الغزل

الغزل مجموع الحوادث والسلوك الذي يقع بين اختيار المحبوب والاتصال؛ فالاختيار هو البدء، والاتصال هو النهاية.

والغرض من الغزل التأثير في المحبوب المختار؛ ليستجيب بعواطفه وأعماله إلى الحبيب. وقد يكون الغرض هو التمتُّع بالمحبوب دون المبادلة. وهذا نادر الوقوع؛ إذ لا يرتاح الحبيب إلَّا بالنوال والاتصال، وفي ذلك يقول الشاعر:

أنت الحبيب ولكنِّي أعوذ به
من أن أكون مُحبًّا غيرَ محبوب

ذكر صاحب محاضرات الأدباء: «قال بعضهم: وجدت بمكة شابًّا مصفرًّا ناحلًا، فسألت عن حاله، فقال: بُليت بوصيفةٍ فذهب رأس مالي في ثمنها ونفقتها وليست تُحبني. فقلت: استمتع بها وعدها بعض نعيم الدنيا والآخرة. هل تُحبك العافية؟ هل تُحبك الصحة؟ هل يُحبك المال؟ هل تُحبك الجنة؟ فقال: لا. فقلت: أليس تُحب كل ذلك، وتتمتَّع به، مع أنه لا يُحبك؟ فهبها بعض نعيم دنياك وآخرتك. فقام كالمسرور، ورجع إليها، وسألها في سوء خلقها، حتى رجع الله تعالى بقلبها إليه، وطاب عيشه معها.»

فالمبادلة في الحب من المشاهدات الواقعة التي تُؤيِّدها عاطفة الإنسان نحو الجماد والإنسان. فكم من شخصٍ يجعل قطته أو كلبه أو عصفوره ينطق، فيُجري على لسانه كلامًا يتخيَّله في الوهم، ويشعر معه أن ذلك الحيوان يتبادل معه المحبة! ثم انظر إلى الذين يُشخِّصون الجماد، فيجعلون من الزهور والحجَر كائناتٍ «حيةً» تُحس وتعطف. والأطفال أوسع منَّا في الخيال، فهم ينفخون في اللعب والدمى أرواحًا، ويتوهَّمون فيها الحياة والإحساس. والذين يفعلون مثل ذلك من الكبار إنما يتراجعون إلى عهد الطفولة.

وإنما قصروا الغزل على المرأة، والحقيقة أن الإنسان يتغزَّل في كل شيء؛ في طعامه وملبسه ومسكنه والطبيعة المحيطة به، ولكن الغزل في المرأة أشهر؛ لأنها من الغايات العظمى التي تدور عليها الحياة. ومذهب فرويد يجعل من الغريزة الجنسية القوة الدافعة في حياة الإنسان.

ومن أبرز مظاهر الغزل المحادثة؛ لأنها وسيلة مبادلة العاطفة. كان سبب عشق المجنون ليلى أنه أقبل ذات يوم على ناقةٍ له كريمة وعليه حُلَّتان من حُلَلِ الملوك، فمرَّ بامرأة من قومه يُقال لها كريمة، وعندها جماعة نسوة يتحدَّثن، فيهن ليلى، فأعجبهن كماله وجماله، فدعونه إلى النزول والحديث، فنزل وجعل يُحدِّثهن، وأمر عبدًا له كان معه فعقر لهن ناقة، وظلَّ يُحدِّثهن بقيَّة يومه، فبينا هو كذلك إذ طلع عليهم فتًى على بُرْدَة من بُرَد الأعراب، يُقال له مُنازل، يسوق معزى له، فلمَّا رأينه أقبلن عليه، وتركن المجنون، فغضب وخرج من عندهن وأنشأ يقول:

أأعقر من جرا كريمة ناقتي
ووصليَ مفروش لوصل منازل؟!

قال: فلمَّا أصبح لبس حلته، وركب ناقةً له أخرى ومضى متعرِّضًا لهن، فألفى ليلى قاعدةً بفناء بيتها وقد علِق حبه بقلبها وهويته، وعندها جُويريات يتحدَّثن معها. فوقف بهن وسلَّم، فدعونه إلى النزول وقلن له: هل لك في محادثة من لا يشغله عنك منازل ولا غيره؟ فقال: أي لعمري. فنزل وفعل مثل ما فعله بالأمس. فأرادت أن تعلم هل لها عنده مثل ما له عندها، فجعلت تُعرض عن حديثه ساعةً بعد ساعة وتُحدِّث غيره. وقد كان علق بقلبه مثل حبها إياه، وشغفته واستملحها، فبينا هي تُحدِّثه إذ أقبل فتًى في الحي، فدعته وسارَّته سِرارًا طويلًا، ثم قالت له: انصرف. ونظرت إلى وجه المجنون قد تغيَّر وامتقع لونه، وشقَّ عليه فعلها، فأنشأ يقول:

كلانا مظهرٌ للناس بُغضًا
وكلٌّ عند صاحبه مكين
تُبلِّغنا العيون بما أردنا
وفي القلبين ثَمَّ هوًى دفين

والنظر من وسائل الغزل، ولكنه لا يرتفع إلى مرتبة المحادثة التي تنفذ إلى القلب، وتفتح مغاليق الروح.

ويتقرَّب المحب إلى المحبوب بألوانٍ من السلوك، والأفعال، ونخص بالذكر تقديم الهدايا، وهذا رمز مادي للبذل والتضحية، وقد جرت عادة الأزواج في عهد الخطوبة؛ أي في الفترة التي تقع بين الاختيار والدخلة، أن يُقدِّم الزوج كثيرًا من الهدايا اللائقة التي تفخر بها الزوجة وتتيه به دلالًا على أترابها.

ويُقابل دلال المرأة غزل الرجل، وقد جعلتها سُنة الطبيعة المطلوبة وهو الطالب، فهي تتزيَّن وتتعطَّر، وتُبدي شيئًا من الصدود وغض البصر مع الحياء، والحياء من أبرز صفات الإناث.

وقد يكون دلال المرأة من إعراضٍ وإقبال، من قبيل المناورات التي ترمي إلى إيقاع الرجل في أسر المرأة، حتى يظل في شوقٍ دائم، وفي ذلك يقول المتنبي:

إذا لم يكن في الحب سخط ولا رضًا
فأين حلاوات الرسائل والكتب؟

ويقول بيرل: «إن الدلال دفاع حيوي ضد مخاطر الحب.» على أن هذا العبث الذي يبدأ دلالًا، كثيرًا ما ينتهي بتأصُّل الحب.

والصد دفاع طبيعي استجابةً لغريزة من أقوى غرائز النفس، وهي غريزة السيطرة التي يجعل منها «أدلر» أساس السلوك الإنساني كله، ويُفسِّر بها جميع تصرُّفاته، كما يفعل فرويد بالقول بالغريزة الجنسية. ذلك أن الحب خضوع لا شك في ذلك، وكثيرٌ من الناس تأبى عليهم عزة النفس والأنَفة والخضوع.

وفي هذا المعنى يقول أحمد بن يوسف:

تركتك والهجران لا عن ملالة
وردَّدت يأسًا من إخائك في صدري
وألزمتُ نفسي من فراقك خطة
حملتُ لها نفسي على مركب وعر
وإني وإن رقَّت عليك ضمائري
فما قدر حبي أن أذل لها قدري

ويقول «بيير جانيه»: إن عقلية المحب تخضع لتأثير التسلُّط أو الفكرة الثابتة. «فطريقة تفكيره، بأن يتمثَّل في خياله على الدوام نفس الشيء، ذلك التمثُّل المطلق المصحوب بالغفلة عن كل ما هو معقولٌ نافع، يُبيِّن لنا سمة هذه الأزمة، فهي حالة تسلُّط.»

قد يكون للطبيب النفساني «بيير جانيه» العذر في وصف حالة الحب بالتسلُّط، على الأخص إذا عرفنا أنه يصدر حكمَه على الشواذ والمرضى بأمراضٍ نفسية. فلا شك أن الحب إذا تمادى أعمى صاحبه عن المصلحة، بل قد يُؤدِّي إلى الجنون، وقصة مجنون ليلى أعظم دليل على ذلك. ولكن الحال مع سواد الناس مختلفة؛ لأن التسلُّط يسوق إلى عمى البصيرة، وفقدان الإرادة فقدانًا تامًّا، مع الرغبة في الحصول على المطلوب. والواقع من الأمر هو شعور المرء بسلطان الهوى ومحاولة مغالبته، والنتيجة إمَّا استسلام وإمَّا إحجام. فهناك صراعٌ بين الفكر والعاطفة والإرادة توضع فيها هذه الأمور في كفتَي ميزان.

روى صاحب الأغاني قال: كان للرشيد ثلاث جوارٍ اشتد شغفه بهن فقال:

ملك الثلاث الآنسات عناني
وحللن من قلبي بكل مكان
ما لي تُطاوعني البرية كلها
وأُطيعهن وهُنَّ في عصياني
ما ذاك إلَّا أن سلطان الهوى
وبه قوين أعز من سلطاني

فتسلُّط الهوى يدفع إلى الاستسلام، وإلى الإقبال على تعهُّد المحبوب كما يتعهَّد البستاني الشجرة في الحديقة، يرعاها ويسقيها ويُحيطها بمختلِف ألوان السياج لحمايتها. ويصبح المحبوب المطلوب الوحيد، يعيش في خيال المحب في الليل والنهار، حتى ينتهي الأمر بينهما إلى نوعٍ من الصلة الدائمة، وإلى الثبات العميق، وإلى ما يُسمِّيه ستاندال «التبلور الثاني».

ﻓ «التبلور الأول» ينشأ مع ميلاد الحب الذي تحدَّثنا عنه في الاختيار، ويصحب ذلك — كما وصف ستاندال — الإعجاب، ويقظة الرغبة من سباتها، والأمل. وفي هذه الأحوال الثلاثة تتجمَّع الآراء الدقيقة حول موضوع العاطفة؛ أي المحبوب، ويتذبذب الحكم من النفي إلى الإثبات، ويتردَّد العزم بين الإقدام والإحجام. والمظهر العقلي لهذا التذبذب في العاطفة هو الشك، والشك يمنع ثبات أو تبلور الحب. إنها مرحلةٌ شاقة يقطعها المرء في كثيرٍ من المحنة، حتى إذا اجتازها بسلامٍ خرج الحب أقوى ممَّا كان في أول الأمر، وأشد تأصُّلًا؛ إذ يميل المحب إلى تفسير إشارات المحبوب وسلوكه بما يتفق مع عاطفته.

وهذا تفسير الرضا في حالة الغزل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤