الحاجة إلى الحب

قال أحدهم لصاحبه: إني سأُحب. قال الثاني: ومن هي محبوبتك؟ أجاب الأول: لم أجدها بعد، ولكني أشعر بهذا الحب المقبل.

يدل هذا الحوار على شيئَين؛ الأول طلب المحبوب أو الرغبة في الحب، والثاني فراغ النفس من الحب، والشعور بنقصٍ في الحياة النفسية لا بد من إشباعه.

وهناك من يشعر بالحاجة إلى البغض، ولا تستريح نفسه إلَّا إذا حقَّق الكراهية في شيء.

كان الحُطيئة بذيئًا هجَّاءً، فالتمس ذات يوم إنسانًا يهجوه فلم يجده، وضاق عليه ذلك فأنشأ يقول:

أبت شفتاي اليوم إلَّا تكلُّما
بِشَرٍّ فما أدري لمن أنا قائله

وجعل يُدهور هذا البيت في أشداقه ولا يرى إنسانًا، إذ اطَّلع في ركنٍ أو حوض فرأى وجهه فقال:

أرى ليَ وجهًا شوَّه الله خلقه
فقُبِّح من وجهٍ وقُبِّح قائله

وقيل في هذا المعنى؛ أي الرغبة في الحب:

من عاش في الدنيا بغير حبيب
فحياته فيها حياة غريب
ما تنظر العينان أحسن منظر
من طالب إلفًا ومن مطلوب
ما كان في حُور الجنان لآدم
لو لم تكن حَوَّاء من مرغوب
قد كان في الفردوس يشكو وحدةً
فيها ولم يأنس بغير حبيب

ويذهب كثير من علماء النفس إلى أن الحاجة إلى الحب تعتمد على أساسٍ عضوي في الأعضاء التناسلية؛ وذلك فيما يختص بالحب بين الذكر والأنثى. والنظرية السائدة الآن هي أن الهرمونات الجنسية التي تُفرزها الغدد الخاصة بها تُؤدِّي إلى تهييج المجموع العصبي.

أمَّا فيما يختص بالموضوعات الأخرى التي يُحبها الإنسان، فمرجعها إلى شتَّى الغرائز، فحب الطعام يرجع إلى الشعور الغريزي بطلب الأكل وإشباع الجوع، والبخيل الذي يُحب جمع المال تتأصَّل فيه غريزة الاقتناء … وهكذا.

ويرجع استمرار الحاجة إلى الحب الجنسي عند الإنسان إلى الحياة الاجتماعية، فإذا كان الأساس في الحب الجنسي يعتمد على الغريزة، فالشكل الذي يتخذه، والحوافز التي تدفع إليه، تُثيرها الحياة الاجتماعية، وما يجري فيها من شتَّى الألوان الباعثة على إشعال الرغبة الجنسية؛ كالحفلات والمراقص والمجتمعات الدائمة الازدحام بالرجل والمرأة، حيث تلبس فيها أبهى الملابس، وتضع الأصباغ والعطور وأنواع الزينة، وتُسرف في ذلك إسرافًا شديدًا.

ويرى «بيير جانيه» أحد علماء النفس، أن الحاجة إلى الحب ترجع إلى «الفقر النفسي»؛ فعنده «أن أحوال المحبين، وما يُصرِّحون به من عباراتٍ لا تعم سائر الناس. ولا يشعر جميع المحبين بهذه الآثار الشديدة في الحب. ولعل أصحاب الحب الهادئ الرزين من ذوي الصحة الحسنة، أمَّا الآخرون فهم ضِعاف، مرضى بأمراضٍ نفسية.»

هذه النظرة صحيحة إلى حدٍّ كبير؛ فقد رأينا عند الكلام عن البلوغ أن الشاب يشعر بضعفٍ وانحطاط عند ظهور الاحتلام؛ وذلك لقلة خبرته وعدم نضوجه، فيركن إلى غيره.

وكثيرًا ما تبدو الحاجة إلى الحب في الأحلام، وفي أحلام اليقظة، في الصور والرموز والخيالات التي كثيرًا ما تكون صريحةً صراحةً تامة. وفي ظهور هذه الصور إشباع للحاجة الجنسية. ولا يكون هذا بطبيعة الحال إلَّا عند المحرومين من الحب؛ فالمرأة العانس أو الأرملة، وكلاهما محرومٌ من الزوج، تُشبعان رغبتهما في الأحلام، وقد ينتهي بهما الأمر إلى حالاتٍ مرضية، وإلى الهذيان. وأبرز الحالات ما تعتقد فيها المرأة أنها محبوبة ومطلوبة من شخص منزلته أعلى من منزلتها الاجتماعية، ويشغل مكان الصدارة. وكم من امرأةٍ تحلم أنها زوجة الملك! وكم من شابٍّ يتصوَّر أنه زوج الملكة!

على أن الذهاب مع «بيير جانيه» إلى اعتبار الحب من الحالات المرضية فيه شيء من الغلو والإسراف. وعندنا أن الإلحاح في طلب الحب، وعدم المقدرة على إشباعه، هو الحالة المرضية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤