الفصل الأول

المنظر الأول

(تُرفع الستارة عن قصر الكونت فردريك وبه كنبة وكامل الأثاث.)

لوسيا :
يا حبيبًا ما درى أنـ
ـني مدى العمر أُحبُّه
ذاب قلبي في هواهُ
ليتَ شِعري! كيف قلبُه؟
يا تُرى أحظى بوصلٍ
أم يعزُّ اليوم قربُه؟
لَم أُطِق كتمان وجدي
فمتى يسهُل صعبُه؟
وأراه ويراني
بعد بُعدٍ طال كربُه
مَن مُجيري من غرامٍ
مزَّق الأحشاءَ عذبُه؟
ما احتيالي؟ ما احتمالي؟
فبَلائي جلَّ خَطبُه
وحبيبي ليس يدري
بالتي أفناها حبُّه
إن طَرْفي أصلُ دائي
في الهوى والذنب ذنبُه
لله من سلطان الغرام إذا تحكَّم فإنه يُذلُّ النفوس مهما كانت عزيزة، ويُخضع الرءوس مهما كانت سامية، ويُسوِّل للإنسان ارتكاب كل محظور، ولا يدعُه يبالي بأمرٍ من الأمور، كما زيَّن لي حب جان، وشغلَني بحبه عن كل إنسان، مع أني زوجة عمه الذي ربَّاه، بعدما أخذَت المنية أباه، وأنا أُحسب له كوالدة، ولا عذر لي بهذه المحنة الباردة، إذا ظهر للناس أمري، وانكشف للخاص والعام سري؛ فبأي وجه أظهر، أم بأي خيانة أُذكر، إذا طاوعتُ غرامي، وما باليتُ بآثامي، فيا نوائبُ اسحقيني، ويا منية خذيني، قبل ما أضِل، وأخطئ وأذِل، ربَّاه إنها لبليَّة تقرِّب المنية، وهوًى يُوهي القوى، ومصائبُ تُطيل العذاب، وغرامٌ يوالي الآلام، أوَّاه، وا عذاباه! جان .. جان، أطلتَ الأشجان، جان، ملكتَ الجَنان. قد تاه فكري، وحِرتُ في أمري، فإنا لله، ولا رادَّ لما قضاه.
جان يذيب القلب بالأشواقِ
وجدًا ويُحييه بطيب تلاقي
ومحاسن الوجنات منه لا يُرى
جانٍ سواي لها على الإطلاقِ
هو شمسُ حسنٍ قد أغض جماله
من رام نَيل القُرب بالإشراقِ
في ثغره بردٌ حوته صوارمٌ
كم فتَّرت أعضائي بالأشواقِ
ومجازُ سِرِّ جمالِه ما نالَه
من كان في علم الحقيقة راقي
أدريان.
أدريان : نعم.
لوسيا : اذهب وسلْ جان، هل يريد مقابلتي في هذا المكان؟
أدريان : سمعًا وطاعة يا مولاتي. (يخرج.)
لوسيا :
كيف خلاصي من هوًى
مازج روحي واختلطْ؟
في حُب من قيَّدَني
في أَسْره وما انبسطْ
يا بدرُ إن رُمتَ به
تشبُّهًا رُمتَ الشططْ
ودَعْه يا غُصن النقا
ما أنتَ من ذاك النمطْ
ما فيه من عيبٍ سوى
فتورِ عينَيه فقَطْ
يا قمرَ السعدِ الذي
لدَيه نجمي قد سقطْ
حاشاكَ ترضى لي بأن
أموتَ في الحب غلطْ

(يدخل جان.)

جان : أسعد الله أوقاتَكِ يا سيدتي.
لوسيا : مرحبًا بك يا عزيزي الوحيد.
جان : مُرِي، هل من حاجةٍ لك فأقضيَها؟
لوسيا : سلمتَ يا عزيزي فلا حاجة لي إلا أن أستأنس برؤياك وعذوبة ألفاظك؛ لأني في وحشة لغياب عمك الفخيم.
جان : لا أرى موجبًا لهذه الوحشة يا مولاتي؛ لأنك ناعمة البال هنيئة العيش، وغياب عمي لا يطول علينا، وعما قليل — إن شاء الله — تجتلي طلعته الزاهرة، فكوني مسرورة فرحانة، وها أنا يا مولاتي بين يديك فمُري بما ترغبينه، فأنا أقضيه في الحال.
لوسيا : تقضيه في الحال؟
جان : نعم.
لوسيا : بدون تأخير؟
جان : ولا تقصير.
لوسيا : مهما كان؟
جان : مهما كان.
لوسيا : ولو …
جان : ما معنى قولك ولو؟
لوسيا : أي ولو كلَّفتُك كل أمر؟
جان : نعم أفعله، ولو كان القبضَ على الجمر.
لوسيا : بارك الله فيك يا جان.
جان : وأنتِ سلمتِ إلى غاية الزمان.
لوسيا : أنا يسُرني أن أراكَ دائمًا أمامي.
جان : ها أنا يا سيدتي في خدمتك، ولا أعصي لك أمرًا.
لوسيا : أوَّاه! كيف أُظهر لديه حالي، وأُعلمه بسبب بلبالي؟ (سرًّا للمتفرجين.)
جان : ما لي أراك تتململين، كأنك يا مولاتي تتألمين؟
لوسيا : نعم إني مؤلمة، ومهجتي مكلمة، وتراني مجبورةً مكسورة، ومحزونةً مسرورة، وقريبةً بعيدة، وشقيةً سعيدة، فأوَّاه من الزمان وعناه!
جان : كيف تجمعين المناقضات؟ فدعينا من هذه المعميات، وصرِّحي بما تريدين، لأفعله في هذا الحين.
لوسيا : آه يا جان، هل تجهل حبي الشديد لك؟
جان : لا يا مولاتي لا أجهل حبك لي، وأعلم أني بينكِ وبين عمي، كأني بين أبي وأمي، وأذكر تربيتَه لي وعطفه عليَّ في كل حال، لا سيما وقد وعدَني بأن يزوِّجني بابنته أوجين، وأنتِ لا أنسى حنانكِ وإحسانكِ الواصل إليَّ، وأحترمك احترام والدةٍ شفيقة، وبأحوال ولدها رفيقة، فبارك الله بكما على الدوام، وحفظكما مدى الليالي والأيام.
لوسيا : أنا لا يكفيني خضوعُك يا جان، بل انظر إلى جسمي الذي براه الغرام، وقلبي الذي لا يسكنُهُ أحدٌ سواك مدى الأيام.
جان : ولأي شيء أسكُن في قلبك؟ فهل قلَّت علينا البيوت؟ إن أمرك عجيب!
لوسيا : لماذا تتعجب من أمري، وخالفتَ ما في فكري؟ انظر يا جان إليَّ.
جان : ها قد نظرتُ إليك، تكلَّمي فكُلِّي آذانٌ صاغية، وقلوبٌ واعية.
لوسيا : أنا أحبك يا جان.
جان : أما سمعناها من زمان؟ فهل عندك غير حبك لي شيء؟
لوسيا : نعم عندي.
جان : ما هو؟
لوسيا : هو أني أحبك حب وجد وغرام، لا حب تعظيم واحترام.
جان : إذن هو حب خيانة، لا حب صيانة وأمانة.
لوسيا : ويلاه، ماذا أقول؟
جان : قولي ما شئت يا كونتة، تكلمي بما أردتِ يا زوجة الكونت فردريك حاكم مدينة مسينا، أهكذا أنتِ يا شريفة، وهكذا أنتِ يا عفيفة، تخونين زوجًا سما قدرُهُ، واشتهر بالصالحات ذكرُه؟ وتميلين إليَّ وأنا كولدك بل كخادمك، وتُطلعينني على أمرٍ يُطيل — إذا ظهر — لومَ لائمك، ويُسقِطك من مقام الشرف إلى حضيض الذل والتلف، أَمَا أنت الكونتة لوسيا، التي بلغَت من الشرف مكانًا عليًّا؟ فتنبَّهي واحذري العواقب، التي ترميك في أشد النوائب.
لوسيا : وهل تأكدتَ يا ذَهولُ كلامي، وتحقَّقتَ بك غرامي، مع شرفي المصون وعفافي المشهور بين نساء الأمراء والأشراف؟ وأنا ما فاتحتُك بمثل هذا الكلام، وظهرتُ لديك بهيئة العشق والغرام، إلا لأعلم نواياك، وأستطلع خفاياك؛ حيث بلَغني أن نفسك الأمَّارة، أطمَعَتك بنيل الإِمارة، وأن مُرادكَ تغتال عمكَ الذي هو كأبيك، بعدما تُظهر حبك وتعلم أني مغرمةٌ فيك، وأرغَب ما ترغبُه في كل حال، وأُساعِدكَ في الأقوال والأفعال.
جان : أنا أفعل ذلك، وألقي نفسي في المهالك؟ والذي بلَّغكِ هذا الكلام هو عدوٌّ ألدُّ يا ابنة الكرام، وكان يجب عليك عدم التصديق؛ لما تعلمينه مني على التحقيق، من صدق العبودية لعمي، الذي هو أَحَنُّ عليَّ من أبي وأمي، لا سيما وقد وعدَني بزواج كريمته الوحيدة، وأن يجعل حالتي بالاقتران معها سعيدة، فأرجوكِ بألا تُصدِّقي مثل هذه الأقوال، وتأكَّدي أني صادق الخدمة لكما على كل حال.
لوسيا : هكذا أرغب أن تكون يا جان، فاذهبْ وكن مطمئن الجَنان، ومتى حضر عمُّك أيها الأمين، اسألْه أن يُعجِّل قرانك بأوجين، وتعيش بعدها عيشةً هنية، تضمن لكما السعادة الأبدية، وحذارِ أن تفوه بشيءٍ مما دار بيننا من الكلام، فإنه كان لاستطلاعِ ما بلغني عنكَ من ارتكاب الآثام.
جان : حاشا يا مولاتي أن أبوح بالسر.
لوسيا : اذهب برئتَ من كل ضر. (يذهبان كلٌّ من جهة ثم يرجع جان.)
جان : بئس يومٌ وُلدتِ فيه يا خائنة العيش وابنة السفيه! من ظن أن لوسيا امرأة فردريك، تقف أمامي موقف خائنة، وتكلِّفني فعل الفُجَّار الذين لا أمانة لهم ولا ذمة؟ أهكذا تكون نساء الأشراف؟ الطف بنا يا رب العالمين! والأرذل من خيانتها مغالطتُها لي وأنها قصدَت بذلك تجريبي لِما بلغها عني، أظنَّت أني مغفل وتسلك عليَّ تلك الحيلة؟ قبحها الله من خائنة وأعاذني الله من شرها، فأُسلم أمري إلى الله وأسأله أن يرد غدرها عليها ويُلقِيها فيما نصبتْه لي من الأشراك، إنه عظيمٌ عادل، يُجَازِي العبد بما هو فاعلٌ، وَيْلَاه! كيف تُغريني بخيانة عمي وحبيبتي أوجين، وتهوِّن عليَّ الوقوعَ في العذاب المهين؟ أوجين، أوجين، أنت زهرة حياتي، وبكِ أنالُ جميع لذاتي، وحاشا أن تستطيع لوسيا الفاجرة، أن تنقُض عهد حُبنا مهما كانت قادرة.
جمالُكِ في شرع الغرام لواءُ
وقلبي وكل جوارحي خُفراءُ
وفي دولة العشَّاق أنتِ مليكةٌ
لحاظُكِ في ملكِ الهوى وزراءُ
تبوَّأتِ عرشًا في الفؤاد مخضَّبًا
يودِّيه ما من أضلُعي نصراءُ
فلم يستطعْ كَفُّ الخيانة هدمَه
وقد صار من عهد الهوى وكلاءُ
فديتُكِ أوجينُ بقلبي ومهجتي
فقُربكِ عزٌّ والبعادُ شقاءُ
فيا لحظَها أَروِي بماء جمالها
رياضَ الهوى إذ في الفؤاد نماءُ

(تدخل أوجين.)

أوجين : جان أنت هنا؟
جان :
نعم — والذي سَوَّاك — يا طلعة البدرِ
ويا شمسَ حسنٍ بددت غَيهَب الهجرِ
أنا هنا مشتاقٌ إليكِ وحافظٌ
ودادكِ يا ذاتَ الجمالِ مدى العمرِ
أبيتُ وقلبي بالصبابة مغرمٌ
وأوصافكِ العذرا تُردَّد في فكري
جمالُكِ ريحاني وقُربكِ راحتي
وحبك خمري والغرام بك سُكري
عشقتكِ يا أُوجين مِن عهد نشأتي
فشبَّ معي وجدي وشاب الهوى العذري
أساكنةً في القلب والقلبُ مفعمٌ
بنار الجوى إني نجوتُ من الحرِّ
بربك أوجين هبيني ابتسامةً
بها ينطفي ما في الفؤاد من الجمرِ
أوجين :
أيا جانُ لي قلب يذوب فداكَ
ولي كبدٌ تصلى بنار هواكا
فبالله ما هذا الغياب الذي مضى؟
فقل لي لماذا طال عهدُ نواكا
أراقبُ أقمار السماء لعلَّني
أرى بينها شبهًا لحسن بهاكا
إذا سمعتَ أُذْناي خطوات أرجلٍ
تطلَّعتُ ظنًّا أن تكون خطاكا
وعدتَ تراني في الصباح وقد مضى
صباحٌ وظهرٌ ما شهدتُ سناكا
بربك أَنعشْ بالتواصُل مهجتي
ولا تقطعَنْ بالبُعد حبل لِقاكا
جان :
أيا ظبيةً في روضة الحسن ترتعُ
رعتكِ لحاظي والفؤادُ حماكِ
تجلَّيتِ في عرش الجمال بديعةً
وهذا فؤادي خاشعٌ لبهاكِ
إذا كنتُ أوجين لحسنكِ عابدًا
ألا يستحق العبد لثم لماكِ؟
أأُنكر وجدي من حميَّا الهوى ومَن
سقانيَ أقداحَ الهناء سقاكِ
وإن غاب جسمي عنك فالروحُ لم تغب
وها أنا ذا طوعٌ لأمر بهاكِ
أوجين : قد اتفقنا يا جان بالمحبة وتساوينا في الغرام، فمتى تسعى يا حبيبي أن أصير حليلتك؟ حيث ما بقي في القلب محل للصبر ولا طاقة للكتمان، وما عليك إلا أن تُراجع أبي وهو يُنعم علينا بالاقتران، الذي يكون سببًا لعيشنا الهني، وإقبالنا السني.
جان : إني — وحياتك — يا أوجين لم أتوانَ لحظةً عن تمهيد السبيل إلى ذلك لدى والدك، وقد هان الأمر حيث وعد بعدما يعود من السفر بإجراء الزفاف.
أوجين : إنه قد حضر.
جان : عمي قد حضر؟
أوجين : نعم قد حضر، وهو جالس وحده في غرفته، فبادرْ بتقبيل يده، وسَلْهُ أن يُعجِّل لنا بالاقتران.
جان : سمعًا أيتها الحبيبة، فها أنا ذاهب إليه الآن. (يذهبان كلٌّ من جهة.)

(تدخل لوسيا وإميل وراءها متخفيًا.)

لوسيا :
ويحكَ يا قلبي أما قلتُ لكْ
إياكَ أن تَهلِك فيمن هلَكْ؟
حرَّكتَ من نار الهوى ساكنًا
ما كان أغناكَ وما أشغلَكْ!
ولي حبيبٌ لم يدَع مسلكًا
يُشمِتُ بي الأعداء إلا سلَكْ
ملَّكتُه روحي ويا ليتَه
لو رقَّ أو أحسن لمَّا ملَكْ
بالله يا أحمر خدَّيه فمَن
شامك أو شمَّك أو أخجلَكْ؟
ويا غصن البان مَن قدِّه
تبارك الله الذي عدَّلَكْ
مولاي حاشاك ترى عاجلًا
ما أقبح العذرَ وما أجملَكْ!
آه ما الحيلة وما العمل لاستعطاف قلب جان، الذي هو أقسى من الصوان؟ وقد اجتهدتُ في استمالته إليَّ، فكان اجتهادي سببًا لإبعاده عني؛ حيث قد ظهر له أمري، وانكشف لديه مكنون سري، وصرت ملزومةً بمداراته خوفًا من إظهار أمري لدى عمه وتكون هناك الطامة التي ترشقني بسهام العذاب، آه منك يا جان ما أقسى فؤادك، وما أقل ودادك! (ترى إميل) ويحكَ لِمَ دخلتَ عليَّ بدون استئذان، فهل أنت هنا من زمان؟
إميل : أنا هنا من وقت وقوعك في الشَّرَك، وقولكِ ويحكَ يا قلبي أما قلتُ لك، وفقهتُ حبك لجان، وما اعتراك لأجله من الأشجان، وسمعتُ قصة غرامك، وما تقاسيه من أليم هيامك.
لوسيا : إميل هل أنت تمزح، أم تخلط وتشطح، فما هذا الكلام؟
إميل : لا ترهبي يا ابنة الكرام؛ فأنا حريصٌ على كتمانِ سرك، وأساعدكِ على نجاح أمرك، بشرط أن تساعديني على نوال مَرامي، وتُنقذيني من أليم هُيامي.
لوسيا : بمن غرامُك يا إميل؟
إميل : بذات الوجه الجميل، والطرف الكحيل، فتنة العالمين، سيدتي أوجين، التي جعلَت مهجتي حزينة، وأودُّ أن تكون لي قرينة.
لوسيا : قد استنسر البغاث، وأعيت الدلاث، حيث جئت يا إميل تطلب أوجين، وترغب أن تكون لها قرين.
إميل : أنا لست لهذا الطلب أهلًا، ولا أراه يا سيدتي سهلًا، لكن غرامي مثل غرامك، وكلامي نظير كلامك؛ فأنت تعشقين جان، الذي لا يعذرك بعشقه إنسان؛ لأنه ابن أخي قرينك الجليل، وخطيب أوجين ذات المجد الأثيل، كما أني أهواها، وأرغب في لقاها، مع أنها في الثريَّا وأنا في الثرى، وهذا من أمري وأمرك ما جرى، فما تقولين، يا ذات العقل الفطين؟
لوسيا : أقول أنا ولهانة وأنت ذَهول، وقد حكم علينا سلطان الهوى، الذي ما له غير قرب الحبيب دوا، فعلينا أن نُدبِّر أمورًا موصلة للمقصود، قبلما يظهر للكونت أمرنا ونسكُن اللحود.
إميل : وما هي الأمور الموصلة للمقصود؟
لوسيا : اذهب أنت وأنا أُدبِّر لنوالها المجهود؛ حيث لا بد ما يحضر الكونت إلى هنا بعد حين، فأستعمل الوسائل وأزين له أن يزوجك بأوجين؛ لأن سلطان سلطتي حاكم عليه، ينفذ كل ما ألقيه من الاقتراح إليه، وبعد اقترانك بأوجين نُدبِّر أمر جان، ونعيش أنا وأنت معهما في تَهان.
إميل : هذا هو الرأي السديد، والتدبير الحميد. (يخرج.)
لوسيا : هل يسمع الكونت كلامي، أو يحول بيني وبين مرامي؟ لا، لا، يجيبني إلى طلبي، وينيلني إربي؛ لأني مالكة على عقله، ومتصرِّفة على لُبه، ولا يُخالف لي مراد، ولو ركب شوك القتاد، نعم نعم ينيلني الوطر، ها هو قد حضر. (يدخل الكونت.)
لوسيا :
أهلًا وسهلًا أيها البدرُ
فلقد حَواكَ القلبُ والصدرُ
بلقاكَ أحييتَ الفؤاد ومِن
مَجلى جمالكَ قد بدا البِشرُ
وبك ازدهى نجمُ السعودِ وقد
فرِح الورى وتبسَّم الدهرُ
فاجلس على عرش البها ملكًا
فبكَ استقام النهي والأمرُ
وإلهنا عَمَّ العباد وقد
ساد بالأماني البر والبحرُ
الكونت :
لقاؤك لوسيا رضاي ومطلبي
وحُبكِ ما بين البرية مذهبي
لأجلكِ أبغي الفخر والمجد والعُلا
وأطلُب من دنياي أحسنَ مطلبِ
ولولاكِ فضَّلتُ الفَناء على البَقا
فدُومي مدى الأيام غايةَ مأربي
فلولاكِ ما أدركتُ للمجد قيمةً
وما نلتُ من عيشٍ بدنياي طيبِ
لوسيا : أيَّد الله يا مولاي مجدَك، وأدام في ذروة الفخار سعدَك، وأبقاك لي سندًا متينًا، وحصنًا حصينًا؛ فوجودي بوجودك يُذكر، وعزِّي بعزِّك يسمو ويُنشر، ولولاكَ لما بلغتُ مقامًا عليًّا، ولا سُميتُ بالكونتة لوسيا، حفظك الله ما صدَح هزار، وتلا ليلٌ نهار.
الكونت : إني أتيتُ أيتها الكونتة الآن، لأتفاوض معك في أمر ذي شان.
لوسيا : وما هو الأمر يا ترى؟
الكونت : إنه لا يخفى عليكِ يا عزيزتي أمر الحب، وكيف له سلطانٌ على القلب، فإذا حاكت عواطف الشاب عواطف الشابَّة، أضرم الحب في قلبيهما نيرانه الشابَّة، وحكم بينهما سلطانُ الطباع، وحمَّل كل واحد ما لا يُستطاع.
يُطاعُ الأمر إن يكُ مُستطاعَا
ونهيٌ عن حبيبٍ لا يُراعَى
إذا أمَر الهوى ونهَى سواه
فأمرُ الحب أولى أن يُطاعَا
وإذا كان الحب مقدسًا وغايته شريفة فمِن الواجب جمْع العاشقَين بارتباطٍ شرعي تُحمد غايته، ولا يخفاك أن ابن أخي جان مغرم بابنتي أوجين، وكذلك هي تهواه، ولا ترضى قرينًا سواه، ولا حرج عليهما في ذلك؛ لأنهما في ريعان الصبا، وصدر كل منهما رحيبٌ لقبول دواعي الهوى، وإنهما عائشان في نعمةٍ واحدة وجامعهم بيتٌ واحد، ولما لم يكن في هذا الحب من محظور، وكلٌّ منهما أولى بعشيقه من غيره لصلة النسب ووجود الكفاءة، فلم أرَ بدًّا من وضع يد أوجين في يد جان، ونفرح جميعًا بهذا القِران، فما تقولين أيتها الحبيبة؟
لوسيا : إنها — والله — عجلةٌ غريبة، وتسرُّع بيِّن، ضَررُه غير هين، وأنا أستأذنك يا مولاي فأقول، على أمل أن ترى كلامي من الفضل لا من الفضول: إن جان يضارعها في النسب، ولكن لا يماثلها في الأدب، وجان جاهل وأوجين عالمة، والفرق بين العالم والجاهل كبير، وأنا لا أرى في جان نباهةً تُوصله لأخذ أوجين وإن كان ابن عمها الوحيد، وحبيبها الفريد، فتأنَّ ولا تعجَل؛ فإن عاقبة العجلة الندامة، ولا تلُمها على هذا الحب؛ فإنه حب طيش وذهول، لا حب رزانة ومعقول، ومن رأيي أن تؤجِّل هذا الأمر لوقتٍ آخر، وتنظر بعدما يكون من الأمر المقدَّر.
الكونت : كلامك أيتها الكونتة حسن ورأيك هذا موافق، ولكن الأمر الذي لا بد منه، فالإسراع لقضائه أولى.
لوسيا : ومن يعلم ما تكون عاقبة هذا الأمر إذا قضيناه، أما تنظر بعينك طيش جان وأنه في إبَّان صباه وريعان شبابه، وأنه شرهٌ في وليمة الغرام؟ ونخشى بعدما يقضي وطره من أوجين أن يعلق بسواها وينقلب هذا الحب إلى عداوة وبغضاء، ونقع في داءٍ ما له دواء، فطاوعني ودَعْ هذا الأمر الآن، وبعد ذلك يُدبِّرها من هو كل يوم في شأن.
الكونت : أراكِ كثيرة الإصرار على منع هذا الأمر، وما أظنك إلا واهمة بهذا الرأي، غير مصيبة، فاعلمي أن خير الحب أطهره، وأجلَّه أوَّلُه، وأثبته حب الصِّبا الذي لم تحُل دونه مصاعب الزمان، فأنا واثق وراضٍ بجان، وابنتي لا ترغب غيره إنسان، وإذا استفاق الحبيبان، وهما بيد القران متعاقدان، فيكون قطع عاقبة فساد القلب، الذي يسوِّل للإنسان ارتكاب كل أمرٍ صعب، ويبيتان على الولاء، مساء صباح وصباح مساء، ومن لي أكفأ من جان، أجعله حليل ابنتي مدى الزمان؟
لوسيا : إنك تجد أكفأ منه علمًا، وأكرم خلقًا وحِلمًا، وأرزن عقلًا وأوفر أدبًا، وإن كان لا يساويه رفعة ونسبًا، ألا وهو كاتب يدك وكاتم أسرارك إميل.
الكونت : إميل؟
لوسيا : نعم إميل الذي درس سياسة الأحكام، وأرضى بحسن سيرته الخاص والعام.
الكونت : لا ليس أهلًا من جان، ولا أنبل بالذكاء والعرفان؛ فإني أتوسم من جان نباهةً غريبة، وأرى نور النجابة يلوح بين عينَيه، فضلًا عن الإقدام والشهامة اللذَين يؤهلانه لكل سعادة، نعم إنه شاب تستفزُّه الصبوة أحيانًا إلى الطيش، ويستخفُّه عنفوانُهُ إلى الترف، غير أن ذلك وقتيٌّ يزول ويكفينا عن ذلك أنها لا تُحب سواه، فماذا يكون يا تُرى إذا عوضناها عمن تُحب بمن لا تُحب، فهل تضمنين حُسن العاقبة أو تخرجين وتتركينني في المعركة إذا وقعنا في أمر ليس في الحسبان؟
لوسيا : نحن نقنعها أن إميل أفضل لها من جان.
الكونت : أنا لا أقدر أن أقنعها، فهل أنت تقدرين؟
لوسيا : لا، أنت تقدر على إقناعها.
الكونت : قلت لك لا أقدر، فإذا كنتُ أنا نفسي غير قانعٍ بأن إميل أفضل لها من جان، فكيف أقدر أن أُقنعها؟
لوسيا : إذن أنا أُقنعها.
الكونت : قلتُ لكِ لا تقدرين أيتها الكونتة؛ لأن سلطان الحب أقدرُ على العقول من كل سلطان، وهو قدَرٌ إلهي لا يقاوَم، فطاوعيني ودعي هذه المعارضات التي لا تُفيد سوى التعب.
لوسيا : ويلاه! كلما سهَّلتُ صعوبة أقام سواها، ومع ذلك فلنستقدمْها لنرى هل يمكن إقناعها أم لا؟ أدريان.
أدريان : نعم.
لوسيا : أحضر أوجين.
أدريان : سمعًا وطاعة. (يخرج.)
الكونت : والذي أراه أيتها الكونتة الآن أنه لا بد من عقد قرانهما عن قريب؛ لأني فحصتُ قلبَي الاثنَين وقلبي أنا أيضًا، فما وجدتُ أليق من اقترانهما، وهكذا وعدتُهما فحقِّقي وفاء وعدي.
لوسيا : إذن أنت مُصمِّم على ذلك؟
الكونت : نعم. (تدخل أوجين.)
أوجين : أسعد الله وقتَ سيدي الوالد ووقتَ خالتي العزيزة.
الكونت : وأنتِ يا ابنتي الوحيدة، أوقاتك سعيدة، اعلمي يا أوجين أني تفاوضتُ مليًّا مع خالتك بأمر زواجك، فرأينا الأفضل لك أن تُسلمي يدك بالاقتران لإميل كاتم أسراري؛ لأننا أدرى بالأصوب لك، ولنا الأمل أن تُجيبي طلبنا بالإيجاب.
أوجين : وا حرباه! بإميل.
وجان الذي ملَّكتُه الروح والحشا
أأعتاض عنه بالذي لن أُحبَّهُ؟
ومن يستردُّ القلب من جان يا تُرى؟
وقد وحَّد الأشجان قلبي وقلبَهُ
إذا قسموا القلب المركَّب بيننا
فهل يقسموا حُبي إليه وحبَّهُ
ترومون موتي إنَّ بالموت راحتي
ولا لا أرى هذا القِرانَ وكربَهُ
أروم ابنَ عمي يا أبي فهو بُغيتي
وإلا فكلٌّ يقضي في الحب نحبَهُ
لوسيا : تأدَّبي يا أوجين، واعلمي أن من يطاوع هواه ويعصى أولياء أمره يندم.
أوجين : ويلاه! أنا طائعة لوالدي ولك يا سيدتي، ولكن قلبي عاصٍ فما أفعل؟
لوسيا : خالفيه يا أوجين وطاوعيني.
أوجين : ليس هو عندي لأفعل به كما تشائين، بل وهبتُهُ لحبيبي جان وأنت تعلمين أن الهبة لا تُرد.
لوسيا : أإلى هذا الحد تتجاسرين؟ أما تخجلين من التفوُّه بهذا القول أمامي وأمام والدك، وكان الأجدر بك أن تهبي قلبك لمن يعرف قيمتَه، وهو خيرٌ لك من جان؟
أوجين : تعنين إميل؟
لوسيا : نعم إميل.
أوجين : بربكما ارحماني، ومن إميل عافياني؛ فإني لا أُحبه، ويؤذيني قُربه، فلا أُريد غير جان، مالك الروح والجَنَان.
أوجين :
دعاني دعاني إن قلبي معذَّبُ
وليس سوى جان أرومُ وأطلبُ
هو البدرُ في أفق الجمال وناظري
له يرعى دون النيِّرَين ويرقبُ
تكلِّفني يا والدي ما لا أشتهي
فيا مهجتي ذوبي فصُبحُكِ غيهبُ
ويا خالتي ما بالُ قلبكِ قد قسا؟
وما كنتُ يومًا عن ودادكِ أرغبُ
حكمتِ على قلبي الكليم بحرقةٍ
فيا رب أنقذني فحُكمُك أصوبُ
الكونت : أما قلتُ لك إن سلطان الغرام مطلَق التصرُّف في القلوب، وقد شاهدتِ سلطته الآن فلا تكابري بعدُ، وقد عزمتُ على أن أزفَّهما ليلة غدٍ بدون تردُّد.
فقوميَ يا أوجينُ واستبشري بما
تنالين من جان لكربك يذهبُ
أوجين :
أبي قد حباكَ الله مجدًا ورفعةً
وأبقاكَ في العلياء ما لاح كوكبُ

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤