الفصل الثالث

المنظر الأول

(تُرفع الستارة عن هيئة غرفة أوجين بقصر الكونت.)

أوجين :
أينفع صوب الدمع في الخد قد همى
وغمُّ الأسى والغيم في القلب خَيَّمَا؟
وأيدي الردى مدَّت إليَّ مخالبًا
وقد فرقَت للفتكِ في مهجتي فما
أفكِّر فيما مَرَّ من حُلو عيشنا
فألقى نهاري بالنوائب مُظلمَا
أيا بحرَ فينسيا أقمتَ قيامتي
وجرَّعتَني صاب المصائب علقمَا
وأغرقتَ جان بل وروحي وراحتي
وغادرتَ عيني بالأسى تسفَح الدمَا
ما هذا الخبر المفجع يا أدريان؟ فقد قرب الوعد الموعود، ودنَت مشاهدة اليوم المشهود، فلا طمع في البقا، ولا أمل في الصفا، من بعد جان، مالك الروح والجَنَان، الذي ابتلعه البحر، وغادرني في القهر.
يا ماءُ ما لكَ قد أتيت بضدِّ ما
جاء الكتاب مخبِّرًا بعجيبِ؟
الله أخبر أن فيكَ حياتَنا
فلأي شيءٍ مات فيك حبيبي؟
يا بحرُ أخذت مني جان، يا بحرُ خلَّدتَ لي الأحزان، يا بحرُ ما أكبر اسمَك، يا بحرُ ما أغلظَ جسمَك، ومع ذلك تكون غدَّار، وفتَّاك قهار، فخزيًا لكَ يا عديم الأمانة، ويا كبير الضرر والخيانة، بحر دهر، أزمان أحيان، كلها مناجلُ لحصد الأعمار، أوَّاه! وا مصيبتاه!
أدريان : هوِّني الأمر يا مولاتي يهون، وقولي إنا لله وإنا إليه راجعون.
أوجين : آه يا أدريان لو تعلم مقدار تعاستي، سعدتُ في زماني مدةً وجيزة، ما ظننتُ أنه يُوجد مثلي بين الأنام سعيدة، وأراني الآن هبطتُ إلى حضيض النحس والتعاسة، والأجدر بي أن أموت أو أقتلَ نفسي لأجتمع بالحبيب، الذي غادرني وتركني في لهيب.
أدريان : ماذا تفعلين يا مولاتي، هل سئمتِ حياتك الغالية؟ فتصبَّري وأشفقي على طفلك هذا، فإلى من تتركينه؟
أوجين : أوَّاه ولدي، وفلذة كبدي، روبرت الصغير تمثال حبيبي وأثَره، ويلاه فُقد صبري وانقطع حبل أملي، ووهَى عزمي وعزَّت نجاتي، حلا لي الموتُ وطاب شرب كأس المنون، فخذني يا رباه، وخلِّصني من الحزن وعَنَاه.
ما ذي الحياة بذي الدنيا وإن غربَت
إلا كطيف خيالٍ في الكرى زارَا
ومن يرومُ من الدنيا الصفاء كمن
يروم يومًا من الأعداء أنصارَا
وما كفاني ما أنا فيه من العذاب، حتى زادت عليَّ ثقالة إميل وكيل أبي، ومع ما أنا فيه من الأحزان، يحاول أن يلثم يدي ولو قسرًا، وقد ردعتُه مرارًا عن ذلك فلم يرتدع، وقد شكوتُه إلى سيدتي الكونتة فما أرجعَته عني، ولا رأيتُ منها ناصرًا ينقذُني من بلاه، حتى رابني أمرُها وأكَّدت أن يدها هي المحركة لإميل، الذي استبد في بيتنا كأنه سيدٌ مالك، وقد طال غيابُ أبي الذي لا ناصر لي بعد الله سواه.
أدريان : إن أمر إميل قد استفحل وطغيانه قد جاوز كل حد، ولا بد عند حضور سيدي الكونت ما نشكوه إليه، وهو يجازيه بما كسبَت يداه.
أوجين : أَنَّى نبلغ ذلك والكونتة نصيرته وأبي لا يردُّ لها قولًا؟! فارحمني يا رب، وخلِّصني من الكرب الذي كاد يُفقِدني حياتي.
أدريان : قد جاء يا مولاتي وقتُ الغداء، فهل تأمرين أن أُحضِر الطعام؟
أوجين : لا مانع من ذلك يا أدريان، فاذهبْ وعُدْ إليَّ سريعًا. (يخرج.)
أيا من غاب عني وهو روحي
وروحي لا أُطيق لها انفكاكا
حبيبي كيف حتى غبتَ عني
أتعرف أن لي حبًّا سواكا؟
عهدتُك لا تُطيق الصبر يومًا
وتعصي في ودادي مَن نهاكا
فكيف تغيَّرَت تلك السجايا
ومَن هذا الذي عنِّي ثناكا؟
لقد حكمَت بفُرقتنا الليالي
ولم يكُ عن رضاي ولا رضاكا
وليتك لو بقيت نصف حالي
وكان الناس كلهم فداكا
يعزُّ عليَّ حين أُدير عيني
أفتِّش في مكانك لا أراكا
فوا أسفي لجسمكَ كيف يبلى
ويذهبُ بعد بهجته سناكا؟
تموتُ ولا أموتُ عليك حزنًا
وليس كمن بكى مَن قد تباكى

(يدخل إيميل.)

إميل :
أذاب الهوى ظلمًا قتيل هواكِ
فمن ذا للتباعُد قد دعاكِ
ألم يكفني الوجد المبرِّح والجوى
فجودي بقربي لا عدمتُ رضاكِ
وإن كان ذنبٌ قد بدا أو إساءةٌ
فعفوًا لعبد لا يرومُ سواكِ
أوجين : أكبر ذنبٍ لك هو وجودك أمامي، فاذهب عني؛ فإني لا أُحب أن أراك.
إميل : كل هذا يا ربَّة الحسن والجمال، أما في قلبك رحمة؟
أوجين : كلا يا نقمة، فاذهب من أمامي، فما أصابني كفاني.
إميل :
أيحسُن يا أوجين صدُّك يُتلفُ
فؤادًا عليكِ بالمحبة يعطفُ؟
جمالكِ فتَّان وقدُّكِ مائسٌ
ووجهكِ بدرٌ مشرق ليس يُكسفُ
أوجين :
نعم وحبيبي في سما الحسن فرقدٌ
ولكن على مرآه دمعيَ ينزفُ
وأنت ثقيلٌ بارد ذو غلاظةٍ
ووجهك ممقوتٌ كئيب يخوِّفُ
إميل : أنا ثقيل؟
أوجين : نعم.
إميل : وبارد؟
أوجين : نعم.
إميل : وغليظ؟
أوجين : نعم.
إميل : ووجهي ممقوت؟
أوجين : نعم.
إميل : وكئيب؟
أوجين : نعم.
إميل : ويخوِّف؟
أوجين : نعم نعم، وإذا تربَّعت فوق الأرض تخمِّسها، وإذا تنفَّستَ في الخضرة تيبِّسها، وإذا نظرتَ إلى البحر يفيض، وإلى الجبال تهوي إلى الحضيض، وإذا غصتَ في الأرض تزعج البهموت، وإذا عاينك الموت حالًا يموت.
إميل : كل هذا أنا يا أوجين؟
أوجين : نعم وأكثر يا رعين.
إميل : ورعين أيضًا؟
أوجين : نعم، وكل قبحٍ محمول عليك، وكل ذمٍّ في الوجود ينصرف إليك، ونار شَرِّك لا تزال في القلوب وارية، وإذا دخلتَ جهنَّم تستغيثُ منك الزبانية.
إميل : أظنُّكِ تمزحين.
أوجين : إنك لداءٌ دفين، بل داءٌ ظاهر للعيان، لا تَشفي منك حُكماءُ الزمان، وأبشرك بأنك عن قريب، تذوق أنواع التعذيب، من سيف الكونت فردريك، الذي على فعالك سيجازيك.
إميل : إذن يا ابنة الخئون، ذوقي قبلي شراب المنون.
أوجين : مت مكانكَ يا غدَّار، فلا نجاك الله من الدمار. (ترميه وتذهب.)
إميل :
أوجين ما هذا التمنع ينفعُ
عودي فما في القلب غيرك يرتعُ
يا ربَّة الحسن التي هي في العلا
تعنو لطلعتها البدور الطلَّعُ
فعلام جفنك منكرٌ دم مقلتي
وعلى خدودك شاهدٌ لا يُدفعُ؟
قلبي لغيرك لا يميل ومهجتي
في جوِّها رعد الغرام يُلعلِعُ
حَمَّلتِني ثقل الهوى وتركتِني
متألمًا وحشاشتي تتوجَّعُ
لولاك أوجين لما حكَم الهوى
قلبي ولا كان الأسى بي يصدعُ
فترفَّقي بي وارحميني واعلمي
أنِّي ولو طال النوى لا أرجعُ

(تدخل لوسيا.)

لوسيا : ما بال إميل في بحران؟
إميل : قد برَتْني يا مولاتي الأحزان.
لوسيا : بسبب صد أوجين؟
إميل : نعم يا ابنة الأكرمين، وقد راجعتُها كثيرًا بشأني، وأن تقبلَني وترضاني، فما سمعتُ منها كلمة قبول، تبشِّر بنيل المأمول، وقد أسمعَتْني كلامًا لا يُطاق، وذهبَتْ وتركتني في احتراق.
لوسيا : أنتَ أمر أوجين لا يعنيك، ومتى حضر الكونت أسعى بما يرضيك؛ حيث قد غرق جان، وما بقي لها مانعٌ من القِران، فاذهبْ أنتَ الآن واكتُم أمرك، وسترى ما يسُر قلبك ويشرح صدرك. (يذهب إميل.)
لوسيا : جان غرق في البحر، وقد قُضي الأمر، وذهبَت مدة العمر، فلا نفع بحياتي، وقد طاب لي مماتي، والأجدر أن أقتل نفسي، ولا أُصبح في الهموم وأُمسي، ولكن أقتل نفسي وأترك أعدائي سالمين؟ إن هذا لهو الخسران المبين، بل يلزم أن أسُم أدريان وأوجين، ومتى حضر الكونت أسمُّه في أقرب حين؛ لأنه تساهل في شأن حبيبي حتى غرق، وغادرني بعده في نار الحزن أحترق، وبعدما يخلو الجو من صوت كل صافر، أستولي على مخلفات الكونت وأتمتع بكل وارد وصادر، وأعيش بعدها بالبِشر، إلى نهاية العمر، وها أنا ذاهبة لأسقيَهما شراب المنون، وما قُدِّر بعد ذلك يكون.

المنظر الثاني

(تُرفع الستارة عن شارعٍ خارج قصر الكونت.)

إميل : كيف أغتَر بوعد الكونتة لوسيا، أن تجعل بيني وبين أوجين ارتباطًا شرعيًّا، مع نفار أوجين الذي لا يزول، وصدِّها لكل ما أقول؟ وقد وعدَتني بها قبل ذلك منذ حين، ثم عاد لي وعدها بخفَّي حنين، فيلزم أن أُدبِّر أمري، وأحكَّ جسمي بظُفري، وأراجع أوجين المراجعة الأخيرة، عساها تطلق بالحنان مهجتي الأسيرة، وتُنعِم عليَّ بما يشفي الفؤاد، وتنقذني من العذاب والصد والبِعاد، وإذا أصرَّت على الإباء، فليس لها غير القتل جزاء، ودعهم بعد ذلك يقتلوني، أو يشنقوني أو يحرقوني، وها أنا ذاهب لإمضاء ذلك، ولا أبالي بعدُ بما يكون من المهالك.

(يهم بالذهاب فتقابله أوجين فيرجع.)

قد تجاوزتِ يا أوجين بإهانتي الحد، وذهب الهزْل وأقبل الجد، واعلمي أني أنا الحاكم في هذه البلاد، والمتصرِّف المطلَق في جميع العباد، حياتك في يدي، وموتك بخنجري هذا، فأشفقي على نفسك، وحاذري حلول رمسك، السُّم وجدتُ له دواء، وخنجري ما لكِ منه شفاء، فاختاري لنفسكِ ما تريدين، إما النجاة أو القتل في هذا الحين.
أوجين : إذن ليس لي منكَ خلاص؟
إميل : كلا ولا مناص؛ لأني ارتكبتُ هذا الإثم والتحفتُ برداء العار وتجرَّدتُ من المروءة والشهامة، وأنزلتُ نفسي من ذُرى الأمانة، إلى حضيض الدناءة والخيانة، وخسرتُ مبدئي الشريف ومستقبلي الحسَن، وعرَّضتُ نفسي لكل خطرٍ يتهدَّد حياتي ومع كل هذه الخسارة أخسرك أنتِ أيضًا.
أوجين : وهل أنا في يدكَ وطَوْع أمرك؟
إميل : نعم في يدي وطَوْع أمري، وهذا الخنجر يُصدِّق أقوالي، ويُنيلني آمالي.
أوجين : أَشفِق عليَّ يا إميل فإذعاني لك مُحال.
إميل : ليس لي شيءٌ مُحال.
أوجين : إميل راقِب الله.
إميل : هو الذي قدَّر عليَّ ما أنا فيه، والقصد وصالُك على كل حال؛ إذ لا مطمع لي بعدُ في الحياة، ولا أرى أن أموت قبل نوال آمالي منك، وآخر ما أقول إما أن تُجيبي مرامي، أو تتهيَّئي للموت في هذا الحين وفي هذا المكان.
أوجين : آه.
إميل : لا ينفعك آه، عجِّلي أسرعي، أجيبي، خلِّصي نفسك؛ أو فموتي.
أوجين : اقتُل يا ظالم، اذبَح يا خائن.
إميل : نعم خائن.
أوجين : ارحمني يا رباه، من هذا الجاحد ويلاه. (ضحك من الداخل.)

(تهرب أوجين عندما يذهب ليرى الغاغة، ويدخل الثقلاء.)

إميل : ما هذا، لماذا كنتم تصرخون؟
الأول : كنا نمرحون ونضحكون.
الثاني : لأننا صرفيون نحويون.
الثالث : ومنطقيون عروضيون.
الرابع : وفلكيون جغرافيون.
الأول : وشعريون موسيقيون.
الثاني : وبديعيون بيانيون.
الثالث : وإذا أردتَ يا ذا الإشراق، نُسمِعك من نغم العراق.
الجميع :
بأبي باهي الجمال مائس القدِّ أمان (عدد ٣).
قده فاق العوالي آه لو يُجدي أمان.
صحتَ يا راخي الدلال يا مُنى القصدِ أمان (عدد ٣).
جُد لي باللقا يا غصن النقا يا من قد رقى رتبة المجدِ أمان (عدد ٣).
الرابع : وإذا شئتَ أيها المحترم، نسمعكَ من نغم العجم.
الجميع : آه من جور آه! من جور الغواني أي باجانم! آه من حر الفراق!
إميل : طبتم وأحسنتم، وعليَّ تفضلتم، فشرِّفونا بالذهاب.
الأول : لا يا ابن الأنجاب، فلا نبرح من هنا، حتى نُدخِل عليك الهنا، فاسمع يا سامي الجاه، من نغم السيكاه.
الجميع :
قف على أكتاف رامَة
عند وادي الرقمتَين
وانتشِق عَرْف الخزامَة
من جِنان الوجنتَين
مذ بدا يخطر بقامَة
مثلها ما في حنَين
صحتُ يا ربي السلامَة
من كحيل المقلتَين
إميل : شيءٌ لطيف.
الثاني : معلوم وخفيف.
الثالث : وأنغام رخيمة.
الرابع : وألفاظ وسيمة.
الأول : وتواشيح مضبوطة.
الثاني : وتواقيع مربوطة.
الثالث : وموزونة بمقياس.
إميل : ارحموني أيها الناس؛ فقد ضاقت أنفاسي، وتقطَّعَت حواسي.
الرابع : لماذا تصيح؟
الأول : أما أنت مستريح؟
الثاني : ومبسوط ومنعنش؟
الثالث : وفرحان ومفرفش؟
الرابع : أما سمَّعناك الأغاني؟
الأول : وأطربناك بالمغاني؟
إميل : كل ذلك كان، ولكم الفضل والإحسان، فأروني ذهابكم، حفظ الله جنابكم.
الأول : هل أسأنا إليك؟
الثاني : أو أثقلنا عليك؟
الثالث : إن هذا لعجيب.
الرابع : وأمرٌ والله غريب.
الأول : أظن جهل ما قلتموه.
الثاني : لا يعرف الفضل إلا ذووه.
إميل : أنا لا أعرف الفضل، ولستُ للمعارف أهل، فدعوني وشأني، فقد أطلتم أحزاني.
الثالث : حيث أطلنا أحزانك، فاسمع ما يُطرِب جِنانك.
الجميع :
قم إلى أكل البغاشة
يا رفيقي واملا فاك
واستمع مغنى الدجاجة
كاك كاك كاك كاك
ثم عرِّج للكنافَة
إن ترُم طولَ بقاك
والتهِمها بجَلَافَة
تاركًا ما قد لحاك
وعلى الجُلَّاش أطبِق
هكذا طَبْقَ الشِّباك
ومن البلُّوظة الهَطْ
لهطةً تحشِي حشاك
وإذا عاينتَ مَحْشي
يا أخي فاحفظ نُهاك
هيا يا خلَّان نمشي
أسعَد الله مساك

(يخرجون.)

إميل : أعوذ برب الأرض والسماء، من جلافة هؤلاء الثقلاء، كادت روحي تزهق، وأعضائي تتمزق، بديعيون بيانيون، عروضيون موسيقيون، كاك كاك، احشي حشاك. أعوذ بالله من كل عُتُل، وكل ثقيلٍ بالنطاعة مُستقِل، قد أفلتوا أوجين من يدي، وفتَّتوا بغلاظتهم كبدي، ولا أدري كيف سارت، وفي أي مكانٍ توارت، وا حرَّ قلبي، وزيادة كربي. (تدخل لوسيا.)
لوسيا : ذهبَت السكرة، وجاءت الفكرة، هذه أوجين قد نجت من السُّم وكذلك أدريان برح من الديار، وأنطونيو أخذ الولد وسار، وبعد قليلٍ يأتي الكونت من السفَر، وأقع أنا وحدي في الخطَر، إميل هل صحوتَ مثلي أم بعدُ سكران؟
إميل : وماذا ينفع الصحو أو من يخلِّصنا من أيدي الكونت؟ أقدارٌ ونفذَت، ومروءة وسقطَت، وخيانة وحصلَت، ومكانة وذهبَت، ومستقبل وراح. وعلينا أن ننتظر المكافأة بما جنيناه؛ لأن الجزاء من جنس العمل، ولكل امرئٍ نتيجة ما فعل، وقد قيل يا سيدي إن الخير بالخير والبادي أكرم، والشر بالشر والبادي أظلم.
لوسيا : إذن ما لنا من خلاص؟
إميل : كلا ولا مناص، ويا تُرى إذا حضر الكونت وسألنا عن أوجين فما نقول، أو سألنا عن أدريان فماذا نُجاوب، أو سألنا عن أنطونيو والولد، فما يكون التخلُّص؟ ولو قلنا ماتوا وصدَّق، فما نفعل إذا ظهروا بعدُ؟ هل هناك مخلصٌ من العذاب أو عندنا عذرٌ من الهلاك؟ كلا ثم كلا، زرعنا ولا بد ما نحصد، وطبخنا ولا بد ما نأكل، وعلينا الملام، من عموم الأنام، وفاعل الخير خيرٌ من فعله، وقائد الشر شرٌّ من أجله، نحن نموتُ ونُقبر، وذكرنا بالقبائح يُنشر، والماضي يا مولاتي، هو حليف الآتي.
المرء بعد الموت أحدوثة
يفنى وتبقى منه آثارُهُ
إن كان فعَّالًا لخيرٍ فما
يكون غيرَ الخير تذكارُهُ
أو كان فعَّالًا لشر ففي
نار الشقا تُلقيه أوزارُهُ
وأحسنُ الحالات حالُ امرئٍ
تُضيء بعد الموت أخبارُهُ

(يدخل حاجب.)

حاجب : سيدتي قد جاء البشير، وقال إن سيدي الكونت سيصل بعد قليل، فاستعدا لملاقاته.
لوسيا : اذهب وأعطِ الخبر للجميع؛ كي يستعدوا لملاقاته. (يخرج الحاجب.)
ويلاه ماذا نفعل؟ هذا يا إميل يوم الوعيد، المنذر بالعذاب الأليم الشديد، فبماذا نُجيبُ إذا سألَنا عن أوجين وأدريان وأنطونيو والطفل؟ دبِّرني يا إميل.
إميل : أنا أُدبِّرك وأنت صاحبة الدسائس والحيل، وإذا دبَّرتُك فمن يُدبِّرني أنا؟ أأُلقي نفسك في التهلكة، وأخلِّصك يا كونتة؟ لا، لا، هذا بعيدٌ عليك، أنا وأنت سوًى سوًى، رجلي هذه في أول الجنزير ورجلك في آخره، وعنقي هذا مهيأ للقتل وعنقك مثله، ولا مؤاخذة والحفرة التي حفرناها، لا بد ما نقع فيها سوًى.
لوسيا : ما هذا الكلام يا إميل، الآن وقت التوبيخ والتبكيت؟
إميل : أوبِّخكِ وأوبِّخ نفسي، وأبكِّتكِ وأبكِّت روحي.
حالي وحالُكِ في الهوَى
سيدتي سوًى سُوَى
أنتِ بجانٍ وأنا
قلبي بأوجين انكَوَى

(يدخل حاجب.)

حاجب : سيدتي، الكونت قد دخل المدينة.
لوسيا : اذهب، وها أنا ذاهبة لاستقباله. (يخرج الحاجب.)
ويلاه! دخل المدينة، ما رأيك يا إميل؟
إميل : ما فكركِ يا لوسيا؟
لوسيا : إن أمركَ عجيب.
إميل : إن طبعكِ غريب.
لوسيا : لا تستغرب يا إميل؛ ففكري قد حار.
إميل : لا تتعجبي يا لوسيا؛ فعقلي قد طار.
لوسيا : يا رب ما أفعل؟ (يدخل الحاجب.)
حاجب : الكونت قد أقبل. (لحن من الداخل.)
الجميع : يعيش الكونت، يحيا الكونت. (يدخل الكونت.)
الكونت : ما بالكما لا تخرجان للقائي مع الجمهور؟ لقد أخذَني العجب من ذلك! فما السبب يا تُرى وما تصنعان هنا؟
لوسيا : كنا نستعد للقائك يا سيدي، وما ظَننَّا أن تشريفكَ قريب.
الكونت : ألم يبلُغكما أني على أبواب المدينة، فما السبب في ذلك وما السر في هذا السكوت؟ أين أوجين؟
لوسيا : ستأتي.
الكونت : أين هي؟
لوسيا : في القصر.
الكونت : ما تصنع؟
لوسيا : تتنزَّه.
الكونت : أما علمَت بحضوري؟
لوسيا : لا أعلم.
الكونت : لا تعلمين .. أما أَخبرتِها؟ أخبرني يا إميل أين أوجين؟
إميل : لا أدري.
الكونت : أين أدريان خادمُها، أين طفلُها الذي ولدَتْه، أين خادمها أنطونيو؟ أجيبا حالًا، ما عندكما غير السكوت؟ اقبضوا عليهما حالًا لأرى ماذا جرى لابنتي، وبعدُ لكل مقامٍ مقال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤