المقدمة
ما موقفنا في مجال دراسات الترجمة؟

أندريه ليفيفير وسوزان باسنيت

مبحث دراسات الترجمة اليوم

تختلف الأسئلة التي نَقبل الآن بصفة عامة طرْحَها في مجال دراسات الترجمة لعلاقتها به وأهميتها له اختلافًا شاسعًا عما كانت عليه منذ عشرين عامًا حين بدأنا ننشر دراساتنا عن الترجمة للمرة الأولى، وربما كانت هذه الحقيقة أوضح مؤشِّر على المسافة التي قطعناها منذ ذلك الحين. ومن المؤشرات الأخرى أن «دراسات الترجمة» أصبحت تعني الآن «أي شيء (يزعم) أن له علاقة بالترجمة» أو شيئًا من هذا القبيل، وأمَّا منذ عشرين سنة فكانت تعني: تدريب المترجمين. ومن المدهش أن نرى، بفضل قدرتنا على استرجاع الماضي، مدى السخافة التي تبدو عليها الآن لنا بعض الأسئلة التي طُرحت منذ عشرين عامًا.

وكان أسخف سؤال يتعلق بقابلية الترجمة أو: «هل الترجمة ممكنة؟» والسؤال يبدو الآن سخيفًا لأننا اكتشفنا تاريخ الترجمة في الفترة الماضية. وقد أتاح لنا هذا الاكتشاف أن نُعارض السؤال بسؤالٍ آخر وهو «لِمَ تهتم بإثبات أو نفي إمكان حدوث شيء بعد أن استمر حدوثه في معظم أرجاء العالم مدة لا تقل عن أربعة آلاف سنة؟»

كان التاريخ إذن من الأمور التي استجدَّت في دراسات الترجمة منذ السبعينيات، واكتسبنا مع التاريخ إدراكًا لقدرٍ أكبر من النسبية، وقدرٍ أكبر من أهمية المحاولات العملية للتغلب على الصعاب في فترات معيَّنة وأماكن معيَّنة، وهو ما يختلف عن القواعد التجريدية العامة التي تُفترَض صحتها. ففي الفترة التالية للحرب كانت الغاية من وراء تحليل «قابلية الترجمة» إمكان ابتكار آلاتٍ قادرة على إخراج ترجمات صحيحة لكل زمان ومكان، بل وتستطيع أداء هذه المهمة في أي وقت وأي مكان. كان المفترَض إيلاء الثقة للآلات، وللآلات وحدها، في إخراج ترجمات «جيدة»، دائمًا وفي كل مكان. ولكن التاريخ تحوَّل إلى الروح داخل الآلة، ونَمَت الروح وتفتَّتَت الآلة.

وربما كان أنصعَ مثالٍ على هذا التفتيت الذي أصاب الآلة ذلك التراجع الطويل الأمد لمفهوم التعادل الذي كان يُعتبَر يومًا مفهومًا أساسيًّا، وتشتُّتُه آخر الأمر. وكان العاملون في هذا المجال منذ عشرين عامًا يسألون أنفسهم إن كان التعادل أيضًا ممكنًا، وإن كان لدينا طريق «مضمون الصحة» للعثور عليه لو كان ممكنًا. ومرة أخرى نرى أن الافتراض من وراء ذلك كان وجود ما يشبه التعادل التجريدي الصحيح في كل مكان، أما اليوم فنحن نعرف أن مترجمين معيَّنين يُقرِّرون درجة التعادل المعيَّنة التي يمكنهم طلب تحقيقها واقعيًّا في نصٍّ معيَّن، وأنهم يبُتُّون في درجة التعادل المعيَّنة استنادًا إلى اعتبارات لا تكاد تكون لها علاقة تُذكَر بالمفهوم كما كان يُستخدَم منذ عقدين.

نموذج جيروم

يكمن مفهوم التعادل في صلب ما يمكن أن نسميه نموذج «جيروم» للترجمة، نسبةً إلى القدِّيس جيروم (٣٣١–٤٢٠ للميلاد تقريبًا)، الذي وضع النص اللاتيني المعتمد للكتاب المقدس في الكنيسة الكاثوليكية، وأرسى بهذا المعايير المعترَف بها، وغير المعترف بها، لجانبٍ كبير من الترجمات في الغرب حتى ما قبل المائتي عام الأخيرة، وأبسطُ صوغٍ لنموذجه يقول ما يمكن تلخيصه التقريبي على النحو التالي: يوجد نص، وذلك النص يحتاج إلى النقل إلى لغة مختلفة، بأكبر قدر مستطاع من الأمانة، والأمانة تَضْمَنُها المعاجم الجيدة، ولمَّا كان كل فرد يستطيع، بصفة أساسية، استعمال المعجم الجيد، فلا يوجد حقًّا ما يُبرِّر تدريب المترجمين تدريبًا جيدًا، أو ما يُبرِّر قَطْعًا دفع أجور مُجزِية لهم.

لقد أصبحت أيام نموذج جيروم الآن معدودة، على الأقل في الغرب؛ إذ كان النموذج يتميز بوجود نص رئيسي مقدس، هو الكتاب المقدس، وهو ما لا بد أن يُترجَم بأقصى درجة من الأمانة. وكان المثل الأعلى القديم للأمانة المذكورة يتمثَّل في الترجمة لكل سطر على حِدَة، بحيث تُعادِل كل كلمة فيه كلمة أخرى. بل إن الكلمة المترجمة كانت تُكتَب تحت الكلمة التي تترجمها، وحتى لو استحال عمليًّا تطبيق ذلك المثل الأعلى للترجمة «السطرية»، وإلا أخرجَتْ لنا نصًّا بالغ التشوُّش في أبنيته إلى الحد الذي يجعله غير مفهوم، فقد ظلَّت المثل الأعلى، لا بالنسبة للكتاب المقدس وحسب، بل أيضًا لترجمة النصوص الأخرى من باب المتابعة. وكانت استحالة تحقيق ذلك المثل الأعلى هي السبب، على وجه الدقة، الذي جعله لا يبرح قطُّ أذهان المترجمين وأذهان الذين فكروا في الترجمة على مر القرون. ولمَّا كان من المحال تحقيقه، كان لا بد من إيجاد حلول وسط واقعية. وقد طبَّقها المترجمون بطبيعة الحال، وإن كانوا قد دفعوا مقابلها ثمنًا مضاعفًا؛ ألا وهو الجدال الذي لا ينتهي حول درجة «الأمانة» الواجبة، على وجه الدقة، أو حول ما يمكن في الحقيقة اعتباره «معادلًا» لأي شيء، والأهم من ذلك توليد إحساس دائم بالذنب عند المترجمين، وتهميشهم على الدوام في المجتمع باعتبارهم شرًّا لا بد منه. وكان الإحساس بشرِّهم يزداد في بعض الأحيان، والإحساس بضرورتهم يزداد في أحيان أخرى.

وكان على نموذج جيروم، في سبيل رفع الأمانة إلى ذلك الموقع الرئيسي وما يستَتْبِعه من إقصاء عوامل أخرى كثيرة، أن يختزل التفكير في الترجمة فيقصُرَه على المستوى اللغوي فقط. وقد ساعد على تحقيق ذلك بسهولة كبيرة أن النص الذي كان معيارًا للأمانة يُعتبَر نصًّا لا زمنيًّا لا يتغيَّر قط بسبب طبيعته المقدسة على وجه الدقة.

ولمَّا لم يعُد الكتاب المقدس يمارس نفوذًا جبَّارًا في الغرب باعتباره نصًّا مقدسًا بالدرجة التي كان يمارسها يومًا ما، فقد تمكَّن ذلك التفكير في الترجمة من الابتعاد عن التعارض الذي يزداد عُقمه بين «الأمانة والحرية»، كما تمكَّن من إعادة تعريف التعادل، الذي لم يعد يُعتبَر مطابقةً بين الكلمات في المعاجم بصورة آلية، بل أصبح يتمثَّل في الخيارات الاستراتيجية من جانب المترجمين. والذي تغيَّر هو أن أحد أنماط الأمانة (وهو الذي شاع ارتباطه بالتعادل) لم يعد مفروضًا على المترجمين؛ إذ أصبحوا أحرارًا في اختيار نوع الأمانة التي يمكن أن تكفل في رأيهم استقبال الجمهور لنصٍّ من النصوص في أفضل أحوال.

إذن فإن التغيُّر الذي وقع كان تحوُّلًا من نمط معيَّن من الأمانة، وهو ما كان يُعادَل من باب التيسير ﺑ «الأمانة في ذاتها»، إلى إدراك وجود أنماط مختلفة من الأمانة يمكن أن تفي بالغرض في حالات مختلفة، وبعد هذا التحوُّل بدأ العاملون في هذا المجال يُقلِعون عن طرح الأسئلة القديمة، وبدءوا يستعيضون عنها بالأسئلة التي تَسُود المجال في هذه اللحظة. وكان من بين هذه الأسئلة: «ما الوظيفة المرجَّحة للترجمة (لهذه الترجمة لا لأي ترجمة)؟» و«ما نوع النص الذي يحتاج إلى الترجمة؟» و«مَن الذي دفع أصلًا إلى القيام بالترجمة/بهذه الترجمة؟» فلقد تعلمنا أن الترجمات ليست أمينة أو حرة بصورة مطلقة، وليست «حسنة» أو «سيئة» إلى الأبد، في جميع الظروف. بل إنه من الممكن تمامًا أن تكون أمينة في بعض الحالات وحرة في حالات أخرى، حتى تؤدي المهمة التي تُرضي مَن دفعَ إلى القيام بها أصلًا.

لقد تعلمنا أن نطرح هذه الأسئلة، وأدركنا صِلَتَها بالقضية؛ لأننا لم نعد «ملتصقين باللفظ»، ولا حتى بالنص؛ لأننا أدركنا أهمية السياق في أمور الترجمة. وأحد السياقات، بطبيعة الحال، سياق التاريخ، والسياق الآخر سياق الثقافة. والأسئلة التي تَسُود المجال الآن قد تمكنت من السيادة لأن البحث قد اتخذ توجُّهًا ثقافيًّا، أي لأن العاملين في الحقل قد بدءوا يُدركون، منذ فترةٍ ما، أن الترجمات لا تخرج قط إلى الوجود في فراغ، وأنها لا تُستقبَل قط أيضًا في فراغ.

نموذج هوراس

إننا ننحو الآن نحو تجاوُز نموذج جيروم، في اتجاه نموذجٍ يرتبط باسم الشاعر الروماني هوراس (٦٥ق.م.–٨ للميلاد) وهو الذي يسبق تاريخيًّا نموذج جيروم ولكن الأخير قد طمسه قرابة أربعة عشر قرنًا من الزمان. وتعبير هوراس الذي كثيرًا ما يُستشهَد به وإن لم يكن يُفهَم دائمًا؛ ألا وهو «المترجم الأمين»، لم يكن يفيد أمانة المترجم للنص بل لعملائه. وكان هؤلاء عملاءَه في زمن هوراس فقط؛ فالمترجم/المترجم الفوري الأمين كان المترجم الذي يمكن الوثوق به، والذي يستطيع إنجاز العمل في الوقت المحدد بحيث يرضي الطرفين، وتحقيقًا لذلك كان عليه التفاوض بين عميلين ولغتين إذا كان مترجمًا فوريًّا، أو بين راعي الترجمة ولغتين إن كان مترجمًا تحريريًّا. وكونُ التفاوض المفهومَ الرئيسي هنا يطعن بشدة في نوع الأمانة الذي ارتبط تقليديًّا بالتعادل. والواقع أنه من المقبول تمامًا. إن لم نقل من المحتوم، أن يتحلَّى المترجم الفوري الذي يريد إنجاح تفاوُضه في صفقة تجارية، بالحكمة اللازمة التي تجعله يُحجِم عن الترجمة «الأمينة» في بعض الأوقات حتى يتجنَّب انهيار المفاوضات. ولا يتضمَّن نموذج هوراس نصًّا مقدَّسًا، ولكنه يتضمَّن قَطْعًا لغة متميزة وهي اللاتينية. وهو ما يعني ضِمنًا أن التفاوض ينحاز دائمًا، في النهاية، إلى اللغة المتميزة، وأن التفاوض لا يجري على قدم المساواة بين اللغتين بصورة مطلقة. ووجوه التماثل بين اللاتينية في زمن هوراس وبين الإنجليزية اليوم وثيقةٌ إلى حدٍّ بعيد؛ فاللغة الانجليزية تشغل اليوم في شتَّى أرجاء العالم المكانة نفسها التي كان اللاتينية تشغلها في حوض البحر المتوسط في القرون الأخيرة للجمهورية والقرون الأولى للحكم المطلق. والترجمات إلى الإنجليزية، خصوصًا من لغات العالم الثالث، منحازةٌ في جميع الأحوال تقريبًا، إلى اللغة الإنجليزية. وهكذا نواجه بما يمكن أن نُطلق عليه «المتلازمة المرضية لهوليداي إن»؛ أي قبول كل شيء أجنبي وغريب باعتباره معياريًّا إلى حدٍّ بعيد. وهذه على الأقل حالة النصوص التي يمكن أن نعتبر أنها تبني «الرأسمال الثقافي» لحضارة من الحضارات. بل إن السؤال يُطرَح أصلًا في حالة نصوص من نوع آخر، ولأسباب لا تكاد تتعلَّق بالترجمة في ذاتها. واليوم الذي تُترجَم فيه الكتب الإرشادية لاستعمال الكمبيوتر من اللغة الأوزبكية إلى الإنجليزية، لا العكس، ما زال بوضوح بعيدًا عنا.

ومن مظاهر التغيُّر الأخرى أننا أصبحنا ندرك اليوم أن اختلاف النصوص يتطلَّب اختلاف استراتيجيات الترجمة، فبعض النصوص قد وُضعت أساسًا لنقل المعلومات، والمنطق يقول: إن ترجمات تلك النصوص يجب أن تحاول نقل هذه المعلومات بأفضل صورة ممكنة. وأما كيفية تحقيق ذلك فسوف يكون في كل حالة على حِدَة، نتيجة تفاوُضٍ مُفترَض أو صريح فيما بين أصحاب التكليف بالترجمة، فهم لا يريدون ترجمة النص وحسب، بل يريدونه أن يقوم بوظيفة مهمة في الثقافة المُستقبِلة له، وبين المترجِم الذي يقوم بالترجمة فعلًا، والثقافة التي ينتمي النص إليها، والثقافة التي تتوجَّه إليها الترجمة، والوظيفة التي يُفترَض أن يقوم بها النص في الثقافة التي تتوجَّه الترجمة إليها.

ولدينا أيضًا نصوص وُضعت أساسًا للتسرية. ولا بد أن تُترجَم بطريقة مختلفة وإن لم يكن الاختلاف جذريًّا بالضرورة؛ لأن النصوص المكتوبة أساسًا لتقديم المعلومات قد تُحاول أيضًا أن تُسرِّي عن القرَّاء، ولو انحصر السبب في ضمان تقديم المعلومات بأقل الطرق إرهاقًا للقارئ، وفي مقابل ذلك نرى أن النصوص المكتوبة أساسًا للتسرية قد تتضمَّن بعض المعلومات، بل كثيرًا ما تتضمَّن معلومات.

ولدينا نوعٌ ثالث من النصوص يتضمَّن بوضوح بعض عناصر النوعين الآخرين، إلى جانب عناصر من نوع رابع. وهذا النوع الثالث يحاول إقناع القارئ بشيءٍ ما. وأما النوع الرابع فيتكوَّن من النصوص المُعترَف بأنها تنتمي إلى «رأس المال الثقافي» لإحدى الثقافات، أو حتى إلى «رأس المال الثقافي» ﻟ «الثقافة العالمية» أو شيء من هذا القبيل؛ أي إن روايات «ترولوب» تنتمي إلى بريطانيا أكثر مما تنتمي إلى العالم، ولكن مسرحيات شيكسبير تنتمي إليهما معًا. والنصوص المعترَف بأنها رأسمال ثقافي كانت قد بدأت حياتها باعتبار أنها تُمثِّل نوعًا أو نوعين أو الأنواع الثلاثة الأخرى جميعًا. ولا بد أن يستمرَّ تأثيرها في الأنواع الأخرى.

ولكن ربما يكون لدينا ما يزيد أهميةً عن الأنواع المتعددة المنفصلة؛ ألا وهو وجود ما يمكن تسميته ﺑ «الشبكة» النصية، أي الشبكة النصية التي تستخدمها إحدى الثقافات، وتعني مجموعة الطرق المقبولة للتعبير عن الأفكار. وقد تستخدم ثقافاتٌ مختلفة، بطبيعة الحال، الشبكة النصية نفسها بصفة رئيسية؛ فالثقافات الفرنسية والألمانية والإنجليزية، مثلًا، تستخدم الشبكة النصية نفسها، مع تنويعٍ طفيف في التأكيد؛ لأنها الشبكة التي ورثتها من الماضي الروماني اليوناني، وعلى مر التاريخ بما شهده من تقلبات، ولدينا ثقافات أخرى، مثل الثقافة الصينية واليابانية، تتمتَّع بشبكات نصية أشد تفرُّدًا ولا تشترك فيها مع الثقافات الأخرى. والمهم في كل هذا، على أية حال، أن هذه «الشبكات النصية» توجد، على ما يبدو، في الثقافات على مستوًى أعمق أو أعلى، مهما تكن الاستعارة التي تُفضِّلها، من مستوى اللغة. ونقول بعبارة أخرى إن «الشبكة النصية» أسبق وجودًا من اللغة أو اللغات. وهذه الشبكات من صُنع البشر، وهي أبنية تاريخية وعارضة؛ أي إنها ليست بالقَطْع خالدةً لا تتغيَّر أو «موجودة على الدوام». وقد يبدو أنها خُلِقَت لتدوم إلى الأبد، بل وتبدو فعلًا كذلك، في حالة واحدة، وهي كثيرة الوقوع، وهي استيعاب البشر لها استيعابًا يجعلها شفَّافةً تمامًا لهم، إلى الحد الذي يُتيح لها أن تبدو «طبيعية».

فإذا كانت الشبكات النصية موجودة، ونحن نزعم أنها موجودة، لا بصورةٍ صريحة بل باعتبارها نَسَقًا من التوقعات المحسوسة التي يستوعبها أفراد ثقافة من الثقافات، وإن لم يستطيعوا رَصْد معظم أو جميع ملامحها المميِّزة لها والقواعد المنظِّمة لإنتاجها، فإن على دارسي الترجمة أن يُولُوها اهتمامًا أكبر مما أَوْلَوه في الماضي، سواء كانوا يريدون تعلُّم تقنية الترجمة، أو كانوا يريدون تحليل الترجمات والدور الذي تنهض به في تطوُّر الثقافات.

من الخطوات الكبرى التي اتُّخِذَت في السنوات العشرين الماضية، إدراكنا أن دار الترجمة تتكوَّن من منازل كثيرة، ولا يرجع السبب وحسب إلى أن تعريف المجال قد توسَّع فأصبح يضمُّ ما يزيد على تعليم تقنية الترجمة وتعلُّمها، ولكن يبدو أن مجموعة الأسئلة التي قيل آنِفًا إنها تَسُود المجال صالحةٌ لدار الترجمة كلها ولمنازلها الكثيرة على حدٍّ سواء. وهذه المجموعة الرئيسية من الأسئلة تضمن وحدة المجال في جوهره. فإذا تجاوزنا ذلك وجدنا أن علينا أداء عمل كثير، ومن أنواع متعددة، في شتَّى المجالات الفرعية، أو «المجالات المشترَكة» للترجمة. فمن السهل مثلًا أن تتصور أن الترجمة مجال متداخل مع علم اللغة، مثلًا، أو مع الأدب، أو مع الأنثروبولوجيا الثقافية أو غيرها. ونقول مرة أخرى إنه إذا أحسَّ العاملون في هذا المجال الكبير بوجود هذه «المجالات المشترَكة»، فليس من الحكمة على الإطلاق أن نُقيم حواجز بينها، ما دام كلٌّ منها يستطيع أن يتعلم، بل وعليه أن يتعلم من الآخر حيثما اقتضت الضرورة.

وقد حدث تغييرٌ كبير، بل ربما أكبر تغيير في مجال الترجمة، لا عندما ازدادت «المجالات المشتركة» التي أُضِيفت إليه، بل عندما اتَّسَعَت الغاية النهائية أو الهدف من العمل في هذا المجال اتِّساعًا جوهريًّا. ففي السبعينيات كان يُنظَر إلى الترجمة نظرة لا شك في صحتها؛ وهي أنها ذات أهمية «حيوية للتفاعل بين الثقافات». وكان ما فعلنا هو أننا قلبنا هذه العبارة رأسًا على عَقِب، قائلين إنه إن كانت الترجمة حقًّا، كما يؤمن الجميع، ذات أهمية حيوية للتفاعل بين الثقافات، فلماذا إذن لا نتخذ الخطوة التالية وندرس الترجمة، لا لتدريب المترجمين وحسب، بل لدراسة التفاعل الثقافي على وجه الدقة؟ ولا شك في وجود طرائق أخرى منوَّعة لدراسة هذه العملية، ولكننا نقول إن الترجمة تُقدِّم وسيلةً لدراسة التفاعل الثقافي لا يُقدِّمها أي مجال آخر بالطريقة نفسها؛ فالترجمة تُقدِّم للباحثين «حالة مُختبَرية» لدراسة التفاعل الثقافي نراها من أوضح الحالات وأشملها وأيسرها في الدراسة؛ فالمقارنة بين الأصل والترجمة لا تقتصر على إيضاح القيود التي يضطر المترجمون إلى العمل في ظلِّها في وقت معيَّن ومكان معيَّن، ولكنها تكشف أيضًا عن الاستراتيجيات التي يبتكرونها للتغلُّب على هذه القيود أو على الأقل للالتفاف حولها. وهكذا فإن هذا اللون من المقارنة يمكن أن يُقدِّم للباحث صورة تشبه اللقطة الفوتوغرافية الآنية للكثير من ملامح ثقافةٍ ما في وقت من الأوقات، أضِف إلى ذلك أننا نستطيع بِيُسرٍ تبيان أن ترجمات معيَّنة — وتلك لا تقتصر على ترجمات الكتاب المقدس في الغرب أو ترجمات الكتب البوذية في الصين — كان لها تأثيرٌ هائل في تطوُّر المجتمعات. ومن خلالها، في تطوُّر التاريخ.

فالترجمة قائمة في التاريخ على الدوام، كما أنها، في حالات كثيرة، عاملٌ حيوي داخل التاريخ، وكلما ازداد ما نعرفه عن تاريخها ازداد وضوح هذه الحقيقة؛ ومن ثَمَّ فليس من قَبيل المصادفة أن تُنشَر كتبٌ كثيرة عن تاريخ الترجمة في السنوات العشر الأخيرة، كما لا نبالغ إن قلنا إننا إذا أردنا دراسة التاريخ الثقافي، أو تاريخ الفلسفة، أو الأدب أو الدين، فسوف يكون علينا أن ندرس الترجمات إلى درجة أكبر كثيرًا مما فعلناه في الماضي.

وإذا كنت باحثًا في مجال الترجمة وترى أن الترجمة تعمل على تعزيز التفاهم الدولي، بل ويجب عليها ذلك، فسوف تضع تعريفًا مفيدًا للبحث في مجالك المشترك (والذي ينبغي لك ألا تُعادله بالمجال الكلي) باعتباره النشاط الذي يُهيِّئ للعاملين في ذلك المجال المشترك الأدوات التي يحتاجونها لتحسين القيام بعملهم، وتحسين تقنيات الترجمة. وأما إن كنت ترى، من ناحيةٍ أخرى، أنه ينبغي استخدام الترجمة أساسًا باعتبارها أداةً لتحليل «العمليات» التي يتحقق التفاهم الدولي من خلالها، فسوف تضع تعريفًا مفيدًا مختلفًا للبحث في مجالك المشترك (والذي ينبغي لك ألا تُعادله أيضًا بالمجال الكلي). ففي الحالة الأولى سوف تضع كتبًا ومقالات تهدف إلى رفع مستوى تدريب المترجمين؛ أي إنك سوف تنشغل بعملية الترجمة أكثر من اهتمامك بالترجمة. وأما في الحالة الثانية فسوف تكتب دراسات حالة من النوع الذي يتضمَّنه هذا الكتاب، باعتبارها أمثلةً ممكنة للاتجاه الذي يمكن أن يسير فيه هذا النوع من البحوث. ولا يوجد سببٌ يحُول دون وجود هذين المنزلين في الدار الكبرى للترجمة، وأن يتمكَّنا من التعايش فيه.

نموذج شلاير ماخر

تتناول دراسات الحالة المجموعة في هذا الكتاب نصوصًا تُشكِّل رأسمالٍ ثقافي، وينبغي عدم معادلة هذا بمصطلح رأس المال المستخدَم في الاقتصاد، ولكنه ييسر على الذين يعيشون داخل ثقافةٍ ما أن يصلوا إلى ذلك النوع من رأس المال أيضًا، والكثير من هذه النصوص تنتمي إلى فئة النصوص التي تحتاج إلى المقدرة على الحديث عنها، أو — على الأقل — على إيهام سامعيك بصورةٍ مقنعة بأنك تعرفها في المجتمعات الراقية. فهذه هي النصوص التي كانت الطبقة البورجوازية تُسرِع بقراءتها ابتداءً من القرن السابع عشر؛ لأن الطبقة الأرستوقراطية كانت تقرؤها، بل وتزعم أنها تملِكها. ولأن البورجوازية لم تكن تريد الانقطاع عن صحبة الأرستوقراطية ما دامت هذه الصحبة سوف تُمكِّن البورجوازيين من الوصول إلى سلطة أبناء الأرستوقراطية آخر الأمر، وكثيرًا ما كان ذلك في مقابل المال الذي يدفعه البورجوازيون.

ومجال رأس المال الثقافي هو المجال الذي يمكننا أن نرى فيه بأشدِّ وضوحٍ بناءَ الترجمة للثقافات، وهي تقوم بذلك بتيسير مرور النصوص فيما بينها، أو بالأحرى بابتكار استراتيجيات لتمكين بعض النصوص من إحدى الثقافات من اختراق الشبكات النصية والفكرية لثقافةٍ أخرى والعمل في هذه الثقافة الأخرى. وما نشير إليه بتعبير «نشاط التكيُّف الاجتماعي»، وهو الذي يُشكِّل التعليم الرسمي جانبًا كبيرًا منه، وإن لم يكن الجانب الوحيد، يُخلِّف لنا شبكات نصية وفكرية تتولَّى تنظيم معظم كتاباتنا وتفكيرنا في الثقافة التي ننشأ في كَنَفِها.

وأوضح شكل من أشكال التفاوض بين الشبكات النصية والفكرية هو القياس، وهو كذلك أشدها سطحية. بل إنه الشكل الذي يؤدي حتمًا إلى طمس الفوارق بين الثقافات والنصوص التي تُنتِجها. والقياس هو الطريق الممهَّد في المفاوضات ما بين الثقافات، وذلك، على وجه الدقة؛ لأنه يتسبب في أن تنحرف ثقافة الأصل [المترجَم منها] حتى تتفق مع الثقافة المُستقبِلة [للنص المترجَم] ما دام يُرَى أن الأخيرة تتمتَّع بصيت ومهابة أكبر إلى حدٍّ بعيد، ولكن لا يلزم أن يكون ذلك السبيل الوحيد، فإن نموذج شلاير ماخر للترجمة يطعن في التنميط التلقائي الذي يؤدي القياس إليه. ففي المحاضرة المشهورة التي ألقاها فريدريش شلاير ماخر، وعنوانها «عن الطرائق المختلفة للترجمة»، نجده يطالب — فيما يطالب به — بأن تكون الترجمات من اللغات المختلفة إلى اللغة الألمانية ذات طابع مختلف عن الألمانية في القراءة والإلقاء: أي إنه ينبغي تمكين القارئ أن يحدس وجود نصٍّ إسباني خلف ترجمة من الإسبانية، أو وجود نصٍّ يوناني وراء ترجمة عن اليونانية. فإذا كانت جميع الترجمات تتشابه في الصوغ وفي الجرس (و هو ما قُدِّرَ له أن يحدث بعد ذلك بقليل في ترجمة الكلاسيكيات في العصر الفكتوري في إنجلترا) كان ذلك معناه ضياع هُويَّة النص المصدر، وهدْمها في النص المستهدَف. وهكذا فإن نموذج شلاير ماخر يؤكد أهمية «تغريب» الترجمة، ما دام يُنكر الموقع المتميز للُّغة أو الثقافة المستقبِلة، وينادي بالحفاظ على «غيريَّة» النص المصدر.

ولكل نموذج من النماذج الثلاثة المشار إليها هنا مكانته في الدراسة المتطورة للترجمة، بشرط ألا نرى (وألا ترى كلٌّ منها) أنها لا تجتمع؛ أي إنها متنافية. ففي البرامج التي يجري إعدادها لتدريس تقنية الترجمة، وهي التي غالبًا ما تعني ترجمة نصوص لا تُعتبر من مقوِّمات الرأسمال الثقافي لمجتمعٍ ما، وإن كانت ذات أهمية جوهرية لذلك المجتمع من زاوية أخرى — مثل الكتب الإرشادية للكمبيوتر أو للسيارة، ومثل النصوص الطبية والقانونية والصيدلانية — لا بد أن تكون الأولوية لنموذج جيروم، بطبيعة الحال، وإن تكن أولويةً زمنية فقط. ففي المرحلة الأولى من تدريس الترجمة، لا تزال الترجمة صالحة للاستخدام باعتبارها نوعًا من أنواع التحقق من معرفة الطلاب باللغة التي يدرسونها. ومن الممكن — في إطار نموذج جيروم — إخضاع الطلاب لنظام صارم، وإرشادهم إلى نقاط قوتهم ونقاط ضعفهم، ومساعدتهم على تنمية الأولى والتغلب على الأخيرة. كما يلزم استخدام نموذج هوراس بمثابة استكمالٍ لنموذج جيروم في المرحلة الأولى لتدريس الترجمة، لرفع مستوى وَعْي الطلاب بالشبكات النصية والفكرية ذات الوجود السابق على النصوص التي يتصدَّوْن لها.

ويكتسب نموذج هوراس أهمية أكبر على مستوى دراسة الترجمات الفعلية للنصوص التي يمكن أن تشملها فئة الرأسمال الثقافي. وليس من العسير إيضاح عملية «التفاوض»، وهي التي يمكن القول بأنها تشير إلى القيود المؤسسية التي جرى التفاوض في ظلِّها، وإلى مساهمات المترجمين الشخصية فيها في الوقت ذاته، وكيف أثَّر هذا التفاوض في استقبال نصوص معيَّنة في ثقافات معيَّنة، وكيف كان لها في بعض الأحيان تأثيرٌ حاسم في تطوُّر تلك الثقافات المستقبِلة لها.

وإذا وضعنا نموذج شلاير ماخر جنبًا إلى جنب مع نموذج هوراس، ساعَدَنا هذا الأخير على طرح الأسئلة الجوهرية في تحليل الترجمات، وهي أسئلة تعالج ما تتمتَّع به الثقافات من سلطة وهَيبة نسبية، وقضايا السيادة والخضوع والمقاومة. ولا بد من تأكيد وجود إجابة هذه الأسئلة في ترجمة شتَّى ضروب النصوص وتحليل جميع أنواع الترجمات، وقضية السلطة والهيبة النسبية للثقافات وثيقة الصلة إلى أبعد حدٍّ باختيار النصوص التي ينبغي ترجمتها، وتتكشَّف لنا السيادة حين نتأمل كيفية تغيير الترجمة للطرائق التي يتبعها الناس في الكتابة باللغة المستهدفة؛ فالإعلانات التي تُكتَب الآن في شتَّى أنحاء العالم أصبحت أكثر شَبَهًا بالإعلانات الأمريكية عما كانت عليه منذ أعوام قليلة. ومن المفارَقات أن الخضوع يكشف عن نفسه بوضوحٍ أكبر، في هذه الأيام، في حالات عدم الترجمة، فشباب المِهنيين الطامحين، ومَن يرجون أن يُجاروهم في كل مكان في العالم، يشعرون بالرضى عندما يجدون في النصوص المكتوبة بلغتهم كلمةً عارضة بالإنجليزية مثل cool [التي تُوازي في العامية المصرية «مية مية»] أو بعض الصيغ الدالَّة على التبحُّر مثل المصدر الصناعي الذي لا لزوم له [مثل «الاستمرارية» التي لا يزيد معناها عن الاستمرار]، وكثيرًا ما تتبدَّى المقاومة في رفض قبول بعض جوانب النص الأصلي التي تؤدي إلى رد فعلٍ سلبي في الثقافة المستهدَفة، ومثال ذلك استعمال المُعلِن الأصلي لعارضات أزياء شبه عاريات للإعلان عن ملابس من الجينز والحملة الإعلانية موجَّهة إلى البلدان الإسلامية. وعادةً ما تُبدي الشركات الصناعية التي تريد بيع منتجاتها سعادتها الكاملة للتفاوض بشأن هذه القضية بالمعنى الكامل للتفاوض وفق مفهوم نموذج هوراس.

ومع ذلك فأمامنا مسألة قد تُمثِّل أشد الموضوعات جاذبية في الوقت الحاضر. وربما يكون السبب عدم وقوعها في إطار أي مجال مشترَك للترجمة، إلا إذا وسَّعنا مرة أخرى التعريف الذي «نشعر» به للترجمة؛ ألا وهي عملية المُثاقَفة [التكيُّف الثقافي] وهي التي دأبت التقاليد على اعتبار الترجمة عنصرًا من عناصرها الأساسية، وذلك حين تجرى المُثاقفة لا «فيما بين الثقافات» وحسب، بل «داخل إطار» ثقافةٍ ما، مهما تكن. ففي بداية عملية التكيُّف الاجتماعي، لا يطَّلِعُ الذين يوشكون على الانتماء إلى ثقافةٍ ما على النصوص «الأصلية» التي تُعتبر الرأسمال الثقافي لهذه الثقافة، بل تُقدَّم إلى الأفراد ترجماتٌ لهذه النصوص، لا من لغةٍ أخرى، في معظم الأحوال (وإن كانت هذه الترجمات في بعض الحالات من مراحل قديمة للغتهم نفسها) بل دون مبالغةٍ من عالم آخر إلى عالمهم؛ أي إن الرأسمال الثقافي تُعاد كتابته بأسلوبٍ يتمشَّى مع المستوى المفترَض لأفهامهم في مرحلة معيَّنة من مراحل تطورهم. ولا تقتصر حالات إعادة الكتابة على اتخاذ شكل لغوي فقط بل تتضمَّن أشكال نصوصٍ غير لغوية. وهكذا فحين يُرى أننا بلغنا العمر الذي يسمح لنا بمعرفة بعض قوانين كوننا، تذكر لنا كتب الفيزياء المدرسية قوانين نيوتن؛ أي إن ثقافتنا قد قرَّرَت أن كل ما نحتاج إلى أن نتعلمه من نيوتن يقتصر الآن على بعض معادلات وحسب.

ومن الحقائق التي تكفل اتِّزان نظرتنا أن نعرف أنه لن يضطر معظم المشاركين في ثقافةٍ ما، أو لن يضطروا جميعًا، إلى الاطِّلاع يومًا ما في حياتهم على النصوص «الأصلية» التي تزعم ثقافتهم أنها قائمة عليها، وإذن فمن المهم أن ندرك أن إعادة الكتابة والترجمات تقوم بوظيفة «الأصول» بالنسبة لمعظم الناس. إن لم يكن لجميع أبناء ثقافة من الثقافات، في المجالات التي لا تُعتبر جانبًا مهمًّا من جوانب خبرتهم المهنية. فإذا تناقص باطِّرادٍ عدد الذين يقرءون رواية الكبرياء والهوى، وتزايد باطِّرادٍ عدد الذين يشاهدون الأفلام السينمائية القائمة على هذه الرواية في التليفزيون، بدلًا من قراءتها؛ فالمنطق يقول: إن إعادة الكتابة البصرية للرواية سوف يحُلُّ فعليًّا محلَّ الأصل، أو بالأحرى سوف يقوم بوظيفة الأصل عند الكثير من الناس.

وكلما ازداد اعتماد عملية التكيُّف الاجتماعي على إعادة الكتابة، وكلما كبر دور الترجمة في بناء صورة ثقافةٍ ما في نظر ثقافة أخرى، ازدادت أهمية معرفة أساليب مسار عملية إعادة الكتابة، ومعرفة أنواع النصوص المترجمة و/أو التي تُعاد كتابتها، لماذا تُعاد كتابة نصوص معينة و/أو تُترجَم من دون غيرها؟ وما الغاية من وراء إعادة كتابة نصوص و/أو ترجمتها؟ وما تقنيات الترجمة المستخدمة تحقيقًا لغاية من الغايات؟ إن المترجمين والقائمين بإعادة الكتابة هم الذين يبنون الثقافات على المستوى الأساسي في عصرنا الحالي؛ فالأمر بسيط وهائل إلى هذا الحد. ولمَّا كان بالِغَ البساطة ومع ذلك بالغ الأهمية، فإنه أيضًا شفَّاف؛ فالعادة ألا يلحظه أحد.

ما الوجهة التالية؟

وهكذا يأتي السؤال الأخير: إلى أين نتَّجِه من هنا؟ ما مسار دراسات الترجمة — المبحث الذي يُعتبَر من أشد المجالات المشترَكة نُمُوًّا في التسعينيات — في الألفية الجديدة؟ لسوف يسير في الاتجاهات التي نطلبها، نتيجة استكشافنا لبعض المسائل التي لم يُفصَل فيها بعد، والأسئلة التي لا تزال تنتظر الإجابة.

إننا نحتاج إلى أن نعرف المزيد عن تاريخ الترجمة، لا في الغرب وحسب، بل أيضًا في الثقافات الأخرى. لقد أنجزنا الكثير. ولكننا كلما ازددنا معرفةً ازددنا قدرة على تحديد الموقع النسبي لممارسات الحاضر، وازددنا قدرة على إدراك أنها أبنيةٌ بُنِيَتْ، وأنها عارضةٌ مشروطة، لا حقائق ثابتة خالدة شفَّافة.

وليس من قبيل المصادفة أن كمًّا كبيرًا من البحوث المثيرة في مجال دراسات الترجمة يصدر من الثقافات التي تمر بها حاليًّا بمرحلة التطور في عهدِ ما بعد الاستعمار. وفي غضون إعادة تقييم العالم لعلاقته ﺑ «الأصل» الأوروبي، سيصبح من المحتوم إعادة تقييم مفاهيم الترجمة، وتنقيح قوانين الامتياز المبنية على نماذج ذات مركزية أوروبية.

إننا نحتاج إلى أن نعرف المزيد عن عملية المُثاقَفة فيما بين الثقافات، أو بالأحرى، عن التكافل الحيوي والتعايش الحيِّ ما بين أنواع إعادة الكتابة في إطار هذه العملية، وعن الطرائق التي تُسهِم فيها الترجمة، مع النقد، ووضع المنتخَبات، وكتابة التاريخ، وتأليف المراجع الكبرى في بناء صور الكُتَّاب و/أو أعمالهم، ومشاهدة كيف تتحوَّل هذه الصور إلى واقع. ونحن «نحتاج» أيضًا إلى أن نعرف كيف تقوم إحدى الصور بخلع صورة أخرى، وكيف تتعايش الصور المختلفة للكُتَّاب أنفسهم وأعمالهم وكيف يُناقض بعضها بعضًا.

ونحتاج إلى أن نعرف الغاية المختفية وراء بناء هذه الصور، فلماذا قرَّر فجأةً أهل فنلندا مثلًا أنهم في حاجة إلى ملحمة؟ وهو سؤال يؤدي بنا إلى ساحة أخرى، تُعتبر مجالًا مشترَكًا يُبشِّر بخير كثير؛ ألا وهي ساحة السياسات الثقافية، والتي تتمثَّل في سياسات الترجمة وإعادة الكتابة. ولا حاجة بنا إلى أن نقول إن صورة واضع هذه السياسات تَبرُز بوضوح هنا، خصوصًا عندما يكون واضعها دولة «شمولية» تُحاول أن تخلق صورة شاملة لنفسها مستعينةً بالصور الجزئية التي تبنيها. والعامل المهم الآخر في هذا الصَّدَد هو الصِّيت النسبي للثقافات، مثل الثقافة الرومانية العريقة في مقابل الثقافة الإنجليزية في زمن درايدن، مقارنةً بالوضع الراهن الذي أصبحت الإنجليزية تشغل فيه موقع اللغة ذات الصيت الداوي في العالم.

كما نحتاج أيضًا إلى أن نعرف المزيد عن النصوص التي تُشكِّل الرأسمال الثقافي للحضارات الأخرى، ونحتاج إلى أن نعرفها بطرائق تحاول أن تتغلب على «قُبْلة الموت» التي «تطبعها» المُثاقَفة من خلال التماثُل، أو أن تتحاشى هذه «القُبْلة»! فالشِّعر الياباني من نوع «هايكو» لا ينتمي لجنس الإبجرام المعروف، والروايات الصينية لها قواعدها الخاصة، ولا ينبغي اختزال الشبكات النصية والفكرية للحضارات الأخرى بحيث تتفق مع نظائرها في الغرب.

ونحتاج إلى أن نكتشف كيف نترجم الرأسمال الثقافي للحضارات الأخرى بطريقةٍ تحفظ على الأقل جزءًا من طبيعته الخاصة، من دون أن نُخرج له ترجمات لا تُوفِّر إلا أقل القليل من المتعة والتسرية إلى الحد الذي يجعل جاذبيته مقصورةً على من يقرءونه لأسباب مِهنية. وربما يكون هذا مجالًا يحتاج إلى تعاوُن أشكالٍ مختلفة من إعادة الكتابة، فلنا أن نتصور النص المترجَم، مسبوقًا بمقدمة طويلة تتكفَّل بتبيان كيف «يعمل» النص الأصلي وحده، وفقًا لعناصره الخاصة، في إطار شبكته الخاصة، لا أن نقول للقرَّاء فقط ما «يُشبهه» هذا النص أو ما «أقرب ما يشبهه» هذا النص في ثقافات هؤلاء القرَّاء. ومن الأرجح أن تنتهي بنا هذه المحاولة إلى مواجهة حدود الترجمة، وهي مواجهة ضرورية؛ إذ كيف يتسنَّى لنا، من دون هذا التحدِّي، أن نتجاوز هذه الحدود يومًا ما ونُواصل التقدم؟

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤