مقدمة
تتميز كتابات أفلاطون الوفيرة — التي تشغل أكثر من ١٧٠٠ صفحة في أحدث طبعة تضم أعماله المترجمة إلى الإنجليزية — بالتنوع الكبير للموضوعات الفلسفية التي تتناولها، وبعمق الأسئلة التي تطرحها. فهي تطرح أسئلة عن نوع الحياة التي ينبغي أن يعيشها البشر؛ والأمور التي ينبغي أن نأخذها على محمل الجد؛ وأي نوع من الكائنات نحن. وهي تُعنى باستكشاف طبيعة الكون الذي نعيش فيه، وتطرح أسئلة عن الكيفية التي يمكننا بها أن نأخذ مكانتنا الصحيحة في هذا الكون. كيف ينبغي أن ننظم أنفسنا في مجتمعات، وما نوعية القوانين التي تُعَد الأفضل لنا؟ وتذهب كتابات أفلاطون إلى أبعد من ذلك؛ إذ تتناول تساؤلات عما إذا كان من الممكن حقًّا معرفةُ الإجابات على هذه الأسئلة، أو ما إذا كان لا يمكننا سوى التخمين. ما معنى أن تعرف شيئًا؟ وبأي الطرق يمكن اكتسابُ المعرفة، وما العقَبات التي نواجهها في مساعينا للبحث عنها؟ لقد قاد بحث أفلاطون عن إجابات لهذه الأسئلة إلى كثير من المشكلات الأساسية المتعلقة بالأخلاق، والسياسة، والدين، والفن، والعلوم، والرياضيات، والعقل البشري، والحب والصداقة، والمتعة والجنس؛ وهذه فقط قائمة جزئية.
اعتمد أفلاطون على الأسلوب الحواري في صياغة أعماله المكتوبة، وعلى الرغم من إمكانية دراسة كل عمل على حِدَة، وفَهْمه باعتباره عملًا متكاملًا، فإنه عند قراءة الأعمال بشكل منهجي والنظرِ في علاقة كل عمل بالآخر، تتجلى مكانة أفلاطون باعتباره مفكرًا منهجيًّا ودقيقًا وعميقًا من الدرجة الأولى. وهو أيضًا كاتب استكشافي تجريبي؛ فقد تُقدَّم الأفكار ببعض التردد في إحدى المحاورات، مع الاعتراف بطبيعتها المؤقتة، ثم تظهر هذه الأفكار مرةً أخرى في عملٍ آخر، غالبًا بشكل مختلف إلى حدٍّ ما. فمحاولاته المستمرة للتفكير بشكل أعمقَ توحي بأن فلسفته يجب ألا تُفهَم على أنها نظام كامل ومكتمِل، وربما توحي بأن الفلسفة الكاملة لن تُدرَك ولا يمكن أن تُدرَك بشكل نهائي أبدًا. يرى أفلاطون أن فكرة النظام الفلسفي نفسَها باعتباره منتَجًا نهائيًّا تمثِّل إشكالية؛ أي أن يكون النظام الفلسفي نظامًا لا يحتاج المرء إلا إلى الرجوع إليه، كما يرجع إلى الحقائق المكتوبة في الموسوعات. فالفلسفة، كما يتصورها أفلاطون، لا يُمكن أن تَسلُبَنا حاجتَنا لمواجهة المشكلات الفكرية والتعامل معها باعتبارها مشكلاتنا الخاصة.
لم يَسبِق لأي مفكر في الغرب أنْ بلغ مثل هذا الاتساع والعمق الفكري، وهذا التميز بحد ذاته يجعل من أفلاطون كاتبًا ذا أهمية كبيرة للغاية. ولكن ما يجعل أفلاطون فيلسوفًا عظيمًا ليس فقط كتابتَه في كثير من المواضيع، أو أن كثيرًا من أفكاره لا يزال ساريًا إلى الآن، ولكن أيضًا الأسلوب الذي استخدمه في الكتابة. فكتاباته الممتعة هي نتيجة لمهارته الفنية الاستثنائية في كتابة محاوراته؛ بالإضافة إلى جرأة الأفكار التي تملأ صفحات أعماله. فهو يهدف إلى أن يُزعزِع معتقَداتِ قرَّائه، وأن يُرشدهم لطريقة حياة فلسفية. وهذا هو السبب الرئيسي في أن كتاباته ما زالت تُقرأ حتى يومنا هذا؛ فلن يظل أي شخص يقرأ كتاباته بعقلٍ ناقدٍ (كما كان يرغب أفلاطون) دون تغيير.
تستهدف أعمال أفلاطون أيَّ قارئ نبيهٍ يبدأ في التفكير بجدية وبطريقة منهجية في الأخلاق والسياسة والدين والمعرفة والفنون. وهي لا تستهدف جمهورًا متخصصًا من الفلاسفة الأكاديميين (على الرغم من أن أفلاطون كتب أيضًا بعض الأعمال التي تندرج ضمن هذه الفئة). وهذا هو السبب في أنها تظل، حتى في يومنا هذا، مقدماتٍ مثاليةً للفلسفة، أو لموضوع بعينه فيها. فلا يمكن، على سبيل المثال، إيجادُ مناقشة فلسفية حول موضوع المعرفة أفضلَ من تلك التي تناولها أفلاطون في «مينو» أو «ثياتيتوس»؛ أو مناقشات حول مفهوم الحب أفضلَ من تلك المطروحة في «سمبوزيوم» و«فايدروس»؛ أو تناوُلٍ لموضوع الامتثال للقوانين أفضلَ مما ناقشه في «كريتو». وإذا كان هدف البحث هو إيجاد مناقشة مثيرة تدمج بطريقة منهجية الدينَ والعلوم والأخلاق والسياسة والفن والطبيعة البشرية، فليس ثَمةَ كتابٌ أفضل من «الجمهورية».
ومع ذلك فإن بعض كتاباته مليئة بالأجزاء العسيرة الفَهم، والتي لا يمكن فهمها إلا إذا قُرئت بعناية وعدةَ مرات. فكتابه «بارمينيدس»، على سبيل المثال، هو واحد من الأعمال الفلسفية المؤلفة الأكثر استعصاءً على الفهم على الإطلاق. فمن الصعب حتى تحديدُ موضوعه، ولكن أفلاطون يستكشف في أجزاء كبيرة منه الطرقَ المختلفة التي يمكن بها توحيد الأجزاء في كلٍّ واحد. وحتى في كتاباته الأيسر، لم يتوانَ أفلاطون عن تحدي قرائه فكريًّا. فهدفه هو إخراجنا من المياه الضحلة إلى المياه الأعمق. وفي أعماله الأكثر صعوبة، يتوقع أفلاطون من قرَّائه أن يكونوا قد اكتسبوا الخبرة بالفعل من قراءة كتاباته الأخرى. وفي بعض الأحيان، ينبه القارئ إلى أن فَهم إحدى المحاورات يعتمد على استيعاب محاورة أخرى، ولكنه في كثير من الأحيان لا يذكر ذلك. إن القرَّاء حديثي العهد بأفلاطون عادةً ما يجدوا الاستعانة بدليل لكتاباته أمرًا لا غنى عنه.
من أين يجب أن يبدأ المرء في أعمال أفلاطون؟ بأيٍّ من محاوراته التي تقارب الستة والعشرين؟ فالعدد تقديري؛ إذ إن بعض الأعمال التي تُنسب عادةً لأفلاطون لم يتفق جميع الباحثين المعاصرين على صحة نسبتها إليه. فقد طُرحت أسئلة حتى في العصور القديمة حول ما إذا كان بعض المحاورات التي جُمعت في طبعات هي أعمال له بالفعل. لا عمل بعينه هو العمل الأنسب أو الأفضل لبدء القراءة لأفلاطون. ولا تنقسم كتاباته إلى كتابات أساسية وأخرى هامشية؛ على أي حال، إذا كان يتعين على الشخص فرضُ هذا التمييز على كتاباته، فلا يكاد يوجد ما يمكن أن نعتبره حوارًا أفلاطونيًّا عديم الأهمية. فجميع أعمال أفلاطون، القصير منها والطويل، هي من تُحف الأدهار.
ومع ذلك فإن بعضًا من أعماله بلا شك يتطلب لفهمه معرفةً مُسبَّقةً بأعماله الأخرى. وهذه الأعمال هي «طيماوس»، و«كريتياس»، و«السفسطائي»، و«رجل الدولة»، و«القوانين» — التي كُتِب جميعها في وقت لاحق من حياته المهنية — مما يجعل عددًا كبيرًا من محاوراته بمنزلة المدخل إلى فكره. فالعديد من المحاورات تُقدَّم باعتبارها مقدمات؛ ومن الواضح أن أفلاطون أراد أن تكون هي المدخل المغريَ إلى الحياة الفلسفية. في حين تعتمد كثير من المحاورات الأخرى على اهتمامات القارئ الفلسفية.
قد يتساءل أيضًا قارئٌ مبتدئ: ما الأفكار الرئيسية لأفلاطون؟ ولكنك إن ركزت فقط على الاستنتاجات التي توصَّل إليها المتحدثون في محاوراته، فلن تكون بذلك قارئًا لكتاباته كما كان يرغب في أن تُقرأ، ولا كما ينبغي أن تُقرأ. ولا تُعَدُّ الأسباب التي يعطيها المتحدثون لاستنتاجاتهم؛ ولا الاعتراضاتُ على تلك الحجج التي يقدمها المتحدثون الآخرون؛ ولا العلاقات التفاعلية بين المتحدثين، التي تنقلها الأدوات الدرامية التي يستخدمها أفلاطون في كثير من الأحيان لبثِّ الحياة في الشخصيات المشارِكة في المحاورات، أقلَّ أهمية. إن فكرةَ أن أفلاطون كتب محاورات ولم يُظهر نفسه فيها مطلقًا متحدثًا؛ يجب أن تلعب دورًا مهمًّا في الطريقة التي نقرأ بها كتاباته. فعلى الرغم من أنه من الضروري السؤال عن الاستنتاجات التي يمكن استخلاصها مما يقوله المتحدثون، فإن ما يحققه أفلاطون من خلال توجيه قرَّائه نحو تلك الاستنتاجات من خلال حوار؛ هو أمر مهمٌّ بنفس القدر.
لا يَحفِز أفلاطون القرَّاء في العديد من أعماله للتفكير بشكل أعمق حول موضوع معين فحسب، بل يأمُل أيضًا في إقناعهم بالاستنتاجات غير التقليدية التي يقدمها المتحاورون الرئيسيون. فالعديد من المحاورات — وليس كلها — مثل «يوثيفرو»، و«لاخيس»، و«خارميدس»؛ لا تصل إلى استنتاج نهائي وصريح. ربما كان الهدف الرئيسي لأفلاطون من كتابة هذه المحاورات هو أن يُظهِر للقراء مدى صعوبة التفكير الفلسفي حول الموضوع قيد النقاش. ثَمة مبادئ أساسية معينة تتكرر في أكثر من حوار أو اثنين، ويتفق عليها جميع المتحدثين. ثَمة أيضًا متحاور — «سقراط» — يظهر في جميع المحاورات تقريبًا، ويلعب، في معظمها، الدور الرئيسي في المحادثة. يبدو سقراط ملتزمًا بمجموعة أساسية من المذاهب الفلسفية؛ ويمكننا القول إن هذه هي الاستنتاجات الرئيسية التي توصَّل إليها أفلاطون نفسه، وهي التي يسعى لتعليمها لنا؛ نحن قرَّاءَه.
إذَن، تتألف فلسفة أفلاطون في الأساس من عدة مذاهب. فالعالم الذي ندركه من خلال حواسِّنا، المكوَّنَ من أشياء عادية مثل الطاولات والأشجار والقمر والنجوم، ليس هو العالم الوحيد الموجود. إنه في الحقيقة انعكاس لواقع روحي أعمق لا يطرأ عليه أيُّ تغيير، ولا يمكن ملاحظته، ولكن يمكن إدراكه فقط بواسطة العقل. فمن الممكن وصْف الطاولات والأشجار والقمر والنجوم بأنها «جميلة»، ونحن حقًّا نجدها كذلك، ولكن يجب علينا التمييز بين الجمال الذي نراه فيها، الذي سيزول، وبين المفهوم غير المادي الأبدي؛ أي ما تشترك فيه هذه الأشياء الجميلة، الذي يجعلها جميلة. ويُطلِق أفلاطون على هذا المفهوم المثالي اسم «الشكل» أو «المثال».
إذَن، فالجمال هو شيء بذاته، ولا يجب الخلط بينه وبين أي شيء جميل عادي يمكننا ملاحظته. وهذا هو شكل الجمال. ليس الجمال وحده الذي يُعَدُّ شيئًا بذاته؛ فهناك أيضًا شكل الوحدة والراحة والحركة والمثلث والتماثل، وما إلى ذلك. إن عالم الأشكال كبير ومتنوع. في الواقع، عندما تصف كلماتنا خاصية واحدة، فما تشير إليه هذه الكلمات حقًّا هو الشكل. فالأشياء العادية التي نصفها بأنها «جميلة»، أو «كبيرة»، أو «مثلثة»، وهي فعلًا كذلك، تُطلق عليها هذه الصفات بسبب العلاقة التي تربطها بالجمال نفسه، أو الكِبَر نفسه، أو المثلثية نفسها. وهذا هو السبب في أن أفلاطون يؤمن بأن عالم الأشياء التي ندركها هو، بمنظور معين، عالم الظل. فالأشياء الكثيرة التي نصفها بأنها جميلة بينها وَحدة؛ وهي وجود شيء يجعلها جميعًا جميلة. وهذا ما يجب أن نحاول فَهمه، إذا كنا نرغب في تقدير ماهية الجمال تقديرًا كاملًا، واستيعاب قيمته الكاملة. ومن ثَمَّ يجب أن تستند الطريقة التي نعيش بها حياتَنا على فَهمٍ لواقع أعمق وغير مرئي.
قد يقارن المرء بين أفكار أفلاطون وأفكار أحد معاصريه، ديمقريطوس، الذي توصل إلى استنتاج مفادُه أن العالم المادي الذي نلاحظه لا يمكن فهمه إلا عندما ندرك أنه يخضع لسيطرة عالم من الأجسام أصغرَ بكثير؛ ذرات صغيرة غير مرئية، يوضح تنوُّعُ حركاتها وأشكالها وأحجامها خصائصَ الأجسام الكبرى التي تؤثر على حواسنا. فعند أفلاطون وديمقريطوس، لا يمكن الوصول إلى فَهمٍ أعمق للواقع إلا إذا اعترفنا بأن حواسنا لا تكشف بمفردها عن الكيانات الأساسية. خرجت فكرة ديمقريطوس للنور مرة أخرى في القرن السابع عشر، وكان لها تأثير عميق على فهمنا لعلمَي الفيزياء والكيمياء، ولكن فرضية أفلاطون تتمثل في أن هناك أشكالًا أكثر راديكاليةً من فرضية ديمقريطوس. فالأشكال، كونها غير مادية، هي كِيان من «نوع» يختلف جوهريًّا عن الأشجار والذرات. إنها غير مرئية، ليس لأن أعيننا لا يمكنها ملاحظتُها، ولكن بسبب طبيعتها ذاتها. ولم يقترح ديمقريطوس، رغم جرأته، كما فعل أفلاطون، فئةً أساسيةً جديدةً من الواقع، تتجاوز فئة الأجسام المادية؛ عالم من الكيانات غير المادية، ومن ثَمَّ غير القابلة للإدراك.
يرى أفلاطون أننا إذا تأملنا بعناية في حقيقتنا، فلن يكون أمامنا سوى الإقرار بوجود كيانات غير مادية. فنحن لسنا أجسادنا المادية. فنحن بالأحرى نستخدم هذا الجزء أو ذاك من جسدنا — نقرر تحريك أذرعنا أو إبقاءَ أفواهنا مغلقة — والكيان الذي يتحكم في الجسد ليس جسدًا آخر؛ إنما هو الروح. فالروح، لا الجسد، هي القادرة على فَهم الأشكال. وهذا ما يمكن توقعه؛ أن الكيان الذي يكتسب المعرفة لا بد أن يكون بطريقةٍ ما مناسبًا لذلك الذي يسعى لفهمه. والروح، كونها غير مادية، هي بالضبط نوعُ الكيان القادر على فهم الأشكال.
علاوةً على ذلك، يرى أفلاطون أن الروح ليست كيانًا يمكن أن يأتي إلى الوجود أو يفنى. فهي لا تموت بموت الجسد؛ ومن ثَمَّ علينا أن نتوقع وجود حياة مستقبلية، بها ثواب وعقاب تَجزي به أرواحٌ إلهية تهيمِن بأفضل طريقة ممكنة على الوجود الإنساني. وبما أن الروح لا تأتي إلى الوجود أبدًا، بل هي موجودة دائمًا، فقد عاش كلٌّ منا بالفعل العديدَ من الحيوات السابقة، كلٌّ منها داخل نوع مختلف من الأجساد. (النفس البشرية يمكن حتى أن تدخل جسد الحيوانات؛ ولذا فإن الحيوانات التي نراها حولنا ربما كانت يومًا ما بشرًا، وربما كنا نحن أنفسنا يومًا ما في أجساد حيوانات.) وفي وقت بعيد، قبل آلاف السنين، من المؤكد أنه كان لدينا فَهمٌ واضح بشكل خاص للأشكال؛ لأن الروح كانت آنذاك بلا جسد؛ ومن ثَمَّ كانت في أفضل حالة تمكِّنها من فهم الأشكال. لدينا جميعًا القدرة على استرجاع ما تعلَّمناه يومًا عن الأشكال، ويمكننا تحقيق هذا بأن نُصبح أقل تعلقًا، مما هو الحال لدى معظم الناس، بالممتلكات المادية، والمُتَع الجسدية، والمغريات الاجتماعية الزائفة، كالسلطة والمكانة الاجتماعية والثروة.
ويشدِّد أفلاطون على صعوبة مقاومة إغراء هذه القيم الدنيوية؛ لأن أعظم قوى الروح البشرية تميل بالفطرة نحو هذه القيم. ولكن وقتما يتحرر العقل من قبضتها، ويكون بإمكانه إجراء استكشاف فلسفي شامل حول ما هو ذو قيمة، فإنه يَخلُص إلى أن أعظم الخيرات المتاحة للبشر هي فهم طبيعة الأشكال، وتنظيم دوافعنا النفسية وشهواتنا وحوافزنا بشكل متناغم. وهذا التناغم الداخلي هو الأساس الوحيد الآمن للعلاقات العادلة بين البشر. ولن يزدهر المجتمع السياسي، ويكون مجتمعًا حقيقيًّا بدلًا من كونه معركةً بين فصائل متناحرة، إلا عندما يحكُمه أشخاص حققوا التناغم النفسي، وتوصلوا إلى فَهمٍ عميق لما هو ذو قيمة، وكرَّسوا أنفسهم للمصلحة العامة لجميع المواطنين. يتحقق الخير للجميع على أكمل وجه عندما يحكم المجتمعَ أشخاصٌ حريصون على المصلحة العامة، ولا يسعَون وراء السلطة والثروة لتحقيق مكاسب خاصة بهم، أشخاص فهِموا، بعد دراسة طويلة وتدريب، شكلَ الخير فهمًا صحيحًا.
لماذا كتب أفلاطون محاورات للتعبير عن الأفكار الأساسية؟ في «فيدروس»، أجرى أفلاطون على لسان سقراط كلامًا عن الضعف الكامن في كل الكتابات بصفتها وسيلة لتحقيق الفهم الفلسفي. فالكلمات، كما يقول لنا سقراط هنا، متجمدةٌ على الصفحة، فهي مجرد «صورة» ﻟ «خطاب حي، به روح». وعندما تُطرَح أسئلة على أطروحة فلسفية، فهي تعجز عن تقديم جواب. ولا يمكنها معرفةُ الافتراضات التي يقوم بها قرَّاؤها؛ لأنها لا تستطيع معرفة خلفياتهم ولا شخصياتهم؛ ومن ثَمَّ ستكون مناسِبةً لبعض القراء وغير مناسبة لبعضهم الآخر.
يعلق أفلاطون، على لسان سقراط، على قيود الكتابة الفلسفية. ويستخدم الحوار ليُذكِّر باستمرار بأن الفهم الفلسفي لا يمكن تلقينُه بواسطة الكتب وحدها. فالحوار المنطوق هو الوسيلة الأساسية للتعبير عن المسائل الفلسفية وتحقيق فهمها. وإذا كان طلبة الفلسفة يعرفون بالكاد ما كُتب في الأطروحات الفلسفية، فهُمْ بذلك لم يحققوا شيئًا يُذكَر. يجب عليهم استيعاب الموضوع استيعابًا كاملًا من خلال الانخراط في المناقشات الفلسفية. إن الأعمال المكتوبة ليست غير مفيدة بالكلية (سيكون من الغريب لو قبِل أفلاطون بمثل هذه الفكرة الشديدة الغرابة)، ولكنها أقل أهمية مقارنةً بالفلسفة الحية، التي هي بطبيعتها اجتماعية وعفوية. يتألف فَهمُ المسائل التي تناقشها الفلسفة من القدرة على شرح الفرد أفكاره للآخرين؛ ليس فقط لشخص واحد، بل لأصحاب وجهات النظر المختلفة.
كان لسقراط، الشخصية التاريخية الذي استعان به أفلاطون ليكون متحدثًا في محاوراته، تأثيرٌ عميق، ليس فقط على محتوى كتاباته، بل أيضًا على الشكل الذي اتخذتْه. يرى أفلاطون في سقراط الشخصَ الذي عاش بالطريقة التي يجب أن يعيش بها الإنسان؛ فمن خلال التحاور مع زملائه الأثينيين، سعى سقراط إلى فهم أعمق مشكلات الوجود البشري، وكان يأمُل من خلال ذلك إصلاحَ مجتمع فاسد وسطحي، أو ربما حتى إحداث ثورة فيه. لم يكتب سقراط كلمة واحدة، وعلى الرغم من أن أفلاطون لا يقلده تقليدًا أعمى في هذا الصدد، فقد أخذ من سقراط فكرة أن الحوار المنطوق هو أداة أساسية للفهم الفلسفي، والشكل الحواري الذي يَصوغ به كتاباتِه هو تجسيد لتلك الفكرة.
إن هدف أفلاطون، في معظم أعماله تقريبًا، هو ضمان استمرارية نهج سقراط الحواري والأخلاقي في جذب الأتباع. فهو يريد منا أن نصل إلى بعض الاستنتاجات (خاصة فيما يتعلق بمذاهبه الأساسية حول وجود الأشكال ولامادِّيَّةِ الروح)، ولا يريد أن نقبل بهذه الاستنتاجات بدافع من الاحترام لمكانة الفلاسفة. وهو يأمُل أن يستكمل مهمة سقراط، وأن ينقُل المعنى العميق لحياته؛ من خلال الانخراط في مشروع أطولَ بكثير من المحادثات، ولكنه يكتب أيضًا بطريقة يكون بناؤها ذاتُه تذكيرًا بأن الحوار المنطوق هو الوسيلة الرئيسية للفهم الفلسفي. لا يذكر أفلاطون نفسَه في كتاباته، ليس لأنه يريد منا أن نبذل الجهد لمعرفةِ ما يؤمن به، ولكن لأنه مقتنع بأن معرفةَ ما يؤمن به أفلاطون (أو أي شخص آخر) يجب ألا تكون المهمة الأساسية للتفكير الفلسفي. إن قراءة كتابات أفلاطون بروح أفلاطونية تعني اعتبار تفسير أفلاطون وسيلةً لهدف لأبعد؛ وهو تطوُّرُنا الفلسفي الخاص.
لا يسَعُ قرَّاءه على أي حال إلا أن ينتابهم الفضولُ حول تفاصيل حياته والبيئة الثقافية التي شكَّلت فكره، ويساعدنا في فَهمنا له أن نكون على دراية بالقوى التي أثرت فيه. لقد كان جميع المتحاورين، تقريبًا، في حواراته — وليس سقراط فقط — أشخاصًا حقيقيين يشغلون الطبقاتِ العليا من المجتمع الأثيني أو العالم الأكبر لدويلات المدن الناطقة باليونانية. وقد كان ذلك العالم مركزًا للنشاط الفكري والسياسي. وُلِد أفلاطون عام ٤٢٧ قبل الميلاد، أي بعد أربع سنوات من بداية الحرب البيلوبونيسية، التي نشبت بين إسبرطة، وهو مجتمع عسكري منظم للغاية، وأثينا الديمقراطية. هُزمت أثينا في عام ٤٠٤ قبل الميلاد، وبعد خمس سنوات حوكِمَ سقراط وحُكِم عليه بالإعدام بتهمة الفجور. أعطت تلك الأحداث أهمية كبيرة للأسئلة السياسية والأخلاقية التي تشغل بال أفلاطون. ففي محاوراته، فكر أفلاطون في المنظور الذي يمكن من خلاله انتقاد الأنظمة كإسبرطة وأثينا، واستكشف الأهداف التي ينبغي للمجتمعات السياسية أن تعطيها الأولوية، لا لكسر شوكة الأعداء الخارجيين فحسب، بل أيضًا للتغلب على الانقسامات الداخلية التي تُضعفها. وناقش متحاوروه طبيعةَ الآلهة، وكيف يمكننا معرفة طبيعة الوَرَع الحقيقي.
ولم يتأثر أفلاطون فحسب بالتيارات السياسية التي هزَّت أثينا في زمن الحرب، ولكن أيضًا بالتطورات الفكرية التي لفتت انتباهه إلى الأسئلة التي طرحتها النظرية الذرية لديمقريطوس والمفكرين التأمليين الآخرين في عصره. ويقال إن أفلاطون زار مجتمعًا من علماء الرياضيات في صقلية وهو على مشارف الأربعين من عمره، وتُظهر بعض كتاباته إلمامه بأساليب الهندسة المعاصرة ونظرية الأعداد ونتائجها. عاد أفلاطون إلى صقلية مرتين أُخريين في حياته، في محاولات غير ناجحة لتشكيل نظام ديونيسيوس الثاني بناءً على النموذج المُقدَّم في «الجمهورية» و«القوانين».
وبعد زيارته الأولى إلى صقلية، في منتصف ثمانينيات القرن الرابع قبل الميلاد، أسس مجتمعًا من العلماء في أثينا في بستانٍ بإحدى الضواحي؛ تخليدًا لذكرى البطل أكاديموس، وأطلق عليه اسم الأكاديمية. وجمع في هذه الأكايمية بعض علماء الرياضيات والفلاسفة الرائدين في عصره، ومنهم أرسطو، الذي غادر موطنه الأصلي ستاجيرا في عام ٣٦٧ قبل الميلاد في سن السابعة عشرة، ليعيش حياة مليئة بالبحث والكتابة في أكاديمية أفلاطون. وبقي أرسطو هناك لمدة عشرين عامًا، وغادر عندما توفي أفلاطون، في عام ٣٤٧ قبل الميلاد، وتولى رئاسة الأكاديمية ابن أخت أفلاطون. وبقيت الأكاديمية مؤسسة بحثية نشِطةً لثلاثة قرون أخرى.
يمكن أن يُعْزى الإحياء الأهم لفلسفة أفلاطون في العالم القديم إلى كتابات بلوتينوس، الذي كان نشطًا في القرن الثالث الميلادي. وكان لأعمال أفلاطون وبلوتينوس تأثير عميق على فلاسفة العصور الوسطى كأوغسطين وأكويناس، وعلى الفيلسوف الإنساني في عصر النهضة، مارسيليو فتشينو. لقد أعاد الفلاسفة المسيحيون إسناد الدور الرئيسي إلى الإله، وهو الدور الذي أسنده أفلاطون وبلوتينوس لشكل الفضيلة، وعلى الرغم من ذلك، فإن ثَمة العديد من أوجه التشابه بين شكل الفضيلة والإله؛ فهذان هما النموذجان الأبديان وغير الماديَّين، اللذان تم تشكيل بقية العالم على صورتهما، وانبثق منهما العالم.
ولكن وجد حتى المفكرون غير المسيحيين أو المعادون للمسيحية في القرنين التاسع عشر والعشرين معينًا لا يَنضَب من الأفكار وأدوات التفكير في كتابات أفلاطون. فالعديد من المشكلات التي شغلت متحاوريه لا تزال تشغلنا؛ كيف يمكننا تحقيق التناغم النفسي؟ كيف يمكن توحيد المجتمعات وحكمها حكمًا رشيدًا؟ ما الدور الذي ينبغي أن يلعبه الدين في الشئون المدنية؟ ما العدل، ولماذا ينبغي أن نكون عادلين؟ هل هناك أي أساس للتفكير في أن هناك نوعًا آخر من الواقع غير الواقع الذي نلاحظه بأعيننا وآذاننا؟ لا تُقدِّم كتابات أفلاطون بالضرورة أفضلَ الإجابات الممكنة عن هذه الأسئلة. ولكن إذا ساعدَنا أفلاطون في الوصول إلى إجابات خاصة بنا، فسيكون قد حقق هدفه الرئيسي بوصفه مؤلفًا.