِّيه: استراتيجيات ومناهج لترجمة النصوص المسرحية»، قد اقترحت إدراج المزيد من الدوالِّ السيميوطيقية — مثل أشكال الحركة، والإضاءة، والصوت، ولحظات الصمت — بدلًا من الاكتفاء بمجرَّد العلامات اللفظية في المنهجية التي وضعَتْها لترجمة النصوص الدرامية، ونستطيع أن ندرك تطوُّر تفكيرها في العَقد الأخير كما يتجلَّى في دراستها «ما زلنا أسرى في التيه» في هذا الكتاب. وكان ليفيفير قد ساهم في ذلك الكتاب (١٩٨٥م) بمقال عنوانه «لماذا نُهدِر الوقت في إعادة الكتابة؟ مشكلة دور إعادة الكتابة في نموذج بديل» وفيه يطرح مفهومه ﻟ «إعادة الكتابة» — وهو نوعٌ أدبي يتضمَّن التفسير والنقد وجمع المختارات والترجمة — ويُبيِّن أن كل من «يُعيدون الكتابة» يعملون في ظل قيود معيَّنة تتمثَّل في المعايير الشعرية والعقائد الأيديولوجية الكامنة في الثقافة المستهدفة. ونرى تطوير أفكاره الرائدة في بعض المقالات مثل «ممارسات الترجمة ودورة رأس المال الثقافي: بعض ترجمات ملحمة الإنيادة باللغة الإنجليزية» و«التطويع الثقافي لبرتولت بريخت» الواردة في هذا الكتاب.

وشهِدَت التسعينيات انطلاقةً حقيقية في مجال دراسات الترجمة عندما نُشرت مجموعة من المقالات بعنوان الترجمة، والتاريخ والثقافة في كتابٍ شارك في تحريره باسنيت وليفيفير. وكان ذلك هو الوقت الذي بدأتْ دراسات الترجمة فيه تنحو نحو «التوجُّه الثقافي»؛ إذ أعاد المؤلفون تعريف موضوع الدراسة قائلين بأنه نصٌّ لفظيٌّ داخل شبكة من العلامات الأدبية وغير الأدبية في الثقافة المصدر والثقافة المستهدَفة. وكما تقول باسنيت في الفصل الثامن هذا الكتاب «التوجُّه للترجمة في الدراسات الثقافية» كانت تقترح مع ليفيفير أن إعادة التعريف المشار إليها لهذا المجال:

يمكن أن تشُقَّ لنا طريقًا إلى تفهُّم دقائق عمليات التلاعب المعقَّدة بالنص: كيف يُختار نصٌّ ما للترجمة، وما الدور المَنُوط بالمترجمين في هذا الاختيار، وما دور المُحرِّر، أو الناشر أو راعي الترجمة، وما المعايير التي تُحدِّد الاستراتيجيات التي سوف تُطبَّق عند المترجمين، وكيف يمكن «استقبال» النص في النظام المستهدَف؟

وإذا كان الكثير من الباحثين قد بدءوا التقدم نحو التوجه الثقافي في مُستهل التسعينيات، فإن باسنيت وليفيفير كانا أول من أفصحَ بوضوحٍ عن هذا الموقف، وفي خِضَمِّ الأحداث التي تفجَّرَتْ بعد ذلك، كان لواء الرِّيادة معقودًا لباسنيت وليفيفير.

وفي عام ١٩٩٢م نشر ليفيفير ثلاثة كتب عن الترجمة لا كتابًا واحدًا؛ وهي الترجمة، وإعادة الترجمة، والتلاعب بالصِّيت الأدبي، والثاني الترجمة/التاريخ/الثقافة: كتاب مصدري، والثالث ترجمة الأدب. أضِف إلى ذلك أنه لم ينشر هذه الكتب في دور نشر مغمورة، بل في دور نشر كبرى مثل رتلدج ودار نشر MLA (مؤسسة اللغات الحديثة). وكانت نسبة مبيعات الكتب عالية، وازدهرَتْ بذلك دراسات الترجمة، فبدأ نشْرَ مجلات علمية جديدة مثل المترجم والهدف، وازداد نشاط عقْدِ المؤتمرات في شتَّى أرجاء العالم. وكان من بين البلدان التي عُقدت فيها إنجلترا، وهولندا، وبولندا، وفنلندا، وإسبانيا، والنمسا، والبرازيل، وكندا. ودخلتْ إلى السوق دور نشر جديدة، مثل دار نشر جامعة كينت في الولايات المتحدة، أو دار نشر جيروم في إنجلترا. وبُعِثَت الحياة في دور نشر قديمة مثل سلسلة رودوبي في هولندا، ووُضعت موسوعات دراسات الترجمة في إنجلترا وألمانيا والصين وغيرها. وربما يكون من أهم الظواهر دخول دراسات الترجمة إلى رحاب الجامعات؛ إذ بدأت برامج مَنْح درجتَي الماجستير والدكتوراه في بعض الجامعات مثل ميدلسيكس، وماساتشوستس، وسالامانكا، وسان باولو وغيرها. ومن المؤسف ألا يكون أندريه ليفيفير في قيد الحياة، وألا يتمكَّن من مشاهدة ثمار البذور التي غرسها. ولنا أن نعتبر أن بناء الثقافات يُمثِّل من عدة وجوه احتفالًا بحياة ليفيفير وعمله. ولقد أحزنَتْ وفاته جميع المنتمين إلى هذا المجال، وبلغ الحزن أقصاه عند سوزان باسنيت التي ربما كانت أقرب زملائه وأصدقائه إليه. وهكذا بذلَتْ باسنيت جهدًا كبيرًا، وأبدَتْ عناية خاصة، وتجشَّمَتْ صعوباتٍ جَمَّة في جمع آخر كلماته في الصفحات التي يضمُّها هذا الكتاب.

كان الانفجار الذي شهده التفكير في الترجمات والكتابة عنها، وحولها، سببًا في عُسر متابعتها من جانب أي قارئ. وأما الذين لم يكتشفوا هذا المجال إلا في الآونة الأخيرة، فسوف يجدون في بناء الثقافات مجموعة من المقالات التي يتجلَّى فيها التطور الذي شهده هذا المجال؛ إذ إن هذه المقالات تتناول أحدث التطورات في النظرية، وفي الدراسات الثقافية، وفي بحوث الترجمة (وهي التي تُسمَّى الدراسات الوصفية عند باحثي دراسات الترجمة) وفي تدريس الترجمة. كما أن سوزان باسنيت وأندريه ليفيفير يُواصِلان أيضًا توسيع حدود تعريف مجال دراسات الترجمة. فليس هذا الكتاب مجرَّد مجموعة من المقالات والأحاديث التي قُدِّمت في ندوات في الماضي و/أو نُشرتْ من قَبْلُ في المجلَّات العلمية. بل إنه يُقدِّم مادة جديدة لم تُنشَر من قبل، إما في صورة عمل جديد كان الباحثان قد عرضاه أثناء إعداده في حلقات بحث مغلقة في إطار برنامج الدراسات العليا في مركز الدراسات الثقافية البريطانية والمقارنة، بجامعة واريك، وإما في صورة إعادة تفكير جذرية وتنقيح للمواقف التي سبق اتخاذها في مقالات منشورة.

ويبدأ كتاب بناء الثقافات بثلاثة مقالات جديدة، الأولى هي المقدمة التي اشتركت باسنيت مع ليفيفير في تأليفها بعنوان «ما موقفنا في مجال دراسات الترجمة؟» ويليها الفصل الأول الذي كتبه ليفيفير بعنوان «التفكير الصيني والغربي عن الترجمة»، ثم الفصل الثاني الذي كتبَتْه باسنيت بعنوان «متى لا تكون الترجمة ترجمة؟»؛ فأما المقال الذي كتبه المؤلفان معًا على شكل مقدمة فإنه يجمع مزيجًا من تاريخ الترجمة تتلوه مجموعة جديدة من الأسئلة والفُرَص المتاحة للبحث في المستقبل، كما يتضمَّن القضية الرئيسية لهذا الكتاب، ويُجيب على سؤال قد يطرحه أول من يتناول الكتاب لقراءته؛ ألا وهو لماذا وُضع عنوان بناء الثقافات لكتابٍ كتبه باحثان بارزان في الترجمة؟ وتدل الإجابة على الرحلة الطويلة التي قطعَتْها دراسات الترجمة على طريق التطور منذ عام ١٩٧٨م. وتقول حُجَّة باسنيت وليفيفير إن المترجمين كانوا دائمًا يُمثِّلون حلقة اتصال حيوية تُتِيح للثقافات المختلفة أن تتفاعل فيما بينها، وأما المرحلة المنطقية التالية التي تقول بها باسنيت وليفيفير، فلا تقتصر على دراسة الترجمات فقط، بل تشمل دراسة التفاعل الثقافي. وربما تكون النصوص المترجمة نفسها أوضح وأشمل «البيانات» «العملية» اللازمة لدراسة هذا التفاعل الثقافي، وتحقيقًا لذلك تطرح باسنيت وليفيفير ثلاثة نماذج ثبتَتْ فائدتها لهما في دراسة التفاعل الثقافي. فأما النموذج الأول فهو نموذج هوراس، الذي يميل المترجم فيه إلى إظهار «الولاء» لعملائه؛ أي لجمهوره المستهدَف. وأما الثاني فهو نموذج جيروم الذي يميل فيه المترجم إلى الإخلاص للنصِّ المصدر، وهو الكتاب المقدس في هذه الحالة، والنموذج الثالث هو نموذج شلاير ماخر الذي يؤكد الحفاظ على «غيرية» النموذج المصدر للقارئ المستهدَف. وهكذا فإن نماذج باسنيت وليفيفير المتعددة تساعد على دراسة الترجمات في ثقافات مختلفة، وفي فترات مختلفة، ولا تُوحي بأن نظريةً واحدة للترجمة صالحة لجميع الثقافات وجميع الأزمنة، كما أن تعدُّد النماذج يُقدِّم الأدوات النقدية الجديدة اللازمة لإجراء مثل هذه الدراسة، مثل مفهوم «الشبكات النصية» المستقَى من العمل الذي قام به بيير بورديو، والمقصود بالشبكة النصية مجموع الأشكال الأدبية والأنواع الأدبية المقبولة التي يمكن التعبير بها عن النصوص. وعلى سبيل المثال نرى أن الروايات الصينية تلتزم مجموعةً خاصة بها من القواعد، وهي قواعد تختلف عن الطرائق التي تُبنَى بها الروايات — غالبًا — في الغرب؛ وتؤدي هذه «الشبكات» إلى أنساق توقعات معيَّنة لدى كل جمهور، ولا بد للمترجمين وخصوصًا مُؤرِّخي الأدب من أن يأخذوا هذه الشبكات في اعتبارهم حتى يقدموا ترجمات فُضْلَى و/أو تحليلات فُضْلَى للترجمات. ومن أشد ما يُثير اهتمامنا في المقدمة مجموعة الأسئلة التي تطرحها باسنيت وليفيفير، فهما يسألان مثلًا: لماذا تُترجَم نصوص معينة ولا يُترجَم غيرها؟ وما الغاية الخفية وراء الترجمة؟ وكيف يستخدم أصحابُ هذه الغايات المترجمين؟ هل نستطيع التنبُّؤ بالتأثير المحتمَل لترجمةٍ ما في ثقافة من الثقافات؟ وتقول باسنيت وليفيفير إن مستقبل هذا المجال مُشرِق وضَّاء؛ فميادين البحث مستقبلًا هنا شاسعة ومن بينها دراسة تاريخ الترجمة ابتغاء زيادة دقة الحكم على الوضع النسبي الحاضر، ودراسة الترجمة في عهود ما بعد الاستعمار ابتغاء إعادة تقييم أفضل للنماذج القائمة على المركزية الأوروبية، ودراسة الأنواع المختلفة للنقد، وكتب المنتخَبات، والمراجع، والترجمات، حتى نرى كيف تُخلَق صورُ النصوص وكيف تعمل في إطار ثقافة من الثقافات.

ويُبيِّن أندريه ليفيفير في الفصل الأول «التفكير الصيني والغربي عن الترجمة»، كيف يمكن للشبكة النصية أن تساعد الباحثين في التحليل المقارن، وهو ينظر إلى مفهوم الترجمة من الزاوية التاريخية، ونرى في هذه المقالة الباهرة التي تضع تاريخ الترجمة في الغرب جنبًا إلى جنب مع تاريخها في الصين، أن تعريفنا للترجمة (عند الجنس الأنجلوجيرماني الأبيض) قد لا يتَّسِم بالعالمية التي يفترضها بعض أصحاب النظريات. ويُقارن ليفيفير بين نظامٍ في الغرب يكتب الترجمات فيه دائمًا مؤلِّفٌ واحد ويقرؤها القُرَّاء في صمت وبين نظامٍ في الصين يغلِب أن تكون الترجمات فيه شفوية الطابع، وكثيرًا ما تقوم بها فِرَقٌ من الباحثين، وكثيرًا ما تُقرأ و/أو تُنشَد علنًا. ويقول ليفيفير إن النص «الأصلي» في الغرب دائمًا ما يظهر عن وعيٍ أو دون وعيٍ خلف النص المترجم، وأما في الصين فإن النص المترجم كثيرًا ما يحلُّ محلَّ النص الأصلي، ولا يكاد القارئ يسأل أسئلة تُذكَر عن «الأصل»، ويفحص ليفيفير المؤسسات القوية التي قد تكون مسئولة عن تشكيل هذه الحساسية مثل الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في الغرب والأباطرة الأقوياء في الصين. ونتيجةً لهذا يُرغِم ليفيفير القارئ على أن يرى أن تعريفنا للترجمة نفسه باعتباره نوعًا من النقل اللغوي يكمُن في باطن نُظُمٍ أكبر أو شبكاتٍ أكبر تحدِّد وتَحُدُّ من ممارستنا بدرجة أكبر مما كنا نتصوره إلى الآن. وهكذا فلن يستطيع الباحث أن يبدأ في رؤية طبيعة الدور الذي تنهض به الترجمات في بناء الثقافات إلا إذا رجع خطوة واحدة عن عملية النقل اللغوي المباشر، وأخذ في اعتباره المؤسسات الكبرى في المشاركة في بناء الثقافة.

ويُواصل ليفيفير استكشاف مدى نفع مفهوم الشبكة النصية فيما يلي ذلك من الكتاب؛ إذ يفحص في الفصل الخامس — على سبيل المثال — وعنوانه «أبواب القياس: ملحمة كاليفالا باللغة الإنجليزية»، بناءَ هذا العمل وترجماته، وهو مجموعة من الشعر الشفاهي الفنلندي، أو نوع من الشعر الملحمي القومي الفنلندي، ليُبيِّن كيف يخضع القرَّاء والنُّقَّاد — عن وعيٍ ودون وعي — لمفهومٍ بَنَتْه الثقافة لشكل مقبول من الملاحم القومية، وهو «شبكة» تأثَّرت بمفهومنا لملاحم هوميروس أو ملاحم شمال أوروبا، وتقول حُجَّة ليفيفير إن الخضوع لمثل هذه الشبكة التي تَكمُن في فكرتنا عن «الأدب العالمي» ذو أهمية خاصة للآداب المكتوبة بلغات يتكلمها الناس على نطاقٍ ضيِّق. فإذا كانت إحدى الأمم تريد الاعتراف بها كأمة بين أُمَم الأرض، كما كان حال فنلندا في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، فإن بناء ملحمة قومية يُعتبَر أحد المقوِّمات الرئيسية، ويُبيِّن ليفيفير أن هذا البناء نفسه كان على وجه الدقة ما تصدَّى عددٌ من النُّقَّاد والمترجمين الفنلنديين للقيام به بانتظام، ويستشهد ليفيفير بمترجم كاليفالا، واسمه كيث بوزلي، في الإشارة إلى أن المؤرِّخين الفنلنديين الذين بَنَوا الملحمة «لم تكن تعنيهم مطابقة النص للمصادر بقدر اهتمامهم بإثبات وجود ثقافة قومية». ومن المفارَقات أن اللغة السويدية كانت اللغة الغالبة في فنلندا في ذلك الوقت، وهو ما دفع الباحثين أنفسهم — الذين بَنَوا الملحمة الفنلندية — إلى بنائها مستخدمين اللغة السويدية أولًا؛ لأنها كانت اللغة الأدبية الوحيدة التي يعرفونها. وفي حالة اللغات التي لا يعرفها الكثير من الناس، مثل اللغة الفنلندية، والتشيكية، والفلمنكية، والغيلية، لا تُعتبر المفارقة المذكورة نادرة الحدوث؛ فكثيرًا ما كان إحياء آدابها يعتمد على ترجمات من السويدية أو الألمانية، أو الفرنسية أو الإنجليزية؛ وذلك حتى يُكتب الوجودُ لهذه الأداب. ويُبيِّن ليفيفير في مقاله «ملحمة كاليفالا بالإنجليزية» أن النُّقَّاد، مثل لونروت، والمترجمين، مثل أول مترجمَين اثنين لها، قد استخدموا بالقطع شبكاتٍ تُماثِل شبكات الملاحم الكلاسيكية لشمال أوروبا بغرض تطويع الأصل حتى يتفق مع ما يربط القرَّاء عادةً بينه وبين الملاحم الكلاسيكية. ويُعتبَر هذا النوع من البحوث في الدَّور الذي تلعبه الترجمات في الأمم الناشئة من أهم ما أسهم به باحثو دراسات الترجمة من بحوث مثيرة، والواقع أن العمل الرائد الذي قام به باحثو دراسات الترجمة، مثل ليفيفير، يُقدِّم لنا نماذج من الماضي سوف يكون لها تأثيرٌ هائل في الدراسات الثقافية وتشكيل الهُوية في المستقبل.

ومن النصوص الباهرة التي تُمثِّل ظاهرة بناء ملحمة وطنية من خلال الترجمة نصُّ ترجمة أوسيان التي قام بها جيمز ماكفيرسون، وهي ملحمة اسكتلندية وطنية، في الوقت الذي كان الباحثون الفنلنديون يبنون فيه ملحمة كاليفالا تقريبًا، وإن كانت المشكلة تنحصر في عدم وجود نصٍّ أصلي! كانت ترجمة ماكفيرسون خُدعة، أو ما أصبحت دراسات الترجمة تُسمِّيه «ترجمة كاذبة»، وهو المصطلح الذي صاغه جيديون توري في دراسته «الترجمة، والترجمة الأدبية، والترجمة الكاذبة» (١٩٨٥م). ومقال ليفيفير عن ترجمة الأدب «الملحمي» باللغات غير المشهورة تستكملها مقالة سوزان باسنيت في الفصل الثاني بعنوان «متى لا تكون الترجمة ترجمة؟» فهي تُبيِّن أيضًا كيف أن البناء الثقافي عامل يتحكم في تقديم وتسويق نصٍّ باعتباره ترجمة وهو في الواقع عملٌ أصيل. لماذا يفعل المرء شيئًا كهذا؟ كثيرًا ما تكون القيود الثقافية عائقًا تستحيل معه الكتابة عن موضوعات معيَّنة أو استخدام أشكال شعرية معيَّنة. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، على سبيل المثال، حيث يسود الشعر الحر باعتباره الشكل «المعياري» في الأوساط الشعرية، قد يصعب نشر شعر جادٍّ في مزدوجات مُقفَّاة، ولكن إذا أخفى المرء هويته وزعم أنه أعظم كاتب من بلد آخر فربما استطاع أن يطبع إنتاجه. والأمثلة على مثل هذا الخداع كثيرة. وكان من بينها أخيرًا نشر شعر «أراكي ياسوسادا» باللغة الإنجليزية. وقيل إن ياسوسادا أحد «الناجين» اليابانيين من كارثة هيروشيما، وهو يكتب أشعارًا تتضمَّن صورًا سيريالية ونقلات مفاجئة تُعتبر مناقضة تمامًا لصور شعراء هيروشيما الآخرين المترجمة إلى الإنجليزية والتي كثيرًا ما تتميَّز بعاطفيتها المُسرفة. وكانت المشكلة أن ياسوسادا ليس له وجود. وعلى الرغم من أن الشائعات لا تزال تتردد، فإن المشتبه الرئيسي فيه، وفقًا لما تقوله إميلي نوسبوم (١٩٩٧م) في مقالها «التحوُّل إلى اليابانية: خدعة أشعار هيروشيما»، شخص يُدعَى كينت جونسون، أستاذ اللغتين الإنجليزية والإسبانية في كلية هايلاند كوميونيتي، الذي نشر شعره الخاص بصوت الناجي من هيروشيما، بعد أن أخفى هويته لإكساب صوته أصالة، والفرق بين ناجٍ متخيَّل وناجٍ/شاهد عيان ياباني «حقيقي» فرق واضح، خصوصًا عندما يذكر المرء أن سيرة حياة ياسودا المخترَعة تتضمَّن وفاة ابنته بسبب تسمُّمِها بالإشعاع الذري.

وتُقدِّم باسنيت في مقالها «متى لا تكون الترجمة ترجمة؟» مفهومًا جديدًا تُسمِّيه «التواطؤ» لتحليل الترجمات الكاذبة، قائلةً إن القرَّاء يقبلون هذه الخدعة لأسباب منوَّعة، واعية وغير واعية، ونظرًا لعدد الأمثلة التي تستشهد بها، نجد أن الترجمات الكاذبة شائعة إلى درجة أكبر مما كان جمهور القرَّاء و/أو النُّقَّاد الأدبيون يتصورونه يومًا ما؛ إذ إن وفاة آرثر التي كتبها توماس مالوري، وقصيدة الحاج عبده اليزدي التي كتبها ريتشارد بيرتون من الترجمات الكاذبة، ونُصادِف غيرها في نصوص أدب الرحلات مثل رواية روبرت بايرون الطريق إلى أوزيانا، حيث يُقدِّم حوارات باعتبارها ترجمات. ولكن القارئ يعرف في عقله الباطن أن ذلك الرَّحَّالة لا يعرف لغة أبناء البلد. وهكذا فلا بد أنها حوارات مصطنَعة لا حقيقية. ولمَّا كان القرَّاء لا يريدون الاعتراف بهذا، فإنهم «يتواطئون» مع الكاتب في «تكريس الواجهة» أي في القول بأن هذه النصوص و/أو الحوارات قائمة على «الواقع» لا على الخيال، ويُتيح هذا «النظام» أيضًا للكاتب الأصلي أن يظل الحُجَّة، وأن يمحو دور المترجِم في «عملية» الوساطة. وهذه النظرات الثاقبة من جانب باسنيت تُبيِّن لنا مدى صعوبة البَتِّ في الحد الذي يفصل بين الكتابة الأصلية، وبين الترجمة، وكيف «يتواطأ» النُّقَّاد مع ثقافةٍ تميل إلى وضع مفاهيم منفصلة ومتميزة إلى حدٍّ بعيد للكتابة والترجمة، ومثل هذا التفكير يجعل بناء الثقافات كتابًا جذَّابًا للباحثين في الدراسات الثقافية وفلاسفة اللغة على حدٍّ سواء.

وتُجيد باسنيت وليفيفير استخدام هذه الأدوات النقدية الجديدة في بناء الثقافات عندما يُعيدان النظر فيما كانا يقولان به عن تطور الترجمة في السنوات السابقة. ففي الفصل الثالث، وعنوانه «ممارسات الترجمة ودورة الرأسمال الثقافي: بعض ترجمات ملحمة الإنيادة باللغة الإنجليزية» يُقدِّم ليفيفير دراسة «عبر زمنية» لترجمات الإنيادة إلى اللغة الإنجليزية، ونوع تاريخ الترجمة الذي يُميِّز دراسات الترجمة في مرحلتها الوصفية في عقد الثمانينيات، ولكنه هذه المرة يُدرِج مفهوم «الرأسمال الثقافي» المُستعار من بيير بورديو في دراسته، ويشير به إلى المعلومات التي يحتاج إليها الفرد في أي سياق ثقافي حتى ينتمي إلى «الدوائر الصحيحة»، وهي المعلومات التي يقول ليفيفير إن الترجمة هي التي تقوم بتنظيمها ونقلها، ويهاجم ليفيفير النُّقَّاد الذين يضعون معيارًا عامًّا شاملًا من لونٍ ما للجودة والرداءة حتى يحكموا به على الترجمات، ويشرحوا نجاحها أو إخفاقها في إطار ثقافة من الثقافات، قائلًا: إن الأصح هو أن نجاح ترجمة معيَّنة لملحمة الإنيادة لفيرجيل لا يعتمد على جودة الترجمة بقدر ما يعتمد على صيت ثقافة اللغة المصدر ومدى هيبتها عند جمهور قرَّاء الترجمة؛ أي جمهور قرَّاء الصفوة (الذين تتناقص مهارتهم في اللغة اللاتينية على مر الزمن) في إنجلترا، فهم الذين يريدون الانتماء إلى الدوائر الأدبية والاجتماعية الصحيحة، ونرى وراء هذه المقالة مفهوم الرعاية الذي وضعه ليفيفير؛ فقد نشر في عام ١٩٨٤م مقالًا بعنوان «تفسير ذلك البناء في لهجة الإنسان» يتحدث فيه عن الرعاية باعتبارها أي نوع من أنواع القوة التي يمكن أن تُحدِث تأثيرًا يشجِّع على كتابة أعمال أدبية، أو يُثبِّط همة الأديب، بل ويمارس الرقابة على هذه الأعمال، فمفهوم ليفيفير للرعاية مفهوم واسع؛ إذ يضمُّ الملوك والملكات وبائعي الكتب والنُّظُم المدرسية ومجالس الفنون والحكومات. وأما في حالة «بعض ترجمات الإنيادة إلى الإنجليزية» فإن ليفيفير يضرب المثال بالشاعر ألكسندر بوب الذي كان راعيًا للترجمة التي قام بها كريستوفر بيت في عام ١٧٤٠م للملحمة، وبهيئة الإذاعة البريطانية التي كانت راعيةً للترجمة التي أنجزها سيسيل داي لويس عام ١٩٥٢م، وأما ما أراه طريفًا في هذه المقالة فهو أن ليفيفير يستخدم نظريته فعلًا للتنبُّؤ بترجمات المستقبل، قائلًا، على سبيل المثال. إن رُعاة تجار الكتب التي تتناول المذهب النِّسْوي (نُصرة المرأة) سوف يُسهِمُون، دون شك، في وضع ترجمة نِسْوية جديدة للإنيادة.

ومن أهداف عمل ليفيفير إماطة اللثام عن القوى المؤسسية التي تُنشِئ ضربًا من الهيمنة التي تُؤثِّر في أنواع الترجمات المُنجَزة؛ إذ يُحوِّل ليفيفير أنظاره في الفصل السابع وعنوانه «التطويع الثقافي لبرتولت بريخت» إلى «صناعة» النقد الأدبي، ويستخدم ترجمات بريخت في الولايات المتحدة لإيضاح مَقصِده. وعلى الرغم من أنه كان قد سبق له تناوُل ترجمات بريخت في مقالٍ له بعنوان «ثمار الخيار في أيدي الأم شجاعة» (١٩٨٢م) فإنه يقوم هذه المرة بتوسيع معايير دراسات الترجمة حتى تشمل الترجمات، والنقد الأدبي، والمراجع الكبرى مثل الموسوعات، ويستخدم ليفيفير مفهومه للترجمة باعتبارها «إعادة كتابة»، وهو الذي قدَّمَه أول مرة عام ١٩٨٧م في مقالٍ عنوانه («تجاوز التفسير» أو العمل بإعادة الكتابة)، مشيرًا إلى جميع الكُتَّاب الذين يفسرون ويوضحون ويشرحون النصوص الأدبية، فيكشف لنا عن مدى مسئولية المترجمين والنُّقَّاد الأدبيين عن تكريس قِيَم ثقافية معيَّنة على حساب قِيَم أخرى في غضون ما يكتبونه. وأما المقالة الجديدة «التطويع الثقافي لبرتولت بريخت»، فيكشف فيها عن ضروب الانحياز الأدبي والأيديولوجي في الولايات المتحدة إبَّان فترة الحرب العالمية الثانية حتى بداية السبعينيات، ويبين كيف أن المترجمين والنقاد لم يكونوا «متفرِّجين» أبرياء على مثل هذه الضروب من الانحياز الثقافي، بل كانوا مشاركين نشطاء يُسهِمُون في أبنيةٍ ثقافية معيَّنة، فهو على سبيل المثال يناقش ترجمات الأم شجاعة التي قام بها ﻫ. ر. هيز (١٩٤١م) وإريك بنتلي (١٩٦٧م) ورالف مانهايم (١٩٧٢م) فيكشف بذلك عن الدور الرئيسي الذي اضطلع به المترجمون في ضمِّ بريخت إلي الأدب الأمريكي المعتمَد. وإذا كانت تحويرات المترجمين لتحقيق القبول لبريخت لم تتجاوز عمومًا مستوى اللغة والإرشادات المسرحية والشكل الأدبي، فإن ليفيفير يقول بعد ذلك إن المعركة النقدية الحقيقية حول استقبال بريخت قد شنَّها النقاد الأدبيون. ويُبيِّن ليفيفير في تحليله للنقد نوعًا آخر من التواطؤ، وهو الذي جعل النقاد يتجاهلون الأشكال الملحمية ومؤثرات التغريب عند بريخت، ولا يُشيرون إلى مذهبه السياسي وماركسيته، بل حوَّلوا بريخت إلى نوعٍ آخر من المفكر الليبرالي المؤمن بالمذهب الإنساني. والنصوص التي يستشهد ليفيفير بها تقطع بإدانة هؤلاء، فإن بنتلي مثلًا ينفي «المسرح الملحمي» ويقول إنه «مسرح الواقعية السردية»، وبروكيت يُحوِّل مؤثرات التغريب عند بريخت إلي نوع آخر من التطهير الأرسطي. وقد تمادى في ذلك بعض النقاد زاعمين أن ماركسية بريخت أضرَّت بعمله، وأن الأهمية الأولية لبريخت ترجع إلى قدرته على «التسرية». وقد نجح التضافر القويُّ بين النقاد والمترجمين في بناء «صورة» معيَّنة لبريخت في الغرب في عيون من لا يعرفون الألمانية. وأما من يعرفونها فيرَون أن مثل هذا البناء الاجتماعي شنيعٌ في الواقع؛ إذ يبدأ المرء في التساؤل عن وجود أية معايير مهنية في الترجمة الأدبية أو في النقد الأدبي. وكان من بين أهداف دراسات الترجمة على امتداد العقدين الماضيين الكشف عن الأعراف الاجتماعية والأدبية للثقافة المستهدفة وتبيان مدى تأثير مثل هذه القيود في ممارسي الترجمة. وهكذا فإن مقال ليفيفير لا يكتفي بالكشف الفعلي عن هذه القيود، بل يُبيِّن أيضًا أن المترجمين والنقاد يشاركون في بنائها نفسه. وأما النقاد الدارسون لفترةِ ما بعد الاستعمار والذين يحاولون إماطة اللثام عن المؤسسات الثقافية التي تعمل على تهميش أصوات الأقلِّيَّات وأصوات مَن لديهم مذاهب سياسية بديلة، فيمكنهم أن يتعلموا الكثير من مقال ليفيفير. وربما يُفيد مثل هذا البحث في دراسات الترجمة في تدريب النقاد الأدبيين والثقافيين أيضًا.

ولمَّا كانت باسنيت قد تسلَّحَتْ بمجموعة جديدة من الأدوات النقدية فقد أعادت النظر في بعض جوانب فكرها السابق؛ ألا وهو الترجمة للمسرح، وخرجت من ذلك ببعض الثمار على نحو ما تفعل في الفصل السادس «ما زلنا أسرى في التيه: مزيد من التأمُّلات في الترجمة والمسرح.» ولمَّا لم تكن راضية عن بعض أفكار النقد الأدبي السائدة في الغرب، فقد استخدمت أمثلةً من ترجمات العالم الثالث لإيضاح قضيتها، فاستغلَّت الحدود المتداخلة بين النص المسرحي والترجمة والأداء على خشبة المسرح في توسيع حدود دراسات الترجمة حتي تتضمَّن العلامات البصرية إلى جانب العلامات اللغوية. وتدور قضية باسنيت الأساسية حول استيائها مما يقول به بعض الباحثين بشأن «إمكانية الأداء»؛ أي أولئك الذين يزعمون أن النص يكمُن فيه ضربٌ من «إمكانية الأداء» العالمية (أو «إمكانية الإلقاء» أو «النص الحركي الباطن») بحيث يقطع ذلك في إمكان ترجمة المسرحية و/أو تقديمها على المسرح في المقام الأول. والواقع أن باسنيت ترى خطرًا في مثل هذا المفهوم الذي يفترض «العالمية»؛ إذ ما إنْ يُكَوِّن المترجم/المخرج رؤيته لهذا النص الحركي الباطن «العالمي» حتى يحذف كثيرًا من التناقضات، وظلال المعاني الدقيقة، والاختلافات في النغمة، في سبيل الرؤية الموحَّدة المتصوَّرة، وتستخدم باسنيت أمثلة أحسنَت اختيارها، مثل مناقشة فيكي أودي لترجمة مسرحية أونيل رحلة نهار طويل حتى الليل إلى اللغة الصينية؛ إذ تُبيِّن باسنيت كيف أن بعض الثقافات غير الغربية لا تتضمَّن أعرافها البحث عن أنساق نصٍّ باطن داخل النص المسرحي. ولقد كان من مظاهر القوة في عمل باسنيت وليفيفير على مر السنين أنهما لا يهتمَّان بالنظرية باعتبارها فلسفة بل بالنظرية التي يمكن أن تُفيد المترجمين الممارسين. والواقع أننا لا نكاد نجد إرشادات عملية تساعد مترجمي الدراما، ولكن باسنيت تُقدِّم هنا إرشادًا صريحًا ومعمولًا به، فهي تُوحي بألا يكون من عمل المترجم جَعْل النص قابلًا للأداء على خشبة المسرح، قائلةً إن على المترجم أن يُثبِت ما قد يجده في الأصل من تناقضات وظلال معانٍ واختلافات في النغمة. وقد ينتهي الأمر إلى توحيد النص المترجم على أيدي مُخرج المسرحية، أو الدراماتورج الذي يُعِدُّها للعرض، أو الممثِّلين. وأما دور المترجم فهو الحفاظ على غرابة النص حتى يُتيح للقارئ (أو للمخرج الفني) أن يكتشف النص بنفسه. والحق أن السبيل الوحيد لبناء مسرح متعدد الثقافات في الغرب هو أن يرفض المترجمون الاستراتيجيات التي تتفق مع الأعراف الدرامية والممارسات الثقافية في الغرب، وأن يمتنعوا عن البحث عن الأبنية العميقة الموحِّدة، بل أن يركزوا على ترجمة كل العلامات في النص — الألفاظ ولحظات الصمت واختلافات النغمة — بجميع متناقضاتها وطبقاتها المتعددة.

وتزيد باسنيت من مَزْجِها بين النظريات والإرشاد العملي في الفصل الرابع، «نقل البذور إلى تربة أخرى: الشعر والترجمة». والمشورة التي تُقدِّمها لمترجمي الشعر تُماثل ما تنصح به مترجمي الدراما؛ ألا وهي التركيز على ما «تفعله» اللغة في النص. ولا تؤمن باسنيت بأن الشعر روح أو حضور غير محسوس يستعصي على التعبير، وتُعارض الشعراء الذين يقولون، مثل روبرت فروست. إن الشعر هو ما يضيع في الترجمة، بل هي تؤيد الأطروحة التي قدمها الشاعر والمترجم فريدريك وِلْ في كتابه «الترجمة والنظرية والممارسة: إعادة تجميع برج بابل» (١٩٩٣م) قائلةً إن النصوص تتكوَّن من مفردات اللغة — من أسماء وأفعال وأنساق نحوية — وهي المادة نفسها التي يستخدمها المترجمون في بناء ترجماتهم. وتستشهد باسنيت بمشاهير المترجمين مثل عزرا باوند، وأوغسطو دي كامبوس، وإيف بونفوا، وأوكتافيو باث، لتُقِيم الحُجَّة على أن مهمة المترجم هي تفكيك المادة اللغوية الخام للشاعر ثم إعادة تجميع العلامات في لغة جديدة؛ أي إن المهمة لا تَكمُن في نسخ الأصل بل في تشكيل نصٍّ مماثل. وإذا كان باث يرى أننا نتصور ذلك في صورة تحويل، فإن باسنيت تتصوره في صورة نقل البذور إلى تربة أخرى، وتُقدِّم باسنيت — إيضاحًا لنظريتها — عدة أمثلة مفيدة لطرائق الترجمة التي تُزَكِّيها وطرائق الترجمة التي تَنهى عنها، وهي تستشهد، على سبيل المثال، بترجمات السير توماس ويات لشعر بترارك باعتبارها نموذجًا لمذهب باث في الترجمة. وإذا كان بعض النقاد مُستائين من استراتيجية الترجمة عند «ويات» فإن باسنيت لا تشاركهم استياءهم، وهي لا تُنكر أن ويات يُجري تعديلات كثيرة، بما في ذلك تغيير نسق القافية وجعل بعض الضمائر في موقع الصدارة، خصوصًا ضمير المتكلم، وهو ما يُقلِّل من الطابع الروحي الخفيِّ ويزيد من تجسيد الشعر. وتُبيِّن باسنيت أن المترجم قد نجح من خلال تغييره للشكل في خلق شكل جديد ذي إمكانيات جديدة في اللغة الإنجليزية، وهو الشكل الذي استخدمه عددٌ من الكُتَّاب فيما بعد مثل سيدني وسبنسر وشيكسبير. وهكذا فما إنْ غُرِسَت البذرة في تربة أخرى حتى ازدهرت وأثمرت، كما تُقدِّم باسنيت نماذج ممتازة عن سوء الترجمة، مستشهدةً بعدَّة ترجمات لقصة باولو وفرانشيسكا في النشيد الخامس من الجحيم، في الكوميديا الإلهية التي كتبها دانتي. وتتبع باسنيت الطريقة المعتادة في دراسات الترجمة فتُقارن بين ترجمات كيري (١٨١٦م) وبايرون (١٨٢٠م) ولونجفيلو (١٨٦٧م) ونورتون (١٩٤١م) وسايرز (١٩٤٩م) وسيسون (١٩٨٠م) وديرلينج (١٩٩٦م). والقارئ يُدهَش، كما تقول، لمدى التشويش في معظمها وخُلُوِّها من الإحساس؛ فالعلامات فيها لا تتحرَّر قط بل تظل مقيَّدةً بمصدرها، ومرتبطةً بركاكة بشكلين بنائيَّيْن اثنين فقط، من دون قطع في نوع الجمهور الذي تتوجَّه إليه، وتَأْمُل باسنيت في تحرير المترجمين من عبودية الالتصاق بالنص المصدر، وبمنحهم القوة على التصوير الإيجابي. وترى باسنيت أن الترجمة نشاطٌ يُطلِق الطاقات، ويُحرِّر العلامات اللغوية والسيميوطيقية حتى تنتشر بين أفضل الكتابات الإبداعية في الثقافة المُستقبِلة لها. ومثل هذه النظرية في الترجمة ذات «رنين» يُذكِّرنا ﺑ «ما بعد البنيوية»؛ إذ نسمع في الموقف الذي تتخذه باسنيت أصداء فالتر بنيامين، وجاك دريدا، وبول دي مان. ومن ينظر في العمل الذي قام به باحثو دراسات الترجمة المُحدَثون مثل لورنس فينوتي وتيراسويني نيرانجاني يجد أن موقفها يلقى قبولًا متزايدًا في هذا المجال. ومع ذلك فربما كان أهم ما فيه أن هذا المدخل إلى الترجمة ذو جاذبية خاصة في الدراسات الثقافية وللباحثين في دراسات ما بعد الاستعمار.

وأما المقالة الأخيرة لسوزان باسنيت وعنوانها «التوجُّه للترجمة في الدراسات الثقافية» فتُقيم الرابطة ما بين دراسات الترجمة والدراسات الثقافية، والمقالة ختامٌ مناسب لهذا الكتاب؛ إذ تُعلِن عن مولد عهدٍ جديد للبحوث البينية؛ أي المشترَكة بين التخصصات؛ فلقد أدَّت البحوث في دراسات الترجمة على امتداد العقود الثلاثة الأخيرة إلى بناء ما يمكن وصفه بالكتلة الحرِجة للبحث العلمي، ويكفي أن نرى أن أي باحث في الدراسات الثقافية حين يناقش حركة التبادل الثقافي أو ينعَى الافتقار إلى هذه الحركة يحتاج إلى النظر في نتائج البحوث التي أُجرِيَتْ في مجال دراسات الترجمة. وكنت قد سُقْتُ الحُجَّة على أن النصوص المترجمة يمكن اعتبارها بيانات عملية (أو مُعطَيات تجريبية) تُوثِّق «النقل» ما بين الثقافات؛ وتَسُوق باسنيت حُجَّةً مماثلة على أن الترجمات هي الجانب الأدائي (أي التطبيقي) للتواصل ما بين الثقافات. وتستخدم باسنيت بعض النماذج التي وضعها أنطوني إيستهوب في مقالٍ حديث بعنوان «ولكن ما الدراسات الثقافية؟» (١٩٩٧م) في رصد تطوُّر موازٍ للدراسات الثقافية ودراسات الترجمة معًا على مدى العقود الثلاثة الماضية؛ إذ مرَّ كلاهما بمرحلة ثقافية (نايدا ونيومارك) ومرحلة بنيوية (إيفن – زوهار وتوري) ومرحلة ما بعد بنيوية (سايمون ونيرانجانا). ولمَّا كانت الدراسات الثقافية قد بدأت تدخل الآن مرحلة دولية جديدة، تضمُّ منهجيات اجتماعية وإثنوغرافية (خاصة بوصف الشعوب) فإن باسنيت تقترح أن اللحظة قد حانت لخروج مسارَي المبحثين عن خطَّيْهما المتوازيَيْن والاندماج معًا. فالدراسات الثقافية تتناول الآن قضايا علاقات السلطة وإنتاج النصوص. وباحثو دراسات الترجمة لديهم معرفة بذلك، فإن السنين التي قضَوها في البحث في المقارنة التاريخية للكلاسيكيات اليونانية واللاتينية أو للكُتَّاب «المعتمَدين» مثل دانتي وشيكسبير وجوته، قد أكسبَتْهم بصيرةً عظمى تُمكِّنهم من أن يرَوا كيف تُبنَى القيم الثقافية والمُثُل العليا وأصحاب المصالح التي تُمثِّلها تلك القيم. وتقول باسنيت إنه إذا كانت الدراسات الثقافية قد احتضنت «دراسات النوع» (أي بحث قضايا الجنسين) ودراسات الأفلام، ودراسات أجهزة الإعلام، فإن الدراسات الثقافية قد تباطأت في إدراك قيمة البحث في دراسات الترجمة. وتُشير باسنيت إلى استشهاد «هومي بهابها» في كتابه موقع الثقافة (١٩٩٤م) ببول دي مان، قائلةً إن الترجمات تُقدِّم للباحث مواقف فعلية تُمثِّل نقل الثقافة لا مواقف نظرية؛ إذ إن بول دي مان يقول: إن الترجمة «تُحرِّك النص الأصلي حتى تنزع عنه التقديس، وتُكسِبه حركة تفتيت، وتشريدًا في التِّيه، وضربًا من المنفى الدائم». وتقول باسنيت إن هذه الصورة الشعرية للترجمة، التي تُعتبر علامة على التفتت والتجوال والمنفى، تُميِّز المرحلة الدولية الجديدة لدراسات الترجمة في أواخر القرن العشرين. وتَخلُص باسنيت من هذا إلى أن تقول إن هذه تزيد عن كونها استعارةً وحسب؛ إذ يجمل بالدراسات الثقافية أن تدرس عمليات وضع الشفرات ثم حلها، وهو ما نراه في الترجمة؛ فالباحث يستطيع في دراسته للترجمات أن يُبيِّن كيف يُكتَب البقاء للأجزاء المُفتَّتة، وما ضروب التجوال التي تقع، وكيف تُستقبَل النصوص التي في المنفى. وكما تقول باربرا جونسون (١٩٨٥م) في دراستها «نظرة فلسفية إلى الولاء» وهو النص الذي استشهدت به باسنيت ذات يوم، أرى أن الوقت قد حان لنقل دراسة الترجمات من هوامش البحوث النقدية إلى بؤرة الصورة. لقد أخذت دراسات الترجمة بالتوجه الثقافي، وينبغي للدراسات الثقافية أن تتوجه الآن إلى الترجمة.

وفي بناء الثقافات تُقدِّم باسنيت وليفيفير نصًّا رائدًا مرة أخرى في هذا المجال. لقد نهضت الدراسات الثقافية في العقدين الأخيرين بالكثير من العمل الوصفي. وكانت المنهجية سليمة، والمقارنات صحيحة، ونجحت في كشف القيم والمصالح الثقافية للنخبة في شتَّى مجتمعات أوروبا وأمريكا الشمالية. ولكنَّ جانبًا كبيرًا من هذا العمل كان يجري في كواليس المسرح ولم يصل بعدُ إلى الجماهير العريضة. وقد دأبَ الكثير من الباحثين في هذا المجال على أن يسألوا إلى أين تمضي دراسات الترجمة بعد الفترة الوصفية. وفي بناء الثقافات لا تكتفي سوزان باسنيت وأندريه ليفيفير برصد آخر التطورات في مجال دراسات الترجمة، بل يشيران إلى اتجاهاتٍ جديدة أمام هذا المبحث في الألفية الجديدة. وعندما أقرأ ما كتبه جاك دريدا، أو «هومي بهابها» أو إدوارد سعيد، كثيرًا ما أُدهَش لسذاجة أفكارهم عن الترجمة بالمقارنة بالتحليل التفصيلي الذي يُقدِّمه الباحثون في الترجمة. إن باسنيت وليفيفير يُوجِّهان المجال إلى مرحلةٍ بينية جديدة. وعندما يكتشف باحثو الدراسات الثقافية، والنقاد الذين يُطبِّقون مدخل ما بعد الاستعمار، وفلاسفة اللغة، دراسات الترجمة، فسوف يروق لهم ما يرونه. وعلى الباحثين في دراسات الترجمة أيضًا أن يتعلموا من المناهج المُطبَّقة في الدراسات الثقافية لتوسيع نطاق بحوثهم. وباسنيت تشير في «التوجه إلى الترجمة» إلى سُبُلٍ جديدة لإجراء بحوث بينية فيما يُطلِق فينوتي عليه «العنف الإثنوغرافي للترجمة»، وفي أسلوب بناء الثقافات ﻟ «صور» معيَّنة للكُتَّاب بحيث تغدو النصوص في أُطُرِها رأسمال ثقافيًّا للنخبة الحاكمة. إن المهمة ضخمة؛ إذ لا يستطيع باحثٌ واحد ينتمي إلى مبحثٍ بعينه أن يفهم حق الفهم الشبكة المعقَّدة للعلامات التي تُشكِّل الثقافة، وتُقيم باسنيت حُجَّةً قوية تقول إننا نحتاج إلى تجميع الموارد، وتوسيع نطاق البحث، والبدء في عهد جديد من التدريب على التبادل الثقافي، وبذلك نفتح المجال أمام تعدد الأصوات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤