الفصل الثامن

التوجه للترجمة في الدراسات الثقافية

سوزان باسنيت

في عام ١٩٩٠م شاركني أندريه ليفيفير تحرير كتابٍ يضمُّ مجموعةً من المقالات جعلْنا عنوانه الترجمة والتاريخ والثقافة، وشاركَني كتابة المقال التمهيدي للكتاب، والذي قصدنا به أن يكون بمثابة مانيفستو [بيان] عمَّا رأينا أنه يُمثِّل تحوُّلًا رئيسيًّا في التأكيد، في مجال دراسات الترجمة؛ إذ كنا نحاول إقامة الحُجَّة على أن دراسة الترجمة وممارستها قد تحوَّلَتَا من مرحلتهما الشكلية، وشَرَعَتَا في النظر إلى قضايا أعرض تتعلَّق بالسياق والتاريخ والأعراف، فقلنا:

في يومٍ من الأيام. كان السؤالان اللذان يُطرَحان دائمًا هما: «ما طريقة تعليم الترجمة»؟ و«ما منهج دراسة الترجمة»؟ فأما الذين يعتبرون أنفسهم مترجمين فكثيرًا ما كانوا يزْدَرُون أية محاولاتٍ لتعليم الترجمة. وأما الذين كانوا يزعمون أنهم معلِّمون، فكثيرًا ما لم يمارسوا الترجمة، ومن ثَمَّ كانوا مضطرِّين إلى اللجوء إلى منهج التقييم القديم وهو وَضْع إحدى الترجمات بجانب ترجمةٍ أخرى وفحصهما معًا في فراغٍ شكلي، أما الآن فقد تغيرت الأسئلة، وأُعِيدَ تعريفُ الغرض من الدراسة، فأصبح الذي يتعرَّض للدرس هو النص الكامن داخل شبكته التي تضمُّ العلامات الثقافية المصدرية والمستهدَفة، واستطاعت دراسات الترجمة أن تنتفع من هذا الطريق بالمدخل اللغوي وأن تخرج منه وتتجاوزه.

(باسنيت وليفيفير، ١٩٩٠م)

وأطلقنا على هذا التحوُّل في التأكيد مصطلح «التوجه الثقافي» في دراسات الترجمة، وقلنا إنه إذا اقترنت دراسة عمليات الترجمة بممارسة العمل بالترجمة أمكنها أن تفتح لنا طريقًا لتفهُّم دقائق العمليات النصية المركَّبة المُتَّسِمة بالتلاعب، بحيث نفهم مثلًا كيف يُختار أحد النصوص للترجمة، والدور الذي يلعبه المترجم في هذا الاختيار، والأدوار التي يلعبها المُحرِّر، أو الناشر، أو الراعي، والمعايير التي تُحدِّد الاستراتيجيات التي سوف يستخدمها المترجم، واحتمالات استقبال النص في النظام المستهدَف؛ إذ إن الترجمة دائمًا ما تجري في سياقٍ مستمر، ولا تجرى قطُّ في فراغ، كما يتعرَّض المترجم لشتَّى القيود النصية وغير النصية. وقد أصبحت هذه القيود — أو عمليات التلاعب التي يمرُّ بها نقل النصوص من لغةٍ إلى أخرى — مجالَ التركيز الرئيسي في العمل بدراسات الترجمة. وهكذا غيَّرَتْ دراسات الترجمة مسارها من أجل دراسة هذه العمليات فاتَّسَع نطاقها وزاد عُمقها أيضًا.

وكان أيُّ عاملٍ في دراسات الترجمة في السبعينيات يشعر بوجود خطٍّ فاصل واضح بين عمله وبين الأنماط الأخرى للبحوث الأدبية أو اللغوية؛ إذ كانت دراسة الترجمة تشغل ركنًا صغيرًا في مجال اللغويات التطبيقية، وركنًا أصغر منه في الدراسات الأدبية. ولم تكن تشغل أي مكانٍ في مجال دراسات الترجمة الجديد نشأةً وتطوُّرًا. بل إن الذين كانوا يعملون في مجال الترجمة والمجالات الأخرى المتصلة به كانوا يشعرون بضربٍ من التحوُّل الشيزوفريني [الفِصامي] عندما يتعرَّضون للمسائل المنهجية، ففي العصر الذي كان يشهد بُزوغ مذهب التفكيك. كان الناس لا يزالون يتحدثون عن الترجمات «النهائية»، وعن «الدقة» و«الأمانة» وعن «التعادل» بين النُّظُم اللغوية والأدبية. وكانت الترجمة تشبه شخصية «سندريلا» التي لا يلتفت إليها أحدٌ التفاتًا جادًّا. وكانت اللغة المستخدمة في مناقشة العمل بالترجمة قديمةً بالية إلى حدٍّ يدعو للدهشة حين تُوضَع بجوار المفردات النقدية الجديدة التي كانت تُهَيمِن على الدراسات الأدبية بصفةٍ عامَّة. وكان الانتقال من حلقةٍ دراسية حول النظرية الأدبية إلى حلقةٍ دراسية حول الترجمة في تلك الأيام يشبه الانتقال من آخر القرن العشرين إلى حِقْبة الثلاثينيات. وكان النقاش حول الترجمة يخضع لسيطرة لغة النقد التقييمية.

وأعتقد أن أول إشارةٍ واضحةٍ لتغيُّر اتجاه الريح كانت الحلقة الدراسية التي عُقدتْ في مدينة لويفين، في بلجيكا، عام ١٩٧٦م، وهي التي جَمَعَتْ للمرة الأولى بين باحثين إسرائيليين من الدارسين لنظرية «النُّظُم المتعدِّدة»، وبين باحثين من هولندا وبلجيكا ولوكسمبورج، وحَفْنَةٍ من الباحثين من بلدانٍ أوروبية أخرى، وفي تلك الحلقة الدراسية كُلِّفَ أندريه ليفيفير بوضع تعريفٍ لدراسات الترجمة، وهو التعريف الذي ظهر في الكتاب المطبوع عن أبحاث الحلقة عام ١٩٧٨م. وكان الهدف من ذلك المبحث (إذ كان يراه مبحثًا وحسب في تلك المرحلة) «وَضْعَ نظريةٍ شاملة يمكن استخدامها بصفتها مبدأً توجيهيًّا لإنتاج الترجمات»، وكان المفترَض ألا تستقي النظرية إلهامها من «الوضعية المنطقية الجديدة» ولا من مذهب «التفسيرية»، بل أن تعتمد دومًا على دراسات الحالة لإثبات صحتها، وأن تكون ديناميةً لا جامدة ما دامت سوف تكون في حالة تطوُّرٍ مستمر، ويُضيف تعريف ليفيفير:

ليس من المُستبعَد أن تكون النظرية الموضوعة بهذا الأسلوب مفيدةً في وضع النظرية الأدبية واللغوية، كما لا يُستبعَد أيضًا أن تُؤثِّر الترجمات الموضوعة وَفْقَ المبادئ التوجيهية المؤقَّتة في هذه النظرية في تطوُّر الثقافة المستقبِلة لها.

(ليفيفير، ١٩٧٨م)

أي إنه كان المفترَض ارتباط النظرية بالممارسة ارتباطًا لا تنفصم عُراه، بحيث لا توجد النظرية بصورةٍ مجرَّدة، بل أن تكون ديناميةً قابلة للتطبيق في دراسة دقائق ممارسة الترجمة، بحيث تقوم النظرية والممارسة بتغذية بعضهما بعضًا.

ومقولة ليفيفير البالغة الإيجاز، التي وصفَها جنزلر بأنها «اقتراحٌ متواضعٌ إلى حدٍّ كبير» (جنزلر ١٩٩٣م) قد أسهمَتْ — على قِصَرِها — في وضع بعض القواعد الأساسية للمرحلة التالية من مراحل تطوُّر دراسات الترجمة. وكان من العناصر الجوهرية في هذه المقولة رَفْضُ موقف التقييم القديم، ورفض تحديد موقع دراسات الترجمة في إطار الدراسات الأدبية وحدها أو في إطار علم اللغة وحده، ونستطيع بما اكتسبنا من خبراتٍ في الفترة المُنصَرِمة أن نرى ذلك ذا أهميةٍ جوهرية؛ فالذي كانت المقولة تقترحه فعليًّا — وإن لم يدرك أحدٌ ممن اقترحوها الحقيقةَ أنذاك — أنَّ على دراسات الترجمة أن تشغل موقعًا جديدًا خاصًّا بها.

والذي نستطيع أن نراه أيضًا، حين نسترجع الماضي، أن دراسات الترجمة كانت قد شغلت فعلًا مساحةً مشترَكة مع ذلك المجال البيني السريع التطوُّر أي الدراسات الثقافية؛ إذ كان الموضوع منذ نشأته باعتباره حركةً مُناهضةً للهيمنة في الدراسات الأدبية، وباعتباره مُعارِضًا لسيادة مفهومٍ واحد ﻟ «الثقافة» تُحدِّدُه الأقلِّيَّة، قد تحرَّك وغيَّر موقعه مبتعدًا عن الأدب ومقتربًا من علم الاجتماع، ويُحذِّر ريتشارد جونسون، أحد رُوَّاد هذا الموضوع، من الأخطار الكامنة في الفصل بين العوامل الاجتماعية وبين العوامل الأدبية داخل إطار دراسات الترجمة قائلًا:

إن الحدود الثقافية لا تتفق مع حدود المعارف الأكاديمية بصورتها الحالية، لا بد أن تصبح الدراسات الثقافية مباحث بينيةً أو مستقلَّةً عن المباحث الأخرى في توجُّهِها، فكل مَدخلٍ يكشف لنا عن جانبٍ صغير من عمليةٍ أضخم، وكل مدخلٍ منحازٌ نظريًّا، ولكنه شديد الانحياز أيضًا في مَراميه.

(جونسون، ١٩٨٦م)

يجب أن تصبح الدراسات الثقافية، في رأي جونسون، مباحث بينية [أي مشترَكة بين التخصصات] أو مستقِلَّة عن غيرها من المباحث، وهو ما كانت مجموعة لويفين تقوله فعليًّا عن دراسات الترجمة عام ١٩٧٦م، وإزاء التماثُل بين الغايتين، لن نُدهَشَ حين نعلم أن التلاقي بين الدراسات الثقافية ودراسات الترجمة، عندما تحقَّقَ أخيرًا؛ كان مُثمِرًا، فكان العمل في المجالين يطعن في الحدود العلمية القائمة ويسير — فيما يبدو — نحو إيجاد ساحةٍ جديدة تُمكِّنُهما من التفاعل، لم يكن المقصود إيلاء الأولوية لمدخلٍ واحدٍ وحسب. وقد ثبت منذ البداية أن المداخل المختلفة منحازةٌ بطبيعتها.

ومع ذلك فإن جماعة لويفين كانت تميل في سنواتها الأولى إلى تفضيل مدخلٍ خاصٍّ بعينه، فمنذ عام ١٩٧٠م كان إيتامار إيفين-زوهار، الباحث في النظريات الأدبية، يدعو إلى تَبَنِّي مَدْخَلِه الذي يقول ﺑ «تعدُّد النُّظُم» في دراسة الآداب المختلفة. وكان صريحًا في تحديد مصدر نظرياته، قائلًا: إنها مستمَدَّةٌ من النُّقَّاد الشكليين الروس؛ إذ زعم إيفين-زوهار أن العمل الرائد الذي قام به تينيانوف، أو أيخنبوم أو زيرمونسكي، في مجالَي التأريخ الأدبي والتاريخ، لم يلقَ حظَّه من التقدير الكامل أو التطوير؛ فالدراسات الأدبية لا تتضمَّن إلا بحوثًا بالغة الضآلة في الوظائف التاريخية لنصٍّ من النصوص، لا النصوص المترجمة وحسب، بل أيضًا أدب الأطفال، والروايات البوليسية، والقصص الغرامية، وحشد من الأنواع الأدبية الأخرى، ونستطيع أن نرى من جديدٍ هنا التوازي الوثيق بين مجالَي دراسات الترجمة والدراسات الثقافية، فكلٌّ منهما يطعن في التمييز في إطار النقد التقليدي بين الثقافة «العليا» والثقافة «الدنيا»؛ وكلٌّ منهما يطعن في مفهوم الأدب المعتمَد؛ وكلٌّ منهما يحُثُّ على توسيع نطاق دراسة الأدب حتى تتضمَّن وظائف نصٍّ معيَّن في سياقٍ معيَّن، واستنادًا إلى مذهبَي باختين ولوتمان، قال إيفين-زوهار إن آليَّة العلاقات بين ما أسماه الأدب «الرفيع» والأدب «الخفيض» (وهما المصطلحان اللذان سوف يتعرَّضان لطعنٍ أخطر من جانب الدراسات الثقافية) في حاجةٍ إلى التمحيص على أُسُسٍ صحيحة؛ إذ إن أي دراسةٍ للأدب تتجاهل أعمالًا يُقال إنها غير ممتازةٍ فنِّيًّا دراسةٌ ناقصةٌ قَطْعًا، ومِن شأنها أن ترسم صورةً ناقصة إلى حدٍّ بعيد لإنتاج النصوص واستقبالها.

وساهمَ إيفين-زوهار في حلقة الدرس التي عُقدتْ في لويفين عام ١٩٧٦م ببحثٍ عنوانه «موقع الأدب المترجَم في إطار تعدُّد النُّظُم الأدبية»، وهو لا يزال من النصوص الأساسية عند الباحثين في دراسات الترجمة، ويقترح إيفين-زوهار فيه أسلوبًا جديدًا في النظر إلى الترجمة، من خلال تطبيق فكرته المنهجية في الدراسة الأدبية على الترجمة، كان لا بد من طَرْح أسئلةٍ معيَّنة عن العلاقات المتداخلة بين الأعمال المترجمة والنظام المستهدَف، وعن سبب اختيار نصوصٍ بعينها للترجمة في أوقاتٍ معيَّنة وتجاهُل غيرها، ثم عن كيفية اتخاذ الترجمات معايير وطرائق عملٍ محدَّدَة؛ إذ يحِقُّ لنا أن نتساءل مثلًا عن سبب استيعاب النظام الأدبي الإنجليزي لرباعيات عُمَر الخيَّام التي ترجمها فيتزجيرالد استيعابًا كاملًا حتى لم تَعُدْ تُعتبر ترجمة، في حين أن ترجمات القرن التاسع عشر الأخرى لنصوصٍ مُماثِلة قد اختفت ولم يعُدْ لها أدنى أثر، والواضح أن الحُجَّة الجمالية القديمة لا تصلُح لتفسير ذلك، بل لا بد أنَّ عوامل أخرى قد تدخَّلَتْ، وفَحْصُ هذه العوامل هو الذي يجب أن يشغل بال الباحث في دراسات الترجمة.

وطرحَ إيفين-زوهار أسئلةً مهمة أخرى، من بينها: ما عسى أن تكون عليه صورة القوى المحرِّكة في العمل الأدبي ما بين التجديد والمحافظة، وما عسى أن يكون الدور الذي يقوم به الأدب المترجَم في هذا الصَّدَد؟ وقال بعد ذلك إننا قد نجد طريقةً أخرى للنظر إلى دور الترجمة في الأدب، بحيث نرى أن الترجمة قوة تشكيلٍ رئيسية تُؤدِّي إلى التغيير. وكانت فكرة اعتبار الترجمة أداةً جوهرية من أدوات التجديد الأدبي فكرةً ثورية إلى أقصى حد، وهي الفكرة التي كان التاريخ الأدبي التقليدي يميل إلى التهوين من شأنها.

ولنا أن نضرب مثلًا من حالة الشعر الغنائي الأوروبي. وقد وضع بيتر دونك دراسةً مقارنة رائعة لهذا المجال بعنوان القصيدة الغنائية في العصور الوسطى، في كتابٍ يتميَّز بالتبحُّر العلمي والأسلوب الشائق، ويدرس فيه تطوُّر القصيدة الغنائية في شتَّى أرجاء أوروبا في العصور الوسطى وراصدًا «المنشدين الفرنسيين والألمان» بكل ما اتَّسَمُوا به من تنوُّع» (دونك، ١٩٦٨م)، وهو يناقش تشابُك التقاليد الرومانية بالتقاليد المسيحية، وأوجه التشابه والاختلاف بين النَّظْم الغنائي الديني والعلماني، ويحمل أحد الفصول الرئيسية عنوان «تحوُّلات قصيدة الحب في العصور الوسطى»، ويرصد كيف دخلت القصيدة الغنائية باللغة البروفنسالية [لغة جنوب شرقي فرنسا] إلى اللغة الإيطالية، وكيف تحوَّلَتْ إلى ما يُسمَّى «الأسلوب الجميل الجديد»، ويفتقر تحليل دونك إلى المناقشة اللازمة للروابط ما بين الصور الأولى للقصائد الغنائية باللغة البروفنسالية واللغة القطالونية وبين الشِّعر العربي، ولكن غيره قد قام بهذه المهمة. وأما اللافت للنظر في دراسة دونك فهو أنه لا يناقش الدور الذي لعبته الترجمة في تطوير القصيدة الغنائية وانتشارها. ولكننا إن لم نفترض أن جميع المنشدين والشعراء كانوا يتكلمون لغاتٍ كثيرة، فلا بد أن الترجمة كان لها دورها باعتبارها نشاطًا جوهريًّا.

ومن شأن مدخل دراسات الترجمة في تناوُل القصيدة الغنائية أن يستخدم منهجيةً مقارنة مماثلة لمنهجية دونك، وإن كان هذا المدخل سوف يطرح أسئلةً مختلفة، ومن شأنه أيضًا أن ينظر في تطوُّر كل شكلٍ أدبي من حيث تغيُّر الأنساق الاجتماعية في شتَّى أرجاء أوروبا (نهاية الإقطاع، ونشأة المدينة الدولة) ومن حيث تاريخ اللغة؛ إذ إن نشوء اللغات المحلية في أوروبا كان مرتبطًا بالترجمة، مثلما حدث بعد عدَّة قرون، في عصر النهضة، حين كان ارتفاع مكانة اللغات المحلية وبلوغها منزلةً تُضارِع منزلة اللغات الكلاسيكية مصحوبًا أيضًا بالنشاط المحموم في الترجمة، لم تكن الترجمة على الإطلاق عملًا هامشيًّا، بل كانت في قلب عمليات التحول للأشكال الأدبية وذات صلةٍ وثيقة بظهور اللغات المحلية.

واقترحَ إيفين-زوهار القيام بدراسةٍ منهجية للظروف التي تُمكِّن الترجمة من الظهور في ثقافةٍ من الثقافات، فقال بألفاظٍ تُثير الخلاف إننا نستطيع أن نلاحظ توافُر ظروفٍ معيَّنة كلما حدث نشاطٌ رئيسي في الترجمة، وهي:

(أ) إن كان النظام المتعدِّد لم يتبلور بعد؛ أي عندما يكون الأدب «حديث العهد»؛ أي بسبيله إلى ترسيخ أقدامه؛ (ب) عندما يكون الأدب «هامشيًّا» أو «ضعيفًا» أو يجمع بين هذا وذاك، و(ﺟ) عند وجود «نقط تحوُّل»، أو أزمات، أو حالات فراغٍ أدبي.

(إيفين-زوهار، ١٩٧٨م أ)

ونحن نجد هذه المقولة اليوم ساذجةً إلى حدٍّ ما، فما معنى تعريف أحد الآداب بأنه «هامشي» أو «ضعيف»؟ إن هذه الألفاظ التقييمية تُثير شتَّى أنواع المشاكل، هل فنلندا «ضعيفة» مثلًا، أو إيطاليا، ما دامت كلتاهما تتميَّز بغزارة الترجمة؟ وفي مقابل هذا هل المملكة المتحدة «قوية» و«رئيسية» لأنها لا تترجم إلا أقل القليل؟ هل هذه المعايير أدبية أم سياسية؟ وهذه هي الصعوبة نفسها التي يواجهها الباحثون العاملون في إطار مصطلحاتٍ معيَّنة مثل «الأقلية/الغالبية»، بطبيعة الحال، ولكن على الرغم من سذاجة المقولة، فإنها ذات أهميةٍ مؤكَّدة؛ إذ يمكن توسيع نطاقها بحيث تصبح دعوةً إلى إعادة التفكير في مناهج وَضْعِنا لأشكال التاريخ الأدبي، وكيفية رسمنا لخريطة القوى التي تُشكِّل الماضي والحاضر.

لقد فَتَحَتْ نظرية «تعدُّد النُّظُم» دروبًا بالغة الكثرة أمام الباحثين في دراسات الترجمة، إلى الحد الذي لا يجعلنا نُدهَش من هيمنتها على التفكير في العقد اللاحق؛ إذ بدأ إنجاز بحوثٍ جديدة بالغة التنوُّع، مثل الدراسة المنتظمة لتاريخ الترجمة وعملية الترجمة، وإعادة نشر ما قاله المترجمون وما قالته نظرية الترجمة في العهود السابقة، وكان هذا الضرب من العمل موازيًا للبحوث المُماثِلة في الدراسات النِّسْوية، وخصوصًا في النوع الذي يُعتبَر «مختفيًا عن التاريخ».

وتلا ذلك إجراء عددٍ كبير من البحوث القيِّمة، الوصفية في جوهرها، ومن الدراسات المقارنة القائمة على النموذج الذي وضعه هومز، والخاص بتحديد مرَّات التوافق فيما بين النصوص، من أجل الارتقاء بتحليل استراتيجيات المترجمين (هومز، ١٩٨٨م).

كما تعرَّض مدخل «تعدُّد النُّظُم» لبعض الانتقاد، خصوصًا لأنه ابتعد ابتعادًا كبيرًا عن النص المصدر والسياق المصدر، وحَوَّل الاهتمام إلى النظام المستهدَف. وكان ذلك محتومًا؛ إذ كان جانبٌ من التفكير في إطار تعدُّد النُّظُم في بداية عهده يتمثَّل في الابتعاد عن القول بوجود أدبٍ معتمَد مسيطِر. وهكذا كان التركيز على حظوظ أحد النصوص [المترجَمة] في السياق المستهدَف يعني تنحية المشكلات الخاصة بمكانة النص المصدر. ولكن التوسُّع في البحوث جعل دارسي الترجمة يشْرَعون في فحص المجالات التي كانت مُهَمَّشةً في الماضي، وعلى غِرار ذلك، كان العمل المبكِّر في مجال الدراسات الثقافية يميل إلى الطعن [في الهيمنة] ومعارضتها؛ إذ وقف موقف المُناهَضة الصارمة لمفهوم دراسة النصوص المعتمَدة، داعيًا إلى اتخاذ منظورٍ أدبي أوسع نطاقًا يضمُّ الأدب الشعبي (بل ويُؤكِّده حقًّا).

وبحلول نهاية الثمانينيات كان مجال دراسات الترجمة زاخرًا بالأحداث، كما شهدت تلك الفترة نشاطًا كبيرًا في هذا المجال خارج أوروبا؛ إذ إن نظرية تعدُّد النُّظُم، على الرغم من فائدتها لنا بسبب حثِّها لنا جميعًا على التفكير بطرائقَ جديدةٍ في التاريخ الثقافي، كانت منتجًا أوروبيًّا. ولكن العمل في كندا، والهند، والبرازيل، وأمريكا اللاتينية الخاص بالنظر في القضايا الأيديولوجية المحيطة بالترجمة — بطرائقَ بالغة التعقيد — لم يتخذ نظرية تعدُّد النُّظُم نقطة انطلاقٍ له، فاهتمامات أمريكا اللاتينية الخاصة بالعلاقة بين النصوص المصدر والنصوص المستهدَفة قد اتَّسَع نطاقها لتشمل العلاقة بين القوى الاستعمارية وبين الخاضعين للاستعمار، ويناقش راندول جونسون في مقالٍ له عن حركة «آكلي لحم البشر» البرازيلية، بعنوان «استخدام لغة توبي أو عدم استخدامها: أكل لحوم البشر والنزعة القومية في الأدب البرازيلي المعاصر» استعارةَ أكل لحم البشر باعتبارها تعبيرًا عن الهُوِيَّة الثقافية [ولغة توبي هي اللغة التي يستخدمها السكان الأصليون في البرازيل]. ويقول جونسون:

إن هذه الحركة تُمثِّل — مجازيًّا — موقفًا جديدًا تجاه العلاقات الثقافية مع القوى المهيمنة؛ فلقد أصبح من المُحال استخدام مصطلحَي المحاكاة والتأثير بدلالاتهما التقليدية، فأعضاء الحركة المذكورة لا يريدون نَسْخَ الثقافة الأوروبية بل التهامها، مُستَغِلِّين جوانبها الإيجابية، رافضين جوانبها السلبية، بحيث يخلقون ثقافةً قومية أصلية تصبح مصدرًا للتعبير الفني بدلًا من أن تكون وعاءً لأشكال التعبير الثقافي التي نشأت في مكانٍ آخر.

(جونسون ١٩٨٧م)

ولا يتَّسِع المقام هنا للدخول في دقائق حُجَّة «أكل لحوم البشر» بكل تعقيداتها، ولكنها مهمةٌ لأنها تُقدِّم إلينا استعارةً تقوم بوضوحٍ على مذهب «ما بعد الاستعمار» ويمكن تطبيقها على تاريخ النقل الأدبي وتاريخ الترجمة؛ فالأفكار التقليدية عن الترجمة تقول إنها في جوهرها «نسخةٌ» منقولة عن «أصلٍ» ما، ونستطيع اليوم أن نرى أن مثل هذه المصطلحات ذات «شحنة» أيديولوجية، كما نستطيع أيضًا أن نرى أنها نشأت في لحظةٍ زمنية معيَّنة، ولكنَّ مما له دلالته أن البلاد المستعمَرة [بفتح الميم] كان يُنظَر إليها في أحيانٍ بالغة الكثرة باعتبار أنها «نسخة» من «الوطن الأم»؛ أي الأصل، وأيُّ طعنٍ في فكرة الأصل والنسخة المنقولة عنه، بكل ما يترتَّب على ذلك من تحديدٍ لمنزلة كلٍّ منهما يُعتبَر فعليًّا طعنًا في رؤية العالم القائمة على المركزية الأوروبية، وقدَّم دعاة الحركة المذكورة استعارة أكل لحوم البشر، وهي صورة التهامٍ طقسي يتحكم فيه مَن يلتهم غيره، للدلالة على إعادة تفكير الشعوب المستعمَرة [بفتح الميم] في علاقتها بالمستعمِر [بكسر الميم] الأصلي. وهذا منظورٌ ينتمي بوضوحٍ إلى مذهب «ما بعد الاستعمار».

وينطبق ذلك أيضًا على مفهوم الترجمة الذي تُقدِّمه شيري سايمون عندما تقول:

إن المبادئ الشِّعرية للترجمة تنتمي إلى إدراك وجود مذهبٍ جماليٍّ يقوم على التعدُّدية الثقافية؛ فالكِيان الأدبي يتعرَّض للتفتيت، بطريقةٍ مُماثِلة للجسد الاجتماعي المعاصر.

(سايمون، ١٩٩٦م أ)

والعبارة الرئيسية هنا هي «التعدُّدية الثقافية». وهكذا فإن المنظور من زاوية ما بعد الاستعمار يجعل أي قولٍ بوجود حدودٍ ثابتة قولًا مشكوكًا فيه، وتصبح الحدود قلِقةً مُزَعْزَعة، ونحن مضطرُّون إلى أن نقبل ما تقول تيجاسويني نيرانجانا بأنه استراتيجيات الاحتواء الناجمة عن الترجمة؛ إذ تقول: «إن الترجمة تدعم الصور المهيمنة للمستعمَرين [بفتح الميم] وتساعدهم على اكتساب ما يُسمِّيه إدوارد سعيد صُوَرًا تُمثِّلهم، بحيث تصبح كِيانات بلا تاريخ» (نيرانجانا، ١٩٩٢م).

وقد يقول قائلٌ «رُوَيْدَكَ يا صاحِ!» أوَلم ينبع تيارٌ فكريٌّ كاملٌ عن الترجمة من العمل الثقافي الذي نهض به مترجمو الكتاب المقدس مثل يوجين نايدا؟ فعلًا، هذا صحيح، ولكن أفكار نايدا عن الثقافة مُستقاة من الأنثروبولوجيا، ولا أظنُّنا بحاجةٍ إلى التذكير بأن الأنثروبولوجيا كانت مُنحازةً إلى أوروبا حتى عهدٍ جِدُّ قريب، أضِف إلى هذا أن عمل نايدا في مجال الترجمة، على روعته، يهدف إلى تحقيق غرضٍ محدَّد؛ ألا وهو ترجمة نصٍّ مسيحي بهدف إقناع غير المسيحيين بوجهة نظرٍ روحية مختلفة، فكتابه العادات والثقافات له عنوانٌ فرعي هو «الأنثروبولوجيا للمُبشِّرين المسيحيين»، والعبارة الأولى في الكتاب تقول: «كان المبشِّرون الصالحون على الدوام أنثروبولوجيين مُجِيدين» (نايدا، ١٩٥٤م).

وأما إذا عجز أحدٌ عن إدراك الفرضيات الأيديولوجية الداعمة لجانبٍ كبير من التفكير الأنثروبولوجي، فينبغي أن ندعوه للنظر في الحادثة الشهيرة (أو المؤسفة) التي يرويها وولي سوينكا، في كتابه الأسطورة والأدب العالمى الإفريقي؛ إذ يقول إنه حاول في أوائل السبعينيات إلقاء سلسلةٍ من المحاضرات عن الأدب الإفريقي عندما كان أستاذًا زائرًا في جامعة كيمبريدج. ولم يُسمَح له بإلقاء المحاضرات في قسم اللغة الإنجليزية، وأخيرًا أوجد المسئولون مكانًا له في قسم الأنثروبولوجيا الاجتماعية. ويقول في ذلك الكتاب إن قسم اللغة الإنجليزية «لم يكن يؤمن بوجود وحشٍ مثل الأدب الإفريقي» (سوينكا، ١٩٧٦م)، ويتجه كثيرٌ من الأوروبيين إلى وضع أية ثقافةٍ غير أوروبية، وبصورةٍ آليَّة، في مجال «الأنثروبولوجيا»، وإلى دراسة ثقافات غير الأوروبيين وتقييمها باعتبارها «الآخَر»؛ فالمعيار كان أوروبيًّا.

ولستُ أُهاجِمُ الأنثروبولوجيا الثقافية بصورتها المُطلَقة، فهي تتضمَّن وجهات نظرٍ متعدِّدة، كما نشهد الآن تقارُبًا أشد بين الأنثروبولوجيا الثقافية ودراسات الترجمة. وأما الذي أريده وحسب فهو القول بأن اختصاصات «دعاة الثقافة» الأوائل في دراسات الترجمة كانت قائمةً على منظورٍ أنثروبولوجي ذي تركيزٍ أوروبي لا من منظور الدراسات الثقافية، وهو المنظور الذي لم يتحقَّق إلا بعد ذلك.

فلننظر الآن إلى نشأة الدراسات الثقافية وتطوُّرها، المعتقَد بصفةٍ عامَّة أن هذا المجال قد ظهر أوَّلًا في الستينيات، وأدَّى إلى نشأته نشر سلسلةٍ من النصوص التي وضعها عددٌ من الأكاديميين البريطانيين العاملين في الجامعات ومعاهد تعليم الكبار؛ إذ نشر ريتشارد هوجارت كتابه «فوائد التعليم» عام ١٩٥٧م، وتلاه كتاب رايموند ويليامز الثقافة والمجتمع، وكتاب أ. ب. طومسون نشأة الطبقة العاملة الإنجليزية في عام ١٩٦٣م، وأنشأ هوجارت مركز الدراسات الثقافية المعاصرة في جامعة برمنجهام في عام ١٩٦٤م، وباقي القصة، كما يُقال، معروف.

ولم يكن العمل الذي قام به هوجارت، وويليامز، وطومسون، يُمثِّل مدرسةً ما، أو موقعًا للتفكير الاستراتيجي عند نشر كُتُبِهم أول مرة، ولم يبدأ النظر إليهم باعتبارهم مجموعةً متجانسة إلا في وقتٍ لاحق، بسبب اهتمامهم المشترَك بجوانب النظام الطَّبَقي الإنجليزي والتزامهم بإعادة تعريف مصطلح «الثقافة». وكانت نقطة انطلاقهم في الفترة التالية للحرب إدراكهم لوجود فجوةٍ في الحياة الفكرية في بريطانيا؛ ألا وهي عدم وجود فكرة «عريضة» عن الثقافة تستطيع تجاوُز الحدود الإقليمية والطَّبَقية، وهاجم رايموند ويليامز، بصفةٍ خاصَّة، أسلوب استخدام الناقد ف. ر. ليفيز لمصطلح «الثقافة» في وصف الأشكال الثقافية الرفيعة وحدها. وكانت حُجَّة ويليامز تقول إننا لا يمكن أن نقبل تعريفًا للثقافة يتجاهل الثقافة الشعبية التي تُعبِّر عن حياة الطبقة العاملة، فقال في كتابه الثقافة والمجتمع إن العالم قد بلغ الآن مرحلةً من التعقيد لا تسمح بأن يزعم فردٌ أنَّ لديه الفهم الكامل والمشاركة الكاملة فيها؛ ومن ثَمَّ فلا يمكن — أو لا ينبغي — إيلاء الأولوية لمنظورٍ أوحد:

سوف تعتمد أي حضارةٍ يمكن التنبُّؤ بها على ضروبٍ بالغة التنوع من المهارات الشديدة التخصص، وهي التي سوف تقتضي، في المجالات المحدَّدَة لإحدى الثقافات، تفتيت الخبرة. وإذا وُجِدَتْ ثقافةٌ مشترَكة في عصرنا هذا فلن تتمثَّل في المجتمع الشامل الذي تُصوِّره الأحلام القديمة، بل سوف تكون مُنَظَّمةً بالغة التعقيد، تتطلَّب مواصلة التعديل وإعادة رسم الصورة؛ وسوف يكون من المُحال على أي فرد، مهما بلغت موهبته، أن يشارك مشاركةً كاملة؛ لأن تعقيدها سوف يحُول دون ذلك.

(ويليامز، ١٩٥٧م)

ويطرح ويليامز هنا فكرة الثقافة المعقَّدة التي من المُحال إدراكها إدراكًا كليًّا. وقد كُتِبَ عليها أن تظلَّ دائمًا مُفَتَّتَة، فبعضها مجهولٌ وبعضها غير مُحقَّق، وهو يرى — مثل هوجارت — أن الثقافة مُتعدِّدَة الأصوات وفي حالة حركة، فهي كتلةٌ من العلامات التي تنتقل من مكانٍ إلى مكان، وليست كيانًا مفردًا. وكان الشغل الشاغل للدراسات الثقافية في أعوامها الأولى — أي أثناء سعي هذا الموضوع لإثبات وجوده داخل الجامعات — هو إعادة تقييم الثقافة الشفاهية وثقافة الطبقة العاملة، واستعادة مكانة كلمة «الثقافة» من أجل جماهير الشعب لا من أجل النُّخبة التي تُمثِّل أقلِّيَّة. وهكذا انتقل مركز برمنجهام المُشار إليه، بقيادة ستيوارت هول، خليفة هوجارت، إلى اعتباراتٍ تتعلَّق بالتمييز العنصري وبين الجنسين أيضًا. وهكذا تضاءلَ طابعه الإنجليزي الخاص وازداد انتفاعه بالدراسات النظرية في القارَّة الأوروبية.

وما فَتِئَ أنطوني إيستهوب يدعو، منذ زمنٍ بعيد، إلى اعتبار الانتقال من الدراسات الأدبية إلى الدراسات الثقافية عملًا محتومًا متواصِلًا، وقد نشر أخيرًا مقالًا بعنوان «ولكن ما الدراسات الثقافية؟» يرصد فيها تحوُّلات الدراسات الثقافية منذ أواخر الخمسينيات، قائلًا: إنها قد مرَّت بثلاث مراحل فعلية، فكانت الأولى هي التي يُطلَق عليها المرحلة الثقافية في الستينيات، والثانية المرحلة البِنْيوية في السبعينيات، والثالثة مرحلة ما بعد البِنْيوية/المادِّية الثقافية في السنوات العشرين الأخيرة [من القرن العشرين] (إيستهوب، ١٩٩٧م)، وتتفق هذه المراحل الثلاث مع مراحل مختلفة في تثبيت أقدام الموضوع باعتباره مبحثًا أكاديميًّا. فأما المرحلة الثقافية فتُعْنَى بالفترة التي كان التحدي الرئيسي فيها يتمثَّل في استيلاء النُّخبة الأقلِّيَّة على مصطلح الثقافة. وكان هدفها توسيع مفهوم الثقافة حتي تتضمَّن نصوصًا أخرى بخلاف النصوص المعتمَدة. وكانت المرحلة البِنْيوية سِمَةً للفترة التي تحوَّلَ فيها الاهتمام إلى البحث في العلاقة بين الظواهر النصية وبين الهيمنة. وأما المرحلة الثالثة فيتجلَّى فيها الاعتراف بالتعدُّدية الثقافية.

وهذا التقسيم الثلاثي الذي يُمثِّل الخطوط العريضة لسلسلة التحوُّلات في التركيز، ذات الدلالة البالغة العُمق، في دراسة الأدب وفي دراسة الثقافة أيضًا، يمكن تطبيقه أيضًا على دراسات الترجمة في السنوات العشرين الماضية تقريبًا؛ فالمرحلة الثقافية يمكن أن يُوصَف بها عمل نايدا. وربما أيضًا عمل بيتر نيومارك، إلى جانب عمل بعض الباحثين مثل كاتفورد أو جورج مونان؛ إذ لا يمكن إنكار قيمة محاولاتهم للتفكير الثقافي، واستكشاف المشكلة المتمثِّلة في كيفية تعريف التعادل، ومغالبة القول بعدم إمكان الترجمة لغويًّا في مقابل عدم إمكانها ثقافيًّا، وأما المشكلة التي كان على الموجة التالية من الباحثين في الترجمة أن يواجهوها في عمل مَن سبقوهم فكانت اتِّسامه بالبراجماطيقية وانعدام المنهجية إلى حدٍّ كبير، إلى جانب عدم اهتمامه بالتاريخ.

ويمكن وصف مرحلة تعدُّد النُّظُم أيضًا بأنها مرحلةٌ بِنْيوية؛ إذ ظلَّت النُّظُم والأبنية تشغل التفكير في هذا المجال زمنًا معيَّنًا، وربما كنا قد استخدمنا اللغة المجازية وتحدثنا عن «رسم الخرائط» (هومز) و«التيه» (باسنيت) أو حتى «الانكسارات» (ليفيفير) ولكن انشغالنا الأكبر كان بمَدخلٍ يتَّسِم بقدرٍ أكبر من المنهجية في دراسة الترجمة وممارستها، وبينما كانت دراسات الترجمة تعتنق نظرية تعدُّد النُّظُم، كانت الدراسات الثقافية تزيد من تعمُّقِها في نظرية العلاقة بين الجنسين ودراسة ثقافات الشباب، كما بدأت الابتعاد عن التركيز على إنجلترا بوجهٍ خاص، واتَّسَع نطاق الدراسات الثقافية بسرعةٍ في الثمانينيات في العديد من مناطق العالم، وخصوصًا في الولايات المتحدة وفي كندا وفي أستراليا، فتغيَّر طابعها واتجهت إلى المُواءَمة مع كل مكانٍ تنتقل إليه، فأَدخلَتْ في نطاقها المسائل الخاصة بالهُوِيَّة الثقافية، والتعدُّد الثقافي، والتعدُّد اللغوي، فابتعد تركيزها عن المشاغل البريطانية الخاصة في السنوات الأولى. وأما ما تبقَّى من الدراسات الثقافية في السياق البريطاني، فيمكن وصفُه بالمادية الثقافية، وهي التي يقول ألان سنفيلد إنها البديل البريطاني الأصيل للتاريخية الجديدة في أمريكا (دوليمور وسنفيلد، ١٩٨٥م).

ويُحاول ويل سترو في مقالٍ عنوانه «تغيُّر مواقع الحدود، وانحدار الأنساب» أن يُلخِّص ما حدث للدراسات الثقافية في الولايات المتحدة، قائلًا: إن الدراسات الثقافية «كانت تُمثِّل اتجاه عددٍ من مجالات البحث في العلوم الإنسانية» إلى شواغل ومناهج كان يُرى في الماضي أنها تنتمي لعلم الاجتماع.

أي — مثلًا — إلى دراسة إثنوغرافيا الجماهير في دراسات أجهزة الإعلام، أو دراسة التشكيلات الفكرية والسلطة المؤسسية في التاريخ الأدبي، أو طرائق وصف بناء الحيِّز الاجتماعي في ضُروبٍ منوَّعة من الأشكال الثقافية.

(سترو، ١٩٩٣م)

كما يُشير أيضًا إلى أن الدراسات الثقافية أتاحت الفرصة لِتَقَدُّم الدراسات الإنجليزية ودراسات الأفلام السينمائية، وهي الدراسات التي يقول إنها «نجحت في تجاوُز مراحل ما بعد البِنْيوية في تطوُّرها»، وأنا أفهم من هذا أن هذه الدراسات كانت قد وقعت في شبكة فكر ما بعد البِنْيوية، وهو الذي يفرض قيودًا تشبه قيود المنهج الشكلي القديم في الحد من الحركة؛ ومن ثَمَّ أصبحت هذه الدراسات عاجزةً عن التعامل مع الطرائق الحيوية الجديدة للتفكير حول الممارسات النصية التي ظهرت بوضوحٍ وجلاء في سائر مناطق العالم.

وهكذا اتجهت الدراسات الثقافية في مرحلتها الدولية الجديدة إلى علم الاجتماع، وإلى الإثنوغرافيا، وإلى التاريخ، وعلى غِرار ذلك اتجهت دراسات الترجمة إلى الإثنوغرافيا والتاريخ وعلم الاجتماع من أجل تعميق مناهج تحليل ما تتعرَّض له النصوص في أثناء ما يمكن تسميته «النقل عبر الثقافي» أو الترجمة. وكانت لحظة التلاقي بين الدراسات الثقافية ودراسات الترجمة قد حَلَّتْ في الوقت المناسب تمامًا لكلا المجالين؛ إذ كانت المناظرة الكبرى في التسعينيات تدور حول العلاقة بين العولمة من ناحية؛ أي بين ازدياد الترابط في النظام العالمي من حيث التجارة والسياسة والاتصالات، وبين ارتفاع موجة النزعات القومية من جانبٍ آخر، ومن المقطوع به أن العولمة حركةٌ دائبة، ولكنها أيضًا تواجه معارضةً هائلة، فكما يقول ستيوارت هول، يكمُن معنى الهُوية في تحديد «ماهِيَّة» كل فردٍ في ضوءِ ما يختلف عن هذه «الماهِيَّة»:

فكونك إنجليزيًّا يعني أن تعرف نفسك قياسًا بالفرنسيين، وبأبناء البحر المتوسط ذوي الدم الحار، والنفس الروسية ذات العاطفة المشبوبة، والمجروحة؛ أي إنك تطوف بالكرة الأرضية كلها. فإذا عرفتَ ماهِيَّة كل فردٍ آخر، عرفت أن ماهيَّتَك تُمثِّل ما تختلف فيه عن هؤلاء.

(هول، ١٩٩١م)

أي إن الدراسات الثقافية قد انتقلت — إن شئنا الإيجاز — من بداياتها ذات الطابع الإنجليزي الخالص إلى اكتساب طابعٍ دوليٍّ متزايد، واكتشفت البُعد المقارن اللازم لما يمكن أن نُسمِّيه «التحليل المشترَك بين الثقافات»، وانتقلت دراسات الترجمة من المفهوم الأنثروبولوجي للثقافة (وإن يكن مفهومًا بالِغَ التشوُّش) إلى مفهوم الثقافات، بصيغة الجمع، وتخلَّت الدراسات الثقافية — من حيث المنهجية — عن مرحلتها التبشيرية باعتبارها قوةً مُعارِضةً للدراسات الأدبية التقليدية وأصبحت تنظر بدقَّةٍ أكبر في قضايا علاقات الهيمنة الكامنة في إنتاج النصوص، وعلى غِرار ذلك تقدَّمَتْ دراسات الترجمة فانتقلت من المناقشات التي لا تنتهي حول «التعادل» إلى مناقشة العوامل التي تتحكَّم في إنتاج النصوص عبر الحدود اللغوية. وهكذا فإن التحوُّلات التي مرَّ بها كلٌّ من هذين المجالين البَيْنِيَّين على امتداد العقدين أو العقود الثلاثة المُنصَرِمة كانت مُتماثِلةً إلى حدٍّ كبير. وكانت تسير في الاتجاه نفسه؛ أي نحو زيادة الوعي بالسياق الدولي وضرورة التوازن ما بين «الخطاب» المحلي و«الخطاب» العالمي، وتوسُّل كلاهما منهجيًّا بالسيميوطيقا لاستكشاف الإشكاليات التي يكتنف وضع الشفرات وحلَّها.

وأما العلاقة التي كثيرًا ما شابَها التوتُّر بين الدراسات الأدبية وعلم الاجتماع — وهي التي اتَّسَمَتْ بها المناقشات في الدراسات الثقافية — فقد كان لها ما يُوازيها في دراسات الترجمة؛ ألا وهي العلاقة المتوتِّرة بين الدراسات الأدبية وعلوم اللغة. ولكننا نرى من جديدٍ هنا تغيُّرات لها مغزاها؛ فلقد اتجهت علوم اللغة أيضًا إلى الثقافة؛ إذ إن جانبًا كبيرًا من البحوث الجارية حاليًا في المجال الواسع لعلوم اللغة ذو قيمةٍ كبرى للترجمة؛ فالبحوث في وضع المعاجم، وفي لُغَويات النص، وفي تحليل الأُطُر، تُبيِّن أهمية السياق ويتجلَّى فيها مدخلٌ ثقافيٌّ أوسع نطاقًا من منهج اللغويات التقابُلية بالأسلوب القديم في الماضي.

ويُركِّز أحد التيارات الرئيسية للنقاش داخل الدراسات الثقافية على فكرة القيمة — سواءٌ كانت قيمةً جمالية أو مادية — باعتبارها خاضعةً للثقافة: كانت الفكرة القديمة التي تقول إن النصوص تتمتَّع بقيمةٍ ذاتية عالمية خاصَّة بها قد أعانت تلك النصوص على البقاء على مَرِّ العصور. وهكذا كان المُتَّبَع تقديم نصوص بعض الكُتَّاب، مثل هوميروس أو شيكسبير، باعتبارها نصوصًا صلبة متجانسة عالمية، كما أن فكرة «الأدب المعتمَد» تقوم على العظمة العالمية لكبار الكُتَّاب الذين تتخطَّى أعمالهم حدود الزمن، وتُقدِّم لنا. إن شئنا استخدام عبارة الناقد ليفيز، «أجمل الخبرات البشرية في الماضي» (ليفيز، ١٩٣٠م)، ولكن تطوُّر الدراسات الثقافية أوجد الإطار الذي برزت فيه قضية البناء الواعي للمُثُل الجمالية العُليا وأكسبها دلالتها الخاصة، فإلى جانب إعجابِنا بشيكسبير أصبح لِزامًا علينا أن نطرح أسئلةً حول كيفية معرفة ما نعرفه عن شيكسبير وعن مسرحياته، وعن العوامل الأخرى، المختلفة عن المعايير الجمالية المحضة، التي نهضت بدورٍ في هذا الصَّدَد، وتُطرَح هذه الأسئلةُ نفسُها في مجال دراسات الترجمة، حيث اتَّضَح أن نقل النصوص عبر الثقافات لا يعتمد قَطْعًا على القيمة الذاتية المفترَضة للنص وحدها.

ولو أننا نظرنا إلى هوميروس وشيكسبير من زاويةٍ أخرى بخلاف مكانتهما الأدبية، سواءٌ كان ذلك من داخل الدراسات الثقافية أو دراسات الترجمة، فسوف تَبرُزُ لنا أسئلةٌ من شتَّى الأنواع. ففي حالة هوميروس ربما احتجنا إلى أن نسأل كيف وصلتنا النصوص القديمة، وما مدى تمثيل ما وصَلَنا للآداب القديمة، ما دام من الواضح أن ما فُقِدَ من هذه النصوص يزيد كثيرًا عما بين أيدينا في الوقت الحاضر، وأن نتساءل عن الكيفية المحتمَلة لقراءتها أصلًا، وعمَّن قرأها، وعمَّن كلَّف الشاعر بكتابتها، وعمَّن دفع أجره، والغرض الذي ربما قامت به في سياقها الأصلي. فإذا تجاوزنا هذا الاستقصاء الأثري كان علينا أن ننظر في تاريخ منزلة هوميروس في الآداب الغربية، وأن نهتم اهتمامًا خاصًا بإعادة اكتشاف عالم اليونان القدماء أثناء عصر التنوير الأوروبي، واستخدام النماذج اليونانية في التعليم إبَّان القرن التاسع عشر. وسوف يكون علينا أيضًا أن ننظر في تاريخ ترجمات هوميروس، والدور الذي لعِبَتْه هذه الترجمات في مختلف النُّظُم الأدبية. وسوف يكون علينا — وربما يكون لهذا الأمر دلالةٌ قصوى اليوم بسبب التدهور في تعلُّم اللغة اليونانية القديمة — أن ننظر في سبب استمرار احتلال هوميروس لهذا الموقع الرفيع على سُلَّم المراتب الأدبية وكتاباته لا يكاد يقرؤها أحدٌ قط، إلا من خلال الترجمة، بطبيعة الحال.

وينطبق ذلك نفسه على شيكسبير؛ إذ لا بد لنا أن ننظر في الأسلوب المركَّب الذي وُضعتْ به مسرحياته أصلًا (أي إذا كانت كُتِبَتْ قبل التجارِب المسرحية مع الممثِّلين، أو أثناء التجارِب المسرحية ثم سجَّلها على الورق شخصٌ ما، أو إذا كانت قد كُتِبَتْ مُنَجَّمَةً في صورة أدوار الممثِّلين من الأفراد الذين يتولَّون بأنفسهم تعديلها، على غِرار سيناريوهات الكوميديا ديلارتي الإيطالية)، وأن ننظر في المصادر المستخدمة أثناء كتابتها، وفي تاريخ تحقيق نصوص المسرحيات ونشرها، وهي مهمةٌ أكثر تعقيدًا وتركيبًا، وفي مكانة شيكسبير قبل القرن الثامن عشر، والرَّوَاج العظيم الذي لاقته نصوصه في مُسْتَهَلِّ الحركة الرومانسية، وخطوات «التقديس» التدريجي الذي تحقَّق منذ ذلك الحين. وسوف يكون علينا أيضًا أن ننظر في صور شيكسبير البالغة الاختلاف التي تظهر في الثقافات المختلفة: صورة المؤلف السياسي الراديكالي في أوروبا الوسطى والشرقية — مثلًا — أو صورة الكاهن الأكبر للمثل الأعلى للإمبراطورية البريطانية، وهي الصورة التي صُدِّرَتْ إلى الهند والمستعمَرات، وفي غِمار بحثنا في كيفية خلق هذه الصور المختلفة لشيكسبير نجد أننا نعود إلى الدور الذي لعبته الترجمة.

ويشترك مجالا دراسات الترجمة والدراسات الثقافية في اهتمامهما الأساسي بمسائل علاقات السلطة وإنتاج النصوص، ويزداد صعوبةً قبول القول باحتمال وجود أية نصوصٍ خارج شبكةٍ لعلاقات السلطة، كلما ازدادت معرفتنا بالقوى الفعَّالة التي تتحكَّم في العالم الذي نعيش فيه، وبالقوى التي كانت تتحكَّم في العالم الذي عاش فيه أسلافنا. وكان أندريه ليفيفير قُبَيل وفاته يعمل على وضع نظريةٍ عن الشبكات الثقافية، استنادًا إلى عمل بيير بورديو وآرائه عن الرأسمال الثقافي، ومثل هذا النظام من شأنه أن يُبيِّن لنا بوضوحٍ أن النصوص تتعرَّض لشتَّى ضُروب التغيُّر في مكانتها عبر العصور المختلفة والثقافات المختلفة، وأن يساعدنا على إيضاح بعض التقلُّبات في التغيُّر المذكور من زاويةٍ تختلف عن زاوية القيمة الجمالية الأكبر أو الأقل.

ويعرف كل باحثٍ في دراسات الترجمة أن مقارنة ترجمات نصٍّ معيَّن، خصوصًا إذا كان هذا النص قد تُرجِمَ مرَّاتٍ عديدة، تُثبِت خطأ الزعم بالعظمة العالمية؛ فالترجمات التي يُحتفَى بها باعتبارها نهائيةً في لحظةٍ زمنية معيَّنة، يمكن أن تختفي فلا تترك لها أثرًا بعد بضع سنوات، ويحدث ذلك نفسه لشتَّى أنواع النصوص، ولكن قدرتنا على إدراك ما يحدث بوضوحٍ أقل من قدرتنا على إدراك التغيُّر عند النظر إلى ترجمات النص نفسه. لقد اختفى تمامًا عددٌ لا يُحصَى من أنجح المؤلفين اختفاءً تامًّا. ولا بد من تَكاتُف الجهود، على نحو ما نشهده في السياسات الواعية التي تُطبِّقها البحوث النِّسْوية لاكتشاف الكاتبات مثلًا، حتى نستطيع استرجاع النصوص المفقودة. وقد عبَّرَتْ عن ذلك شري سايمون بإيجازٍ قائلةً:

انكشفت حقيقة تلك المواقع التي قيل إنها عالمية (التقاليد العظمى للمذهب الإنساني، وشِرعة الكتب العظمى، والساحة الجماهيرية المرتبطة بالتواصل الديموقراطي، والنموذج الثقافي الذي يغدُو المَثَل الأعلى للمواطَنة ويعمل على بقائه) فاتَّضَح أنها تعبيرٌ في جوهره عن قِيَم ذكور الطبقة المتوسطة الأوروبيين البيض.

(سايمون ١٩٩٦م ب)

ولا تزال الروابط بين الدراسات الثقافية ودراسات الترجمة — إلى الآن — روابط غير متينة؛ إذ إن جانبًا كبيرًا من العمل في الدراسات الثقافية، خصوصًا في العالم الناطق بالإنجليزية، لا يزال يستند إلى لغةٍ واحدة، إلى جانب تركيز الاهتمام على فحص السياسات والممارسات الثقافية من داخلها. ومع ذلك فإننا نَلمَحُ اتِّجاهًا يشتدُّ ساعِدُه نحو الدراسات المشترَكة بين الثقافات. بل إن أقدامه قد ثبتت فعلًا في بعض المجالات مثل دراسات التمييز بين الجنسين، أو دراسات الأفلام السينمائية، أو دراسات أجهزة الإعلام، ولكن — وبصفةٍ عامَّة — إذا كان عالم دراسات الترجمة قد أبدى التباطؤ في استخدام المناهج التي نشأت داخل الدراسات الثقافية، فإن عالم الدراسات الثقافية قد أبدى تباطؤًا أكبر في إدراك قيمة البحوث في مجال الترجمة. ومع ذلك فإن أشكال التوازي بين هذين المجالين البَيْنِيَّين والتداخل بينهما ذات دلالةٍ كبرى لم تَعُدْ تسمح بتجاهلها. فإذا كان التوجه إلى الثقافة في دراسات الترجمة قد انطلق منذ أكثر من عشر سنوات، فإن التوجه نحو الترجمة في الدراسات الثقافية قد خطا الآن خُطواتٍ واسعة.

والممارسون في مجالَي الدراسات الثقافية ودراسات الترجمة يُدركون أهمية فهم عمليات التلاعب التي تجري في إطار إنتاج النصوص؛ فالكاتب لا يكتب في فراغٍ وحسب: فإنه — رجلًا كان أو امرأة — نِتاجٌ لثقافةٍ معيَّنة، ولحظةٍ زمنية معيَّنة، وتتجلَّى في كتابته بعض العوامل الأخرى — مثل الانتماء العِرْقي، وانتمائه إلى أحد الجنسين، وعمره وطبقته الاجتماعية — إلى جانب الخصائص الأسلوبية والشخصية التي تُميِّزه عن غيره، أضِف إلى ذلك أن الظروف المادية التي تُصاحِب إنتاج النص وبيعه وتسويقه وقراءته تنهض بدورٍ أساسي في هذا الصَّدَد. ويقول بورديو:

إن كل سلطةٍ قادرةٌ على فرض معانٍ معيَّنة، بل وأن تفرضها باعتبارها معانٍ مشروعةً من خلال إخفاء علاقات السلطة التي تُعتبر أساسًا لقوَّتها، تُضيف قوتها الرمزية إلى علاقات السلطة المذكورة.

(بورديو وباسيرون، ١٩٩٧م)

والترجمة — بطبيعة الحال — من الأساليب الأساسية لفرض المعنى مع إخفاء علاقات السلطة التي تكمُن خلف إنتاج ذلك المعنى. فإذا ضربنا المثل بالرقابة، كان من السهل علينا أن نرى كيف تفرض الترجمة الرقابة حتى وهي تزعُم أنها ترجمةٌ حرَّة صريحة للنص المصدر، ويسهُل على من يُقارن النص المترجم بالنص الأصلي أن يتبيَّن أدلة مثل هذه الرقابة فيما يتعلَّق بالنصوص المكتوبة، فكانت روايات إميل زولا، على سبيل المثال، تتعرَّض لقدرٍ كبير من الحذف والتعديل على أيدي المترجمين والناشرين عندما ظهرت بالإنجليزية أول مرة. وقد بدأ عددٌ من الباحثين، منذ عهدٍ قريب، ينظرون في أشكالٍ أخرى من الرقابة التي لا يتسنَّى إدراكها مباشرة، وخصوصًا في السينما، حيث يمكن مثلًا استخدام عوامل تقنية في حذف المادة التي لا تُعتبر مقبولة (كالقيود الخاصة بطبع الترجمة على الشريط، مثلًا، بسبب العدد المحدود من الشخصيات التي يمكن أن تظهر مع السطر الواحد من الحوار، أو الضرورة التي تُملِيها «الدبلجة» [أي إنطاق الممثِّلين بلغةٍ أخرى] وهي جَعْل الأصوات تتفق مع الحركات الجسدية الظاهرة على الشاشة). ومن الطريف كذلك أن نَحدس إن كان ظهور صناعات الدبلجة في بلدانٍ معيَّنة راجعًا في أوقات معيَّنة إلى وجود حكومات شمولية، لماذا نجد أن بلدانًا مثل إيطاليا وألمانيا واليونان وإسبانيا والاتحاد السوفييتي السابق والصين، وغيرها كثير من البلدان التي خضعت للنُّظُم الدكتاتورية أو العسكرية، قد أنشأت صناعات «الدبلجة» بدلًا من طبع الترجمة على الشريط؟ إذ إن الدبلجة تُلغِي الأصوات الأصلية، وتحدُّ من إمكان الإصغاء إلى لغاتٍ أخرى. وأما طبع الترجمة على الشريط فهو يُقدِّم، على العكس من ذلك، منظورًا مقارنًا، ما دام يسمح للجمهور أن يطَّلِع على النظامين المصدر والمستهدَف.

ويقول لورنس فينوتي إن الترجمة مهما يكن مكان أدائها أو دِقَّتُه أو كيفيته، تخضع دائمًا، وإلى حدٍّ ما، لبعض القيود:

إن كل خطوةٍ من خطوات الترجمة — من اختيار النصوص الأجنبية، إلى تنفيذ استراتيجيات الترجمة، إلى التحرير، إلى استعراض الترجمات وقراءتها — تمرُّ بوسيطٍ يتمثَّل في القِيَم الثقافية المتنوِّعة الجارية في اللغة المستهدَفة، ودائمًا ما تكون هذه ذات مراتبَ هَرَمِيَّةٍ من لونٍ ما.

(فينوتي، ١٩٩٥م)

أي إن الترجمة مشتبكةٌ دائمًا بمجموعةٍ من علاقات السلطة القائمة في السياق المصدر والسياق المستهدَف معًا، ومشكلات فك شفرة نصٍّ من النصوص تتعلَّق بأمورٍ أكبر بكثير من اللغة، على الرغم من أن أساس أي نصٍّ مكتوب هو اللغة، كما أن أهمية تفهُّم ما يحدث في عملية الترجمة تكمُن في قلب فهمِنا للعالم الذي نعيش فيه. وإذا كانت دراسات الترجمة قد زاد اهتمامها بالعلاقة بين النصوص المفردة والنظام الثقافي الأكبر الذي تُوضَع فيه هذه النصوص وتُقرَأ، فليس مما يدعو إلى الدهشة إذن أن يزداد النظر إلى الترجمة باعتبارها ممارسةً فعليَّة وتعبيرًا مجازيًّا في إطار الدراسات الثقافية، وخصوصًا في إطار نظرية ما بعد الاستعمار.

ويقوم هومي بهابها، في مقالٍ عنوانه «كيف تدخل الجدة العالم»، بإعادة قراءة فالتر بنيامين، وفحص دور الترجمة في التفاوض الثقافي (وإعادة ذلك التفاوض) قائلًا:

الترجمة هي الطبيعة الأدائية للتواصل الثقافي، فهي اللغة في حالة الحركة والفعل (التلفُّظ بالكلمات وأوضاعها) لا اللغة في موضعها الأصلي (المتلفَّظ به أو المفترض)، وعلامة الترجمة دائمًا ما تُعلِن أو تُحدِّد مختلف الأوقات والأماكن التي تَفصِل ما بين السلطة الثقافية وممارساتها الأدائية، و«الزمن» في الترجمة يكمُن في الحركة المذكورة للمعنى، وهو مبدأ وممارسة التواصل الذي يقول بول دي مان عنه إنه «يجعل الأصل يتحرَّك حتى ينزِعَ منه «القداسة» ويمنحه حركة التفتيت، وتجوال التشرُّد، ولونًا من المنفى الدائم.

(بهابها، ١٩٩٤م)

وهذه الصورة للترجمة باعتبارها علامةً على التفتيت، وعلى الزعزعة الثقافية والتفاوض الثقافي، صورةٌ تُمثل أواخر القرن العشرين تمثيلًا قويًّا. ولمَّا كانت اللغة الإنجليزية تُوسِّع من نطاق تأثيرها الدولي، فإن أعدادًا متزايدةً من الناس من خارج العالم الناطق بالإنجليزية يشاركون مشاركةً فعَّالة في أنشطة الترجمة، ولن ينقضي زمنٌ طويل حتى نرى أن الإنجليز الذين يتكلمون لغتهم الوطنية قد سُلِبُوا امتيازهم في عالمٍ يسُوده تعدُّد اللغات.

وإذن فما موقفنا الحالي على ضوء ذلك كله؟ الواقع أننا في موقفٍ يُتِيح لنا بكل يُسرٍ أن نمضي قُدُمًا. لقد بلغت دراسات الترجمة والدراسات الثقافية سنَّ الرشد؛ إذ دخل هذان المبحثان البَيْنِيَّان مرحلةً دولية جديدة. وقد قطعا شوطًا لا بأس به، ومنذ مدَّةٍ غير قصيرة، مبتعدَين عن بداياتهما التي كانت تتَّسِم بضيق النظرة السافر، وتركيزهما الأوروبي، ومتجهَين نحو الفحص الأعمق للعلاقة بين ما هو مَحَلِّيٌّ وما هو عالمي. وقد أصبح كلٌّ منهما الآن مجالًا شاسعًا بالغ التنوُّع، لا يوجد فيه اتفاقٌ في الآراء، وإن كان يخلو أيضًا من أي اختلافاتٍ جذرية قد تُهدِّدُه بالتفتيت أو التدمير من الداخل، وأمامنا الآن بوضوحٍ عدَّة مجالاتٍ تُتِيح زيادة التعاون المُثمِر فيها بين ممارسي هذين المبحثين البينيَّيْن.

  • لا بد من زيادة فحص عملية التثاقُف [التطويع الثقافي] التي تجري فيما بين الثقافات وكيفية بناء الثقافات المختلفة لصورها عن الكُتَّاب والنصوص.

  • لا بد من إجراء مزيدٍ من الدراسات المقارنة للطرائق التي تتحوَّل بها النصوص إلى رأسمالٍ ثقافي عبر الحدود الثقافية.

  • لا بد من زيادة فحص ما يُسمِّيه فينوتي «التركيز العِرْقي الظالم للترجمة»، وإجراء مزيدٍ من البحوث في الجوانب السياسية للترجمة.

  • لا بد من تجميع الموارد من أجل توسيع نطاق البحث في التدريب المشترَك بين الثقافات، وما يترتَّب على مثل هذا التدريب في عالم اليوم.

وليس من قَبيل المُصادَفة أن أدب الرحلات قد أصبح اليوم مجالًا بالغ الثراء أمام مَن يوَدُّ استكشافه من الباحثين في دراسات الترجمة والدراسات الثقافية؛ إذ يمكنهم أن يرَوا بأقصى درجةٍ من الوضوح في هذا النوع الأدبي الاستراتيجيات الفردية التي يستخدمها الكُتَّاب عَمْدًا لبناء صور الثقافات الأخرى التي يريدون لقُرَّائهم الاطِّلاع عليها.

وعندما أشار رايموند ويليامز إلى أنه من المُحال على أي فردٍ منا أن يُحيط إحاطةً كاملة بالصورة الكلية لشبكة العلامات المعقَّدة التي تُشكِّل الثقافة، فإنه قد حرَّرَنا في الواقع من الأسطورة القديمة التي تقول بوجود صورةٍ نهائية لأي شيء، ومقولته ترسم أيضًا طريق التقدُّم الذي يدعو إلى تطبيق مدخلٍ تعاوُنيٍّ، فما دام الفرد عاجزًا عن إدراك الصورة الكلية، فلا بد أن اجتماع عددٍ من الأفراد ممَّن يتمتَّعون بمجالات خبرةٍ متفاوتة واهتماماتٍ مختلفة سوف تكون له مزاياه. وقد سارت الدراسات الثقافية ودراسات الترجمة في اتجاه المدخل التعاوني، بإنشاء فِرَقٍ وجماعات بحثية، وزيادة عدد الشبكات الدولية وزيادة التواصل، والذي نستطيع أن نراه من واقِع الدراسات الثقافية ودراسات الترجمة اليوم أن زمن الأكاديمي المُنعَزِل القابِع في برجٍ عاجيٍّ قد انتهى إلى غير رجعة. بل إن الانعزال يُؤدِّي إلى نتائج عكسية في هذه المباحث البَيْنيَّة ذات الجوانب المتعدِّدَة؛ فالترجمة — على أية حال — نشاطٌ حواريٌّ بطبيعته نفسها، ما دام يشارك فيه أكثر من صوتٍ واحد، وتحتاج دراسة الترجمة، مثل دراسة الثقافة، تعدُّدَ الأصوات، كما يتشابه المجالان في أن دراسة الثقافة دائمًا ما تتطلَّب فحص عمليات التشفير وفك الشفرات التي تتكوَّن الترجمة منها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤