الفصل الثاني

المنظر الأول

(تُرفع الستارة عن غرفة الكونتة لوسيا كاملة الأثاث.)

لوسيا :
حكَم الزمانُ بأن يذوب جَنَاني
ويطولَ ذُلِّي في الهوى وهَواني
أخذوا حبيبي جان مني عَنوةً
وحَوَته أوجين بطيبِ قِرانِ
زُفَّت إليه عروسةً وبدا لها
بدرًا منيرًا في سماء تَهاني
يا قلبُ مت إن الحياة مريرةٌ
يا عينُ جودي بدمعك الهتَّانِ
إميل :
يا عين جودي بدمعك الهتَّان
أوجين أزكَت في الهوى نيراني
بانت فبان تصبُّري وبدَت لدى
جان كشمسٍ فوق غصن البانِ
فتَّانة لَمَّا تجلَّى حسنها
خَرَّتْ له الأقمارُ في الإذعانِ
لعبَ الدلال بعطفها فأمالها
عني وقرَّب وصلها من جانِ
لوسيا :
جان رماني بالجنون
وأسال من عيني عيون
إميل :
أوجين حكَّمت الهوى
فسرى لقلبي والشجون
لوسيا :
يا جان قلبي قد وهَى
إميل :
أوجين قد ذقتُ المنون
لوسيا :
إميل قلبي معذَّب
إميل :
لوسيا ما لي من سُكُون
لوسيا : آه يا قلبي.
إميل : آه يا ظهري.
لوسيا : آه يا عقلي.
إميل : آه يا فكري.
لوسيا : كواني الهوى.
إميل : براني النوى.
لوسيا : ما أفعل؟
إميل : ما أصنع؟
لوسيا : ما أُبصر؟
إميل : ما أسمع؟
لوسيا : إميل خذ بيدي.
إميل : لوسيا خذيني كُلي.
لوسيا : أوَّاه! كاد لُبي يذهب.
إميل : ويلاه! كاد بيتي يخرب.
لوسيا : مَن مُجيري؟
إميل : من نصيري؟
لوسيا : من يُسعف؟
إميل : لا أعرف.
لوسيا : ما ينفعنا يا إميل هذا البكا، ولا يفيدنا هذا الاشتكا.
إميل : دبريني يا مولاتي، ما نفعل؟
لوسيا : تثبَّت يا إميل ولا تذهل، واسمع مني ما أقول، فعسى نبلغ المأمول.
إميل : تكلَّمي يا مولاتي بما يكون فيه الصواب، وترينني أتبعَ لأمركِ من البادية لمواقع السحاب.
لوسيا : حيث قُضي لجان أن يتزوَّج بأوجين، فالأجدرُ بنا أن نفرِّق بينهما في أقرب حين.
إميل : وكيف يكون هذا التفريق؟
لوسيا : أنت لا تدري السلوك في هذا الطريق، وهو شغل النساء، أهل المكر والدهاء، فاذهب أنت الآن، وقابلني في هذا المكان. (يخرج.)
لوسيا : لا بد ما أحتال وأفرِّق بين أوجين وجان، وأجتهد بعدها بقتل الكونت الخوَّان، الذي خالف كلامي، وأزكى بفعله ضرامي؛ لأنه أماتني وما شعر، وأنا الآن لا بد ما أسمُّه وأُذهب روحه إلى سقر، جزاء عناده، وقبيح اجتهاده.
أدريان : أجيبي يا سيدتي سيدي الكونت؛ فإنه ينتظرك في مقصورته.
لوسيا : ماذا يريد مني؟
أدريان : لا أعلم يا مولاتي ما يريد.
لوسيا : سأذهب إلى لقاه، لأقف على مبتغاه. (يذهب أدريان، يدخل الكونت.)
خير يا مولاي إن شاء الله.
الكونت : هو خير يا كونتة بلا اشتباه، فاجلسي بجانبي لأخبرك بما جد.
لوسيا : أدام الله يا سيدي لك المجد.
الكونت : اعلمي أيتها الكونتة العزيزة أن صديقنا البارون رودريك حاكم مدينة ميلان، قد تخاصم مع البارون وليم حاكم مدينة قيروان، وقد استحكم الخلاف بينهما حتى أفضى إلى العداء بعد الولاء، وطالما دعاني هذا الصديق إليه لأقضي عنده بعض ليال، تردد فيها ذكر أيام الصبا بعد الفراق الطويل. والآن وصلني منه كتابٌ يُلِحُّ به عليَّ بالقدوم إليه، عساني أتوسَّط بينهما فأحسم هذا الخلاف، وإني أرى من الواجب عليَّ أن أجيب طلبه وأسعى في هذا العمل المبرور، ولا أعلم كم تكون مدة الغياب عنكم؛ ولهذا دعوتُكِ لأُطلعكِ على هذا القصد وأتزوَّد منكِ نظرات الوداع؛ لأنني صمَّمتُ على السفر نهار غدٍ إن شاء الله.
لوسيا : لله ما هذا الفراق الذي لم يكن في الحسبان؟ فلقد كدرتني الآن يا عزيزي.
الكونت : لا تتكدَّري يا عزيزتي فهذه حال الدنيا، فعندكِ ابنتي أوجين تُسلِّيك ليلًا ونهارًا، وعندك ابن أخي وصهري جان وكاتم أسراري ووكيلي يخدمانكِ خدمةً صادقة، عدا عن خدمك الخاص وحظاياك الواقفات تحت أمرك في كل آن.
لوسيا : وهل تظن أنه يهنأ لي عيش بعد بُعدك؟
الكونت : لا تتكدَّري يا عزيزتي؛ فمهما طال الاجتماع لا بد من الفراق.
الكونت :
فلولا البُعد لم يكن اقتراب
ولولا القرب لم يكن افتراق
وماذا سلسبيل الوجد يُطفي
إذا ما كان في القلب احتراق؟
لوسيا : عليَّ أن أتصبَّر، وأمتثل لما هو مقدَّر، ولكن يا سيدي لا يطمئن قلبي عليكَ في هذا السفر الطويل؛ لأن الوحدة مُوحِشة، ومن رأيي أن تصطحب معكَ من يؤانسك، ويتولى خدمتك، كما قيل خذ الرفيق قبل الطريق.
الكونت : صدقتِ أيتها الكونتة، ورأيكِ هذا موافق، ولكن من تفتكرين أن أصطحبه؟
لوسيا : أرى أن تأخذ معك جان.
الكونت : جان؟
لوسيا : نعم؛ لأنه ابن أخيك وزوج ابنتك الوحيدة، ولا آمن عليك بغير وجودك معه.
الكونت : صدقتِ أيتها الحبيبة؛ فلقد فطنتُ إلى فائدةٍ ثانية في اصطحاب جان معي، ولأجلها أرى من الواجب عليَّ أن يكون معي في هذه المهمة السياسية؛ لكي أُعَرِّفه بأصحابي وأُمرِّنه على حل كل المشكلات وأفتح له باب مستقبلٍ عظيم؛ لأنه شابٌّ نجيبٌ متوقد الذهن حاد الفكرة، فإذا أُعجبوا بذكائه يكونون أنصاره في مستقبله بكل الأُمُور؛ حيث ما لي وارثٌ سواه يستلم زِمام الأعمال بعدي.
لوسيا : وأنا رأيتُ كذلك يا مولاي، فأسأل الله أن يوفِّقكما في هذا الغياب الطويل، ويردَّكما علينا بسلام ونجاح.
الكونت : ها أنا ذاهب الآن لأُعِد مُعدَّات السفر، وأُنبِّه على جان أن يستحضر أيضًا.
لوسيا : بَلَّغَكما الله الآمال، وردكما إلينا سالمين. (يخرج الكونت ويدخل إميل.)
إميل :
أوَّاه هذا الذي قد كنتُ أخشاهُ
وكان ينذر أفراحي بلاياهُ
أوجين فاز بها جان وغادرني
كليمَ حزنٍ يذيب القلب لقياهُ
والدهر ما زال حربًا يعاكسني
فيما أروم كفاني الله عدواهُ
من لي بخلٍّ رشيد الفكر يمنحني
رأيًا يزيل عن الأفكار شقواهُ
عسى أرى فرجًا مما دُهيتُ به
من فضل ربي الذي أرجو عطاياهُ
لوسيا : أبشر يا عزيزي إميل فقد لاح لنا صبحُ الفرج، وانجاب عنا عين الحرج.
إميل : وكيف ذلك يا مولاتي؟ أخبريني.
لوسيا : اعلم أن الكونت مزمعٌ أن يسافر إلى ميلان في مهمةٍ سياسية، وقد أطلعَني على قصده فأظهرتُ له كدَري من فِراقه، ثم حسَّنتُ له أن يصطحب جان في سفره ليكون له معينًا في شئونه ومؤانسًا في وحشته.
إميل : لله درُّكِ أيتها الماهرة! وهل نجح سعيك في هذا الأمر؟
لوسيا : بلا شك، وقد استصوب رأيي الكونت جدًّا وسُر من مشورتي، ورأى أنه لا بد من اصطحاب جان لكي يعرِّفه بأصحابه ويمرِّنه على حل المشكلات السياسية وحسن المداخلة مع الأمراء.
إميل : مناسب جدًّا، ولكن ما فائدتُكِ أنت من غياب جان، بل كيف تُطيقين فراق حبيبك الوحيد وما سُمع أن أحدًا يسعى بإبعاد حبيبه عنه؟
لوسيا : أواه! وا حبيباه! نعم جان مالك فؤادي ولكن أختار أخفَّ الشرَّين، وويلٌ أهون من ويلَين، وأنا أحتمل فراقه بضعة أشهُر، لكي أنجو من عذاب العمر كله.
إميل : وماذا تعنين بذلك؟
لوسيا : أعني … سأخبرك بعدُ ماذا أعني؛ حيث لا فرصة لي الآن أن أشرح لك مكنوناتي، فهيا بنا لنُودِّع الكونت قبل ذهابه، وبعدها نُدبِّر ما نفعل في غيابه.

(يخرجان ويدخل جان.)

جان :
زمانُ الأسى بالهم يصفو ويطفح
ويومُ الهنا من ساعة الصبح يبرح
ومختصر الأفراح يتلوه عاجلًا
بطولة أحزان فيمسي ويصبحُ
فهل نلتقي أوجين بعد افتراقنا
ونشطَح في روض التهاني ونمرحُ؟

(تدخل أوجين.)

أوجين :
وهل ما قيل صدقٌ يا حبيبي
بأنكَ سوف تَبرحُ عن قريب؟
جان :
نعم أوجين ما قد قيل صدقٌ
وغدْر الدهر ليس من العجيب
أوجين :
علامَ ونحن في صبح التداني
تُسارع شمس وصلنا بالمغيب؟
جان :
فصبرًا يا حياة القلب صبرًا
فسوف بموقف اللقيا نطيب
أوجين : لقد ذاب الفؤاد وضاع رشدي.
جان (لحن) :
إنني أمضي وقلبي الكليم
عند من أهوى مقيم
مدنفٌ لكن ودادي سليم
عن هواه لا يريم
فاذكُري هذا البعاد الأليم
واندبي جسمي السقيم
حسبيَ المولى العظيم
إنِّيَ المغرمُ آه! مَن ليَ يرحم آه!
من بِعاديَ آه! والسِّقام وبلاه
هذا النوى قد كدَّر العيش الهني
أوجين : بالله لا تنسي الهوى؛ فهو الدوا من شجني.
جان : قد ذبتُ من هذا الوداع.
أوجين : ارحم فؤادي في التياع.
جان وأوجين : يا رب أَدنِ الاجتماع ولا تُطِل في حزني. (يخرج جان.)
أوجين :
يا بَينُ رفقًا فما أبقيتَ من رمقِ
على فؤادٍ كُوي من شدة الحرَقِ
بان الحبيبُ وصَبري والغرامُ سوا
ومهجتي كلَّمَتْها أسهُم الفَرقِ
يا جان أتلفتَ جسمي بالفراق وقد
كحَّلتَ عيني بكُحل النأي والأرقِ
آهٍ على ذلك القلب الذي غربَت
أقمارُه عندما لاحت من الشفَقِ!
لا يعرف المرء قدْر البدر مزدهرًا
ما لم تغيِّبه عنه ظلمة الغسقِ

(يدخل إميل.)

إميل :
أوجين ما لكِ تشتكي
حَر التباعُد والفِراق؟!
أوجين :
إميل قلبي قد غدا
من بعد جان في احتراق
إميل :
أوجين جان قد عدَا
مع عمه عَدْو السباق
أوجين :
سيعود بعدُ وأجتَني
من وَصْله ثمَر الوفاق
إميل :
أوجين حاشا تلتقي
جان وأبشري بالطلاق
أوجين :
ما ذا الكلام إميل؟ رُحْ
عني فكَرْبي لا يُطاق
إميل :
أوجين جان لا يعو
دُ إليك … … …
أوجين :
… ما هذا النفاق؟
أنا لا أصدِّق ما تقو
لُ فإنه محضُ اختلاق
وتزوير وبهتان؛ لأني أعرف قلب جان، وأعلم حبه الصادق، وقلبه الطيب الموافق، وأنت يا ذا الوجه المنكود، من أين علمتَ أنه لا يعود؟ وهل تفارقنا على شقاق، حتى جئتَ تُبشِّرني بالطلاق؟
إميل : أما تعلمين أني وكيلُ أبيك في الأحكام؟
أوجين : بلى.
إميل : وأني المتصرف المطلَق دون جميع الأنام؟
أوجين : بلى.
إميل : وأني ذو حكمة وفراسة، ونباهة وسياسة، وإدراكٍ حسن، وفطنة ولَسَن، وقد بلغتُ وأنا في ريعان الشباب، ما لم تبلُغه الشيوخ أولو الألباب؟
أوجين : بلى، وما المقصود من هذه البينات؟
إميل : المقصود هو أنك أبعَدتِني وقرَّبتِ جان، مع أني أحقُّ منه بهذا القِران.
أوجين : أنت أحق بي من ابن عمي؟
إميل : نعم، وإذا ما كنتُ أحقَّ فيما سلف فأنا أحقُّ الآن، فإنني حاضرٌ إليك وهو ذهب في خبر كان.
أوجين : ويلكَ هل أنت مجنون؟
إميل : لا، ما أنا مجنون، بل ولهان ومفتون، وكنتُ أعلِّل نفسي بنيل الآمال، وأراقب ما يبدِّل حال جفاكِ بأحسن حال؛ حيث سُلبتُ القرار، وعدمتُ الاصطبار.
أوجين : ويلك! متى كنتَ تُكلمني بهذا الكلام، يا عديم الشرف وكثير الآثام، أوَتجهل من أنا، يا كثير الفسق والخنا؟
إميل : لا تُغلِظي عليَّ القول يا رقيقة الحاشية، وارحمي قلبي الذي هو لكِ مملوكٌ وعيني الجارية، وجاوبي هذا اللطف باستعمال اللين، ولا تبخلي بقُبلة على البائس المسكين.
أوجين : ويلكَ أيها الخائن، والعنيد المائن؛ فقد أمَّلَتكَ نفسك بما دونه ورد المنون، وحدَّثَتك أمانيك الكاذبة بما لا يكون، ولستُ دونك بالقوة والاقتدار، حتى تقضي بإكراهي الأوطار، فاذهب من وجهي يا خئون، قبلما أُذيقكَ كأس المنون.
إميل : كفى هذا الدلال، والتجافي والملال، وأجيبي مطيعةً كما أُريد، وجُودي عليَّ بضم هذا الجِيد، وإلا حملَني فرط الغرام على الإكراه، وسخط هذا الوجه الذي أتمنى رضاه.
أوجين : ويلكَ قد خرجتَ عن حدود الأدب، وعرَضتَ بكلامك ما تأنفه حمية العجم والعرب، فاقطع يد طلَبك، واقصر مدى أرَبك، وإلا أمرتُ بإهانتك وإذلالك، وعاملتُك على شاكلتكَ بضد أشكالك، ادخلوا يا حُجَّاب (تدخل الحُجَّاب) أَخرجوا هذا المُهان، فلا سَلِم ولا كان.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤