العمل من أجل كَسْب العيش

حين كان أبي في الثانية عشرة من عمره وقد اجتاز ما استطاع اجتيازه من سنوات دراسة في المدرسة الريفية، اتَّجه إلى البلدة لخوض مجموعة من الاختبارات، كانت تُسمَّى اختبارات القبول، ولكنها كانت تُعرف عمومًا باسم «القبول». كانت كلمة «القبول» تعني حرفيًّا القبول بالمدرسة الثانوية، ولكنَّها كانت تعني أيضًا، على نحوٍ غير محدد، الدخول إلى العالم، عالم الحياة المهنية مثل مجال الطب أو المحاماة أو الهندسة أو التدريس. كان الصبية القرويون يدخلون ذلك العالم في السنوات السابقة للحرب العالمية الأولى على نحوٍ أسهل من الجيل التالي لهم. فقد كانت تلك الفترة فترة ازدهار ورخاءٍ في مقاطعة هورون وفترة توسُّع في البلاد. كان ذلك في عام ١٩١٣، ولم يكن عمر البلاد قد تجاوز خمسين عامًا بعد.

اجتاز أبي اختبارات القبول بتقديراتٍ مرتفعة والْتحق بالمدرسة التكميلية في بلدة بليث. كانت المدارس التكميلية تمنح أربع سنواتٍ من الدراسة الثانوية دون السنة النهائية التي كانت تُسمَّى المدرسة العليا أو السنة الخامسة؛ إذ كان عليك أن تذهب إلى بلدة أكبر من أجل ذلك. كان يبدو وكأنه في طريقه لتحقيق ذلك.

خلال الأسبوع الأول لأبي في المدرسة التكميلية، سمعَ المعلِّم يقرأ المقطع الشعري التالي:

Liza Grayman Ollie Minus,
We can make Eliza blind.
Andy Parting, Lee Beehinus.
Foo Prince in the Sansa Time.
اعتادَ أن يقرأ هذا المقطع علينا كدعابة، ولكنَّ الحقيقة أنه لم يسمعه كدعابة. ففي نفس الوقت تقريبًا، دخلَ إلى المكتب وطلبَ دفتر ملاحظاتٍ لمادة العلوم قائلًا: Signs Snow Paper والتي كان النطقُ الصحيح لها Science notepaper.

وسرعان ما دُهِشَ عندما رأى القصيدة مكتوبةً على السبورة:

Lives of Great Men all remind us,
We can make our lives sublime.
And, departing, leave behind us
Footprints on the Sands of Time.

وترجمة تلك الأبيات هي:

حياة العظماء تذكِّرنا جميعًا،
أنَّ في وسعنا الارتقاءَ بحياتنا.
والرحيلُ، يُخلِّف وراءنا
آثارًا على رمال الزمن.

لم يكن يأمل أن يتمَّ مثل هذا التوضيح المنطقي، ولم يكن ليحلم بأن يطلبه؛ فقد كان يرغب بشدة في أن يُمنَح الطلاب في المدرسة الحقَّ في أن تكون لهم لغة غريبة أو منطق غريب. لم يطلب منهم أن يتحرَّوا المنطق في كلماته؛ فقد كان لديه لمحة من الكبرياء ربما كانت تبدو أقرب إلى الإذعان، وهو ما جعله خائفًا وحساسًا وعلى استعدادٍ للانسحاب. أعرف ذلك تمام المعرفة؛ فقد صنعَ هناك لغزًا، صنعَ هيكلًا عدائيًّا من القواعد والأسرار تجاوز حدود ما كان موجودًا بالفعل. كان يشعر عن قربٍ بحس السخرية القاسي، وكان يبالغ في تقدير المنافسة، وحينها خطرَ له التحفظ العائلي والحكمة الريفية ليقولا له: ابقَ بعيدًا.

في تلك الأيام كان الناس في البلدة بوجه عام يتعالون على القرويين وينظرون إليهم على أنهم أكثر منهم اتصافًا ببطء الفهم وانعقاد اللسان والهمجية، وأكثر انصياعًا نوعًا ما رغم ما لهم من قوة. وكان القرويون يرون أن قاطني البلدات يتمرغون في الحياة السهلة المرفهة، ومن غير المُحتمَل أن ينجحوا في تجاوز المواقف التي تتطلَّب الجَلَد والاعتماد على النفس والكد والاجتهاد. كانوا يؤمنون بذلك على الرغم من حقيقة أن الساعات التي يقضيها الرجال في العمل داخل المصانع أو المتاجر كانت طويلة والأجور متدنية، على الرغم من حقيقة أن العديد من البيوت في البلدة ليس بها ماءٌ جارٍ أو مراحيض دافقة أو كهرباء. ولكن الناس في البلدة كانوا يحظون بإجازة في أمسيات أيام السبت أو الأربعاء وكامل يوم الأحد، وكان هذا كفيلًا بألا يكونوا جَلِدين. أما المزارعون، فلم يحظوا ولو بيوم إجازةٍ واحد في حياتهم، ولا حتى مَنْ ينتمون إلى الكنيسة المشيخية الاسكتلندية؛ فحتى الأبقار لا تحصل على راحة يوم الأحد.

حين كان أهلُ الريف يأتون إلى البلدة بغرض التسوق أو الذهاب إلى الكنيسة، فغالبًا ما كان يبدو عليهم الخجل والرسمية الشديدة. ولم يكن أهل البلدة يدركون أن هذا قد يُنظَر إليه باعتباره سلوكًا يدل على السمو والترفع؛ السلوكُ الذي يسعى صاحبه من ورائه إلى عدم السماح لأحدٍ منهم بأن يجعل منه أضحوكة. ولم يكن المال يُحدِث فارقًا كبيرًا. وربما كان المزارعون يحافظون على مخزونهم من الكبرياء والحذر في وجود المواطنين الذين لهم سيطرة عليهم.

قال أبي فيما بعد إنه قد الْتحق بالمدرسة التكميلية في سنٍّ صغيرة جدًّا، لم تمكِّنه من معرفة ما كان يفعل، وإنه كان عليه أن يبقى هناك، وكان عليه أن يجعل من نفسه شيئًا ذا قيمة. ولكنه قال إن هذا كان أمرًا شكليًّا تقريبًا، كما لو أنه لم يكن بالأمر الذي اهتمَّ به كثيرًا. ولم يكن الحال وكأنه قد ترك المنزل مع أوَّل إشارةٍ إلى أن ثَمَّةَ أشياء لم يكن يفهمها. لم يكن واضحًا تمامًا فيما يتعلَّق بالمدة التي مكثها هناك. ربما ثلاثة أعوام وجزءٌ من الرابع، أو عامان وجزءٌ من الثالث. ولم يتركِ المدرسة فجأة؛ فلم تكن المسألة مسألة الذهاب إلى المدرسة في أحد الأيام ثم التخلف عن الحضور في اليوم التالي وعدم الذهاب مجددًا. بل بدأ في قضاء المزيد والمزيد من الوقت في الأحراش ووقتًا أقل في المدرسة، حتى قررَ والداه أنه لا جدوى من التفكير في إرساله إلى بلدة أكبر لقضاء عامه الدراسي الخامس، وأنه ليس ثَمَّةَ أملٌ كبير في أن يلتحق بالجامعة أو يدخل الحياة المِهَنِيَّة. كان بإمكانهما تحمُّل نفقات ذلك — وإن لم يكن بسهولة — ولكن كان واضحًا أن تلك لم تكن رغبته. ولم يكن بالإمكان اعتبار ذلك خيبة أمل كبيرة؛ فقد كان ابنهما الوحيد، وكانت المزرعة ستئول إليه.

لم يكن يوجد ريفٌ بري في مقاطعة هورون حينذاك أكثر مما يُوجد الآن. ربما كانت مساحته أقل؛ فقد قُطِعَت أشجار المزارع تمامًا في الفترة ما بين عامي ١٨٣٠ و١٨٦٠، حين كان يتم افتتاح منطقة هورون. وجُرِّفَ العديد من الجداول المائية؛ وكان الشيء التالي الذي يجب القيام به هو تعديلها لكي تجري مثل القنوات المحددة المسار فيما بين الحقول. كان المزارعون الأوائل يكرهون رؤية منظر أي شجرة، ويعجبهم منظر الأرض الزراعية المنبسطة. وكان الأسلوب الذكوري في التعامل مع الأرض إداريًّا وديكتاتوريًّا. النساءُ وحدهن هنَّ مَنْ كُنَّ مسموحًا لهن بالاعتناء بالطبيعة وعدم التفكير دومًا بشأن ترويضها وإنتاجيتها، فقد كانت جدتي، على سبيل المثال، معروفة بأنها قد أنقذت صفًّا من أشجار القيقب الفضي بطول الشارع الموجود به منزلنا، كانت هذه الأشجار تنمو بجوار حقل زراعي، وكانت تزداد ضخامة وهرمًا، حتى إن جذورها كانت تتداخل مع عملية الحرث، وكانت تُظلِّل جزءًا أكبر مما ينبغي من المحصول. فخرج جدي وأبي في صباح أحد الأيام وعزما على قطع أولى هذه الأشجار. ولكن جدتي رأت من نافذة المطبخ ما كانا على وشك أن يفعلاه، وأسرعت وهي ترتدي مريلتها وعارضتهما على نحوٍ غاضب، ووبَّختهما، ومن ثَمَّ اضطرَّا في النهاية لحمل فَأْسيهما ومنشار القطع المتعارض الخاص بهما ومغادرة المكان. وبقيت تلك الأشجار وأفسدت المحصول على حافة الحقل حتى جاء شتاءُ عام ١٩٣٥ الفظيع وأجهزَ عليها.

ولكن القانون كان يُلزم المزارعين بتخصيص قطعة أرضٍ في الجزء الخلفي من مزارعهم لزراعة الأشجار. وكان بإمكانهم تقطيع الأشجار هناك بغرض الاستخدام والبيع على حدٍّ سواء. وبالطبع كان الخشب هو محصولهم الأول؛ فاستخدِم خشب الدردار التوماسي في صناعة ضلوع السفن الهيكلية، والصنوبر الأبيض في صناعة صواريها، حتى إنه لم يعد متبقيًا أيٌّ من هذين النوعين من الأخشاب إلا فيما ندر. وفي ذلك الحين، صارت هناك حماية قانونية لما تبقَّى من أشجار الحور والدردار والقيقب والبلوط والزان والأرز والشوكران.

عبر الأرض المخصَّصة لزراعة الأشجار — وتُسمَّى الأحراش — في الجزء الخلفي من مزرعة جدي، كان يتدفق جدول بليث، الذي كان قد جُرِّف منذ زمن طويل حين قُطِّعت أشجار المزرعة لأوَّل مرة. جُرِّفت الأرض ثم كُوِّنت ضفة عالية نمت عليها أجمات كثيفة من أشجار الأرز. كان هذا حيثما بدأ أبي الصيد بالشِّرَاك. فقد ترك المدرسة وبدأ يقتحم عالم صيد حيوانات الفراء. كان يمكنه تَتَبُّع جدول بليث لعدة أميال في أيٍّ من الاتجاهين حتى منبعه في بلدة جِرِي أو المكان الذي يصبُّ فيه في نهر ميتلاند الذي يصبُّ في بحيرة هورون. في بعض الأماكن — على الأخص في قرية بليث — كان الجدول يصير مرئيًّا للعيان لبعض الوقت، ولكن معظمه كان يجري عبر الأجزاء الخلفية من المزارع، حيث تصطف الأحراشُ على كلا جانبيه، ومن ثَمَّ كان من الممكن أن تتبعه دون أن يقع ناظريك على المزارع، والأرض المقطوع شجرها، والطرق الممهدة، والأسوار؛ كان من الممكن أن تتخيَّل أنك وسط الغابة مثلما كانت قبل مائة عامٍ مضت، ولمئاتٍ الأعوام قبل ذلك.

كان أبي قد قرأ كثيرًا من الكتب في ذلك الوقت، الكتب التي وجدها في المنزل وفي مكتبة بليث وفي مكتبة مدرسة الأحد. كان قد قرأ كتبًا لفينيمور كوبر، واستوعب الخرافات وأشباه الخرافات عن البرية التي لم يكن معظم الصبية القرويين من حوله يعرفون عنها شيئًا، لمَّا كان قليلون منهم فقط هم مَنْ كانوا يمارسون القراءة. كان معظم الصبية الذين أشعلت خيالاتهم نفس الأفكار التي كان يتبنَّاها يعيشون في المدن، وإذا كانوا أثرياء بالقدر الذي يسمح لهم بالسفر شمالًا كلَّ صيفٍ مع عائلاتهم، فقد كانوا يذهبون في رحلاتٍ بالقوارب وفيما بعدُ في رحلاتٍ لصيد الأسماك والحيوانات. وإذا كانت عائلاتهم أثرياءَ بحقٍّ، فإنهم كانوا يجوبون أنهار الشمال الأقصى بصحبة مرشدين من الهنود. كان الناسُ الذين يسعون لهذه التجربة في البرية يمرون بسياراتهم على ريفنا دون أن يلاحظوا وجود ولو جزءٍ من البرية هناك.

ولكن الصبية المزارعين من مقاطعة هورون، الذين كانوا يعلمون بالكاد بشأن هذا الريف الكبير العميق الذي يشكِّل جزءًا من منطقة الدرع الكندي الذي يرجع إلى عصر ما قبل الكمبري والأنهار البرية؛ منجذبون إلى الأحراش المنتشرة بطول الجداول المائية، على الأقل البعض منهم لفترة؛ حيث كانوا يصيدون الأسماك والحيوانات ويشيدون الطوافات وينصبون الأشراك. وحتى لو لم يكونوا قد قرءوا كلمةً واحدة عن ذلك النوع من الحياة، فقد كانوا على الأرجح لهم مغامراتهم فيها. ولكن سرعان ما كانوا يهجرون تلك الحياة لكي يشرعوا في عمل حياتهم الواقعي الشاق كمزارعين.

وكان من جملة الفروق بين المزارعين آنذاك، والآن، أنه في تلك الأيام لم يكن أحدٌ يتوقَّع أن يلعب الاستجمام دورًا منتظمًا في الحياة الريفية.

ولم يتخلَّ أبي، بوصفه صبيًّا قرويًّا لديه ذلك الإدراكُ الزائدُ، سواء المُلهم أو الرومانسي (لم يكن أبي ليكترث لتلك الكلمات)، والتعطشُ الذي غرسه فيه فينيمور كوبر؛ عن تلك المغامرات الشبابية في سن الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة أو العشرين. وبدلًا من ترك الذهاب للأحراش، اعتادَ الأمر على نحوٍ أكثر مثابرة وجِدِّية. وبدأ الآخرون يتحدثون عنه، وينظرون إليه كصائدٍ بالشِّراك أكثر منه مزارعًا شابًّا، وكشابٍّ محبٍّ للعزلة وغريب الأطوار بعض الشيء، وإنْ لم يكن شخصًا محلَّ خوف أو بُغْضٍ بأي حال. فقد كان يبتعد تدريجيًّا عن حياة المزارع، مثلما ابتعد من قبلُ عن التعليم والدخول إلى الحياة المهنية. كان يقترب نحو حياةٍ ربما لم يستطع بلورتها في خياله بوضوح، حيث إنه كان على دراية أفضل بالأشياء التي لم يكن يريدها عن تلك التي كان يريدها.

كيف كان يمكن تدبير الحياة داخل الأحراش البعيدة عن البلدات، على حافة المزارع؟

حتى هنا، حيث كان الرجال والنساء في أغلب الأحيان يرضَوْن بما يُقسم لهم أيًّا كان، تمكَّن بعضُ الرجال من تدبير الحياة وإدارتها. حتى في هذه القرية المستأنسة كان هناك بعض الزاهدين، بعض الرجال الذين ورثوا مزارع ولم يبقوا عليها، أو كانوا مجرد واضعي يدٍ جاءوا من أماكن لا يعلمها إلا الرب. كانوا يصيدون الأسماك والحيوانات ويرتحلون، وكانوا يرحلون ثم يعودون، أو يرحلون بلا عودة؛ على عكس المزارعين الذين كانوا كلما غادروا مواضعهم ذهبوا في عرباتٍ ذات خيول أو زلاجاتٍ أو بالسيارة كما هو سائد الآن، للقيام بمهام معينة في وجهاتٍ محددة.

كان يتكسَّب من عمليات الصيد بالشِّراك التي يقوم بها؛ إذ كان من الممكن لبعض جلود الحيوانات التي يصطادها أن تجلب له ما يعادل أجر عملٍ لمدة أسبوعين في مجموعةٍ لدرس الحنطة. ومن ثَمَّ لم يكن بإمكان مَنْ في المنزل إبداء أيِّ تذمُّر مما كان يفعله؛ فقد كان يدفع نفقات إقامته، وكان يساعد والده حين كانت تستدعي الضرورة. لم يكن هو ووالده يتحدثان معًا قط؛ فقد كان من الممكن أن يعملا طوال الصباح في قطع الأخشاب في الأحراش دون أن ينبسا بكلمة، إلا حين يضطران للحديث عن العمل. لم يكن لوالده اهتمامٌ بالأحراش إلا بوصفها منطقة للأشجار. كانت بالنسبة إليه أشبه بحقلٍ من الشوفان مع فارق أنَّ المحصول كان حطبًا.

كانت والدته أكثر فضولًا. كانت تسير نحو الأحراش في عصر أيام الأحد، وكانت امرأة طويلة ذات قامة منتصبة ومهيبة الطلَّة، ولكن كانت لها مشية ذات خُطًى واسعة تشبه مشية الصبية؛ حيث كانت تُلملم تنُّورتها وتُحرِّك قدميها بخبرةٍ وتَمَكُّن فوق الأسوار. وكانت خبيرة بالأزهار البريَّة وثمار التُّوت، كما كان بإمكانها أن تخبرك باسم أي طائرٍ من تغريده.

أطلعها على شِراكه حيث كان يصيد الأسماك، وانزعجت لهذا الأمر؛ لأنه كان من الممكن أن يوافق وقوعُ الأسماك في الشِّراك يومَ الأحد، وهذا أمرٌ مكروهٌ دينيًّا؛ فقد كانت غايةً في الصرامة بشأن جميع القواعد والالتزامات الدينية الخاصة بالكنيسة المشيخية. وقد كان لهذه الصرامة قصةٌ غريبة؛ لم تكن تنشئتها مشيخية على الإطلاق، بل عاشت طفولة وصِبًا تملؤهما السعادة وعدم التشدُّد كأحد رعايا الكنيسة الأنجليكانية، والمعروفة أيضًا باسم كنيسة إنجلترا. لم يكن ثَمَّةَ الكثير من الأنجليكانيين في ذلك الجزء من البلاد، وأحيانًا ما كانوا يُعْتَبَرون أقرب إلى الرومان الكاثوليك، وأقرب أيضًا للملحدين. فقد كانت عقيدتهم الدينية غالبًا ما تبدو في مجملها للآخرين عبارة عن مجموعة من الانحناءات والردود، تتخلَّلها عظاتٌ قصيرة، وتفسيراتٌ سهلة، وقساوسة دنيويين، والكثيرُ من الأُبهة والعَبث. كَانَتْ عَقِيدةً تَرُوق لوالدها، الَّذي كان أيرلنديًّا مُحِبًّا للصُّحبة، وقاصًّا، وشاربًا لِلْخَمر. ولكن حين تزوَّجت جدَّتي أغرقت نفسها في عقيدة زوجها المشيخية، وأصبحت أكثر تشدُّدًا من الكثيرين مِمَّنْ نشئوا فيها. لقد كانت أنجليكية المولد، خاضت سباق الاستقامة للعقيدة المشيخية مثلما وُلدت متشبهة بالصبية، وخاضت سباق ربَّة المنزل الريفية، بكل طاقتها. ربما تساءل الناسُ هل فعلت هذا بدافع الحب؟

لم يكن أبي وهؤلاء الذين كانوا يعرفونها جيدًا يعتقدون ذلك. فلم يكن ثَمَّةَ توافق بينها وبين جدي على الرغم من أنهما لم يكونا يتشاجران. فقد كان هو متأملًا صامتًا، وكانت هي مفعمةً بالحيوية واجتماعية. كلا، لم يكن ما فعلته من أجل الحب، بل من أجل الكبرياء؛ لكيلا تكون في موقف المهزوم أو تُنتقد على أي نحوٍ، ولكيلا تَدَعَ أحدًا يقول إنها قد ندمت على قرارٍ اتخذته، أو أرادت أيَّ شيءٍ لم تستطع نَيْله.

بَقِيَتْ على صداقتها مع ولدها على الرغم من مشكلة أسماك الأحد التي لم تكن تطهوها. كانت مهتمة بجلود الحيوانات التي كان يُريها إياها، وكانت تسمع عن قدر ما يحصل عليه من مال مقابلها. كانت تغسل ملابسه ذات الرائحة الكريهة، التي كان مصدرها طُعمَ الأسماك الذي كان يحمله، وأيضًا الأحشاءَ والفراء. من الممكن أن تكون ناقمة على ذلك، ولكنها كانت متسامحة معه كما لو كان ابنًا أصغر سنًّا بكثير مما هو عليه. وربما كان بالفعل يبدو أصغر في عينيها، بأشراكه وجولاته عبر الجدول المائي، وانطوائه؛ فلم يكن أبدًا يسعى وراء الفتيات، وفَقَدَ تدريجيًّا الاتصال بأصدقاء الطفولة الذين كانوا يفعلون ذلك. وهي لم تكترث لذلك. ربما يكون سلوكه قد ساعدها على تحمُّل خيبة الأمل التي شعرت بها بسبب عدم استمراره في المدرسة، وكونه لن يصبح طبيبًا أو قَسًّا. ربما كان بمقدورها أن تتظاهر بأنه ما زال يمكنه أن يفعل ذلك، وأن الخطط القديمة — التي وضعتها من أجله — لم تُنسَ، ولكن أُرجِئَتْ فقط. على الأقل لم يتحوَّل إلى مجرد مزارعٍ صامت، ولم يصبح نسخةً من والده.

أما من جهة جدي، فلم يُدْلِ بأيِّ رأيٍ، ولم يقل إن كان موافقًا أو رافضًا. فقد كان له طبعٌ يقوم على الانضباط والصمت. لقد وُلِدَ في موريس واستقرَّ فيها ليصبح مزارعًا، وكان عضوًا في حزب الأحرار الكندي وأحد أتباع الكنيسة المشيخية. وُلِدَ معارضًا لكنيسة إنجلترا، ومجموعة ميثاق العائلة، والأسقف سترون والحانات، ومؤيدًا للحق العام في الانتخاب (ولكن ليس للنساء)، والمدارس المجانية، والحكومة المسئولة، وجماعة تحالف يوم الرب. وُلِدَ ليعيش وفقًا لنظم قاسية وكياناتٍ رافضة.

انحرفَ جدي بعض الشيء؛ فقد تعلَّم العزف على الكمان، وتزوَّج من الفتاة الطويلة القامة، المتقلبة المزاج، الأيرلندية ذات العينين المختلفتين في اللون. وبعد أن فعل ذلك، انسحب من الحياة، وظلَّ لِمَا تَبَقَّى من حياته مخلصًا ومنظَّمًا وهادئًا. وكان هو الآخر محبًّا للقراءة. فكان في الشتاء ينتهي من أداء جميع أعماله — على النحو الأمثل — ثم يعمد للقراءة. لم يكن يتحدَّث قط عما كان يقرؤه، ولكن كان كلُّ مَنْ حوله يعرفون ذلك. ولقد كانوا يحترمونه ويوقرونه لذلك. وهذا أمرٌ غريب؛ إذ كانت هناك امرأة تحبُّ القراءة أيضًا، وكانت تستعير كتبًا من المكتبة طوال الوقت، ولم يكن أحدٌ يُكِنُّ لها أدنى قدرٍ من الاحترام؛ فقد كان الحديث دائمًا يدور حول كَمِّ الغبار المتراكم تحت أَسِرَّتها، وعن تناول زوجها للعشاء باردًا. ربما كان ذلك لأنها كانت تقرأ الروايات والقصص، فيما كانت الكتب التي يقرؤها جدي كبيرة ورصينة. كانت كذلك، حسبما كان يتذكر الجميع، ولكن لم يكن أحدٌ يتذكر عناوينها. كان يستعير الكتب من المكتبة، التي كانت في ذلك الوقت تَضُمُّ مؤلفات بلاكستون، وماكولي، وكارلايل، ولوك، وكتاب هيوم «تاريخ إنجلترا». وماذا عن كتاب «بحث في الفهم الإنساني»؟ وماذا عن فولتير؟ كارل ماركس؟ من الممكن أن يكون قد قرأ لهؤلاء.

والآن، تُرى لو كانت السيدة التي تتراكم كُتَل الغبار تحت أَسِرَّتها تقرأ تلك الكتب الرصينة، فهل كانت ستنال احترام الناس؟ لا أظن ذلك. لقد كانت النساءُ هُنَّ مَنْ قَيَّمْنَها، وأحكامُ النساءِ على النساء كانت أكثر قسوةً من أحكام الرجال على النساء. كذلك لا بد من تذكُّر أن جدي كان ينتهي من أداء عمله أولًا؛ فكانت أكداس الخشب لديه منظَّمة وإسطبله منسَّقًا، فلم تؤثر القراءة على سلوكه على أي نحو.

ثَمَّة شيءٌ آخر كان يُقال عن جدي، وهو أنه كان على قدرٍ من الثراء. ولكن الثراء لم يكن شيئًا يُسعى وراءه، أو يُفهَم، في تلك الأيام مثلما هو الآن. أذكر جدتي حين قالت لي: «حين كنَّا نحتاج إلى القيام بشيء — حين ذهب والدُكِ إلى بليث للالتحاق بالمدرسة وكان في حاجة إلى كتب وملابس جديدة وما إلى ذلك — كنت أقول لجدك: حسنًا، علينا أن نربي عجلًا آخر أو شيئًا من هذا القبيل ليدرَّ علينا دخلًا إضافيًّا.» ولكن، يبدو أنهما لو عرفا كيف يأتيان بهذا الدخل الإضافي، لكان في وسعهما أن يتحصَّلا عليه دومًا.

وهذا يعني أنهما دومًا في حياتهما العادية لم يكونا يتكسبان من المال ما كان في وسعهما تكسُّبه فعلًا؛ فلم يكونا يستغلان طاقاتهما وجهدهما لأقصى درجة. لم ينظرا إلى الحياة من هذا المنطلق، وكذا لم يَرَيَاها من منظور ادخار ولو جزءًا من طاقاتهما لأوقات السراء أُسوةً ببعض جيرانهما الأيرلنديين.

إذن كيف كانا يريان الأمر؟ أظن أنهما في الغالب كانا يَريَانِه كطَقْسٍ، موسميٍّ وجامد، شبيه جدًّا بأعمال المنزل. ربما لم تكن تستهويهما الأمور التي من شأنها أن تجعل حياتهما أيسر، مثل محاولة كسب المزيد من المال أو رفع المكانة وتحسين وضعيهما.

هذا تغيُّر في المنظور عن منظور الرجل الذي ذهبَ إلى إلينوي. لعله كان تأثيرًا ممتدًّا من هذا التراجع على سلالته الأكثر خجلًا أو الأكثر تأملًا.

لا بد أن هذه هي الحياة التي كان أبي يراها في انتظاره؛ حياة لم تكن جدتي آسفة تمامًا أن وجدته يتجنبها، على الرغم من خضوعها وإذعانها الشخصي لها.

ثَمَّة تناقضٌ واحد هنا، فحين تكتب عن أناسٍ حقيقيين، فإنك دائمًا ما تكون في مواجهة تناقضات؛ لقد كان جدي صاحب أول سيارة على طريق موريس الثامن، كانت من طراز جراي-دورت، وامتلك أبي في فترة المراهقة راديو ذا مكشاف بلوري، شيئًا كان كل الصبية يريدونه. بالطبع قد يكون قد دفع ثمنه من ماله الخاص.

ربما يكون قد دفع ثمنه من المال الذي كان يتحصَّل عليه من الصيد.

كانت الحيوانات التي يصيدها أبي بالشِّراك هي فئران المسك، والمِنك، والخر، ومن آنٍ لآخر الوشق الأحمر، إلى جانب ثعلب الماء وابن عرس والثعالب. كان يصيد فئران المسك في الربيع؛ لأن فراءها يكون في ذروة نقائه حتى نهاية أبريل، فيما تكون جميع الحيوانات الأخرى في أفضل حالاتها بَدءًا من نهاية أكتوبر حتى دخول الشتاء. أما ابن عرس الأبيض، فلا يبلغ فراؤه نقاءه الأقصى حتى العاشر من ديسمبر تقريبًا. كان أبي يخرج للصيد مرتديًا حذاء الجليد خاصته. وكان ينصب أشراكه الثقيلة بدائرة إطلاق تتخذ شكل الرقم ٤، وينصبه بحيث تقع ألواح الخشب وأفرع الشجر على فأر المسك أو المِنك. وكان يثبِّت أشراك ابن عرس في الأشجار. كان يربط ألواح الخشب معًا ليصنع شِرَاكًا على شكل صندوق مربع تعمل بنفس فكرة الأشراك الثقيلة؛ ولم يكن هذا بالأمر المعتاد لدى الصيادين الآخرين. أما الأشراك الفولاذية المخصَّصة لفئران المسك، فكانت تُثبَّت بحيث يُمسَك بالحيوان عادةً عند طرف سياجٍ منحدر من خشب الأرز. كان الصبر والبصيرة والمكر عناصر أساسية في هذا الأمر. فكان يضع للحيوانات النباتية قِطعًا لذيذة من التفاح والجزر الأبيض، أما آكلات اللحوم، مثل المِنك، فكان لها طُعم أسماكٍ سائغ يمزجه بنفسه ويتركه ليُعتَق في برطمان في الأرض. وكان هناك مزيج لحوم مماثل للثعالب يُدفَن في يونيو أو يوليو ويُستخرَج في الخريف؛ فكانت تنبش لاستخراجه من الأرض للتدحرج عليه، مستمتعة بالرائحة النتنة المنبعثة منه.

كانت الثعالب هي الأكثر إثارة بالنسبة إليه، فكان يتتبعها من الأنهار الصغيرة حتى التلال الرملية الصغيرة الوعرة التي أحيانًا ما كانت توجد بين الأحراش والمرعى؛ فقد كانت تحب الإيواء إلى التلال الرملية ليلًا. وتعلَّم أن يغلي مصائده في الماء ولحاء القيقب الأملس للقضاء على رائحة المعدن. وكانت مثل هذه الأشراك تُنصَب في العراء وتُنخَل فوقها كميةٌ من الرمال.

كيف يُقتَل ثعلبٌ أُوقِعَ في شَرَكٍ؟ لا يمكن بالطبع إطلاق النار عليه؛ لأن أثرَ الجُرح في الجلد ورائحة الدم يفسدان الشِّراك.

يُقتَل الثعلب بضربه ضربةً شديدة من عصا طويلة وقوية، ثم بوضع قدمك على قلبه.

عادة ما تكون الثعالب في البرية حمراء اللون، ولكن من حينٍ لآخر سوف يظهر ثعلب أسود بينها كطفرة وراثية تلقائية. لم يسبق لأبي أن اصطاد واحدًا من تلك الثعالب السوداء، إلا أنه كان يعرف أن بعضًا منها قد سبق اصطياده في أماكن أخرى، وتربيته على نحوٍ انتقائي لزيادة ظهور الشعيرات البيضاء عبر منطقتي الظهر والذيل، وحينئذٍ كانت تُسمى الثعالب الفضية. وكانت تربية الثعالب الفضية قد بدأت لتوِّها في كندا آنذاك.

في عام ١٩٢٥ ابتاع أبي زوجًا من الثعالب الفضية، ذكرًا وأنثى، وبنى حظيرةً لهما بجوار الإسطبل. لا بد أنهما قد بديا في البداية مجرد نوعٍ آخر من الحيوانات يُربى في المزرعة، مجرد شيءٍ أكثر غرابة من الدجاج أو الخنازير أو حتى ديوك البانتام؛ شيءٍ نادر ومبهرج مثل الطاوس، يثير فضول الزائرين. لعل أبي حين اشتراهما وأقام لهما الحظيرة اعتبر هذا دلالةً على أنه كان يعتزم أن يظل كما هو، أن يكون مزارعًا مختلفًا قليلًا عن غالبية المزارعين الآخرين، ولكن يظل مزارعًا.

وُلِدَت أول مجموعة من الثعالب الصغيرة وكان عددُها ثلاثة. بنى أبي مزيدًا من الحظائر، والْتقطَ صورةً لوالدته وهي تحمل الثعالب الصغيرة، كانت تبدو خائفة ولكن جريئة. كان اثنان من تلك الثعالب ذكورًا والثالث أنثى، وقد قتل أبي الذكريْن في الخريف حين أينع فراؤهما وباع الجلود بسعرٍ خيالي. وبدأت عملية الصيد تبدو أقل أهمية من عملية التربية هذه.

ثم جاءت امرأةٌ شابة في زيارةٍ لهم، كانت ابنة عمٍّ من الجانب الأيرلندي؛ مُدرِّسةً مفعمة بالحيوية ومثابِرة وجميلة، كانت تكبره ببضع سنوات. وسرعان ما أبدت اهتمامًا بالثعالب، وليس كما اعتقدت والدته أنها كانت تتصنَّع الاهتمام بغرض جذبه للزواج منها. (فقد تولَّدت كراهية شبه فورية بين والدته والزائرة، على الرغم من كونهما ابنتَي عم!) كانت قادمة من منزل أكثر فقرًا، ومزرعة أكثر فقرًا بكثير من هذه التي يعيشون فيها، وقد صارت مُدرِّسة بفضل جهودها الذاتية المستميتة. كان السببُ الوحيد وراء امتهانها هذه المهنة هو أن التدريس كان أفضل شيء للنساء صادفته حتى الآن. كانت مُدرِّسة حكومية مجتهدة في عملها، ولكنَّ بعض المَلَكات التي كانت لديها، وتعلم أنها لديها، لم تكن مُستَغَلة. كان من بين هذه المَلَكات انتهازُ الفرص وكسب المال، وهما مَلَكتان لم يكن لهما مكانٌ في منزل أبي مثلما لم يكن لهما مكانٌ في منزلها، وكان يبدو أنهما يُنظَر إليهما بازدراءٍ واستنكارٍ في كلا المنزلين، على الرغم من كونهما المَلَكتين الأساسيتين اللتين تأسَّست عليهما البلاد (واللتين غالبًا ما لم يكن يُؤتى على ذكرهما كثيرًا كذِكْر الاجتهاد والمثابرة). أخذت تتطلع إلى الثعالب، ولم ترَ فيها أي صلة رومانسية بالحياة البرية؛ بل رأت صناعة جديدة وفرصة لتحقيق الثراء. لم تكن تدَّخر سوى القليل من المال كي تشتريَ مكانًا يمكن أن تبدأ فيه هذا المشروع على نحوٍ جاد. لقد أصبحت هذه السيدة أمي.

•••

حين أفكرُ في والديَّ في الفترة التي سبقت مَوْلدي، بعد أن اتخذا قرارهما بالزواج، ولكن قبل أن يجعلا زواجهما — في تلك الأيام — قرارًا لا رجعة فيه، لا يبدوان فقط عاطفييْن وقليلَي الحيلة ومُغرَّرًا بهما إلى حدٍّ مذهل، ولكنهما أيضًا أكثر جاذبية مما كانا عليه في أي وقتٍ لاحق، وكأنه لا شيء في الحياة آنذاك كان مُحبِطًا ومُعجِزًا، وكأن الحياة كانت لا تزال تتكشف عن فرص، وكأنهما كانا يستمتعان بكل أنواع النفوذ والقوة قبل أن يميل أحدهما نحو الآخر. لا يمكن أن يكون هذا حقيقيًّا بالطبع — لا بد أنهما كانا قلقيْن بالفعل — فقد كانت أمي قَلِقة بشأن كونها في أواخر العشرينيات من عمرها ولم تتزوج بعد. لا بد أنهما قد صادفا الفشلَ بالفعل، وربما اتجه كلٌّ منهما نحو الآخر بتحفظاتٍ وليس بالتفاؤل الوافر الذي أتخيَّله، ولكنني أتخيَّله بالفعل، مثلما نحبُّ جميعًا أن نفعل بلا شك، ومن ثَمَّ لن نفكر أننا قد وُلِدنا من نتاج عاطفة دائمًا ما كانت شحيحة، أو مشروع دائمًا ما كان يفتقر إلى الحماس. أظن أنهما عندما جاءا واختارا المكان الذي سيعيشان فيه لما تبقَّى من حياتهما، على نهر ميتلاند غرب وينجهام في بلدة تيرنبيري في مقاطعة هورون، كانا يرتحلان في سيارة تسير على نحوٍ جيد على طرقٍ جافة في يوم ربيعي ساطع، وكانا رقيقيْن ووسيميْن وبصحةٍ جيدة وواثقيْن من حَظِّهما.

•••

منذ فترة ليست ببعيدة، كنت أستقلُّ السيارة مع زوجي عبر الطرق الخلفية لمقاطعة جراي، التي تقع إلى الشمال والشرق من مقاطعة هورون، مررنا بمتجر ريفي خاوٍ عند مفترق طرق، كانت له واجهاتٌ قديمة الطراز ذات ألواحٍ زجاجية طويلة وضيقة. في الناحية الأمامية بالخارج، كان ثَمَّةَ منفذ لمضخَّات وقودٍ لم تعد موجودة. وبالقرب منه، كانت توجد رابية من أشجار السماق والكرمات المتشابكة وقد أُلقيت بها كلُّ أنواع النفايات. كانت أشجار السماق بمنزلة المُحفِّز لذاكرتي، فنظرتُ مرةً ثانية إلى المتجر. بدا لي أنني كنت هنا يومًا ما، وأن المشهد كان مرتبطًا بشيءٍ من خيبة الأمل أو الهلع. كنت أعلم أنني لم أَقُدِ السيارة على هذا الطريق من قبلُ في حياتي الراشدة، ولم أكن أظن أنني من الممكن أن أكون قد جئتُ هنا في طفولتي؛ فقد كان المكان بعيدًا جدًّا عن المنزل. وقد كانت معظم رحلاتنا بالسيارة خارج البلدة إلى منزل جَدَّيَّ في بليث؛ إذ كانا قد استقرا هناك بعد أن باعا المزرعة. وكنا نذهب بالسيارة إلى البحيرة في جودريتش مرةً في كل صيف. ولكن بينما كنت أحدِّث زوجي بذلك تذكرتُ خيبة الأمل؛ الآيس كريم. حينها تذكَّرتُ كلَّ شيء؛ الرحلة التي قمت بها أنا وأبي إلى ماسكوكا في عام ١٩٤١، حين كانت أمي هناك بالفعل تبيع الفراء في فندق باين تري الكائن شمال جرفينهيرست.

كان أبي قد توقَّف هناك للتزوُّد بالوقود عند أحد المتاجر الريفية، واشترى لي آيس كريم. كان المكان منعزلًا، ولا بد أن الآيس كريم كان موجودًا في الحاوية الخاصة به لفترة طويلة، وربما يكون قد ذاب في مرحلة ما ثم أُعيد تجميده؛ فقد كان به كسرات صغيرة من الثلج، الثلج النقي، وكان مذاقه متغيرًا على نحو يدعو للكآبة، حتى البسكويت المغلِّف له كان ناعمًا وقديمًا.

قال زوجي: «ولكن لماذا كان عليه أن يسلك هذا الطريق إلى ماسكوكا؟ ألم يكن عليه أن يسلك الطريق رقم ٩ ثم يسلك الطريق السريع رقم ١١؟»

كان محقًّا، تساءلت إن كان من الممكن أن أكون مخطئة، من الممكن أن يكون متجرًا آخر في مفترق طرق آخر حيث اشترينا الوقود والآيس كريم.

بينما كنَّا نقود السيارة غربًا، متَّجِهين صوب التلال الطويلة لمقاطعة بروس والطريق السريع رقم ٢١، بعد الغروب وقبل حلول الظلام، تحدَّثت عن الشكل الذي ربما تبدو عليه أي رحلة طويلة بالسيارة — تمتد لأكثر من عشرة أميال — بالنسبة إلى أسرتنا، وإلى أي مدًى كانت مرهقة ومربكة. أخذتُ أَصِفُ لزوجي — الذي كانت أسرته ذات النظرة الأكثر واقعية من أسرتي يعتبرون أنفسهم من الفقراء الذين لا يمكنهم امتلاك سيارة — كيف جعل ضجيجُ السيارةِ وحركاتها والاهتزازُ والقعقعةُ وتقطُّعُ صوتِ المحرك وصوتُ التروس صعودَ التلال وقطع الأميال الطويلة جهدًا بدا أن الجميع يتقاسمونه. هل كان سيفرغ أحد الإطارات، وهل سيغلي الماء في الرادياتور، وهل ستتعرض السيارة لعطلٍ وتتوقف عن السير؟ بدا الأمر مع استخدام كلمة «عطل» كما لو أن السيارة كانت ضعيفة وغير متزنة، مع إشارةٍ إلى ضعف بشري غامض.

قلت له إن الأمر لم يكن بالطبع ليبدو كذلك لو كان لديك سيارة أحدث، أو لو كان بإمكانك تحمُّل نفقات إصلاح سيارتك والحفاظ عليها في حالة جيدة.

وتذكرت لمَّا كُنَّا متجهين إلى ماسكوكا عبر الطرق الخلفية. لم أكن مخطئة على الإطلاق، لا بد أن أبي كان قَلِقًا من قيادة السيارة عبر أي بلدة كبيرة أو على طريق رئيسي؛ كانت بها مشكلات كثيرة جدًّا حتى إنها لم يكن ينبغي أن تسير على الطريق مطلقًا. وكانت ثَمَّةَ أوقات لم يكن يستطيع فيها تحمل نفقات إصلاحها، ولا بد أن هذا كان واحدًا من تلك الأوقات. كان يفعل كلَّ ما في وسعه لإصلاحها وجعلها تستمر في الحركة، وكان أحد الجيران يساعده أحيانًا في ذلك. أذكر أبي وهو يقول: «هذا الرجل عبقرية ميكانيكية»، ما جعلني أرتاب في أنه نفسه لم يكن عبقريًّا في الميكانيكا.

عرفت الآن لماذا كان مثل هذا الشعور بالخطر والذعر مختلطًا بذكرياتي عن الطرق غير الممهدة، وأحيانًا غير المُحصَّبة — والبعض منها كان محززًا لدرجة أن أبي كان يطلق عليها الطرق المتعرجة — والجسور الخشبية ذات الحارة الواحدة. وبينما توالت الذكريات على ذهني، استطعتُ أن أذكر والدي وهو يخبرني أنه ليس معه من المال إلا ما يكفي للوصول إلى الفندق الذي كانت تقيم فيه أمي، وأنه لا يدري ماذا سيفعل إن لم يكن معها نقود. بالطبع لم يخبرني بذلك في حينها، فقد اشترى لي الآيس الكريم، وأخبرني أن أضغط على لوحة القيادة حين كنَّا نصعد التلال، وهو ما فعلته على الرغم من أنه كان آنذاك شيئًا تقليديًّا، مزحة، اعتقادًا عفَّاه الزمن. كان يبدو لي وكأنه يُسري عن نفسه.

لقد أخبرني عن ظروف الرحلة بعدها بسنوات، بعد وفاة أمي، حين كان يتذكر بعض الأوقات التي مرَّا بها معًا.

•••

لم يكن الفراء الذي تبيعه أمي للسائحين الأمريكيين (كنا دائمًا ما نتحدث عن السائحين الأمريكيين وكأننا نعترف بأنهم الوحيدون من السائحين الذين كان من الممكن أن يكونوا ذوي نفعٍ لنا) فراءً خامًا، بل كان مدبوغًا ومحاكًا؛ فكانت بعض الجلود تُقطَع، وتُحاك معًا في شكل قِطَع طولِيَّة لصنع قبعات؛ وأخرى كانت تُترك كاملة ويُفصَّل منها ما كنَّا نطلق عليه أوشحة. كان وشاح فراء الثعلب يُفصَّل من قطعة كاملة من الجلد، فيما كان وشاح فراء المِنك مؤلَّفًا من قطعتين من الجلد أو ثلاث. كان رأسُ الحيوان يُترك ويُوضَع له عينان زجاجيتان زاهيتان بُنِّيَّتَان مائلتان إلى اللون الذهبي، وكذا فَكٌّ صناعي، وكانت العروات المعدنية تُحاك على كَفَّي الحيوان. أظن أنه في حالة المِنك كان الفراء يُربَط من الذيل إلى الفم، بينما كان وشاح فراء الثعلب يُربَط من الكف إلى الكف، وكانت قبعات فراء الثعلب أحيانًا ما تُحاك بها رأس الثعلب في غير موضعها تمامًا، في منتصف الظهر، كنوعٍ من الزينة.

وبعد ثلاثين عامًا وجدتْ هذه الأنواع من الفراء طريقها إلى محال الملابس المستعملة، وربما كانت تُشترى وتُرتدى على سبيل المزاح والدعابة. فمن بين كل موضات الماضي الغريبة والباطلة، كان هذا الارتداء لجلود الحيوانات — التي لم تكن جلودًا لحيوانات واضحة المعالم — يبدو الموضة الأغرب والأكثر همجية.

كانت أمي تبيع أوشحة فراء الثعلب في مقابل خمسة وعشرين أو خمسة وثلاثين، أو أربعين أو خمسين دولارًا حسب عدد الشعيرات البيضاء، أو «الفِضِّية»، في الفراء. كان سعر القبعات يتراوح بين خمسين دولارًا وخمسة وسبعين دولارًا، وربما يصل إلى مائة دولار. بدأ أبي في تربية حيوانات المِنك وكذلك الثعالب في أواخر الثلاثينيات من القرن العشرين، ولكن أمي لم يكن لديها الكثير من أوشحة فراء المِنك لبيعها، ولا أذكر السعر الذي حدَّدته لها. لعلنا كنَّا قادرين على التخلص منها بتوريدها لتجار الفراء في مونتريال دون تحمُّل أي خسارة.

•••

احتلَّت مستعمرة حظائر الثعالب جزءًا كبيرًا من الأرض في مزرعتنا؛ إذ امتدَّت من خلف الإسطبل حتى الضفَّة العالية المُطلَّة على السهول الرسوبية المجاورة للنهر. كانت للحظائر الأولى التي أقامها أبي أسقف وجدران من السلك الدقيق على هيكل من الأعمدة من خشب الأرز، وكانت لها أرضيَّات تُرابية. أما الحظائر التي بُنِيَت فيما بعد، فكانت لها أرضياتٌ سلكية عالية. كانت جميع الحظائر متراصَّة بعضها بجوار بعض في «شوارع» متقاطعة، بحيث تشكِّل بلدة منفصلة، وكان يحيط بتلك البلدة سياج واقٍ عالٍ. وبداخل كلِّ حظيرة كان هناك مأوًى، وهو عبارة عن صندوق خشبي كبير به فتحات تهوية وسقف منحدر أو غطاء يمكن رفعه. وكان هناك ممرٌّ خشبي منحدر عبر أحد جوانب الحظيرة لتريُّض الثعالب. ولمَّا كانت أجزاء المبنى قد أُقيمت في أوقاتٍ مختلفة ولم يكن جميعها مخططًا له من البداية، فقد وُجدت كل الاختلافات التي تُوجد في أي بلدة حقيقية؛ فقد كانت هناك شوارع عريضة وأخرى ضيقة، وكانت هناك بعض الحظائر الفسيحة قديمة الطراز ذات الأرضيات الترابية وبعض الحظائر الحديثة الأصغر ذات الأرضيات السلكية التي كانت تبدو أقلَّ تناسبًا، على الرغم من أنها كانت صحية أكثر. وكان هناك اثنتان من البنايات الطويلة المقسَّمة إلى أقسام تُسمى «السقائف». كان للسقائف الجديدة ممشًى مغطًّى بين صفين متقابلين من الحظائر، له أسقف خشبية مائلة وأرضياتٌ سلكية عالية. كانت السقائف القديمة مجرَّد صف قصير من الحظائر المتصلة الملتصقة معًا على نحو بدائي نوعًا ما. أما السقائف الجديدة، فكانت مكانًا يعجُّ بالضجيج البشع ويكتظُّ بالثعالب التي حان قتل معظمها لأخذ جلوده قبل أن يُكمل سنة من عمره. كانت السقائف القديمة عبارة عن حي فقير كان يضم سلالات سيئة لم تكن ليُبقى عليها لعامٍ آخر. والثعلب الكسيح الذي يُولَد بين حين وآخر، بل — ولفترة ما — أنثى ثعلب أحمر تميل إلى البشر كانت أقرب لأن تُربى كحيوانٍ أليف. كان جميع الثعالب الأخرى تُعرض عنها إما لهذا السبب، وإما بسبب لونها، وكان اسمها — إذ كان لجميع الثعالب أسماء — السيدة العجوز. لا أعرف كيف جاءت إلى هنا؟ هل كانت طفرة بيولوجية شاذَّة ضمن إحدى المجموعات؟ أكانت ثعلبًا بريًّا شقَّ الطريق الخطأ أسفل السياج الواقي؟

حين كان التبن يُحصَد في حقلنا، كان بعضه يُوزَّع فوق الحظائر لحماية الثعالب من حرارة الشمس ولحماية فرائها من التحوُّل إلى اللون البُني، كان شكلها يبدو حقيرًا خلال فترة الصيف على أي حال؛ إذ كان الفراء القديم يسقط ويحل محله الفراء الجديد. وبحلول شهر نوفمبر كانت تبدو متألقة؛ بأطرافِ أذنابها ذات اللون الأبيض الثلجي وفرائها الخلفي الغزير الأسود، والطبقة العلوية ذات اللون الفضي. حينها تكون جاهزةً للقتل؛ ما لم يُبقَ عليها لاستخدامها بغرض الاستيلاد. فكانت جلودها تُفرد وتُنظَّف وتُرسَل لدبغها ثم إلى البيع في المزادات.

حتى ذلك الوقت كان كلُّ شيء تحت سيطرة أبي، إلا في حالة ظهور مرضٍ ما، أو المخاطرة باستيلاد سلالة معينة. كان كلُّ شيءٍ من صُنع يده؛ الحظائر، المأوى، حيث كانت الثعالب تستطيع الاختباء وولادة صغارها، وأطباق الماء — المصنوعة من الصفيح — التي كان تُمال من الخارج وتُملأ مرتين يوميًّا بالماء النظيف، والخزَّان الذي كان يُنقل عبر الشوارع، حاملًا الماء من المضخة، وحوض الطعام في الإسطبل، حيث يُمزَج الماءُ والطحينُ ولحمُ الخيول المفروم، وصندوقُ القتل، حيث تُرَش، يُرش على رأس الحيوان كمية كبيرة من الكلوروفورم لقتله. بعد ذلك، وما إنْ يُجفَّف الفراء ويتم تنظيفه ويُقشَّر من على ألواح الشد، حتى لا يصبح أيُّ شيء داخل نطاق سيطرته. كان الفراء يُرَصُّ على نحوٍ مستوٍ في صناديق الشحن ويُرسَل إلى مونتريال، ولا يصبح بوسعه عمل شيء سوى الانتظار ومعرفة كيف سيُقيم وبكم سيُباع في مزادات الفراء. وكان المال المُتحصَّل من هذا هو المصدر الأساسي للدخل، الذي يُقتطَع منه المال الذي يجب دفعه لسداد فواتير العلف، والمالُ الذي يجب دفعه للبنك، والمالُ الذي عليه دفعه من القرض الذي حصل عليه من والدته بعد تَرَمُّلِها. في بعض السنوات كان ثمن الفراء جيدًا إلى حدٍّ ما، وفي بعض السنوات لا بأس به، وفي سنواتٍ أخرى كان مترديًا للغاية. وعلى الرغم من أن أحدًا لم يتمكن من رؤية ذلك في حينها، فقد كانت الحقيقة هي أنه قد دخلَ هذا المجال متأخرًا قليلًا، ودون رأس مالٍ كافٍ للبدء على نطاق واسع خلال السنوات الأولى حين كانت الأرباح عالية. فقبل أن يبدأ مشروعه بفترة قليلة، جاءت فترة الكساد العظيم. وكان تأثير هذا على مشروعه متقلبًا، ولم يكن سيئًا على الدوام، كما قد تعتقد. ففي بعض السنوات كانت أحواله ميسورة أكثر قليلًا مما كان في المزرعة، ولكن سنوات الفقر كانت تفوق سنوات الرخاء. ولم تتحسَّن الأمور كثيرًا مع بداية الحرب؛ في الواقع كانت الأسعار في عام ١٩٤٠ تُصنَّف ضمن أسوأ الأسعار على الإطلاق. لم تكن الأسعار السيئة خلال فترة الكساد صعبة التقبل — فقد كان بإمكانه أن ينظر حوله ويرى أن الجميع تقريبًا كانوا على نفس الحال — ولكن الآن، مع ظهور وظائف الحرب وعودة الرخاء إلى القرية مرَّة أخرى، كان من الصعب جدًّا أن تعمل مثلما كان يعمل دون أن تجني أيَّ شيء.

قال لأمي إنه يفكر في الالتحاق بالجيش. كان يفكر في دبغ كل مخزونه من جلود الثعالب وبيعه، والالتحاق بالجيش كتاجر. لم يكن كبيرًا جدًّا على ذلك، وكان لديه من المهارات ما يجعله نافعًا في هذا الشأن؛ فكان بإمكانه أن يكون نجَّارًا، بالنظر إلى جميع أعمال البناء الي قام بها في مزرعته. أو كان بإمكانه أن يكون جزَّارًا، بالنظر إلى كل الخيول العجوزة التي ذبحها وقطَّعها للثعالب.

وَاتَتْ أمي فكرةٌ أخرى، اقترحت عليه الاحتفاظ بأفضل الجلود وعدم إرسالها إلى المزادات بل دبغها وحياكتها — أي تحويلها إلى أوشحةٍ وقبعاتٍ مزوَّدة بالعيون والمخالب — ثم أخذها وبيعها. وكان الناس حينذاك يملكون بعض المال. وكانت هناك نساءٌ يملكن المال والنزعة التوَّاقة إلى التأنُّق، وكان هناك سائحون. كنَّا نعيش بعيدًا عن المناطق التي تُوجد بها الطرق والبلدات الرئيسية، ولكنها سمعت عن السائحين، وكيف أن المنتجعات الفندقية بماسكوكا كانت تكتظُّ بهم. كانوا يأتون من ديترويت وشيكاجو وبحوزتهم المال لشراء الخَزَف العظمي القادم من إنجلترا، وكنزات شيتلاند، وبطاطين خليج هدسون. فلِمَ لا ينفقونه في شراء فِراء الثعالب الفضية؟

حين يتعلق الأمر بالتغييرات والاجتياحات والاضطرابات، فإنك تجد نوعين من الناس؛ إذا بُنِيَ طريقٌ سريع عبر الفِناء الأمامي لبعض الناس، فستجد أن بعضهم يشعرون بالإهانة والإساءة، وينعون خسارة خصوصيتهم، وجنبات الفاوانيا والليلك، وبُعدًا من أبعاد شخصيتهم. أما البعض الآخر، فيرى في ذلك فرصة؛ إذ سوف يقيمون منفذًا لبيع الهوت دوج، أو يحصلون على امتياز لإقامة مطعم للوجبات السريعة، أو يفتتحون نُزلًا. وكانت أمي من الصِّنف الثاني من أولئك الأشخاص؛ فقد ملأتها فكرة توافد السائحين بأموالهم الأمريكية إلى الغابات الشمالية بالحيوية.

في الصيف، وكان آنذاك صيف عام ١٩٤١، انطلقتُ إلى ماسكوكا بحمولة الفراء التي ملأتُ بها حقيبة السيارة. ووصلت والدة أبي لتتولَّى شئون منزلنا. كانت لا تزال ممشوقة القوام ووسيمة، ودخلت عرين أمي وهي تحمل نذير سوء؛ فقد كانت تكره ما كانت تفعله أمي بشأن البيع المتجول. كانت تقول إنها عندما كانت تفكر في السائحين الأمريكيين، كان كلُّ ما تتمنَّاه ألا يقترب منها أحدٌ منهم. وعلى مدار يوم مكثت هي وأمي في المنزل معًا، وخلال تلك الفترة تقمَّصت جدتي نسخة قاسية وكتومة من شخصيتها، لكن أمي كانت في حالة من الاضطراب جعلتها لا تلقي بالًا لذلك. ولكن بعد أن تحمَّلت جدتي المسئولية وحدها، لَانَ جانبها وتخلَّت عن صرامتها، وقرَّرت أن تغفر لأبي زواجه، مؤقتًا، وكذلك مشروعه الغريب وفشله. وقرَّر أبي أن يغفر لها الحقيقة المُذلة؛ وهي كونه مدينًا لها ببعض المال. كانت تصنع الخبز والفطائر، وتستفيد على نحوٍ جيد من خضراوات الحديقة، والبيض الجديد الذي يضعه الدجاج، والحليب والقشدة الدَّسِميْن من البقرة الجيرزي (فعلى الرغم من عدم امتلاكنا للمال، لم نكن نعاني مشكلة قط في الطعام). كانت تلمِّع الخزانات من الداخل وتزيل السواد من قعر القُدُور، وكنَّا نظنُّ أنه لن يزول أبدًا. وكانت تحدد العديد من الأشياء التي تحتاج إلى إصلاح، وفي المساء كانت تحمل دِلاء الماء إلى أحواض الزهور والمكان المزروعة به الطماطم. بعدها كان أبي ينتهي من عمله في الإسطبل وحظائر الثعالب ونجلس جميعًا على مقاعد الفِناء أسفل الأشجار الكثيفة.

كانت مزرعتنا الممتدة على مساحة تسعة أفدنة — لم تكن مزرعة على الإطلاق من منظور جدتي — تتمتَّع بموقع رائع؛ فكانت البلدة تحدُّها من الشرق، وكانت أبراج الكنيسة وبرج مبنى مجلس البلدة يظهران للعيان حين كانت أوراق الأشجار تتساقط، وعلى بُعد ميل أو نحو ذلك من الطريق الواقع بيننا وبين الشارع الرئيسي كانت هناك زيادة تدريجية في عدد المنازل، وتحوُّلٌ للممرات الترابية إلى أرصفة، وظهورٌ لمصابيح الشوارع المنفردة، بحيث قد تقول إننا نقطن في أقصى أطراف البلدة، وإن كان وراء حدودها البلدية الرسمية. ولكن إلى الغرب لم تكن ترى سوى منزل ريفي واحد، وكان هذا المنزل نائيًا، عند قمة تلٍّ يقع تقريبًا في المنتصف في الأفق الغربي. كنَّا دائمًا ما نشير إلى هذا المنزل بمنزل رولي جرين، ولكن الشيء الذي لم أتساءل عنه أو أتخيَّله قط هو مَنْ قد يكون رولي جرين، أو الطريق الذي يؤدي إلى هذا المنزل. لقد كان بعيدًا جدًّا، عبر حقل فسيح مزروع بالذرة أو الشوفان أولًا، ثم الغابات والسهول الرسوبية النهرية المنحدرة نحو المنحنى الكبير الخفي للنهر، ونمط التلال الجرداء أو الدغلية المتداخلة وراءها. كان من النادر جدًّا أن تتمكن من رؤية قطعة من الريف بهذه الدرجة من الخواء، وبهذه الدرجة من إثارة الخيال، في منطقتنا الزراعية الكثيفة السكان.

حين كنَّا نجلس للتطلع إلى هذا المشهد، كان أبي يلفُّ سيجارة ويدخِّنها، ويتحدَّث هو وجدتي عن الأيام الخوالي في المزرعة، وعن جيرانهم القدامى، والأشياء الطريفة — أي الأشياء الغريبة والكوميدية على حدٍّ سواء — التي حدثت. كان غيابُ أمي قد جلب نوعًا من السلام؛ ليس فقط بينهما، بل لنا جميعًا، وكأن لمحة ما من التيقظ والكفاح قد زالت؛ وكأن سمة من الطموح وتقدير الذات وربما السخط والتذمر، قد غابت. لم أعرف حينها تحديدًا ما هو هذا الشيء المفقود، ولم أعرف أيَّ حرمان، ولا ارتياح، هذا الذي سأعانيه إذا ذهب هذا الشيء للأبد.

كان أخي وأختي الصغيران يضايقان جدَّتي كي تسمح لهما بالنظر عبر نافذتها. كان لِعَيْنَي جدتي لون بندقي، ولكن كانت في إحداهما بقعة كبيرة تشغل ما لا يقل عن ثلث القزحية، وكان لون هذه البقعة أزرق. لذا كان الناس يقولون إن عينيها لهما لونان مختلفان، على الرغم من أن تلك لم تكن الحقيقة مطلقًا. كنَّا نطلق على البقعة الزرقاء نافذتها. كانت تتظاهر بالغضب حين يُطلب منها إظهارها، فكانت تطأطئ رأسها وتعنِّف مَنْ يحاول النظر فيها، أو كانت تغلق عينيها بإحكام، فاتحةً عينها ذات اللون البندقي الخالص فتحة صغيرة لترى إن كانت لا تزال محل مراقبة. وكانت دائمًا ما تُضبَط في النهاية وتستسلم للجلوس بلا حراك وعيناها مفتوحتان ليُنظَر بداخلهما. كان اللون الأزرق صافيًا لا يعكره شذرة من أي لون آخر بداخله، كان لونًا أزرق يزداد لمعانًا بفعل اللون الأصفر المائل إلى البُني في أطرافه، مثلما تتألق سماء الصيف بنفحاتِ السحب.

•••

كنَّا في المساء حين انعطفَ أبي إلى الطريق الخاص بالفندق، سرنا بين القوائم الحجرية للبوابة، وكان الفندق أمامنا؛ كان عبارة عن مبنًى حجري طويل ذي جملونات وشرفة بيضاء، وله أُصُص متدلية مليئة بالأزهار. تجاوزنا المنعطف المؤدي إلى ساحة انتظار السيارات، واتبعنا الممر شبه الدائري الذي أدَّى بنا إلى أمام الشرفة، مارِّين من أمام الناس الذين كانوا يجلسون هناك على الأراجيح والكراسي الهزازة ولم يفعلوا شيئًا سوى النظر إلينا، على حسب قول أبي.

«لا يفعلون شيئًا سوى التحديق ببلاهة.»

لمحنا اللافتة غير الظاهرة ووجدنا طريقنا نحو ساحة انتظار من الحصى بجوار ملعب التنس، وترجَّلنا من السيارة. كانت السيارة مغطاة بالتراب، وتبدو أشبه بمتطفلٍ خليع بين السيارات الأخرى المتوقفة هناك.

كنَّا قد قطعنا الطريق بأكمله والنوافذ مفتوحة، وهبَّت علينا ريحٌ ساخنة داخل السيارة، وتسبَّبت في تشابك شعري وجفافه. أدرك أبي أن مظهري ليس على ما يُرام، وسألني إنْ كان معي مشط، فعدتُ إلى داخل السيارة وأخذتُ أبحث عن واحدٍ ووجدته أخيرًا محشورًا في ظهر المقعد. كان متسخًا وفُقِدَت بعض أسنانه، فأخذتُ أحاول تمشيط شعري، وأخذ هو الآخر يحاول، وفي النهاية قال: «ربما تنجحين إذا اكتفيت بدفعه خلف أذنيك.» بعدها أخذ يمشط شعره وبدا عابسًا بينما كان ينحني للنظر في مرآة السيارة. سرنا عبر ساحة انتظار السيارات بينما أبي يتساءل بصوتٍ عالٍ إنْ كان علينا أن نجرِّب البابَ الخلفي أم الأمامي. يبدو أنه ظنَّ أنني قد يكون لديَّ رأيٌ مفيد بهذا الشأن؛ شيء لم يخطر له مطلقًا في أي ظروف مرَّت به من قبل، فقلت إننا ينبغي أن نجرِّب البابَ الأمامي؛ لأنني أردت أن ألقي نظرة أخرى على حوض الزنابق في المسطح الأخضر نصفِ الدائري الذي يحيط به الممر. كان هناك تمثالٌ لفتاة عارية الكتفين تلبس رداءً مربوطًا بإحكام عند ثدييها، وتحمل على كتفها إبريقًا؛ لقد كان هذا التمثال أحد أروع الأشياء التي رأيتُها في حياتي على الإطلاق.

قال أبي بصوتٍ خفيض: «فلتتحملي العواقب»، وصعدنا درجات السلم، وعبرنا الشرفة أمام أناس يتظاهرون بأنهم لا ينظرون إلينا. دخلنا الردهة، حيث الظلام الدامس لدرجة أن مصابيح صغيرة قد أُضيئت، في أغطية ناثرة للضوء من زجاج مُسنفر، في موضعٍ مرتفع على الخشب اللامع الداكن للجدران. على أحد الجانبين كانت هناك قاعة الطعام، كانت مرئية عبر الأبواب الزجاجية. كان كلُّ شيءٍ قد تمَّ تنظيفه بعد انتهاء العشاء، وكانت كل طاولة مغطاة بمفرش أبيض. وعلى الجانب الآخر، كانت هناك قاعة طويلة على طراز ريفي مفتوحة الأبواب بها مدفأة حجرية ضخمة في نهايتها، وقد افترشت أرضيتُها بجلد دب.

قال أبي: «انظري إلى ذلك، لا بد أنها في مكانٍ ما هنا.»

كان ما لاحظه في ركن الردهة هو واجهة عرضٍ زجاجية بارتفاع الخصر، وخلف زجاجها قبعةٌ من فرو ثعلب فضي معروضة بأسلوبٍ جميل على ما بدا كقطعة من المَخمل الأبيض، وعلى قمَّتها وُضِعت لافتة كُتِبَ عليها: «الثعلب الفضي، الرفاهية الكندية»، بخطٍّ انسيابي كُتِبَ بطلاءٍ أبيض وفضي على لوحة سوداء.

كرَّر أبي قوله: «في مكانٍ ما هنا.» أخذنا نحدِّق في القاعة ذات المدفأة، في حين رفعت امرأةٌ رأسَها، كانت جالسةً على أحد المكاتب تكتب، وقالت بصوتٍ عذب ولكن بعيد نوعًا ما: «أظنُّ أن أحدهم سيأتي إذا قرعت الجرس.»

بدا غريبًا لي أن يوجِّهك شخصٌ لم تره من قبل.

تراجعنا للخلف، وعبرنا الردهة في اتجاه بابَي قاعة الطعام، وعبرنا المساحة التي شغلتها الموائد البيضاء بأدواتها الموضوعة فوقها وزجاجها المفتوح وطاقات الزهور ومناديل المائدة البارزة كأكواخ بيضاوية، رأينا شخصين؛ امرأتين تجلسان إلى إحدى الطاولات بالقرب من باب المطبخ، تفرغان من عشاءٍ متأخر أو تحتسيان شاي المساء. أدار أبي مقبض الباب ورفعتا رأسيهما، ونهضت إحداهما وأقبلت نحونا بين الطاولات.

لم تكن اللحظة التي مرَّت دون أن أدرك فيها أن هذه السيدة هي أمي طويلةً، ولكن كانت ثَمَّةَ لحظة على أي حال. رأيتُ امرأة في ثوبٍ غير مألوف ذي لون كريمي مزدان بنقوش من أزهار حمراء صغيرة، كانت التنورة ذات ثنيات وتُصدِر صوتَ حفيفٍ من تطايرها، وكان القماش المصنوعة منه رقيقًا، كانت متألقة كتألق مفارش المائدة في القاعة ذات الألواح الخشبية الداكنة. كانت السيدة التي ترتدي الثوب تبدو نشيطة وأنيقة، وكان شعرها الداكن مفروقًا في المنتصف ومزينًا بإكليل منسق من الجدائل. وحتى عندما أدركتُ أن هذه السيدة هي أمي، حين وَضعتْ ذراعيها حولي وقبَّلتني، ناشرةً رائحة عَطِرة غير معتادة وغير مظهرة لأيٍّ من علامات العجلة والندم التي تميزها، ولا لأيٍّ من علامات عدم الرضا المعتاد عن مظهري أو طباعي، ظلَّ لديَّ شعور بأنها لا تزال شخصًا غريبًا نوعًا ما. كان يبدو لي أنها قد اقتحمت عالم الفندق بلا أدنى جهد، ذلك العالم الذي بَدَوْنا فيه كمتشردين أو فزَّاعتين؛ بدا وكأنها كانت تعيش هناك دومًا. في البداية شعرتُ بالدهشة، ثم بالخداع، ثم بالإثارة والأمل، مع اتجاه أفكاري صوب المميزات التي سأجنيها لنفسي في هذا الموقف الجديد.

تبيَّن لي أن السيدة التي كانت أمي تتحدَّث إليها هي مضيفة قاعة الطعام؛ كانت امرأة لها بشرة ذات لون بُنِّي ضارب إلى الصفرة، يبدو عليها الإرهاق، تضع طلاء شفاهٍ وطلاء أظافر باللون الأحمر القاني، وتبيَّن فيما بعد أنها تواجه العديد من المشكلات التي أسرَّت بها لأمي. وسرعان ما نشأ بيني وبينها جوٌّ من الود، فأقحمتُ نفسي في حديث الكبار للحديث عن كسرات الثلج والمذاق السيئ للآيس كريم، وذهبتْ إلى المطبخ وأحضرتْ لي طبقًا كبيرًا من آيس كريم الفانيليا المُغطَّى بصوص الشوكولاتة وتعلو قمته ثمرة كرز.

قلت لها: «أهذا صنداي؟» كان يبدو مثل آيس كريم صنداي الذي شاهدتُه في الإعلانات، ولكن لمَّا كانت تلك هي المرة الأولى التي أتذوقه فيها، أردتُ أن أكون واثقة من اسمه.

فقالت: «أظنُّ أنه هو، صنداي.»

لم ينهرني أحد، بل ضحك والداي، ثم قدَّمت السيدة بعضَ الشاي الطازج وشطيرةً لأبي.

ثم قالت: «سوف أترككم لكي تتحدثوا معًا»، وانصرفتْ وتركت ثلاثتنا بمفردنا في تلك القاعة الفخمة التي يعمُّها الهدوء. وراح والداي يتحدثان، إلا أنني لم أُعِرِ الكثير من الانتباه لحديثهما، ومن حينٍ لآخر كنت أقاطعهما لأخبر أمي شيئًا عن الرحلة أو عما كان يدور في المنزل، وأريتها موضعًا في ساقي حيث لسعتني إحدى النحلات. لم يطلب مني أي منهما التزام الهدوء؛ بل كانا يجيبانني بمرح وصبر. قالت أمي إننا سننام جميعًا الليلة في غرفتها؛ فقد كانت لديها غرفة من الغرف الصغيرة الواقعة خلف الفندق، وقالت إننا سنتناول الإفطار هنا في الصباح.

وقالت إنني عندما أنتهي لا بد أن أُهرَع إلى الخارج وألقي نظرة على حوض الزنابق.

لا بد أنها كانت محادثة سارة؛ فقد عمَّ أبي الارتياحُ، وعمَّ أمي الانتصار، كانت قد أَبْلَت بلاءً حسنًا بعد أن باعت كلَّ ما أحضرته معها تقريبًا، وكانت المغامرة ناجحة، وكان ذلك بمنزلة نجاحٍ لها، وإنقاذٍ لنا جميعًا. لا بد أن أبي كان يفكر فيما يجب القيام به أولًا؛ إصلاح السيارة في ورشة تصليح هنا، أم المغامرة بقيادتها مرة أخرى على الطرق الخلفية واصطحابها إلى ورشة التصليح في قريتنا التي يعرف أصحابَها؛ وأي فواتير يجب سدادها في الحال، وأيها يجب سداده على نحو جزئي. ولا بد أن أمي كانت تتطلع إلى المستقبل، وتفكِّر كيف يمكنها أن تتوسَّع، وما الفنادق الأخرى التي يمكنها تجربة هذا بها، وما العددُ الإضافي الذي يجب أن يصنعوه من الأوشحة والقبعات في العام القادم، وما إذا كان من الممكن أن يتطوَّر هذا المشروع إلى نشاطٍ تجاري على مدار العام.

لم يكن بإمكانها أن تتنبأ بمدى قرب دخول الأمريكيين معترك الحرب، وكيف أن ذلك سوف يجعلهم يلزمون ديارهم، وإلى أي مدًى سيتسبَّب ترشيد توزيع الوقود في تقليص نشاط المنتجعات الفندقية. ولم يكن بإمكانها التنبؤ بالهجمة التي سيُمنى بها جسدها، ذلك الهلاك الذي يتكون بالداخل.

ظلَّت أمي تتحدث بعد ذلك بسنواتٍ عمَّا حققته في ذلك الصيف، وكيف أنها قد عرفت الطريق الصحيح للمضي فيه، دون إلحاح مبالغ فيه، وإظهار قطع الفراء وكأنها مصدر لمتعة بالغة لها وليس مسألة مادية. ويبدو أن تقديم خصم على سِعْر المنتجات كان آخر شيء يخطر ببالها، فكان من الضروري أن تُظهر للقائمين على إدارة الفندق أنها لن تقلل من قيمة الانطباع الذي كانت ترغب في تركه لديهم، وأنها ليست بائعة متجولة، بل سيدة محترمة أضافت معروضاتها فارقًا فريدًا من نوعه. كان لا بد أن تصبح صديقة للإدارة والموظفين وكذلك النُّزلاء.

ولم يكن ذلك بالمهمة الشاقة بالنسبة إليها؛ فقد كانت تملك الغريزة الصحيحة التي تؤهلها لمَزْجِ اعتبارات الصداقة باعتبارات العمل؛ تلك الغريزة التي يملكها جميع الباعة البارعين. لم يكن عليها مطلقًا أن تحسب مكسبها وتبني عليه بفتور وجمود. فكلُّ شيءٍ كانت تفعله بتلقائية، وكانت تشعُّ بحماسٍ حقيقي في قلبها حيث تكمن مصالحها. ها هي تلك السيدة التي طالما كانت تعاني في حياتها مع والدة زوجها وعائلته، التي كان جيرانُنا يَرَوْنَها متعجرفة ومغرورة، وكان نساءُ البلدة بالكنيسة يظنُّونها حادة بعض الشيء، ها هي قد وجدت عالمًا من الغرباء شعرتْ كأنه عالمها في الحال.

•••

لكل هذا، ومع تقدمي في العمر، كان يراودني شعورٌ أقرب إلى الازدراء. كان بداخلي ازدراءٌ للفكرة الكاملة لاستخدام المرء مهاراته بهذه الطريقة، وجعل نفسه معتمدًا على استجابة الآخرين، واستخدام التملق والمداهنة بهذه البراعة والتلقائية لدرجة أنك حتى لا تدرك أنه تملق، وكلُّ ذلك من أجل المال. كنت أرى مثل هذا السلوك مشينًا، مثلما كانت تراه جدَّتي بالطبع، وسلَّمت بأن أبي كان لديه نفس الشعور على الرغم من أنه لم يُظهره. كنت أومن — أو ظننت أنني أومن — بالعمل الحثيث والفخر، وعدم الاكتراث بكون المرء فقيرًا، بل وامتلاك شعورٍ بالازدراء تجاه هؤلاء الذين يعيشون حياة مترفة.

حينئذٍ أسفت لفقدان الثعالب، لا أعني النشاط التجاري، ولكن الحيوانات ذاتها بأذنابها الجميلة وعيونها الذهبية الغاضبة. ومع تقدمي في العمر، وازديادي تحفظًا وعزلة عن أساليب الريف، وحتميات الريف، بدأتُ لأول مرَّة في تفنيد حبسها، والشعور بالأسف لقتلها، وتحويلها إلى أموال. (لم أصل أبدًا إلى حدِّ الشعور بأي شيء من هذا القبيل تجاه حيوانات المِنك، التي كانت تبدو لي حقيرة وأشبه بالجرذان وتستحق مصيرها.) كنت أعرف أن هذا الشعور نوعٌ من الرفاهية، وحين كنت أذكره لأبي، في السنوات اللاحقة، كنت أتحدث عنه بلا مبالاة، وبنفس الأسلوب كان يقول إنه يعتقد أن ثَمَّةَ ديانة ما في الهند تقرُّ بأن كل الحيوانات تدخل الجنة. كان يطلب مني أن أتخيَّل ماذا سيحدث إذا كان ذلك صحيحًا؛ أي أعداد من الثعالب الهادرة سوف يلتقيها هناك، ناهيك عن جميع الحيوانات ذات الفراء الأخرى التي اصطادها، وحيوانات المِنك، وكذلك الخيول الصاخبة التي كان يذبحها من أجل لحومها.

ثم قال، وإن لم يكن بهذا الحد من اللامبالاة: «أتعرفين، أنتِ تتعمقين في الأمور، يبدو أنكِ لا تدركين ما تتعمقين فيه.»

في تلك السنوات الأخيرة، بعد وفاة أمي، كان يتحدث عن اشتغال أمي بالبيع وكيف أنها أنقذت الموقف، كان يتحدث عن كيف أنه لم يكن يعرف ماذا سيفعل، في نهاية هذه الرحلة، لو اتضحَ أنها لم تجمع أي أموال.

قال: «ولكنها فعلت، لقد نجحت.» وأقنعتني النبرة التي كان يتحدث بها بأنه لم يكن يشاركني أنا وجدتي أبدًا تحفظاتنا، أو أنه تخلَّص بعزمٍ من مثل هذا الشعور بالخزي، إنْ كان قد أحسَّ به من الأساس.

إنه خزيٌ عاد إلى منبعه، ليصبح في النهاية مُخْزيًا في حدِّ ذاته بالنسبة إلي.

•••

في مساء أحد أيام الربيع في عام ١٩٤٩ — الربيع الأخير، بل الفصل الأخير الذي عشت فيه في المنزل — استقللت دراجتي إلى المسبك لتسليم رسالة إلى أبي. كنت نادرًا ما أركبُ دراجتي في هذا الحين، فلفترة، ربما طوال فترة الخمسينيات، كان ركوب أي فتاة لدراجة يُعتبر أمرًا غريبًا بعد أن تكبر بما يكفي — لِنَقُلْ — لارتداء حمَّالة صدر، ولكن من أجل الوصول إلى المسبك كان بإمكاني التنقل عبر الشوارع الخلفية، ولم أكن مضطرَّة للمرور بالبلدة.

كان أبي قد بدأ العمل في المسبك في عام ١٩٤٧، كان قد أصبح واضحًا في العام السابق أن مجال تربية الحيوانات ذات الفراء بأسره، وليس فقط مزرعة الثعالب خاصتنا، يتراجع بسرعة رهيبة. ربما كان لحيوانات المِنك أن تساعدنا على التغلب على الأزمة لو كنَّا قد توغلنا أكثر في تربيتها، أو لو لم نكن مدينين بالكثير من المال لشركة الأعلاف، ولجدتي، وللبنك. كان بإمكان حيوانات المِنك أن تنقذنا، ولكن أبي ارتكبَ نفس الخطأ الذي وقع فيه العديد من أصحاب مزارع الثعالب في تلك الفترة؛ فقد كان يعتقد أن نوعًا جديدًا أكثر شحوبًا من الثعالب، يُسمَّى بلاتينيوم، سوف ينقذ الموقف، وبالأموال المقترضة اشترى أبي ذَكريْن جديدين للتناسل، أحدهما بلاتينيوم نرويجي ذو لون أبيض أشبه بالثلج، والآخر يُسمَّى بلاتينيوم لؤلئي، وهو نوعٌ جميل من الثعالب ذو لون رمادي يميل إلى الزُّرقة. كان الناسُ قد سئموا من الثعالب الفضية، ولكن لا شك أنَّه مع هذه الأنواع الجميلة سوف تنتعش السوق.

في ظل وجود ذكرٍ جديد، كانت توجد بالطبع مجازفة فيما يتعلق بمدى جودة أداء هذا الذكر، وعدد الأبناء الذين سيرثون لون أبيهم. أظنُّ أنه كانت ثَمَّةَ مشكلة على كلتا الجبهتين، على الرغم من أن أمي لم تكن لتسمح بأسئلة أو أي حديث بالمنزل عن هذه الأمور. أعتقد أن أحد الذَّكريْن كان ذا طبيعة متحفظة، بينما كان الآخر ينجب ثعالب داكنة اللون في أغلب الأحيان. لم يكن ذلك يهم كثيرًا؛ لأن الموضة الرائجة كانت ضد الفراء الطويل الشعيرات تمامًا.

حين ذهبَ أبي للبحث عن وظيفة، كان من الضروري أن يجد وظيفة مسائية؛ إذ كان مضطرًّا لقضاء النهار بأكمله في تصفية مشروعه؛ فكان عليه دبغ جلود جميع الحيوانات وبيعها في مقابل أي سعر يستطيع الحصول عليه، وكان عليه أن يفكك السياج الواقي، والسقائف القديمة والجديدة، وجميع الحظائر. أعتقدُ أنه لم يكن مضطرًّا للقيام بذلك في الحال، ولكن لا بد أنه كان يرغب في تدمير كل أثرٍ للمشروع.

وحصلَ على وظيفة حارس في المسبك من الساعة الخامسة عصرًا حتى العاشرة مساءً. لم يكن يحصل على الكثير من المال من هذه الوظيفة، ولكن كانت ميزتها أنه كان قادرًا على القيام بعمل آخر خلال هذه الفترة أيضًا، كان هذا العمل الإضافي يُسمَّى غربلة الأرضيات، لم يكن ينتهي منها قط مع انتهاء نوبة عمله كحارس، وفي بعض الأحيان كان يعود إلى المنزل بعد منتصف الليل.

لم تكن الرسالة التي أحملها لأبي رسالة مهمة، ولكنها كانت مهمة في حياتنا الأسرية، كانت مجرد تذكرة له بأن يمرَّ بمنزل جدتي في طريق عودته إلى المنزل، مهما تأخرَ في العمل. كانت جدتي قد انتقلت إلى بلدتنا، بصُحبة شقيقتها، حتى تستطيع أن تكون ذات نفعٍ لنا، فكانت تصنع الفطائر والمافن وتصلح ثيابنا وترفو جوارب أبي وأخي، وكان من المفترض أن يتجه أبي إلى منزلها بالبلدة بعد العمل ليأخذ هذه الأشياء، ويتناول معها كوبًا من الشاي، ولكنه كثيرًا ما كان ينسى. كانت تجلس تمارس الحياكة، وتغفو تحت الضوء، وتستمع إلى الموسيقى إلى أن يتوقف إرسال محطات الراديو الكندي وتجد نفسها تلتقط تقارير إخبارية لأماكن بعيدة، وموسيقى جاز. كانت تنتظر وتنتظر دون أن يأتي أبي، وكان هذا قد حدث في الليلة الماضية، ما جعلها تتصل في وقت العشاء في تلك الليلة وتسأل بلباقة شديدة: «هل كان من المفترض بأبيكِ أن يأتي الليلة أم الليلة الماضية؟»

فقلت: «لستُ أدري.»

دائمًا ما كان يراودني شعورٌ بأن شيئًا ما لا يحدث على النحو الصحيح، أو لا يحدث مطلقًا، حين كنتُ أسمع صوت جدتي، كنتُ أشعر بأن عائلتنا قد خذلتها، كانت لا تزال في عنفوان نشاطها، وكانت تقوم على شئون منزلها وفنائه، وكان لا يزال بإمكانها حمل الكراسي ذات المساند إلى الطابق العلوي، وكانت تنعم بصُحبة خالتي الكبيرة، ولكنها كانت بحاجة إلى المزيد من شيءٍ ما؛ المزيد من الامتنان، المزيد من الطاعة، ممَّا حظيت به دائمًا.

«حسنًا، لقد جلستُ أنتظره الليلة الماضية لكنه لم يأتِ.»

«لا بد أنه سيأتي الليلة إذن.» لم أُرِدْ أن أقضي المزيد من الوقت في الحديث إليها؛ لأنني كنت أستعد لاختبارات الصف الثالث عشر، التي يتوقف عليها مستقبلي بأكمله. (حتى الآن، في ليالي الربيع الساطعة الجميلة، والأوراق لا تزال تشقُّ طريقها على الأشجار للتوِّ، بإمكاني أن أستشعر حماس الترقب المرتبط بهذا الحدث الجلل القديم، فأجدُ طموحي يتحرَّك ويرتعش مثل شفرة جديدة للقائه.)

أخبرتُ أمي بمحتوى المكالمة وقالت: «أوه، من الأفضل أن تستقلِّي دراجتكِ إلى أبيك وتُذَكِّريه وإلا وقعتْ مشكلة.»

كانت أسارير أمي تتهلَّل كلما كانت تضطر للتعامل مع مشكلة حساسية جدتي، وكأنها قد استعادت بعضًا من مهاراتها أو أهميتها في أُسرتنا، فقد كانت تعاني من داء باركنسون، كان المرض قد باغتها لفترة ما بأعراضٍ غير واضحة، ولكن حالتها شُخِّصَت مؤخرًا، وصرَّح الأطباءُ أنها مستعصية ولا علاجَ لها، وكان انتباهها يقلُّ شيئًا فشيئًا، فلم يعد بإمكانها السير أو الأكل أو التحدُّث بصورة طبيعية؛ إذ كان جسدها يتيبَّس على نحوٍ يصعب السيطرة عليه. ولكن كان لا يزال متبقيًا في حياتها فترة طويلة.

حين كانت تقول شيئًا كهذا عن الوضع مع جدتي — حين كانت تقول أيَّ شيءٍ يكشف عن وعي منها بالآخرين، أو حتى بالعمل الدائر في أرجاء المنزل — كنتُ أشعر بقلبي يرقُّ لها. ولكن حين كانت تنهي الحديث بإشارةٍ إلى نفسها، مثلما فعلتْ هذه المرة («وهذا سوف يثير ضيقي»)، أعودُ إلى قسوتي مجددًا، وأغضبُ منها لاستعلائها، وأشمئزُّ من اعتدادها بنفسها الذي بدا غايةً في الفظاعة ولا يليق تمامًا بأن يكون في أمٍّ.

لم يسبق لي الذهاب إلى المسبك خلال العامين اللذين عمل أبي خلالهما هناك، ولم أكن أعرف أين أجده. كانت الفتيات في نفس سنِّي لا يَحُمْنَ حول أماكن عمل الرجال، وإذا فَعَلْنَ ذلك، أو إذا ذهبن بمفردهن في نزهاتٍ طويلة سيرًا عبر طريق السكك الحديدية أو النهر، أو قُدْنَ الدراجات وحدهن على الطرق الريفية (وكنت أفعل الشيئين الأخيرين)، كنَّ أحيانًا ما يُقال عنهن إنهن «يبحثن عن المتاعب».

لم يكن لديَّ الكثيرُ من الاهتمام بعمل أبي في المسبك على أي حال، لم أكن أترقَّب أبدًا أن تجلب لنا مزرعة الثعالب خاصتنا الثراء، ولكنها على الأقل جعلتنا متفرِّدين ومستقلِّين، وحين كنت أتخيَّل أبي يعمل في المسبك، كنت أشعر أنه قد عانى الكثير. ونفس الشعور كان يراود أمي، كانت تقول: إن والدك رقيق جدًّا بحيث لا يتحمَّل هذا. ولكن بدلًا من موافقتها الرأي، كنتُ أجادلها، ملمحةً إلى أنها لا تحبُّ أن تكون زوجة عامل عادي وأنها مغرورة.

كان أكثرُ ما يثير حنق أمي هو الحصول على سلَّة الفاكهة والمكسرات والحلوى التي كان المسبك يرسلها لهم في أعياد الكريسماس؛ فلم تكن تطيق أن تكون الطرف المتلقي، وليس المانِح، في مثل تلك الأمور، وفي أوَّل مرَّة حدث فيها ذلك اضطررنا لوضع السلة في السيارة واستقلال السيارة لإعطاء السلة لإحدى الأُسَر التي نعرف أنها تحتاج إليها بشدة. وبحلول الكريسماس التالي كانت هيمنتها قد وهنت وانتزعتُ السلة، معلنةً أننا بحاجة إلى هدايا ومُتع شأننا شأن أي شخص آخر، فكفكفتْ دموعها بسبب نبرتي القاسية، وأكلتُ الشوكولاتة التي كانت قديمة وهشَّة ولونها يميل إلى الرمادي.

لم أرَ أيَّ مصدر للضوء في مباني المسبك، كانت النوافذ مطلية باللون الأزرق من الداخل؛ ربما لم يكن لأي ضوءٍ أن ينفذ بسبب ذلك، كان المكتبُ عبارة عن منزلٍ قديم من الطوب يقع في نهاية المبنى الأساسي الطويل، وهناك رأيتُ ضوءًا عبر الستائر الفينيسية، وظننتُ أن المدير أو أحد أفراد طاقم المكتب لا بد أنه كان يعمل لوقتٍ متأخر، واعتقدتُ أنني إذا طرقتُ الباب، فإن هذا الشخص سيخبرني بمكان أبي، ولكن حين نظرتُ عبر النافذة الصغيرة الموجودة بالباب، رأيتُ أن مَنْ بالداخل هو أبي، كان وحيدًا، وكان يدعك الأرضية.

لم أكن أعلم أن دعك أرضية المكتب كل ليلة من مهام الحارس (هذا لا يعني أن أبي قد تعمَّد إخفاء ذلك؛ ربما لم أسمعه وهو يخبر أمي بذلك). اندهشتُ لأنني لم أَرَهُ من قبل يقوم بأي عمل من هذا النوع؛ أعني الأعمال المنزلية. فالآن وبعد أن مرضتْ أمي صارت مثل هذه الأعمال مسئوليتي، ولم يكن لديه وقتٌ لذلك. إلى جانب ذلك، فقد كان ثَمَّةَ عملٌ للرجال وعملٌ للنساء، وكنت مقتنعة بذلك، وكذلك كل مَنْ كنت أعرفهم.

كانت الآلة التي يستخدمها أبي في الدعك مختلفة عن أي شيءٍ يملكه أي شخص بالمنزل للقيام بنفس المهمة؛ فقد كان لديه اثنان من الدِّلاء على حامل، يتحرك على عجلات، وله ملحقات على كلا الجانبين لحمل المماسح وفرش التنظيف. كان يدعك بقوة وبراعة؛ ولم يكن له إيقاعٌ نسائي مستكين وتقليدي، كان يبدو في حالة مزاجية جيدة.

اضطرَّ للقدوم وفتح الباب كي يدخلني.

وتغيَّر وجهه حين رأى أن الطارق هو أنا.

«لا توجد مشكلة في المنزل، أليس كذلك؟»

فقلت: لا. مما جعل أساريره تنفرج: «ظننتكِ توم.»

كان توم هو مدير المصنع، وكان الجميع ينادونه باسمه الأول.

«حسنًا إذن، هل جئتِ لِتَري إن كنت أفعل هذا على نحوٍ صحيح أم لا؟»

فناولته الرسالة، وهزَّ رأسه.

«أعلم، لقد نسيت.» جلستُ على ركنٍ من المكتب مؤرجحة ساقَيَّ بعيدًا عن طريقه. قال إنه تقريبًا انتهى من عمله هنا، وإنه سوف يأخذني في جولة عبر المسبك إذا أردتُ أن أنتظر، فقلتُ إنني سأنتظر.

حين قلتُ إنه كان في حالة مزاجية جيدة هنا، لم أكن أقصد أن مزاجه كان معكرًا في المنزل، وأن التَّجَهُّم والانفعال يسيطران عليه هناك، ولكنه الآن كان يُظهر مرحًا ربما لم يكن يبدو لائقًا في المنزل. في الواقع، كان يبدو وكأن عبئًا قد زال عن كاهله هنا.

حين انتهى من الأرضية بالشكل الذي يرضيه، علَّق الممسحة إلى الجانب، ودحرج الآلة عبر ممرٍّ منحدر يربط المكتب بالمبنى الرئيسي، وفتح بابًا عليه لافتة.

«غرفة الحارس.»

«إنها منطقتي.»

أفرغَ الماء من الدلوين داخل حوضٍ حديدي، ثم غسلهما بالماء وأفرغهما من جديد، ونظَّفَ الحوض. وعلى أحد الأرفف فوق الحوض بين الأدوات والخرطوم المطاطي والصمامات الكهربية وزجاج النوافذ الاحتياطي كانت توجد العلبة الخاصة بغدائه، التي كنت أضعُ فيها غداءه كل يوم حين أعودُ من المدرسة، كنتُ أملأ الترموس بالشاي الأسود الثقيل، وأضعُ فطيرة من المافن المصنوع من النخالة، مع الزبد والمربَّى وقطعة من الفطير إن توافر لدينا، وثلاث شطائر سميكة من اللحم المقلي مع الكاتشب. كان لحم أطراف كتف الخنزير أو نقانق بولونيا، وهما أرخصُ أنواع اللحوم التي كان يمكن للمرء شراؤها.

قادني إلى داخل المبنى الرئيسي. كانت المصابيح الموقدة هناك مثل مصابيح الإنارة بالشارع؛ أي إنها تلقي بضوئها على تقاطعات الممرات، ولكنها لا تضيء المبنى من الداخل بأكمله، حيث كان ضخمًا وعاليًا لدرجة وَلَّدت بداخلي إحساسًا بأنني في غابةٍ ذات أشجار داكنة كثيفة، أو في بلدة ذات مبانٍ طويلة متساوية. أوقدَ أبي مزيدًا من المصابيح، وتقلَّصت الأشياء قليلًا، فصار بإمكانك الآن أن ترى الجدران المُشيَّدة من الطوب، المُسوَدَّة من الداخل، ولم تكن النوافذ مطليَّة فحسب، بل كانت مغطاة بشبكة سلكية سوداء. وكان مصطفًّا على الممرات أكداسٌ من الصناديق، الواحد فوق الآخر في مستوًى أعلى من رأسي، وصواني معدنية كبيرة ومتماثلة.

وصلنا إلى مساحة مفتوحة، على أرضيتها كومةٌ كبيرة من الكتل المعدنية، تشوَّه شكلها كلها بما بدا أشبه بالثآليل أو البرنقيل.

قال أبي: «إنها المسبوكات. إنهم لم ينظفوها بعد، إنهم يضعونها في أداة غريبة تُسمَّى ماكينة العجلات الكاشطة التي تطلق شظايا نحوها، مزيلةً كل النتوءات عنها.»

بعدها رأيتُ كومة من الغبار الأسود، أو الرمل الأسود الناعم.

«يبدو ذلك كترابِ الفحم، ولكن أتعرفين ماذا يسمُّونه؟ الرمل الأخضر.»

«الرملُ «الأخضر»؟!»

«إنه يُستخدَم لتشكيل القوالب المعدنية. إنه رملٌ يحتوي على عامل الْتِصَاق، مثل الصلصال، أو زيت بذر الكتان أحيانًا. هل أنتِ مهتمة على أيِّ نحوٍ بكل هذا؟»

فقلت: نعم، وكان ذلك — في جزءٍ منه — حفظًا لكبريائي، فلم أشأ أن أبدو كفتاة غبيَّة، وقد كنتُ مهتمةً بالفعل، ولكن لم أكن مهتمة كثيرًا بالإيضاحات الخاصة التي بدأ أبي في تزويدي بها، كما في المؤثرات العامة؛ الظلام، التراب الناعم المنتشر في الهواء، فكرة وجود أماكن مثل هذه في جميع أنحاء البلاد، في كل بلدة وكل مدينة، أماكن ذات نوافذ مطليَّة، كنت تمرُّ بها في سيارة أو على متن قطار ولا تفكر أدنى تفكير فيما يدور بالداخل، شيء كان يتعلق بحياة أناس بأسرها، إنها عملية متكررة لا تنتهي وتستنفد الانتباه والحياة.

قال أبي: «المكانُ هنا يبدو كالقبر»، وكأنه الْتقط بعضًا من أفكاري.

ولكنه كان يقصد شيئًا آخر.

«يبدو كالقبر مقارنةً بما يكون عليه أثناء النهار، لا يمكنكِ تخيُّل الضجيج الذي يسود المكان أثناء النهار، حتى إنهم يحاولون أن يجعلوهم يرتدون سدادات الأذن، ولكنهم لن يفعلوا ذلك.»

«ولِمَ لا؟»

«لستُ أدري، إنهم مستقلُّون أكثر من اللازم، إنهم لن يرتدوا مآزر النار أيضًا. انظري هنا، يوجد هنا ما يسمُّونه الدست.»

كان ذلك عبارة عن أنبوبٍ أسود ضخم له قبة فوقه. أراني أين يعدُّون النار، والمغارف التي يستخدمونها لحمل المعدن المصهور وسكبه داخل القوالب. وأراني قطعًا من المعدن كانت أشبه بأفرع قصيرة سميكة غريبة الشكل، وأخبرني أن تلك هي أشكال التجاويف الموجودة في المسبوكات؛ ما يعني أن الهواء الذي في التجاويف يتجمَّد. كان يخبرني بهذه الأشياء وفي صوته نبرة من الرضا والإعجاب، وكأنَّ ما أفشاه لي قد منحه متعة موثوقة.

انزوينا إلى أحد الأركان، ومررنا على عامِليْن، وكان كلٌّ منهما يرتدي فقط قميصه وسرواله السُّفليين.

قال أبي: «ها هما اثنان من الزملاء المجدِّين الطيبين. أتعرفين فيرج؟ أتعرفين جوردي؟»

كنتُ أعرفهما، أو على الأقل أعرفُ مَنْ هما، فقد كان جوردي هول يوزِّع الخبز، ولكنه اضطرَّ للعمل بالمسبك ليلًا من أجل الحصول على مزيد من المال؛ نظرًا لكثرة أطفاله. كانت ثَمَّةَ دعابة منتشرة عن أن زوجته جعلته يعمل لكي تبعده عنها. أما فيرج، فكان رجلًا أصغر سنًّا تراه يجوب البلدة، لم يكن بإمكانه اجتذابُ الفتيات لوجود كيسٍ دهني على وجهه.

قال أبي بنبرة من الاعتذار الممزوج بالدعابة: «إنها ترى كيف نعيش نحن العمال.» كان يعتذر لهم نيابةً عني، كان يملأ الدنيا اعتذاراتٍ طريفة. ذاك كان أسلوبه.

كان العاملان يعملان معًا بحرص، وباستخدام خُطَّافات طويلة، رفعا قالبًا مصبوبًا ثقيلًا وأخرجاه من صندوق رمل.

قال أبي: «هذا ساخنٌ للغاية. لقد سُبِكَ اليوم، عليهما الآن أن يعدَّا الرمل ويجهِّزَاه من أجل عملية الصَّبِّ التالية، ثم تكرار ذلك مرة أخرى. إنه عملٌ بالقطعة كما تعلمين، ويُدفَع الأجر لكلِّ عملية صب.»

وانصرفنا.

قال لي: «الاثنان يعملان معًا هنا منذ فترة، كانا دائمًا يعملان معًا، إنني أقوم بنفس الوظيفة وحدي، تلك هي أثقل مهمة قاما بها هنا. لقد استغرق مني الأمر فترةً لأعتاد تلك الوظيفة، ولكنها لا تؤرقني الآن.»

كان الكثيرُ مما رأيته في تلك الليلة على وشك الاختفاء عمَّا قريب؛ الدست، المغارف التي تُرفَع باليد، الغبار القاتل. (لقد كان قاتلًا بالفعل؛ ففي كل أنحاء البلدة، وفي شرفات المنازل الصغيرة الأنيقة، كان هناك دومًا بضعة رجال جَلِدِين ذوي وجوهٍ صفراء يعرف الجميع ويتقبَّل أنهم يحتضرون بفِعل «داء المسبك»، من الغبار الذي يملأ رئاتهم.) الكثيرُ من المهارات والمخاطر الخاصة كانت على وشك التلاشي، الكثيرُ من المخاطر اليومية، إلى جانب قدرٍ كبير من الكبرياء الأهوج، والإبداع والارتجال العشوائيين. لقد كانت الأساليب التي رأيتُها أقرب على الأرجح إلى أساليب العصور الوسطى منها إلى أساليب العصر الحالي.

وأتخيَّل أن الشخصية الخاصة للرجال الذين كانوا يعملون في المسبك كانت على وشك التغيُّر، مثلما تغيَّرت الأساليب المُتَّبَعة في العمل، فلن يختلفوا كثيرًا عن العاملين في المصانع، أو في وظائف أخرى. حتى الفترة التي أتحدثُ عنها كانوا يبدون أقوى وأكثر غِلْظة من العمَّال الآخرين؛ فقد كانوا أكثر إباءً، وربما كانوا أكثر ميلًا للتضخيم من صفاتهم ومميزاتهم من الرجال الذين لم تكن وظائفهم قذرة أو خطيرة لهذه الدرجة. كان لديهم من الكبرياء والإباء ما منعهم من المطالبة بأي حماية من المخاطر التي كان عليهم مواجهتها، بل إنهم في حقيقة الأمر، حسبما كان يقول أبي، كانوا يحتقرون أي حماية تُعرَض عليهم. وكان يُقال إنهم كانوا أكثر إباءً من أن يشغلوا أنفسهم بتأسيس نقابة.

كان البديلُ لذلك هو السرقة من المسبك.

قال أبي بينما كنَّا نسير معًا: «سأقصُّ عليكِ حكاية عن جوردي.» كان «يقوم بجولة» الآن، وكان عليه وضع بطاقته في ساعات تسجيل وقت العمل في أجزاءٍ متعددة من المبنى، ثم تنظيف أرضياته. ثم أضافَ: «يحبُّ جوردي أن يأخذ معه إلى المنزل بعضَ الخشب والعوارض والقليل من صناديق الشحن أو أي شيءٍ، أي شيءٍ يعتقد أنه قد يفيد في إصلاح المنزل أو بناء سقيفة خلفية؛ لذا في الليلة الماضية أخذ حمولة من الأشياء وخرجَ بعد حلول الظلام ووضعَها في مؤخرة سيارته حتى تكون هناك حين ينصرف من العمل، ولم يكن يعلم أن توم كان في المكتب، وتصادفَ أنه كان واقفًا بجوار النافذة وراحَ يراقبه. لم يكن توم قد أحضر السيارة؛ إذ كانت السيارة مع زوجته وذهبت بها إلى مكان ما، وجاء توم سيرًا لتوِّه لأداء القليل من العمل أو لأخذ شيءٍ نَسِيَه، ورأى ما كان جوردي يعتزمه، وانتظر حتى رآه يهمُّ بالانصراف من العمل ثم خرجَ وقال: يا هذا، يا هذا! هل من الممكن أن توصلني إلى البيت؟ وقال له إن زوجته قد أخذت السيارة. ومن ثمَّ ركبا سيارة جوردي وبقية الزملاء الآخرين واقفين عاجزين عن النطق، وجوردي يتصبَّب عرقًا، فيما لم ينبسْ توم ببنت شفة. جلسَ توم يصفِّر بينما يحاول جوردي تشغيل السيارة، وتركَ جوردي يوصله إلى المنزل دون أن ينطق بكلمة، ولم يلتفت أو ينظر للخلف مطلقًا، بل لم ينتوِ ذلك مطلقًا، فقط تركه يغرق في عرقه، وحكى كلَّ ما حدث في كل أرجاء المسبك في اليوم التالي.»

كان من السهل أن تُولي الكثير من الاهتمام لهذه القصة وأن تفترض أن يكون بين الإدارة والعُمَّال نوعٌ من الألفة والتسامح، بل وتقدير أحدهم لمِحَنِ الآخر. وقد كان هناك قدرٌ من ذلك بالفعل، ولكن ذلك لم يكن يعني أنه لم يكن هناك أيضًا الكثير من الضغينة والقسوة وبالطبع الغش. ولكن الدعابات كانت مهمة، فكان الرجالُ الذين يعملون في نوبات المساء يتجمَّعون في غرفة أبي الصغيرة؛ غرفة الحارس، في أغلب الأوقات — ولكنهم كانوا يتجمَّعون خارج الباب الرئيسي حين يكون الطقس حارًّا في المساء — ويدخنون ويتحدثون بينما يأخذون راحتهم غير المُصرَّح بها. كانوا يحكون عن الدعابات التي ظهرت مؤخرًا وفي السنوات الفائتة، كانوا يتحدثون عن الدعابات التي قِيلت من وعن أشخاصٍ فارقوا الحياة منذ زمن، وفي بعض الأحيان كانوا ينخرطون في حديثٍ جادٍّ كذلك. كانوا يتجادلون بشأن وجود الأشباح من عدمه، ويتحدثون عمَّنِ ادعى رؤيته لأحدها، كانوا يتناقشون بشأن المال؛ مَنْ كان يملكه، ومَنْ فقده، ومَنْ كان يترقبه دون أن يأتيه، وأين يحتفظ به الناس. وأخبرني أبي عن تلك الأحاديث بعد سنوات.

ذات ليلة تساءلَ أحدهم: ما أفضل وقتٍ في حياة الرجل؟

قال البعضُ إنه حين يكون طفلًا ويستطيع التسكع طوال الوقت ويذهب إلى النهر في الصيف ويلعب الهوكي على الطريق في الشتاء وكل ما يفكر فيه هو التسكع وقضاء وقتٍ طيب.

أو حين يكون شابًّا يخرج ويتنزه دون أن يكون على عاتقه أي مسئوليات.

أو حين يتزوج لأول مرة إذا كان مولعًا بزوجته، وبعد ذلك بقليل أيضًا حين يكون الأطفال صغارًا يلعبون حوله ولم يُظهروا أيَّ سماتٍ سيئة بعد.

ثم أدلى أبي برأيه وقال: «هذه المرحلة من العمر، أعتقدُ أن أفضل وقتٍ قد يكون هذه المرحلة من العمر.»

فسألوه عن السبب.

فقال: لأنك لم تصبح عجوزًا بعدُ، قد تعاني تدهورًا في شيءٍ أو شيئين، ولكنك في سنٍّ كبيرة تكفي لأن تستطيع أن تدرك أن ثَمَّةَ أشياء عديدة ربما قد ترغبها في الحياة ولن يتسنى لك الحصول عليها أبدًا. كان من الصعب إيضاح كيف يمكن للمرء أن يكون سعيدًا في مثل هذا الموقف، ولكن في بعض الأحيان كان أبي يعتقدُ في سعادة المرء في مثل هذه المواقف.

عندما أخبرني عن هذا الأمر، كان يقول: «أعتقدُ أن الصحبة هي ما كنت أستمتع به، فحتى ذلك الحين كنت وحيدًا، ربما لم يكونوا من الصفوة، ولكن هؤلاء كانوا من أفضل الزملاء الذين قابلتهم على الإطلاق.»

كذلك أخبرني أنه في ليلة ما بعد فترةٍ ليست بالطويلة من تسلمه العمل بالمسبك حدثَ أن ترك العمل في حوالي منتصف الليل ووجدَ عاصفة ثلجية كبيرة تجري مجراها، فقد كانت الطرق مغطاة تمامًا بالثلوج، والثلج يهبُّ بقوة وسرعة شديدتين، لدرجة أن جرَّافات الثلج لم تكن لتخرج حتى الصباح، فاضطرَّ لترك السيارة حيث هي؛ فإنه حتى لو كان استطاع إخراجها من وسط الجليد، لم يكن ليستطيع التعامل مع الطرق، وبدأ الرحلة إلى المنزل سيرًا. كانت مسافة قدرها حوالي ميلين. كان السير شاقًّا، وسط الثلج المتراكم حديثًا، والرياح تهبُّ في اتجاهه من الغرب. كان قد انتهى من تنظيف عدَّة أرضياتٍ في تلك الليلة، وكان على وشك الاعتياد على العمل، وخرج وهو يرتدي معطفًا ثقيلًا من معاطف الجيش الضخمة، كان قد أعطاه إياه أحد جيراننا عندما لم يكن يجد له استخدامًا حين عاد من الحرب. ولم يكن والدي يرتديه كثيرًا أيضًا، كان عادةً ما يرتدي سترة قصيرة ثقيلة. لا بد أنه قد ارتداه في تلك الليلة نظرًا لانخفاض درجة الحرارة لما دون برودة الشتاء المعتادة، ولم تكن توجد مدفأة في السيارة.

أخذَ يَجُرُّ قدميه ويتحرك بصعوبة ضد الرياح، وعلى بُعد رُبع ميل تقريبًا من المنزل وجدَ أنه لم يكن يتحرك. بل كان واقفًا في منتصف ركام جليدي ولم يكن بمقدوره أن يحرك ساقيه، كان بالكاد يمكنه الوقوف ضد الرياح. كان منهكًا، وظنَّ أن قلبه ربما كان في طريقه للتوقف، وراح يفكر في موته.

سيموت تاركًا زوجةً مريضة مشلولة لا تستطيع حتى الاعتناء بنفسها، وأُمًّا عجوزًا مليئة بالإحباط وخيبة الأمل، وابنة صغرى، دائمًا ما كانت صحتها واهنة، وابنة كبرى لديها ما يكفي من القوة والذكاء، ولكن غالبًا ما كانت تبدو أنانية وعاجزة على نحوٍ غامض، وابنًا يتوسَّم فيه المهارة وإمكانية التعويل عليه، ولكنه لا يزال صبيًّا صغيرًا. سوف يموت مُحاصَرًا بالديون، وقبل حتى أن ينتهي من هدم الحظائر التي سوف تبقى هناك — أسلاكٌ متدلية على أعمدةٍ من خشب الأرز التي قطَّعها في مستنقع أوستن في صيف عام ١٩٢٧ — شاهدةً على فشل مشروعه.

قلت حين أخبرني بهذا: «أهذا كل ما كنت تفكر بشأنه؟»

فقال: «ألم يكن ذلك كافيًا؟» ومضى يخبرني كيف اقتلعَ إحدى ساقيه من الثلج ثم الأخرى؛ خرجَ من هذا الركام ولم يكن هناك أي ركامات ثلجية أخرى شديدة العمق، وقبل أن يمرَّ وقت طويل كان في حماية أشجار الصنوبر الواقية من الرياح التي زرعها بنفسه في نفس العام الذي وُلِدتُ فيه. ثم وصلَ إلى المنزل.

ولكني كنتُ أقصد: ألم يفكر في نفسه؛ في ذلك الصبي الذي كان يمارس الصيد عبر نهر بليث، ألم يكن يكافح من أجل نفسه؟ أعني هل كانت حياته آنذاك مجرد شيءٍ ينتفع به الآخرون؟

•••

كان أبي دائمًا ما يقول إنه لم ينضج بحقٍّ حتى ذهب للعمل في المسبك. لم يكن يرغب قط في الحديث عن مزرعة الثعالب أو مشروع الفراء، إلى أن صار عجوزًا واستطاع بسهولة أن يتحدث عن أي شيءٍ تقريبًا. ولكن أمي التي كانت حبيسة شلل متزايد، طالما كانت متلهفة لاسترجاع ذكريات فندق باين تري، والأصدقاء، والأموال التي جمعتها هناك.

•••

وكان بانتظار أبي عملٌ آخر، حسبما تبيَّن. لستُ أتحدث عن عمله بتربية الديوك الرومي، الذي جاء بعد العمل بالمسبك واستمرَّ حتى بلغ السبعين أو أكثر، والذي ربما قد أَلحق ضررًا بقلبه؛ إذ كان يجد نفسه يصارع ويحوم حول طيور تزن من خمسين إلى ستين رطلًا. جاء اشتغاله بالكتابة بعد أن تخلَّى عن مثل هذا العمل. فبدأ يكتب مذكراته ويحوِّل بعضًا منها إلى قصص نُشِرت في مجلة محلية ممتازة، وإنْ كانت لم تستمر طويلًا. وقبل وفاته بفترةٍ قصيرة كان قد انتهى من رواية عن حياة الروَّاد بعنوان «عائلة ماكجريجور».

أخبرني أن كتابة هذه الرواية كانت بمنزلة مفاجأة له؛ فقد اندهشَ أنه قد تمكَّن من أداء شيءٍ كهذا، واندهش من أن أداءه استطاع أن يجعله غاية في السعادة، وكأن مستقبلًا كان ينتظره.

فيما يلي مقتطف من قسم بعنوان «الأجداد»، الذي كان جزءًا مما كتبه أبي عن جَده توماس ليدلو، نفس الشخص الذي جاء إلى موريس وهو في سن السابعة عشرة وأوكلت إليه مهمة الطهي في الكوخ.

كان رجلًا مسنًّا واهنًا أشيبَ الشعر، ذا شعر طويل وخفيف وبشرة شاحبة. كان يبدو شاحبًا للغاية نظرًا لكونه مصابًا بالأنيميا. كان يتعاطى فيتا-أور، وهو عقَّار مسجَّل حَظِيَ بقدر كبير من الدعاية. لا بد أنه قد حسَّن من حالته؛ لأنه قد عاش حتى بلغ الثمانين من عمره … حين أصبحتُ واعيًا به لأول مرة كان قد عاد إلى القرية وأجَّرَ المزرعة لأبي. كان يزور المزرعة، أو يزورني، كما كنتُ أعتقد، وكنتُ أزوره أيضًا. كنَّا نذهب للتمشية معًا، كان ثَمَّةَ إحساس بالأمان. كان يتحدث بانسيابية وسهولة فاقت أبي بكثير، ولكن لا أذكر أننا قد أسهبنا في الحديث معًا بأي حال، كان يوضح الأمور وكأنه يكتشفها بنفسه في ذات الوقت. لعله كان ينظر إلى العالم من منظور طفلٍ نوعًا ما.

لم يتحدث مطلقًا بصرامة، فلم يكن يقول أبدًا: «انزل عن هذا السور»، أو «انتبه لتلك البركة الطينية!» كان يفضِّل أن يدع الطبيعة تأخذ مجراها حتى أتمكن من التعلم بتلك الطريقة، كانت حرية التصرف تثير قدرًا معينًا من الحذر، ولم يكن ثَمَّةَ أي تعاطف مبالَغ فيه حين أُصاب بجرح أو نحوه.

كنَّا نسير معًا بخُطًى بطيئة رصينة؛ لأنه لم يكن يستطيع السير بسرعة كبيرة. كنَّا نجمع أحجارًا تضم حفرياتٍ لمخلوقات غريبة من عصر آخر؛ نظرًا لكونها قرية حصوية قد توجد بها مثل هذه الأحجار. وكان لكل منا مجموعته الخاصة في هذا الشأن، وقد ورثتُ عنه مجموعته عند وفاته واحتفظتُ بكلتا المجموعتين لسنواتٍ عديدة، كانت بمنزلة رابط يصلني به، كنتُ لا أرغب على الإطلاق في الانفصال عنه.

كنَّا نسير عبر خطوط السكك الحديدية القريبة صَوْبَ السد الضخم الذي يحمل الخطوط عبر سكة حديدية أخرى وجدول كبير، كانت ثَمَّةَ قنطرة ضخمة من الحجارة والأسمنت فوق هذه الأشياء. كان بإمكانك أن تنظر إلى أسفل من ارتفاع مئات الأقدام على السكك الحديدية الواقعة أسفلها. كنتُ قد ذهبت إلى هناك مؤخرًا، لقد تقلَّصَ السد على نحوٍ غريب؛ فلم تعد السكك الحديدية تمرُّ عبره. لا تزال خطوط السكك الحديدية التابعة لشركة «كانديان باسيفيك» موجودة هناك، ولكنها ليست عميقة، وصار الجدول أصغر كثيرًا …

كنَّا نذهب إلى مشغل سجح الألواح الخشبية القريب ونشاهد المناشير وهي تدور وتصدر أصواتًا عالية. كانت تلك هي أيام كل أنواع الأعمال الخشبية الأنيقة التي تُستخدَم لتزيين أركان المنازل وحوافِّها، أو الشرفات، أو أي مكان يمكن زخرفته. كان هناك جميع أنواع المشغولات ذات التصميمات المثيرة التي يمكنك أن تأخذها للمنزل.

في المساء كنَّا نذهب إلى المحطة، محطة جراند ترانك القديمة، أو محطة الزبد والبيض، كما كانت تُعرف في لندن. كان بإمكانك أن تركِّز سمعك مع السكك الحديدية وتسمع دمدمة القطار وهو قادمٌ من بعيد، بعدها يأتيك صوت صافرة من بعيد ويضطرب الهواء بالترقب والانتظار، وتصبح الصافرات أقرب وأعلى، وفي النهاية يصل القطار مندفعًا أمام العيان، فترتجُّ الأرضُ، وتتفتح السماوات، لينزلق الوحش العملاق وهو يهدر بمكابحه المعذبة ليتوقف في المحطة …

كنَّا نشتري الجريدة اليومية المسائية هناك، كانت ثَمَّةَ جريدتان لندنيتان، «ذا فري بريس» و«ذي أدفرتايزر». كانت الثانية تابعة لحزب الأحرار الكندي فيما كانت الأولى تابعة لحزب المحافظين.

لم يكن هناك حلٌّ وسط في هذا الشأن، فإما أن تكون على صواب وإما على خطأ. كان جدي ليبراليًّا صرفًا من مدرسة جورج براون القديمة ويأخذ جريدة «ذي أدفرتايزر»؛ ومن ثَمَّ صرتُ أنا أيضًا ليبراليًّا أنتمي إلى نفس الحزب، وما زلت كذلك حتى الآن … وهكذا كانت الحكومات تُختَار في ظلِّ هذا النظام الذي يُعد أفضل الأنظمة جميعًا وفقًا لعدد الليبراليين الصغار أو المحافظين الصغار الذين بلغوا السن الكافية للتصويت …

كان المُحصِّل يمسك بمسند اليد بجوار السلم، ويصيح قائلًا: «بورت»، ويشير بيده. فانطلق البخار عبر المحركات، وصلصلت العجلات وزمجرت وتحركت للأمام، أسرع فأسرع، أمام وحدات الوزن، وأمام الحظائر، وعبر القناطر، وظلَّ يتضاءل ويتضاءل مثل مجرَّة منحسرة حتى اختفى القطار عن الأنظار متوجهًا نحو الشمال حيث العالم المجهول …

ذات مرة كان لدينا ضيف، يحملُ نفسَ اسمي من تورونتو، وهو أحدُ أبناء عمِّ جدِّي. كان هذا الرجل العظيم معروفًا بكونه مليونيرًا، ولكنه كان مثيرًا للإحباط، وليس به ما يثير الإعجاب تمامًا، مجرد نسخة أكثر لطفًا قليلًا وأكثر تهذيبًا من جدي. جلس العجوزان تحت أشجار القيقب أمام منزلنا يتحدثان. ربما كانا يتحدثان عن الماضي مثلما يفعل العُجُز، فيما بقيتُ في الخلفية ملتزمًا الهدوء. لم يَقُلْ جدي على نحوٍ صريح، ولكنه ألمح في رِقَّة إلى أن الأطفال يُرَوْن ولا يُسمعون.

في بعض الأحيان كانا يتحدثان باللهجة الاسكتلندية العامة الدارجة في المنطقة التي جاءا منها. لم تكن اللهجة الاسكتلندية التي تتميز بصوت الراء R اللهوي التي نسمعها من المطربين والممثلين الكوميديين، ولكنها كانت لهجة ناعمة وشجية ذات إيقاع خفيف وغنائي مثل اللهجة الويلزية أو السويدية.

هنا أشعرُ بأنه من الأفضل أن أتركهم؛ فها هو أبي صبيٌّ صغير لا يجرؤ على الاقتراب أكثر، والعجوزان يجلسان في عصر يوم صيفي على مقعدين خشبيين وُضِعَا أسفل واحدة من أشجار الدردار السخيَّة الشاهقة التي كانت دائمًا ما تظلِّل منزل جدي الريفي. هناك كانا يتحدثان بلهجة سنوات طفولتهما — التي نبذاها عندما صارا رجلين — التي لم يكن بمقدور ذريتهما فهمُها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤